صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131843 / تحميل: 7332
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علم الكلام

صراط الحق

في المعارف الإسلامية والأُصول الاعتقادية

بقلم: محمّد آصف المحسني

الجزء الأوّل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

هذه طبعة ثالثة لهذا الكتاب، قام بها الخيّر الموفّق السيد يعقوب - أيّده الله تعالى لخدمة الدين وأهله - صاحب مكتبة ذوي القربى.

بإجازتي، وأرائي الجزء الأوّل بعد طبعة ووجدته جيداً مرغوباً فيه، وأصلحت بعض أخطائه المطبعية الباقية وغيّرت بعض مطالبه زيادةً ونقصاً، بمقدار قليل.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منه ومني أَوّلاً، ثمّ أسأله أن يجعله نافعاً لأهل العلم طلاّب الحقيقة.

المؤلّف المحتاج إلى رحمة ربّه وغفرانه  

أفغانستان - كابل        

شعبان المعظّم سنة ١٤٢٧ هـ. ق  

الشهر السادس سنة ٨٥ / ١٣ هـ. ش

٥

الإهداء

أهدي كتابي هذا إلى ساحة خاتم الأوصياء، وقائم الأولياء، ولي العصر، وناموس الدهر، الحجّة ابن الحسن - عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أعوانه - قائلاً لحضرته الكريمة متضرّعاً ومتواضعاً:

( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمحض فضلك ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) بقبولها واجعلها ذريعةً إلى انتفاع روّاد العلم وهواة الحق ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، وبحدوث خلقه على أزليته، وباشتباههم أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته وعلمه وحكمته، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه.

والصلاة والسلام على سيدنا وسيد العالمين محمد خاتم المرسلين، وعلى آله الأئمة المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

المطالب الحاضرة في هذا الكتاب، هي غاية ما وصل إليها فكري من طريق البرهان العقلي والاستدلال النقلي، على ضوء الإنصاف، ونمط الاعتدال، من غير حماية فئة، أو التعصّب على طائفة، بل ركنت إلى ما قادني إليه الدليل حينما رفضت التقليد، فإنّ (الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

فإن أصبت الواقع فالله أشكر ولا أفتخر، وإن أخطأته فإيّاه استغفر وإليه اعتذر.

لكن الرجاء من دائم فضله أن يتقبّل هذا العمل مني، وينفع به المسترشدين، ويهدي به الضالين، إنّه قريب مجيب، وإنّه أرحم الراحمين.

٧

٨

مدخل

الفائدة الأُولى: في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

الفائدة الثانية: في وضع الكلام

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد بشرط

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي والإرشادي

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم

الفائدة التاسعة: في خواص واجب الوجود

الفائدة العاشرة: في خواص الممكن

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور والتسلسل

٩

مدخل

لا بدّ لنا من تقديم فوائد جليلة هامّة أمام المقاصد؛ لِما بينهما من تمام الارتباط وكمال الاتّصال.

١٠

الفائدة الأُولى

في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

قال الفيّاض اللاهيجي في گوهر مراد ما هذا محصّله: إنّ علم الكلام اعتبر على وجهين:

الأَوّل: كلام القدماء، وهو صناعة يقتدر معها على محافظة أوضاع الشريعة، بدلائل مؤلّفة من المقدّمات المسلّمة المشهورة بين المتشرعة، سواء انتهت إلى البديهيات أم لا.

الثاني: كلام المتأخرين، وهو علم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع، واحترزوا بالقيد الأخير عن علم الحكمة؛ لعدم اعتبار موافقة الشرع في مفهومها. انتهى.

وقال في المواقف: الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه.

وعرّفه في الشوارق: بأنّه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية.

أقول: التعريف الأَوّل باطل؛ إذ كل علم لا تنتهي مسائله إلى البديهيات، أو إلى ما في حكمها لا يعتنى به.

وأمّا الثاني فسيأتي أنّ القيد المذكور فاسد، فهو تعريف للحكمة دون الكلام.

وأمّا الأخيران فيرد عليهما أنّ مسائل العلم هو نفس العقائد الدينية، وأمّا الصناعة المذكورة فهي من المبادئ التصديقية كما بُيّن في المنطق، ومفاد التعريفين المذكورين هو عكس ذلك.

ثمّ إنّ المراد من الإثبات فيهما، هو الإثبات على الغير دون التحصيل كما صرّح به الجرجاني واللاهيجي، قال الأَوّل في شرح المواقف: العقائد تجب أخذها من الشرع وإن استقل بها العقل، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ جملةً من العقائد ممّا يتوقّف عليه الشرع فيدور هذا، مع أنّ الإثبات على الغير لا يمكن إلاّ بعد التحصيل، ولا موطن له إلاّ علم الكلام.

فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه مسائل مشتملة على العقائد الدينية الحاصلة من أدلتها اليقينية، وأمّا ما قيل من أنّه علم يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد فهو غير متين، فإنّ العلم غير دخيل في مفهوم الكلام، فإنّه مسائل متشتتة جمعها موضوع واحد، أو غرض واحد علم بها عالم أو لا، وتخصيص المعاد بلا مخصّص ظاهر.

وأمّا موضوع هذا العلم ففيه أقوال ثلاثة:

١١

أحدها: ما نُسب إلى المتقدّمين من علماء الكلام، من أنّه الموجود بما هو موجود، لكن من حيث كونه متعلّقاً للمباحث الجارية على قانون الإسلام؛ ليمتاز الكلام عن الفلسفة الإلهية (١) .

ثانيها: ما نُقل عن أكثر المتأخرين من أنّه المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية (٢) . قال في المواقف (٣) تعلّقاً قريباً أو بعيداً، والأَوّل مثل مباحث التوحيد وصفات الله وأفعاله، والثاني ما يتوقف عليه هذه الأُمور كمباحث الأُمور العامة والطبيعيات.

وإنّما عدلوا عن لفظ الموجود إلى المعلوم؛ ليدخل في العلم مباحث العدم بناءً على رأي مَن ينكر الوجود الذهني، ومباحث أُمور لا يتوقف أحوالها على وجودها خارجاً كما يقال: النظر الصحيح يفيد العلم أم لا؟ ونحو ذلك. ثالثها: ما نُقل عن بعضهم (٤) من أنّه ذات الله سبحانه.

أقول: لا بأس بالقول الأَوّل بناءً على دخول مباحث الأُمور العامة وغيرها في العلم، والتزام الاستطراد فيما لا يرجع إلى أحوال الموجود، غير أنّ ما جعلوه مميّزاً للكلام عن الفلسفة واهٍ جداً، بل لا فرق حينئذٍ بينهما من جهة الموضوع أصلاً.

بيان ذلك: أنّ مسائل الكلام إمّا ما يتوقّف عليه إثبات الشريعة، مثل مباحث إثبات الصانع، وعلمه وقدرته، وامتناع القبح عليه، وإثبات النبوّة ونحوها، وإمّا ما لا تتوقّف عليه فإنّه يستلزم الدور، وأمّا القسم الثاني فإن كان ممّا يدركه العقل ويستقل ويستنكف عنه، بل هو مجبول على اتّباعه فطرةً، فإن وُجد هنا ظاهر نقلي منافٍ لهذا الحكم العقلي، فلا ريب في لزوم تأويله، كما هو المتداول في الكلام والتفسير وغيرهما؛ وسرّ ذلك أنّ الشريعة أُسست من قبل المحيط بجميع الواقعيات، فلا تضاد العقل في أحكامه الصادقة، فنعلم أنّ الإرادة الجدّية من هذا الظاهر غير موافقة للإرادة الاستعمالية البتة.

وإن شئت فقل: إنّ حجّية النقل بالعقل وطرح الأصل لأجل الفرع غير معقول؛ فإنّه ينجر إلى سقوط الفرع وهذا خلف. وأمّا معارضة النقل القطعي مع حكم العقل الجزمي، فهذا غير ممكن ثبوتاً كي نبحث عنه إثباتاً، ولا يُظن بعاقل أن يدعي ذلك في مورد.

وإن لم يكن ممّا يدركه العقل، فإن ثبت بدليل قطعي من الشرع فنعتقد به؛ ضرورة حكم العقل بلزوم تصديق المعصوم عن الكذب والسهو، فهو مثل المستقلاّت العقلية في القبول إلاّ أنّه

____________________

(١) الشوارق ١ / ٧.

(٢) المصدر نفسه / ١٠.

(٣) المواقف ١ / ٢٦.

(٤) لاحظ نفس المصدرين.

١٢

إدراك إجمالي للعقل، بمعنى أنّ العقل يصدّقه وإن لم يحط بوجهه تفصيلاً.

ثمّ إنّ الصحيح هو صحّة حصول القطع من الأدلة النقلية، كما هو واقع وجداناً، فإنكاره - كما عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (١) - لا يستحقّ الجواب، بل لا يُظن بهم أيضاً الالتزام به، كما لا يخفى على الناظر في مسائل العلوم الشرعية، وإن لم يثبت بدليل قطعي بل بدليل ظني، فإن كان الظن المذكور حاصلاً من غير الطرق المنصوبة شرعاً، فهو لا يغني من الحق شيئاً فلا عِبرة به، وإن كان من الطرق الشرعية، فإن كان المورد ممّا اعتبر الشارع العلم في صحة الاعتقاد به، فلا يعتنى بالظن المذكور، وإلاّ فالأظهر - خلافاً لِما نُسب إلى المشهور - هو حجية الظن المذكور، وجواز الاعتقاد بمتعلّقه، كما يأتي في آخر الفائدة الثالثة. وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يمكن الشك فيه لمسلم، متكلماً كان أو حكيماً، فأين فائدة هذا القيد؟ وما هو الفارق بين العلمين؟ على أنّ القيد المذكور ممّا لا دخل له في عروض العوارض على الموجود فلا يصح أخذه في الموضوع، وإلاّ فتصبح العوارض المذكورة أعراضاً غريبة له، وإذا لم يصح ذلك فلا يكون وجهاً للامتياز، فإنّه عندهم بتمايز الموضوعات، والحيثية المذكورة راجعة إلى البحث دون الموضوع كما عرفت. والصحيح أنّ الفرق بين العِلمينِ من ناحية الغرض؛ حيث إنّ المتكلم يبحث لأجل معرفة العقائد الدينية، والفلسفي لأجل معرفة حقائق الأشياء عقلاً؛ ولذا عُنونت في الكلام مسائل اعتقادية غير مذكورة في الفلسفة؛ لعدم إدراك العقل لها تفصيلاً، ولعلّه واضح.

وعلى الجملة: لابدّ من انتهاء جميع المباحث الكلامية إلى البديهيات والقطعيات وإلاّ لا اعتبار بها، ومن هنا ينقدح أنّ طعن صاحب الشوارق (٢) على هذا العلم بقوله: إنّ الاعتماد على الدلائل الكلامية من حيث هي كلامية غير مجدٍ في تحصيل العقائد الدينية، بل جدواها إنّما هو حفظ العقائد إجمالاً على العقول القاصرة - الغير القادرة على البلوغ إلى درجة اليقين التفصيلي، والتحقيق التحصيلي - غير وارد، بل هذا منه ومن غيره إفراط في القول، وزلة جمع من الكلاميين في عدة من المسائل لا تضرّ بالعلم نفسه، كما أنّ أغلاط قوم من الفلاسفة لا تُحسب على الفلسفة كما لا يخفى.

وأمّا القول الثاني فهو يساوق إنكار الموضوع من أصله؛ ضرورة أنّ المعلوم عنوان انتزاعي لا تأصّل له خارجاً، كيف ولا يعقل الجامع التأصلي بين الوجود والعدم، إلاّ أن يلتزم بتعدّد العلم المذكور حسب تعدّد الموضوعات كالوجود والعدم والحال؟ وهو كما ترى، مع أنّه يدخل في

____________________

(١) شرح المواقف ١ / ٢٠٩.

(٢) الشوارق ١ / ٨.

١٣

هذا العلم بعض العلوم الأُخر أيضاً حسب هذا التعريف؛ لتعلّق العقائد بها ولو بعيداً، هذا مع أنّ الحيثية المذكورة - وهي المعلومية - لا ترتبط بعروض العوارض على موضوعاتها، فلا تكون راجعةً إلى الموضوع أصلاً. فالصحيح هو القول الثالث وإن كان القوم أبطلوه - كما في الشوارق - لوجهين:

الأَوّل: أنّه قد يُبحث فيه عن غير الأعراض الذاتية لذاته تعالى، كمباحث الجواهر والأعراض وغيرها، ولا يصح دخولها في المبادئ فإنّها غير مبيّنة في نفسها، فلابدّ من كونها مبيّنةً في علم آخر يكون هو أعلى من الكلام، وهو باطل اتّفاقاً. أقول: وفيه ما لا يخفى فلا مانع من إدراجها في المبادئ.

الثاني - وهو العمدة -: أنّ البحث عن وجود الموضوع خارج عن مسائل العلم، فإنّها مشتملة على إثبات العوارض الذاتية للموضوع، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فلابدّ وأن يكون وجود الموضوع بنحو (كان التامة) مفروغاً منه في كل علم؛ ليتمركز البحث عن أحواله وأطواره، وبناءً عليه لا يجوز جعل ذاته تعالى موضوعاً لعلم الكلام؛ لأنّ إثباته غير بيّن في نفسه، فلابدّ من تبيينه في علم آخر، أو في مبادئ هذا العلم، مع أنّه من أهم مقاصد الكلام.

أقول: قد ذكرنا في تعليقتنا على كفاية الأُصول أنّ ما قالوه - من أنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية - ممّا لا دليل عليه، وعليه فنقول: إنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث عنه وعن أحواله، وهذا التحديد لا يخرج عن الاستحسان العقلائي، الذي هو السرّ في تشعّب العلوم وتعنون المسائل بعنوان ما، وحينئذٍ يصحّ جعل واجب الوجود موضوعاً لعلم الكلام، فإنّ البحث فيه حوله وحول صفاته وأفعاله، فيكون البحث عن إثبات وجوده أيضاً من مسائل العلم، وإن كان بالنسبة إلى بقية المسائل من المبادئ، ولا غرو في أن تكون القضية الواحدة من المسائل باعتبار نفسها ومن المبادئ باعتبار غيرها، بل هو واقع في العلوم. هذا مع إمكان دعوى بداهة هذه القضية وكونها بيّنةً في نفسها، فإنّ اختلاف الماديين في الصفات دون أصل المبدأ كما يأتي.

وأمّا غرضه فهو عرفان الحقائق الدينية والأُصول الاعتقادية كما يظهر من الكلمات المتقدّمة. وأمّا إرشاد المسترشدين، وإلزام المعاندين، وحفظ قواعد الدين من شُبه المبطلين، فهي من الفوائد والآثار، وليست من الأغراض كما لا يخفى.

وأمّا شرف هذا العلم فهو غني عن البيان، فإنّه في غاية السمو ونهاية العلو،

١٤

أَوَ ليس من ثمراته سعادة الإنسان الأبدية وخلوصه عن العذاب الدائمي؟! ولعمري إنّ إطالة الكلام هنا لغو فإنّ العيان بنفسه يغني عن البيان، فكيف إذا وافقه البرهان والقرآن؟!

وأمّا وجه تسميته بالكلام فهو؛ إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أَوّلاً في كتب القدماء بـ (الكلام في كذا) فسُمّي العلم به، أو لأنّه يورث القدرة على الكلام في الأُصول الشرعية، أو لأنّ مسألة الكلام - أعني قِدم القرآن وحدوثه - أشهر أجزاء هذا العلم، حتى آلَ الأمر فيه إلى التضارب والتقاتل (١) ، أو لتكلّم أربابه في صفات الله وأفعاله. والأخيران أقرب من غيرهما.

____________________

(١) ففي التمدّن الإسلامي ٢ / ١٠٧: ضرب المعتصم العباسي أحمد بن حنبل على عدم إقراره بخلق القرآن ضرباً عظيماً، حتى غاب عقله وقطع جلده وحبس مقيّداً.

١٥

الفائدة الثانية

في وضع الكلام

لما توفّي النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة والإمامة، وما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ حزب أبي بكر - الخليفة الأَوّل - وإن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية، وعزل مخالفيهم عن تدبّر الأُمور، إلاّ أنّ النزاع لم يرتفع به، بل أصبح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة وغيرها، وهو البذر لحروب الجمل والصفين والنهروان وكربلاء وغيرها، وهو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتّت المذاهب والآراء في الأُصول والفروع.

وممّا وسّع هذا الاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان، فإنّه بغى واستكبر فصار من المفسدين، ومن سوء الاتّفاق أنّه علا أمره، واستولى على ما أراد، فأتاح الأمر لمَن بعده من آل أمية، الذين هم شر قبائل العرب (١) ، وأنّهم أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، فآلَ الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية والإرشادية أيضاً، بعدما افتقدوا السلطة التنفيذية والإجرائية. والناس على دين ملوكهم. فقام أُناس - لا صلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية، وتصدّوا لتدريس الأُصول وتطبيق الفروع، وكلّما دخلت أُمّة لعنت أُختها، وكأنّ القرآن ينظر إليهم حيث يقول: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (٣) . وبما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي، ولا أصل موضوعي، ولا قانون كلي، تكثّرث آراؤهم وتباينت أنظارهم، فاتّسعت الخوارج، وتولّدت المرجئة، وتكوّنت المعتزلة، وقامت الجبرية (٤) ، وظهرت الأشعرية وهكذا.

____________________

(١) قال ابن حجر في تطهير الجنان واللسان / ٣٠: إنّه حديث حسن.

(٢) وفي نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(٣) القصص ٢٨ / ٤١.

(٤) قُتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر مُلك بني أُميّة كما في الملل والنحل.

١٦

كل ذلك؛ لعدم مرجع لائق ديني يلم شَعث المسلمين، ويدير الحوزة العلمية.

وقد حكي (١) أنّه لمّا قيل لابن أبي العوجاء تلميذ الحسن البصري (٢١ - ١١٠هـ): لِمَ تركت مذهب صاحبك - الحسن - ودخلت فيما لا أصل له (أي الزندقة)؟ أجاب: إنّ صاحبي كان مخلِطاً، كان يقول طوراً بالعدل وطوراً بالجبر، وما أعلمه أعتقد مذهباً دام عليه... فإذا كان هذا حال الحسن - وهو من دعائم هذه الطريقة وأساطين هذه المدرسة - فما حال غيره؟!

وقد قيل في حقّه أيضاً (٢) : إنّه كان يلقى الناس بما يهوون، ويتصنّع للرئاسة، وكان رئيس القدرية، وكان يبغض علياً، ويُنقل حبّه له أيضاً، فإذا كان المصدر للمعارف الدينية أمثاله فما ظنّك بالمتعلّمين والمقلّدين؟

ولذا اخترع واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١ هـ) مذهب الاعتزال؛ حينما ألقى مسألةً بسيطة على أُستاذه - الحسن هذا - فعجز عن إقناعه، وقد علا أمر المعتزلة في المسائل الكلامية، فإنّ مطالبهم أقرب إلى الأحكام العقلية في الجملة، وربّما استفادوا من الفلسفة اليونانية لتصحيح مبانيهم، وللفلسفة المذكورة تأثير كبير في علم الكلام وتشتّت آراء المتكلمين.

وأمّا مخالفو المعتزلة فلم يكن لهم القوة في الكلام، حتى خالف علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري (٢٦٠ أو ٢٧٠ - ٣٣٠ على قول) في مسألة - نذكرها مع جوابها في موطنها المناسب من هذا الكتاب - أُستاذه المعتزلي محمد بن عبد الوهاب المعروف بأبي علي الجبائي (٢٣٥ - ٣٠٣ هـ)، فرجع عن مذهبه حينما لم يفهما حلّ المسألة، فتاب الأشعري من القول بخلق القرآن، والعدل، وعدم رؤية الله بالأبصار، ونحوها ممّا عليه أُستاذه (٣) ! وسعى في تدوين تلفيقات سلفه حتى سُمّي المذهب باسمه، وله أقوال عجيبة ربّما تصادم الضرورة كما تقف عليها في هذا الكتاب.

قال معين الدين الأيجي الشافعي (٤) ، واعلم أنّه - أي الأشعري - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له، مع أنّه منافٍ لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث... إلخ.

وهكذا خلفَ من بعدهم خلف أضاعوا الحق، واتّبعوا الميول والأهواء، وابتعدوا عن السفينة المنجية المحمدية، إلاّ القليل ممّن استقاموا على الطريقة الوسطى، فالتزموا العترة الهادية عن بكرة أبيهم، فانقادوا في كلّ عصر لإمامه من أئمة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذوا عنهم الأُصول والفروع.

____________________

(١) بحار الأنوار ٣ / ٣٣.

(٢) رجال المامقاني ١ / ٢٧٠.

(٣) لاحظ فهرست ابن النديم / ٢٧١.

(٤) إحقاق الحق ١ / ١٠٠.

١٧

ونبغ منهم في كلّ عصر رجال أفذاذ وأعلام هداة، وأَوّل مدرسة تخرّج فيها هؤلاء الجهابذة الإسلاميون، هي مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ، وهذا كتاب نهج البلاغة بين يديك وهو يدلّك على حقيقة الحال، ففيه أسرار التوحيد، وخفايا التنزيه، ومزايا المعارف الاعتقادية، وكليات القوانين الاجتماعية، والسنن الأخلاقية، والرسوم السياسية وغيرها.

ثمّ اتّسعت هذه المدرسة واشتهرت في عصر الإمامين العظيمين: الباقر والصادق عليهما‌السلام حتى عدّوا المتدرّسين فيها إلى أربعة آلاف، وقد تخرّج فيها الأكابر المتبحّرون والعلماء الكاملون، أمثال هشام بن الحكم، ومؤمن الطاق، ويونس وزرارة، وكثير من أقرانهم، فتحمّلوا من علوم آل نبيهم، وروّجوا ما تنوّر به المجامع العلمية الإسلامية والعالمية.

والمذاهب المتقدّمة (٢) حيث لم تتمكن من مقاومة هذه المدرسة في ميدان العلم والفضيلة، قابلتها بالظلم والتعدّي والافتراء؛ فلذا نُسب إلى بعض هؤلاء الكاملين القول بالتشبيه، وإلى آخر منهم القول بالتجسّم، وإلى ثالث الاعتقاد بحدوث صفات الله، وهكذا، بل جعل لكل من هؤلاء المنقادين لإمامهم الصادق عليه‌السلام مذهب على حدة! ولم يزل هذا الوضع المشؤوم إلى يومنا هذا، يوم النور والتفكير، فما من كتاب من هؤلاء الجماعة المتقدمة، إلاّ وفيه أباطيل منسوبة إلى الشيعة وهم براء منها، وكم وقع عليهم الظلم والعدوان:

وكان ما كان ممّا لست أذكرُه فظنْ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ

والله الهادي... وقد تحصّل ممّا سطّر - إن لم تغلب العصبية على العاقلة - أنّ الأقدمين في علم الكلام وغيره من العلوم الشرعية هم الإمامية؛ لأنّهم أَوّل مَن شرعوا في التأليف والتدوين، فما في جملة من الكلمات من نسبة المسائل إلى المعتزلة أو الأشاعرة، ثمّ نسبة المتابعة والموافقة إلى الإمامية؛ إمّا جهل أو عناد، بل كثيراً ما يُهمل نقل أقوالهم لجهات غير خفية على الخبير. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.

____________________

(١) قال ابن النديم في الفهرست / ٢٦٣: أَوّل مَن تكلم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من أجلّة أصحاب علي (رضي الله تعالى عنه) ولعلي من الكتب كتاب الإمامة، كتاب الاستحقاق.

أقول: قد سبق علياً غيره، فلاحظ مقدمة وسائل الشيعة المطبوعة حديثاً؛ حتى تعلم أنّ الشيعة ابتدؤوا بتدوين الكتب من بدو ظهورهم.

(٢) قال الشهرستاني في أوائل مِلله ونحله: أمّا رونق علم الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسية هارون وغيره، وانتهاؤه من الصاحب بن عبّاد وجماعة من الديالمة. وقيل: أَوّل مَن تكلّم في علم الكلام أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية.

١٨

الفائدة الثالثة

في بيان الأدلّة

المسائل اليقينية إمّا ضروريات أو نظريات منتهية إليها قطعاً. والضروريات المذكورة ست:

منها: الأوّليات: وهي ما لا يتوقف إدراكه على شيء زائد من تصوّر طرفيه، وإن كان هذا التصوّر كسبياً، كقولنا: الممكن محتاج، وتُسمّى بالبديهيات أيضاً.

ومنها: الحسّيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، فإن كانت ظاهرةً تسمّى المشاهدات، وإن كانت باطنةً - وهي الحس المشترك (بنطاسيا) والخيال، والواهمة، والحافظة - تسمّى الوجدانيات (١) ، وفيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسّط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا وبصفاتنا النفسية، كالخوف، والسرور، والحزن، والجزع، والشبع ونظائرها.

قال المحقّق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: ويدخل في المشاهدات الباطنية: الوهميات التي جعلها بعضهم قسماً سابعاً، وذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة، ولا يكون جسم واحد في مكانين، فإنّ العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات والمعقولات، كحكمه بأنّ كلّ موجود في جهة أو مكان... إلخ.

ومنها: المتواترات: وهي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب، ثمّ إنّ إفادة التواتر اليقين موقوف على أمور:

١ - كون المخبر عنه أمراً محسوساً؛ إذ لو كان أمراً حدسياً لَما حصل اليقين منه؛ لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، وهذا بخلاف الحسّيات حيث إنّ وضوحها ينفي هذا الاحتمال، وخالف فيه الفارابي (٢) فذكر أنّه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين، حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء والعقلاء،

____________________

(١) قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - والوجدان - بضمّها -: إنّ الأَوّل يُطلق على القوةّ المدركة، والثاني على إدراكها. وقيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.

(٢) رهبر خرد / ٢٣٦.

١٩

وعلّلوه بأنّ اتّفاق جمّ غفير من الأذكياء على شيء يوجب اليقين بصحّته؛ إذ من المحال عادةً أن يتّفقوا على أمر غير واقع، بل ذكر العلاّمة المجلسي رحمه‌الله (١)، أنّ ما يُجمع عليه العقلاء لا يكون إلاّ ضرورياً أو قريباً من الضروري، وبه استدلّ على استحالة النقص على الله تعالى.

أقول: حصول العلم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون إلزامياً، ولعلّ الغالب هو عدم حصول العلم منه في الحدسيات.

٢ - عدم العلم بالمخبر عنه قبل حصول التواتر لاستحالة تحصيل الحاصل.

٣ - عدم انتهاء الناقلين في تمام الطبقات والأدوار إلى عدد قليل يجوز تبانيهم على الكذب.

٤ - صفاء الذهن بالنسبة إلى المخبر عنه، وعدم الاعتقاد على خلافه، وإلاّ لم يفد العلم. ذكره السيد المرتضى قدّس سره وقَبِله عنه الآخرون، ووجهه واضح.

وأمّا اشتراط الإسلام، والعدالة، واختلاف النسب، وعدم جمعهم في بلد، وتعيين عدد خاصّ من الناقلين، كالخمسة أو العشرين أو الأربعين أو السبعين أو ثلاثمِئة، فغير لازم قطعاً، بل بعضها جزاف.

ثمّ إنّ التواتر على أقسام ثلاثة:

الأَوّل: التواتر اللفظي: وهو اتّفاق الناقلين على ألفاظ الخبر وعباراته، كتواتر ألفاظ القرآن، وحديث المنزلة، وحديث الغدير ونحوها.

الثاني: التواتر المعنوي: وهو تواطؤهم على معنىً واحد وإن اختلفت ألفاظهم، سواء كانت دلالة الألفاظ على المعنى المخبر عنه بالمطابقة، أو بالتضمّن، أو بالالتزام، وهذا مثل ما ورد من الأخبار الحاكية عن شجاعة علي عليه‌السلام .

الثالث: التواتر الإجمالي: وهو نقل الوقائع الكثيرة، فإنّه يحصل العلم بوقوع بعضها عادةً، وإن كان كل واقعة بخصوصه مشكوكاً فيها، وأورد عليه الأُصولي الشهير المحقّق النائيني قدّس سره (٢) ، بأنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز الكذب على كلّ منها في حدّ نفسه.

ويدفع أَوّلاً: بجريانه في القسمين الأَوّلين أيضاً وهو لا يلتزم به.

وثانياً: أنّه شبهة في مقابل البداهة، أَليس مَن لاحظ كتاب التهذيب مثلاً، يضطر إلى القطع بصدور بعض ما فيه عن الأئمة عليهم‌السلام ؟

____________________

(١) البحار ٣ / ٢٣١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ١١٣.

٢٠

الدّعاء ) (1) « يعني النداء »(2) و قال تعالي علي لسان زكريا :( إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ٭قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واستعل الرّاس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً ) (3) «أي بندائك»(4) .

وهنا يظهر أن لفظ الدعاء يفسر النداء والعكس يصح كذلك لهذا كان معني الدعاء ضمن وجوه النداء في القرآن(5) قال تعالي :( وأيّوب إذ نادي ربّه أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين ) (6) أي دعا ربه والله أعلم وقوله تعالي :( يوم يدع الدّأع إلي شيءٍ نكرٍ ) (7) « أي يوم ينادي المنادي »(8) (9) وعلي الرغم من تقارب دلالتي النداء والدعاء إلاّ أننا يمكن أن نرصد فرقاً بينهما وذلك « أن النداء : هو رفع الصوت بما له معني والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه يقال : دعوته من بعيد ودعوت الله في نفسي ولايقال : نادية في نفسي »(10) . وبذلك يتضح إشراك الدعاء والنداء في جانب من دلالتهما في وضع أحدهما موضع الآخر واختلافهما من جانب آخر.

__________________

(1) سورة الأنبياء : 21 / 45.

(2) قاموس القرآن : 174.

(3) سورة مريم : 19 / 3 و 4.

(4) بصائر ذوي التمييز 601 : 2.

(5) ظ : قاموس القرآن : 450.

(6) سورة الأنبيا : 21 / 83.

(7) سورة القمر : 54 / 6.

(8) الأشباه والنظائر 286 : 2 ، الوجوه والنظار : 314.

(9) ظ : الآيات التالية في السياق نفسه : سورة الإسراء : 17 / 15 سورة الروم : 30 / 52 سورة فاطر : 35 / 14 ، سورة الأنبيا : 21 / 76 و 87 و 89.

(10) الفروق اللغوية / أبو هلال العسكري : 26.

٢١

الوجه الخامس ـ الدعاء بمعني السؤال :

ورد السؤال في القرآن الكريم علي عشرين وجهاً(1) والسؤال بمعني الدعاء يمكن أن يكون في بايين :

الأول : السؤال علي وجهة الاستفهام والاستعلام.

الثاني : السؤال علي جهة الطلب والرغبة في حصول المراد.

ومما جاء من آيات الذكر الكريم في الباب الأوّل قوله تعالي :( ويوم يقول نادوا شر كاثي الّذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ) (2) «يعني : فسألوهم أهم آلهة؟ (فلم يستجيبوالهم ) بأنهم آلهة »(3) وقال تعالي علي لسان بني إسرائيل في سؤالهم موسي :( قالوا ادع لنا ربّك . ) (4) أي سل لنا(5) أو استعلم لنا.

أما السؤال بمعني الرجاء في حصول الشيء فيأتي دائماً متعلقاً بطلب ظاهر في سياق الآية قال تعالي :( وقال الّذين في النّار لخزنة جهنّم ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يوماً من العذاب ) (6) « أي سلوا ربكم واطلبوا إليه »(7) (يخفّف عنّا يوماً من العذاب ). وقال تعالي في سورة الزخرف :( وقالوا

__________________

(1) ظ : بصائر ذوي التمييز 162 : 3.

(2) سورة الكهف : 18 / 52.

(3) الأشباه والنظائر 287 : 2.

(4) سورة البقرة : 2 / 68.

(5) ظ : الوجوه والنظائر : 315 ، التصاريف : 327 ، كذلك المفردات : 171 ، ظ : نزهة الأعين النواظر في علم

الوجوه والنظائر : 295.

(6) سورة غافر : 40 / 49.

(7) الأشباه والنظائر 287 : 2.

٢٢

يا أيّة السّاحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون ) (1) أي سل لنا ربك(2) ومثلما أن معني السؤال وجه من وجوه الدعاء معني الدعاء وجه من وجوه السؤال(3) . قال تعالي :( سأل سائل بعذّاب واقع ) (4) « يعني دعا داع »(5) .

الوجه السادس ـ الدعاء بمعني العذاب والعقوبة والموت :

قال تعالي في وصف جهنم :( كلاّ إنّها لظي ٭نزّاعة للشّوي ٭تدعوا من أدبر وتولّي ) (6) أي « تعذّب »(7) ونقل عن بعض المفسرين قولهم « ليست كالدعاء تعال ولكن دعوتها إياهم ما نفعل لهم من الأفاعيل »(8) وهذا عين ما استخدمته العرب عند دعائها علي شخص ما فتقول : « دعاك الله أي أماتك قول الأعرابي : دعاك الله : أي عذّبك »(9) .

الوجه السابع ـ معان مختلفة :

هناك معانٍ جديدة للدعاء نلمحها من خلال اختلاف السياق الذي وردت فيه وهي كما يلي :

__________________

(1) سورة الزخرف : 43 / 49.

(2) ظ : التصاريف : 327.

(3) قاموس القرآن : 224.

(4) سورة المعارج : 70 / 1.

(5) ظ : في السياق نفسه : سورة غافر : 40 / 60 سورة الأعراف : 7 / 55 و 56.

(6) سورة المعارج : 70 / 15 ـ 17.

(7) بصائر ذوي التمييز 602 : 2 ، ظ : نزهة الأعين النواظ : 395 ، مجمع البحرين

/ الطريحي 139 : 1.

(8) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).

(9) قاموس القرآن : 175.

٢٣

أ ـالدعاء بمعني الصلاة : الصلاة في أشهر معانيها الدعاء وجاءت في القرآن بهذا المعني في كثير من آياته قال تعالي :( واصبر نفسك مع الّذين يدّعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ) (1) قال مجاهد في تفسير هذه الآية «يصلّون الصلوات الخمس»(2) .

ب ـوالدعاء بمعني التمنّي : قال تعالي :( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون ) (3) أي ما يتمنون(4) وقيل إنّه «راجع إلي معني الدعاء أي ما يدّعيه أهل الجنّة يأتيهم»(5) ، واستعمل العرب الدعاء بمعني التمنّي كما في قولهم «ادع عليّ ما شئت»(6) .

جـ ـالدعاء بمعني التسمية : والدعاء بهذا المعني آتٍ من معني النداء لأنّ النداء غالباً ما يكون بالاسم والدعاء يأتي بمعني النداء فاستعمل الدعاء « استعمال التسمية نحو دعوت ابني زيداً : أي سميته »(7) ، وجاء في القرآن الكريم استعمال الدعاء بمعني التسمية في قوله تعالي :( لاتجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) (8) أي تسمّوه باسمه كما هو بينكم بل كنّوه وعظّموه في تسميته ـ والله أعلم ـ.

__________________

(1) سورة الكهف : 18 / 28.

(2) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو)

(3) سورة يس : 36 / 57.

(4) مجمع البحرين 139 : 1.

(5) لسان العرب : مادة (دعو).

(6) تهذيب اللغة : باب العين والدال (دعو).

(7) معجم مفردات القرآن : 172.

(8) سورة النور : 24 / 63.

٢٤

د ـوالدعاء بمعني اللسان : كما ورد في قوله تعالي :( لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) (1) ( علي لسان داود أي في دعائه )(2) .

هـ ـالدعاء بمعني النسب وإلحاق الشخص بنسبه : كما في قوله تعالي :( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) (3) أي انسبوهم(4) ، وقال تعالي :( ... أن دعوا للرّجمن ولدا ً) (5) نسبوا وجعلوا له أبناء تعالي الله عن ذلك علوّاً كبيراً(6) هذا ولم يفرّق بعضهم بين وجوه الدعاء ونظائره في القرآن وبين معانيه التفسيرية فالفيروز آبادي علي سبيل المثال أوصل وجوه الدعاء إلي سبعة عشر وجهاً(7) جمع بين نظائر الدعاء في القرآن وتفسيره ـ والرأي عندي ـ أن تفسير الآيات يمكن إرجاعها ضمن وجوه ونظائر الدعاء مثالنا في ذلك : دعوة نوح في قوله :( ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً ) (8) يمكن أن توضع ضمن الوجه الخامس ـ السؤال الطلبي ـ بمعني أنه سألهم الهداية وطلب منهم ذلك.

وكذلك دعوة إسرافيل( ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم

__________________

(1) سورة المائدة : 5 / 78.

(2) قاموس القرآن : 415.

(3) سورة الأحزاب : 33 / 5.

(4) ظ : تهذيب اللغة : باب العين والدال ( دعو ) ، ظ : مجمع البحرين 140 : 1.

(5) سورة مريم : 19 / 91.

(6) ظ : تهذيب اللغة : باب العين والدال ( دعو ).

(7) انظر بصائر ذوي التمييز 601 : 2 ـ 603.

(8) سورة نوح : 71 / 5.

٢٥

تخرجون ) (1) هي ضمن الوجه الرابع ـ بمعني النداء ـ أي ناداكم مكما فعل ذلك مقاتل البلخي عندما جمع بين وجه الدعاء وتفسيره ضمن وجه النداء في قوله تعالي :( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) (2) يقول : «يوم يناديكم إسرافيل»(3) ومثل هذا في قوله تعالي في يونس :( دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ ) (4) وهو دعاء أهل الجنة «يعني قولهم إذا اشتهوا الطعام( سبحانك اللّهم ) » (5) وضع ضمن اوجه الثاني معني القول لذا فليس من المناسب أن نضع لكل سياق وجهاً جديداً لأنّ أغلب وجوه الدعاء لاتخرج عما ذكرناه آنفاً ـ والله أعلم ـ ويتضح مما تقدّم أن معاني الدعاء متعددة الوجوه وكثيرة النظائر وأن هناك ألفاظاً حملت معني الدعاء في دلالتها سواء أكان ذلك في صيغها أم كان في مضمونها وهذا ما سيتكفل بطرحه المبحث الآتي.

المبحث الثاني

الألفاظ المستعملة في معني الدعاء

إذ كانت أهمية الدعاء ـ في جانبمنها ـ متأتيةً من كثرة ألفاظه واستخدامها علي صعيد النص القرآني ، فإن مضامين الدعاء ودلالته في ألفاظ أخري لا تقل أهمية وسعة واستعمالاً في القرآن الكريم ولهذا تجد ألفاظاً

__________________

(1) سورة الروم : 30 / 25.

(2) سورة الإسراء : 17 / 52.

(3) الأشباه والنظائر 286 : 2 ، التصاريف : 326.

(4) سورة يونس : 10 / 10.

(5) قاموس القرآن : 173.

٢٦

كثيرة تتحقق فيها مظاهر الدعاء وأركانه في مضامينها وسياقها مما جعلنا نعدّها دعاء فضلاً عن أصلها اللغوي ومعناها الاصطلاحي الذي سوّغ لنا ذلك وهدانا إلي استكشاف أبعادها الدلالية التي أسمهت ـ إلي حد بعيد ـ في إظهار ما ندهب إليه من تقارب روافدها مع الدعاء بل واشتراك استعمالها قرآنياً بمعاني الدعاء الأمر الذي حدا بالبحث إلي أن يلتمس بذائقته بعضاً من تلك الألفاظ ويتتبعها كي تتكامل الظاهرة الدعائية ـ كما نرى ـ وترتسم معالمها لفظاً ومعني علي مستوي النص القرآني وأول هذه الألفاظ :

الصلاة :

تنقسم معاني الصلاة في أصلها اللغوي علي معانٍ أربعة نستعرضها بإيجاز ونبيّن ما ذهبنا إليه.

المعني الأوّل : أن الصلاة مأخوذه من الصلا «وهو مغرز الذنب من الفرس والاثنان صلوان»(1) والصلا في الإنسان «العظم الذي عليه الإليتان وهو آخر ما يبلي من الإنسان في القبر»(2) وأطلقت الصلاة علي حركة رفع الصلا في الركوع والسجود لدي المصلي.نقل هذا المعني الزمخشري في كشافه(3) إلاّ أن الرازي أنكر هذا المعني وعابه في قوله : « إن الاشتقاق الذي ذكره صاحب الكشاف يفضي إلي طعن عظيم في كون القرآن حجة وذلك لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة وأكثرها دوراناً علي ألسنة المسلمين ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء واشتهاراً بين أهل النقل»(4) .

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 88 : 3.

(2) جمهرة اللغة : مادة ( صلي ).

(3) الكشاف / الزمخشري 1000 : 1.

(4) مفاتيح الغيب 33 : 2.

٢٧

و قد فض هذا الأصل في الصلاة الشريف الجرجاني(1) أيضاً ويغنينا عن القول في استبعاد معني الصلاة من ( الصلا ) ما تقدّم من كلام الرازي فقد بيّن عدم اشتهار هذا الأصل بالنسبة للمسلمين فضلاً عن قلّة شواهده الجاهلية التي تؤيد استعمال العرب للصلاة من هذا المعني.

المعنى الثاني : أصل الصلاة من صلي «وصليت القناة : قوّمتها بالنار»(2) ثم استعير تقويم العصا بالنار وتلينها إلي تقويم النفس ظاهراً وباطناً بمعني أن وقوف العبد أمام خالقه و «قبالة عظمته وجلاله ورأفته ورحمته فوصل إليه من هذه الأشياء كما وصل إليه من حرّ النار حتي صلي بها»(3) وهذا الأصل وإن حمل بعضاً من روح الصلاة إلاّ أنّه يقصر عن أن يكون أصلاً للصلاة.

المعنى الثالث : يقارب المعني الثاني وهو أن أصل الصلاة : اللزوم أو الملازمة ، « يقال : صلي واُصطلى : إذا لزم ومن هذا يصلى في النار أي يلزم »(4) وتبنّي الأزهري هذا الرأي في أصل الصلاة حيث قال : « والقول عندي إنما الصلاة لزوم ما فرض الله والصلاة من أعظم الفرض الذي أمر بلزمه »(5) .

وأري أن هذا المعني جزء من المعني السابق من الصلي بالنار ولاينهض كأصل للصلاة كذلك وإن حمل تأويلاً لطيفاً في التزام الصلاة كفرض لايتهاون فيه.

المعنى الرابع : وهو أن أصل الصلاة : الدعاء « مأخوذ من صلى يصلي إذا

__________________

(1) حاشية السيد الجرجاني علي الكشاف 100 : 1 طبعة البابي الحلبي ، مصر ، 1984.

(2) أساس البلاغة : 539.

(3) تحصيل نظائر القرآن / الحكيم الترمذي : 71.

(4) تهذيب اللغة : باب الصاد واللاّم ( صلى ).

(5) المصدر نفسه : باب الصاد واللاّم ( صلى ).

٢٨

دعا »(1) وهو المعنيى الأكثر شهرة وإليه يذهب أغلب أهل اللغة وجمهورها حيث تؤكده الشواهد الشعرية الجاهلية ، جاء في جامع البيان : « أما الصلاة في كلام العرب فإنّها الدعاء »(2) .

قال الأعشى(3) .

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا

يا رب جنّب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

مثل الذي صليت بمعني مثل الذي دعيت لي.

وقال كذلك :

وقابلها الريح في دنّها

نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا(4)

« ارتسم الرجل : كبر ودعا »(5) .

ويمكن أن نقول : إن الصلاة « حقيقة في الدعاء مجاز لغوي في الهيئات المخصوصة المشتملة عليه »(6) والمقصود بالهيئات المخصوصة المعاني الأخري للصلاة ومثل هذا الرأي ـ ولاريب ـ معقول ومقبول وذلك « لورود الصلاة بمعني الدعاء قبل تشريع الصلاة المشتملة علي الركوع والسجود ولورودها في كلام من لا يعرف بالهيأة المخصوصة »(7) ثم إنّ تواتر استعمال

__________________

(1) الجامع 168 : 1.

(2) جامع البيان / الطبري 104 : 1.

(3) ديوان الأعشى / ميمون بن قيس : 101.

(4) ديوان الأعشى : 35. والبيت الذي قبله :

وصهباء طاف بها يهوديها

وأبرزها وعليها ختم

(5) الجامع 168 : 1.

(6) حاشية السيد الشريف الجرجاني علي تفسير الكشاف 100 : 1.

(7) كشاف الفنون / التهانوي859 : 4.

٢٩

الصلاة بمعني الدعاء يؤيد ذلك كما جاء عن الرسول « إذا دعي أحدكم إلي طعام فليجب فإن كان مضطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصلّ »(1) .

« قال أبو عبيدة : قوله فليصلّ يعني فليدع لهم بالبركة والخير ، وكل داعٍ فهو مصلّ »(2) .

وفضّل الرازي الدعاء كأصل للصلاة بوصفه الأقرب إليها من المعاني الأخري(3) وعلّل إطلاق الدعاء عليها مجازاً لغوياً مشهوراً في « إطلاق اسم الجزء علي الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة علي الدعاء لاجرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز »(4) بمعنى إن تسمية الصلاة بالدعاء « كتسمية الشيء باسم بعض ما يتضمنه »(5) وإذا دقّقنا النظر في فعاليات الصلاة علمنا أن الدعاء في كل حركاتها لأنّ معنى الطلب مع الخضوع والتذلّل واضح في جانب ومعنى التعظيم والإجلال للخالق ظاهر في جانب آخر كما في القراءة والقنوت والركوع والسجود فضلاً عما يجب علي الفرد من آدابها القلبية التي هي مظهر آخر من الطلب والدعاء.

والصلاة في القرآن جاءت علي أكثر من وجه أوصلها أحدهم إلي عشرين وجهاً(6) من بينها وجه الدعاء وفي ذلك إثبات على نزول القرآن بلغة العرب واستعماله للألفاظ والمعاني من جنس ما استعملوا كما في قوله تعالي :( إنّ

__________________

(1) سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث 306 : 2.

(2) تهذيب اللغة : باب الصاد واللاّم (صلى).

(3) ظ : مفاتيح الغيب 47 : 3.

(4) مفاتيح الغيب 47 : 3.

(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن : 293.

(6) ظ : منتخب قرة العيون النواظر / ابن الجوزي : 161.

٣٠

الله وملائكته يصلّون علي النّبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً ) (1) .

يقول الطبري في معرض حديثه عن هذه الآية « أن يصلّي على النبي ، ويثني عليه بالثناء الجميل ويبجّله لأعظم التبجيل وملائكته يصلّون ويثنون بأحسن الثناء ويدعون له بأزكى الدعاء »(2) .

وقال تعالي :( .. وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ) (3) فمعنى( وصلّ عليهم ) « واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحّم »(4) .

وفرّق العلماء بين صلاة الله تعالي وصلاة المخلوقين ـ الملائكة والإنس ـ فالصلاة منه ـ عزّ ذكره ـ الرحمة(5) ومن المخلوقين ـ الدعاء والاستغفار(6) وفي هذا لمحة عظيمة دالّة علي التوحيد والعطف في آن واحد علي التوحيد لأنّه تعالي يفيض برحمته ولا يفاض عليه ويدعي ولا يدعو ولمن يدعو؟ ولا شيء قبله بعده غني مطلق الغنى عن كل شيء.

أما على العطف فهو عالم سبحانه بافتقار خلقه إليه فرحمته لهم عطف منه تعالى وفضل سابق وجاء معنى الرحمة في صلاة الله تعالي قول الراعي(7) :

__________________

(1) سورة الأحزاب : 33 / 56.

(2) مجمع البيان / الطبرسي 369 : 8 ظ : الكشاف 307 : 2.

(3) سورة التوبة : 9 / 103.

(4) الكشاف 307 : 2 ، ظ : التبيان في إعجاز القرآن / ابن الزملكاني : 90.

(5) ظ : تهذيب اللغة باب الصاد واللاّم ( صلى ) ظ : مفاتيح الغيب 215 : 25.

(6) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 293 ، كشاف الفنون 859 : 4.

(7) لسان العرب : مادة صلى : ولم أجد هذا الشاهد في كتاب شعرالراعي وأخباره لناصر الحاني بل وليس له وجود في كتاب شعر الراعي النميري : د.نوري حمودي القيسي.

٣١

صلّى على عزّة الرحمن وابنتها

ليلى وصلّى علي جاراتها الاُخر

ونخلص من الحديث عن الصلاة بجلاء مفهوم الدعاء سواء كأصل لغوي أو استعمال قرآني أو ركن تشريعي.

الابتهال :

« أصل البهل : اللعن »(1) وتباهل القوم « إذا تلاعنوا »(2) أي طلب كل منهما اللعن لغيره.

والتبهّل « العناء بالطلب »(3) ويقال كذلك « ابتهل إلي الله بالدعاء : تضرّع واجتهد »(4) وأخلص في الدعاء.

قال لبيد في هذا المعنى :

في كهول سادة من قومه

نظر الدهر إليهم فابتهل(5)

أي اجتهد في إهلاكهم.

ونجد في الابتهال في القرآن بصيغة واحدة كما في آية المباهلة ، قال تعالي :( فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ويساءنا ويساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (6) .

ووجود اللفظ في هذه الآية بالذات يحمل دلالة لطيفة لا يوديها عنه لفظ آخر وإن ماثله في معناه كلفظ « ندعو » لأنّ الابتهال هنا ليس مجرد الدعاء بل

__________________

(1) جمهرةاللغة : مادة ( بهل ).

(2) تهذيب اللغة باب الهاء واللاّم ( بهل )

(3) لسان العرب : مادة ( بهل )

(4) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 61 ، أساس البلاغة : 71 ، الجامع 104 : 4.

(5) ديوان لبيد : 148.

(6) سورة آل عمران : 3 / 61.

٣٢

هو الاجتهاد في التضرع والإخلاص في الدعاء وفرّق بين ما يحمل « نبتهل » عن « ندعو » من معنى لذلك « لا يقال ابتهل في الدعاء إلاّ إذا كان هناك اجتهاد »(1) وإذا وضعنا أمامنا حساسية الموقف فالرسول قد كذّبته النصاري وفي الابتهال إقامة الحجّة علي النبوة إذ ليس هناك موقف أعظم من هذا يتوجه فيه بالدعاء الصادق المخلص فضلاً عما يحمل الابتهال من معنى اللعن والاهلاك للكاذب لذلك فما أن استيقن النصاري من صدق الرسول من جانب وعزمه علي الابتهال من جانب آخر حتي سالموه وقبلوا مرغمين على دفع الجزية(2) .

ونري من ذلك أن الابتهال أدل علي الضراعة والإلحاح في الدعاء وقد مثّل مظهراً من مظاهرا الدعاء في القرآن.

القنوت :

تتعدّد دلالات لفظ القنوت ومعانيها إلي أكثر من معنى وهي « الطاعة ، والخشوع ، والصلاة ، والدعاء ، والقيام ، وطول القيام ، والسكون ، فيصرف كل واحد من هذه المعاني إلي ما يحمله لفظ الحديث الوارد فيه »(3) .

وكل هذه المعاني تلتقي في أصل واحد وهو الطاعة(4) حتى السكوت أو الإمساك عن الكلام يرد في معنى الطاعة وهو من قبل الانقطاع إليه تعالى

__________________

(1) مفاتيح الغيب 87 : 8 ظ : الكشاف 368 : 1.

(2) ظ : أسباب النزول / الواحدي النيسابوري : 58 ـ 59.

(3) لسان العرب : مادة ( قنت ).

(4) ظ : مقاييس اللغة : باب القاف والنون وما يثلثهما ( قنت ) ظ : معجم مفردات ألفاظ القرآن : 428.

٣٣

بالكلام دون غيره من الخلق لذلك يقال « للمصلي قانت »(1) أي المتوجه بالكلام إلي خالقه إلاّ أنّ أشهر المعاني السابقة للقنوت عند أهل اللغة الدعاء فما نقل عن الزجاج إذ يقول : « والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء وحقيقة القانت أنّه القائم بأمرالله فالداعي إذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت لأنّه ذاكرالله تعالى وهو قائم على رجليه فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله عزّوجلّ في حال القيام ويجوز أن يقع في سائر الطاعة لأن إن لم يكن قيام بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنيّة »(2) .

وقد يقال إن القنوت مصطلح قرآني لم يرد « هو أو إحدى مشتقاته في الشعر الجاهلي والمجموعات الكثيرة التي ألّفت فيه »(3) .

إلاّ أننا رأينا استعمال اللفظ باجاهلية ـ بمعني الدعاء ـ مما يؤيد ما ذهب إليه الزجاج من ناحية وإلي أن العرب قد عرفته واستخدمته ويظهر ذلك من مسائل ابن الأزرق لعبد الله بن عباس حين سأله عن معني قوله تعالى :( كلّ له قانتون ) (4) « فقال ابن عباس : مقرون. واستشهد بقول عدي بن زيد(5) :

قانتاًلله يرجو عفوه

يوم لا يكفر عبد ما ادّخر

وفي القرآن الكريم جاءت مادة ( قنت ) في ثلاثة عشر موضعاً يمكن

__________________

(1) تهذيب اللغة : باب القاف والتاء ( قنت ).

(2) المصدر السابق : باب القاف والتاء ( قنت ).

(3) ظ : التطور الدلالي / عودة خليل أبو عودة : 210.

(4) سورة البقرة : 2 / 116.

(5) « عدي بن زيد بن حماد بن زيد العبادي ، التميمي ، شاعر من دهاة الجاهلين ت نحو 35 ق ه ـ 590م » ظ : الأعلام / خير الدين الزركلي 9 : 5 ، ظ : ترجمته : خزانة الأدب / البغدادي 184 : 1 ، والأغاني 97 : 2 الشعر والشعراء : 63.

٣٤

حملها علي المعاني السابقة الذكر علي الرغم من أن بعضهم جعل لها وجهين فقط هما الإقرارلله تعالي بالعبودية ، والثاني الطاعة(1) وتفرّق بنت الشاطئ بين معني الإقرار والقنوت من خلال السياق القرآني وتصل إلي أن « تفسير القنوت بالإقرار ، لا يكون إلاّ علي وجه الإلزام وقد يكون عن تقية وخوف ولايكون القنوت إلاّ عن خشوع صادق »(2) .

والمعني الذي نميل إليه في القنوت هو الدعاء وقد امتدحه سبحانه وتعالي ووصف به إبراهيم وأولياء(3) كما في قوله تعالي :( إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفًا ولم يك من المشركين ) (4) .

وقال جلّ شأنه :( يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الرّاكعين ) (5) .

وجعله صفة للمؤمنين والمؤمنات بقوله سبحانه :( إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّادقين والصّادقات والصّابرين والصّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدقّات والصّائمين والصّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثيراً والذّاكرات أعدّالله لهم مغفرةً وأجرًا عظيماً ) (6)

__________________

(1) الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق / د. بنت الشاطئ : 350.

(2) ظ : التعاريف : 210.

(3) الإعجاز البياني للقرآن / بنت الشاطئ : 352.

(4) سورة النحل : 16 / 120.

(5) سورة آل عمران : 3 / 43.

(6) سورة الأحزاب : 33 / 35.

٣٥

التضرّع :

وفي هذا اللفظ معني الدعاء على الرغم من كونه حالة من حالات الداعي إلاّ أنّنا يمكن أن نلحظ في التضرّع دعاء من خلال أصله اللغوي واستعماله القرآني.

فالتضرّع لغة : يأتي لمعان كثيرة هي : التذلّل والخشوع ، والابتهال ، والتلوي ، والاستغاثة(1) وفي هذا المعني قال الأحوص :

كفرت الذي أسدوا إليك ووسّدوا

من الحسن إنعاماً وجنبك ضارع(2)

و يمكن حمل ضارع في قوله علي المعاني السابقة.

والتضرّع بآياته الست التي ورد فيها في القرآن الكريم اقترن أربع منها بالتعريض بالأقوام التي لم تنهج طريق الدعاء ولم تقر بالذلة لله تعالى ، والتي ترجع بعد البأساء والضراء إلي الإشراك والعنت ولا ينفعها ـ حينذاك ـ تضرّعها ودعاءها قال تعالى :( ولقد أرسلنا إلي أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يتضرّعون ٭فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون ) (3) يقول القرطبي في حديثه حول الآية الكريمة « وهذا عتاب على ترك الدعاء وإخبار عنهم أنّهم لم يتضرّعوا حين نزول العذاب ، ويجوز أن يكونوا تضرّعوا تضرّع من لم يخلص أو تضرّعوا حين لابسهم العذاب والتضرّع علي هذه الوجوه غير نافع ، والدعاء مأمور به حال الرخاء والشدّة »(4) .

__________________

(1) ظ : لسان اعرب : مادة ( ضرع ).

(2) ديوان الأحوص : 130.

(3) سورة الأنعام : 6 / 42 و 43.

(4) الجامع لأحكام القرآن 425 : 6 ظ : مجمع البيان67 : 4 مفاتيح الغيب 22 :

٣٦

ويظهر من كلام القرطبي حمل التضرّع على الدعاء ، أما الآيتان الأخريان فقد حثّتا على التضرّع والدعاء حيث قرنتا الدعاء بالتضرّع والخليفة مما يدل على سبحانه :( ادعوا ربّكم تضرّعًا وخفيةً أنّه لا يحب المعتدين ) (1) .

وقال تعالى :( واذكر ربّك في نفسك تضرّعاً وخفيةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلينن ) (2) .

السلام :

الأصل في السلام لغة : « التعري من الآفات الظاهرة ، والباطنة »(3) وذهب الأزهري إلي أن السلام « دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه »(4) .

وورد السلام في القرآن ـ على تعدّد معانيه ـ منسوباً لله تعالى حيناً وللخلق من الملائكة والناس حيناً آخر ، فيكون السلام منه تعالى لأنبيائه وعباده الصالحين على جهة الثناء الجميل(5) .

ـ قال تعالى :( سلام على إبراهيم ) (6) ، وقال سبحانه :( سلام علي إل ياسين ) (7) ،(8) .

__________________

37.

(1) سورة الأعراف : 7 / 55.

(2) سورة الأعراف : 7 / 205.

(3) معجم مفردات القرآن : 245 ، ظ : الجامع 297 : 5.

(4) تهذيب اللغة : باب السين واللاّم (سلم).

(5) ظ : منتخب قرة العيون النواظر : 145.

(6) سورة الصافات : 37 / 109.

(7) سورة الصافات : 37 / 130.

(8) ظ : الآيات الأخرى في السياق نفسه : (سورة الصافات : 37 / 120 و 181 و

٣٧

أما ما ورد من السلام منسوباً لخلقه فهو دعاء لبعضهم البعض كما ورد علي لسان الملائكة في دعائهم لأهل الجنة قال تعالى شأنه :( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدّار ) (1) .

وقال عزّ ذكره :( الّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون ) (2) .(3)

ومما يجدر ذكره هنا أن الإسلام قد شرع التحيّة وأكدها بقوله سبحانه :( وإذا حييتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها إنّ الله كان على كلّ شيءٍ حسيباً ) (4) .

« وأصل التحية : الدعاء بالحياة »(5) وتحية الإسلام المعروفة « السلام عليكم » بمعني « السلامة عليكم ولكم »(6) ومن خلال ذلك يظهر الدعاء حتى في تشريع السلام ، ونستطيع حينئذٍ أن نضع السلام ـ بنحو ما ـ ضمن مظاهر الله تعالى هو المطلوب منه »(7) والمجيب لدعاء عباده.

الحمد ـ الشكر :

وفي هذين اللفظين نلحظ تضمّ ، اًللدعاء « فالحمد في كلام العرب معناه

__________________

79 ، سورة هود : 11 / 48 ).

(1) سورة الرعد : 13 / 24.

(2) سورة النحل : 16 / 32.

(3) ظ : في السياق نفسه : ( سورة الزمر : 39 / 73 ).

(4) سورة النساء : 4 / 86.

(5) الجامع 297 : 5.

(6) الزينة / أبوبكر الرازي 63 : 2 ، ظ : مجمع البيان 176 : 5.

(7) بدائع الفوائد 140 : 2.

٣٨

الثناء الكامل »(1) والحمد كذلك « نقيض الذم »(2) بمعنى أن قولنا « الحمد لله » إخلاصاً في تنزيهه تعالى وإقراراً بكماله لذلك فقد « عبّر بعض الصوفية عن إظهار الصفات الكمالية بالحمد »(3) .

وقول الحمد لله بمنزلة الدعاء فيستلزم الإجابة ، ومن الشواهد القرآنية يتضّح ذلك.

قال تعالى على لسان أهل الجنة في دعائهم :( دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين ) (4) .(5)

والحمد كذلك دعاء الأنبياء قال تعالى على لسان نوح :( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الّذي نجّاما من القوم الظّالمين ) (6) .(7)

وفي السنّة النبوية نجد التأكيد على ىعاء الحمد كما روي عن الرسول الكريم قوله : « أفضل الدعاء الحمد لله »(8) ودعاء الحمد في القرآن « صار مصطلحاً خاصّاً معروفاً في حياة المسلمين لا يتوجه به المسلم إلاّ لله

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن 133 : 1.

(2) لسان العرب مادة (حمد).

(3) كشاف الفنون 389 : 1.

(4) سورة يونس : 10 / 10.

(5) ظ : الآيات في السياق نفسه : (سورة الأعراف : 7 / 43 سورة الزمر : 39 / 74 ، سورة فاطر : 35 / 34).

(6) سورة المؤمنون : 23 / 28.

(7) ظ : الآيات في السياق نفسه : (سورة النمل : 27 / 59 و 93 ، سورة الإسراء : 17

(8) سنن المصطفى / ابن ماجه 420 : 2.

٣٩

عزّوجلّ »(1) والحمد المتعارف بين الناس هو قبل شكر الخالق عن طريق خلقه لأنّ الحمد في حقيقة يطلق ويراد به النعم الأوّل والآخر جلّ وعلا.

ومن ألطف اللطائف القرآنية بدء القرآن بالحمد ولم يبدأ بكلمة التوحيد ـ لاإله إلاّ الله ـ مثلاً لأنّ في قولنا( الحمد لله ربّ العالمين ) (2) « توحيد وحمد وفي قول لا إله إلاّ الله توحيد فقط »(3) وفيه أيضاً إقرار بالوحدانية وعرفان بالنعمة الأبدية التي لا تنفد. وفي دعاء الحمد شمول للمحامد كلها وشمول للأوقات أجمعها.

أما شموله للمحامد كلها فبد لالة دخول الألف واللاّم « الاستغراق الجنسي من المحامد »(4) ولأنّ في اتصالها في الحمد « معنى لا يؤديه قول القائل حمداً بإسقاط الألف ، ولذك أن دخولها منبئ عن أن معناه جميع المحامد والشكر الكامل لله ، ولو أسقطنا عنه لما دلّ إلاّ على أن حمد قائل ذلك دون المحمد كلها »(5) .

ويعلل هذا القول مجيء أكثر مواضع الحمد بالألف واللاّم إذ جاء في ثمانية وعشرين موضعاً.

أما شموله الأوقات كلها ، ففي الحمد « تعلّق بالماضي ، وتعلّق بالمستقبل. أما تعلّقه بالماضي : فهو أن يقع شكراً على النعم المقدمة وأما تعلقه

__________________

(1) التطور الدلالي : 307.

(2) سورة الفاتحة : ½.

(3) الجامع لأحكام القرآن 132 : 1.

(4) الجامع لأحكام القرآن 134 : 1.

(5) الإسلام ومشكلات الفكر / فتحي رضوان : 68.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296