صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132023 / تحميل: 7356
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وأنّـكَ خـالدُ الـذكرى ويـبقى

حـديثكَ تـستطيبُ بـهِ النسيمُ

أبـا الأعـوادِ والـحكمِ اللواتي

تـمثّلَ فـيهما الأدبُ الـصميمُ

تَـرِفُّ عـلى روائـعها قـلوبٌ

لـرقّـتها ويـهـتزُّ الـجـسومُ

رأيـتكَ تـسحرُ الألبابَ وعظاً

فـكانت فـي يـديكَ كما ترومُ

وآلافُ الأنـامِ إلـيكَ تـصغى

ووجـهكَ لاحَ مـطلعُهُ الـوسيمُ

ودوّى صـوتكَ الـمرهوب فيها

كـأنّكَ فـي الـلقا أسـدٌ هجومُ

وقـد ضـاقَ المكانُ بهم فضلّتْ

عـلـى مـرآكَ أرواحٌ تـحومُ

مـواقفُ لـستُ أُحـصيها بعدٍّ

على الدنيا وهل تُحصى النجومُ

* * *

أبـا الأعوادِ منبركَ المرجّى

لـنفعِ الـناسِ يعلوهُ الوجومُ

فـهل أسـندتهُ لـفتى أبيٍّ

وهـل أحـدٌ يقومُ بما تقومُ

فمَنْ لشبابِ هذا العَصْرِ يهدي

إذا عصفت بفكرتهِ السمومُ

تُـجاذبهُ العواملُ ليس يدري

عـلى أيّ الـمبادئ يستديمُ

وجـاءت موجةُ الإلحادِ يقفو

خطاها الشرُّ والخطرُ الجسيمُ

أيا خطباءَ هذا العصرِ جدّوا

فـما بـلغَ المرامَ فتى تؤومُ

فـإنّ منابرَ الإسلامِ عطشى

إلى خـطباءِ زانتهم علومُ

تُـتـوّجهم عـقولٌ نـيّراتٌ

يـكون سنادها الذوقُ السليمُ

ويـمزجهم بهذا الشعبِ ذوقٌ

كـما امـتزجَ المنادمُ والنديمُ

وإنّ شعارها الإخلاصُ مهما

تـجاهلت الأسافلُ والخصومُ

لـيلمسَ منكمُ الشعبُ انطلاقاً

إلى اُفـقٍ جلت عنهُ الغيومُ

كفاكُمْ حربَ جسّاسٍ وصخرٍ

وما تبكي الطلولُ أو الرسومُ

فـما في عصركم قتبٌ وكورٌ

ولا سـلعٌ وربـعٌ والـغميمُ

أروهم حلوةَ الإسلامِ تزهو

جـوانـبهُ ومـنبعهُ الـعميمُ

وذا قـرآنـكمْ فـيهِ كـنوزٌ

يـحيرُ بوصفها اللبُّ الحليمُ

وكـان بـهِ اكتشافٌ وارتقاءٌ

وكـان بهِ الصراطُ المستقيمُ

أطـبّاءَ النفوسِ وهل رضيتم

لـمجتمعٍ يـعيثُ بهِ السقيمُ

وذي جـذواتكم تخبو ويبقى

يـسودُ بـجوّنا الفكرُ العقيمُ

٢١

فـكونوا للمنابرِ صوتَ حقٍّ

وسـيفاً لـيس يـعروهُ ثلومُ

خطيبُ القومِ أرجحهم كمالاً

خـبيرٌ بـالسقامِ بـهِ عليمُ

يكوَّن من شظايا القلبِ وعظاً

كأنّ عظاتهُ جمعت كلومُ(1)

5 - قال في ذكرى مولد سيّد الشهداء الحسينعليه‌السلام :

باسمِ الحسينِ حلتْ لنا الأشعارُ

وسـمتْ بـفضلِ سموّهِ الأفكارُ

وتـنـبّهتْ آمـالُنا وتـفتّحتْ

فـرحاً كـما تـتفتّح الأَزهـارُ

وتـبسّمتْ دنـيا السّرورِ مليئةً

بـالمبهجاتِ وأشـرقت أنـوارُ

وتـباشرت حورُ الجنانِ وهلّلتْ

لـجمالِ طـلعةِ وجههِ الأنظارُ

هـذي الـثغورُ يحفّها استبشارُ

والـحفلُ يـعبَقُ نشرهُ المعطارُ

لـمّا أبـو الأحرارِ أشرقَ نورُه

أضـحت لـهُ تتباشرُ الأحرارُ

طـافَ الهَناءُ يُديرُ كأسَ مديحه

وتـعـلّلت بـحديثهِ الـسمّارُ

اِسـمُ الـحسينِ وما ألذَّ حروفَه

فـكأنّهُ الـشهدُ الـحَلالُ يُـدارُ

ذكـرى إبـائَك عـزّةٌ وفخارُ

درسٌ بـهِ تـتحدّثُ الأعصارُ

أما روى الراوون بعضَ فصوله

راحـت فـلاسفةُ الزمانِ تُحارُ

وتـيقّنوا أنّ الـحسينَ ونـهجَهُ

لا جـورَ يـحكمهُ ولا استعمارُ

عـلّمتنا مـعنى الحياةِ بموقفٍ

فـيهِ تـمثّلَ عـزمُكَ الـجبّارُ

وأريـتنا أنّ الـمماتَ سـعادةٌ

ولـدى المهانةِ ترخصُ الأعمارُ

خـلّدتَ يعربَ مذْ عقدتَ لهامها

تـاجاً عـليهِ مـن عُلاكَ وقارُ

وكـسوتها حـللَ الخلودِ وإنّها

لا الـعصرُ يـبليها ولا الأدهارُ

إنْ مـرّ ذكرٌ للحسينِ تمثّل الـ

إعـظامُ والإجـلالُ والإكـبارُ

وإذا ذكـرتَ يزيدَ تبصرُ كومةً

مـن فـسقهِ يـطفو عليهِ العارُ

الـحقّ إشـعاعٌ يـلجُّ ضـياؤه

عـبرَ الـقرونِ ونـورهُ سيّارُ

فـبكلّ قـلبٍ نـبرةٌ لـشعورِه

وبـكلّ نـفسٍ رنّـةٌ وشـعارُ

أكـذا يـدومُ الـحقُّ في أبطاله

أكــذا تـخلّدُ آلـهُ الأطـهارُ

____________________

(1) ذكر الاُستاذ شبّر في كتابه ( أدب الطفّ 10 / 142 ) أنّ هذه القصيدة قالها في رثاء الشيخ كاظم نوح، بينما ذكرت مجلّة الإيمان في عددها الخاص بالشيخ اليعقوبي ص31 أنّها في رثاء اليعقوبي، وإنّي أرى لا مانع من تكرارها في الشخصيّتين وإن نُظمت في إحداهما، والأقوى أنّه الشيخ كاظم نوح.

٢٢

هـذا الـحسينُ ضريحهُ نوّارُ

عـكفت بـعتبةِ بـابهِ الزوّارُ

فـبكلّ نـفسٍ روعـةٌ لجلالِه

وبـكلِّ قـلبٍ مـرقدٌ ومزارُ

تـسمو على فلكِ السماءِ قبابه

ويـشعُّ لـلقصّادِ مـنهُ مـنارُ

وتـحطُّ تـيجانُ الملوكِ ببابه

ولـها ملاذٌ في الحمى وجوارُ

تـنهارُ أعماقُ القرونِ وذكرُه

بـاقٍ فـلا يـبلى ولا يـنهارُ

يا زمرةَ الجيلِ الحديثِ تيقّظوا

لـمصيركم خُلقَ الزمانُ مهارُ

هدفُ الحسينِ عليه نبني مجدنا

وبـضوءِ نهضتهِ لنا استبصارُ

الـدورُ دوركمُ خذوا بنصيبكمْ

مـن قبل أن تتصرّمَ الأعمارُ

6 - قصيدة رائعة في مولد الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان (أسرار المولد):

يـا محفلَ الذكرى لسيّد البشر

أذع فـتاريخكَ تـاريخٌ أغـر

فـإنّما الـمولودُ فـيكَ أحـمدٌ

مَـن حرّر العقلَ وأطلقَ الفكر

أذع فـهذا الـمنقذُ الأكبرُ والـ

مـشرّعُ الأعظمُ والأبُ الأبر

شـعّ عـلى الـعالمِ نورهُ فذا الـ

ـتمدينُ من لئلاءِ عقلهِ ازدهر

لـقد سما بالعربِ حتّى أذعنت

مـمالكُ الأرضِ لهم بحراً وبر

وطـأطـأت تـواضعاً لـعزّه

جـباهُ قيصرٍ وكسرى والخزر

بجنبكَ «الإيوان» فاحفِه الخبرْ

حقّاً ترى عند «جُهينة» الخبر

قـف وانظر الشقَّ بجنبهِ غدا

آيـةَ إعجازٍ على مرِّ العُصر

سـله وسـائل شـرفاته ففي

صـموته تـقرأ أفصحَ العبر

لأيّ أمـرٍ حـلّ تـنشقّ ومن

قـلّصَ ذلـك النعيمَ والبطر

ونـار فـارس خبت ألم تكن

مُذ ألف عامٍ قد تقادحت شرر

سـمعاً أبا العُرب وتاجها الذي

كـوّنَ مـنهم أُمّـةً ذات خطر

وزجّـها نـحو الـخلودِ عاقداً

لـها لـواءً رفّ فـوقهُ الظفر

وانـتشلَ الـعالمَ مـن تدهورٍ

يـؤولهُ الـلاتَ ويـعبدُ الحجر

وبـاعثاً دستورَ حقّ يكفِ للـ

سـعادةِ الـكبرى بآياتٍ غرر

لأنـتَ نـعمَ الحظّ قد كنت لها

لـكننّا بـئسَ الـعشير والنّفر

يا صاحبَ النورِ أضعنا مبدأً

يـمشي مع العقلِ سموّاً وكبر

تـنـاوحتنا طـغـمةٌ أجـلّها

لـو قـلت أنّـها حثالةُ البشر

يـضيمني أنّ يـدي تـعافني

وأنّ غيري نالَ في يدي الوطر

٢٣

ما كنتُ بالمأسوفِ لو أنّ أخي

يـدري إلى أينَ وأينَ المستقر

ولا الـمضام لـو تماسكت إذا

مـا قـيلَ لي أنّ أخاكَ قد عثر

يـا وتـر الساسةِ كم تطربهمْ

أجل وضرب العودِ يقطعُ الوتر

يا محفلَ الذكرى أبن لمَنْ وعا

مـقامَ طه في الحديثِ والسور

عـلّمهمُ الـغايةَ مـن تـذكاره

وسـرّ هـاتيك الرموز والدرر

أكـان يُـعلي قـدرهُ وشـأنه

بـعد ثـناءِ اللهِ شعرُ من شعر

بـموجةِ التصفيقِ يسمو شأوهُ

وبـالوفودِ زُمـراً إثـر زمر

ذي روح أحمدٍ وقد رفّت على

حـفلكمُ تـطلبُ جـوهرَ الأثرْ

ترى أضعنا الروحَ من أعمالنا

وأنّـنا قـد اجـتزينا بالصور

يـا خـابطَ السير تبصّر حسناً

سـيركَ مـعوجّ فكرّر البصر

الـفخرُ أن يُـقالَ شـقّ للعلا

طريقهُ ما الفخرُ عاث أو سكر

وطـالباً إصـلاحنا كـفى بأن

نـأمنَ منكَ الاعتداءَ والضرر

هـذي تجاربُ الحياةِ قد قضت

أن نكتفي لا نبتغي خيراً وشر

7 - وله غديريّة ألقاها في احتفال (منتدى النشر) في النجف عام 1363 هـ:

لـمَنْ الـحفلُ رائـعاً يـتلالا

يـزدهي مـنظراً ويزهو جمالا

ولـمَنْ هـذهِ الـروائعُ تُـتلى

والأنـاشيدُ بـاسمِ مَـنْ تتولّى

قـيلَ قـد توّج الوصي وهذي

بـهجةُ الـتاجِ زانتِ الاحتفالا

وانـتشقنا طـيبَ الـولايةِ منه

وسـعـدنا بـنـعمةِ اللهِ حـالا

واهـتدينا بـنورهِ مـذ تـجلّى

بـسماءِ الـدينِ الـحنيفِ هلالا

وعـلى مشرع (الغديرِ) احتسينا

فـي كـؤوسِ الولا نميراً زلالا

وجـديرٌ هـذا الـشعورُ بـيومٍ

فـيهِ ديـنُ الإلـهِ تـمّ كـمالا

رنّـةُ الوحي في المسامعِ دوّت

تـملأ الـنفسَ هـيبةً وجلالا

بـلّغ الـناسَ مـا أتـاك وإلاّ

لـم تـبلّغ وحـي الإلـهِ تعالى

إنّـمـا أنـتَ مـنذرٌ وعـليٌّ

هــو هـادٍ يُـسيّر الـضُلاّلا

فـي فـلاةٍ تـكادُ تـلهبُ ناراً

ولـظى حـرّها يـذيبُ الرمالا

وإذا بالرسولِ يلقى عصا السيـ

ـرِ وتـلكَ الـجموعُ تلقى الرحالا

وتـعالى الـهتافُ مـنه أجيبوا

داعـي اللهِ فـاستخفّوا عـجالا

كـسيولٍ جـاشت وراءَ سيولٍ

أو جبالٍ في السيرِ تقفوا الجبالا

٢٤

زمـرٌ قـد تـحاشدت حـولَ طه

حـشدها يـومَ مـنه ترجو النوالا

غـصّت الـبيدُ واستحالت رجالاً

ونـواحي الـفضاءِ ضاقت مجالا

ورقـى مـنبرَ الـحدوجِ ومـدّت

نـحـوهُ الـهامُ خـضّعاً إجـلالا

وانـبرى يرسلُ الخطابَ وذاك الـ

ـجمـعُ مُـصغٍ تـهيّباً وامـتثالا

ونـعـى نـفـسهُ وقـالَ أتـاني

أمـرُ ربّـي وحـثّني الـترحالا

وأنــا راحــلٌ وبـعدي عـليٌّ

واحــدُ الـدهرِ مَـوئلاً ومـآلا

سـنّـةُ الأنـبياءِ قـدماً تـمشّت

تـقطعُ الـدهرَ والـقرونَ الطوالا

هـل نـبيٌّ مـضى بـغيرٍ وصيٍّ

فـاسألوا الـدهرَ واسألوا الأجيالا

خـصّـهُ اللهُ بـالإمـامةِ لـمّـا

كــانَ لـلحقِّ والـرشادِ مـثالا

هـو أقـضاكمُ وبـابُ عـلومي

فــاقَ فـضلاً وبِـذاكُمُ إفـضالا

وهـو فـيكم مـمثّلي ووصـيِّ

لـعنَ اللهُ مَـنْ عـليه اسـتطالا

أُمّـتـي لا أراكـمُ بـعدَ مـوتي

قــد رجـعتم نـواكصاً جـهّالا

فـاستجابوا وعـجّت الـبيدُ منهم

تـحسبُ الأرضَ زلـزلت زلزالا

ورســولُ الـهدى يـردّدُ فـيهم

ربّـي والـي الـذي لـحيدرَ والا

عـنهُ سـل مـحكمَ الكتابِ وسائل

آلَ عـمـرانَ واســأل الأنـفالا

مَـنْ بـبدرٍ وتـلك أوّلُ حـربٍ

قـد رآهـا وقـد أراهـا الـوبالا

مَـنْ دحـى البابَ مَنْ باُحدٍ تلقّى

عـمدَ الـدينِ حـين زالَ ومـالا

مَنْ قضى غيره على الشركِ قل لي

مَـنْ لـعمرِ بـيومِ صال وصالا

صـولةً تـفضلُ الـعباداتِ طرّاً

وسـمـا شـأوهـا وعـزّ مـنالا

ولـكم مـوقف يـرنّ بإذنِ الدهـ

ـرِ والـدهـرُ مـنهُ يـلقى انـذهالا

هـكـذا فَـلْتَكُ الـبطولةُ دومـاً

(هـكـذا هـكـذا وإلاّ فـلا لا)

8 - وله في ذكرى ولادة الإمام الصادقعليه‌السلام :

يـا قـلمَ التاريخِ سجّلْ لنا

يـوماً مـن الأيّـام معدودا

أذعْ فـذا يـومٌ لـهُ شـأنهُ

كـانَ على التاريخ مشهودا

حدّثْ عن الصّادقِ واستنطق الـ

ـتاريخَ يروي الدُرَّ منضودا

وحـدّث الـعالَمَ عـن عالِمٍ

قـد مـلأ الـدنيا أسـانيدا

تَـبلى الأقـاويلُ وأقـوالُهُ

بـاقـيةٌ تــزدادُ تـخليدا

آراؤه الـغـرُّ وأفـكـارُه

يـعجزُ عنها الحصرُ تعديدا

٢٥

مـا حـدَّ اُفق العلم في غايةٍ

ولا يـرى الـعالَم مـحدودا

شـتّان مـنْ يـفتَحُ أبوابه

ومَـنْ يـعدُّ البابَ مسدودا

سـلِ ابن حيّان وسل غيرَه

أئـمّـةَ الـعلم الـصناديدا

مَنْ طبّق الدنيا سوى جعفرٍ

مـعـارفاً تَـزدادُ تـرديدا

وسـلْ تـلاميذَ لـهُ أنّـهم

كـانوا عـلى الدّنيا أسانيدا

هـم فـتحوا لـلكيميا بابَه

وكـان منهُ البابُ موصودا

وخـلّدوا الـدهرَ بـأقلامهم

أفـنوا ربـيعَ العمر تسهيدا

وخـلّفوا أغـلى تـراثٍ لنا

لو لم يكنْ في النّاس مجحودا

9 - وله قصيدة بعنوان (يوم المحنة) قالها على إثر انتكاسة العرب في حرب حزيران 1967، اُذيعتْ من دار الإذاعة العراقية، ووُضِعَتْ في المناهج الرسمية لمدارس المقاصد في لبنان، وهي:

يَـومٌ عـلى الدهرِ لا يُطفى له لَهَبُ

إنْ تـنسهُ العُرْبُ ما هم بعدهُ عُربُ

وإن غفت عن طلابِ الثأرِ لا سجعت

يـوماً بـأمجادها الأقـلامُ والـكتبُ

عـهدي بـها لا تـقرّ الضيمَ شيمتُها

حـتّى ولـو طالتِ الأعوامُ والحقبُ

الـعيشُ بـالذلِّ مـرٌّ فـي تجرّعه

والـموتُ بـالعزّ حلوٌ وردهُ عذبُ

مـت إن تمت قاهراً والنفسُ راضية

ولا تـمت صاغراً والحقُّ مُغتصبُ

شـراذمُ مـن نـفايا الأرض تبعثها

ثـعالبُ الـغربِ فـيها يشهدُ الذَّنَبُ

تـدوسُ أقـدسَ أرضٍ مـن معابدنا

ونـحنُ نـبصرها بـالرغمِ تُستلبُ

فـواجعٌ بـغّضت طـعم الـحياةَ لنا

وكـدّرت صـفو عيشٍ فهو مكتئبُ

سـادَ الوجومُ على الأقطارِ وانكمشت

هذي الوجوهُ وعمّ السخطُ والصخبُ

لا عـينَ في الشرقِ إلاّ وهي ساهرةٌ

ولا مـشاعرَ إلاّ وهـي تـضطربُ

تـجاوبت نـخوةُ الإسـلامِ طـائعةً

وأعـلنت أنّـها طـوعٌ لـما يجبُ

وألـهبت عزماتِ العُربِ وانتفضت

حـميّةٌ فـهي كـالبركانِ تـلتهبُ

عـسى يكون وراءَ الصمتِ منطلقٌ

يُـجلى بـهِ الغمُّ والأحزانُ والكُرَبُ

بـالأمسِ انـكلترا تُـدعى صديقتَنا

والـيوم قـد جاءنا من ويلها الحَرَبُ

مـاذا جـنيناهُ قُـل لي من صداقتنا

ظـهرٌ فـيُركبُ أو ضـرعٌ فيُحتلبُ

وذي ربـيـبتها بـل [قـل] ولـيدتُها

ولا تـسل هـل لـها بين الأنامِ أبُ

قـد صرّحَ الحقّ وانزاحت بهِ الريبُ

وشـفّ عـن جـسمهِ ثوبٌ لهُ قُشبُ

٢٦

قـف بـي على الأردن المشهود موقفُه

لألـثم الـجرحَ لـكنّ الـحشا يـجبُ

قـذائفُ الـنارِ عـاثت فـي محاسنِه

وشـوّهت أوجـهاً تـستافها الـشهبُ

قـف بـي عـلى قبلةِ الإسلامِ أسألها

عـمّا جـرى مـن دواهٍ كلّها خطبُ

ومـسجدِ الـصخرةِ الـمحزونِ منظرُه

بـالدمعِ والـدمِ مـطبوعٌ ومـختضبُ

قـد أوحـشَ المنبرَ العالي وقد ذويت

أعــوادُهُ فـهـي تـنعاهُ وتـنتحبُ

ثـمّ اسـتمع رنّـةَ الـمحرابِ أحزنه

فَـقْدَ الـمصلّينَ مـذ طـلاّبهُ غربوا

وحـيّ تـلكَ الـمروجَ الخضرِ ناعيةً

أحـبابها فـهي ثـكلى خَـدُّها تَـرِبُ

يـا طـيبَ عيشٍ على الوادي باُمسيةٍ

رقّـت ورقّ الـهوى والماءُ والعُشبُ

أبـناءَ عـمّانَ لا يـحزنكَ ما ارتكبوا

فـالكأس سـكّابة طـوراً ومـنسكبُ

والـعـربُ مـغلوبةٌ يـوماً وغـالبةٌ

مـا كـلّ سـبّاقةٍ تـجري لها الغلبُ

أدّيــت قـسـطك والأيّـام شـاهدة

وإنّ يـومـكَ فـيهِ تـفخرُ الـعربُ

ووقـفـةٍ لاُسـودِ الـرافدينِ غـدت

أرسى من الهضبِ لا بل دونها الهضبُ

جـيشُ الـعراقِ وحـامي سورَ منعتِه

إن سـارَ كـان لـهُ الإقـدامُ والغلبُ

عـاشت دمـشقُ فـلا عُتبى ولا عتبٌ

لـقـد أرتـنا نـضالاً كـلّهُ عـجبُ

يـومٌ تـهجّم وجـهُ الـبغي وانبعثت

قـواذفُ الـشرّ يسري جيشها اللجبُ

نـيـرانُهُ تـمـلأ الأجــواءِ قـاذفةً

لـهيبها ضـاقَ فـيها اُفـقها الرحبُ

وتـقـتـفيها أسـاطـيـلٌ مـدمّـرة

حـتّـى إذا أخـذت لـلغابِ تـقتربُ

هـبّـت مـغـاويرُ سـوريّا مـشمرةً

كـالاُسدِ لـم يـثنها خوفٌ ولا رهبُ

فـهل رأيـتَ اُسـودَ الـغابِ مغضبةً

دونَ الـحمى أرأيـتَ الـليثَ إذ يثبُ

أبـناء يـعربَ جـدّوا فـي عزائمكمْ

فـالأمرُ قـد جـدّ والأسـماعُ ترتقبُ

وإنّ أحـسـابكم أمـسـت تُـطالبكمْ

فـحقّقوا أمـلاً يـسمو بـهِ الـحسبُ

10 - وله في رثاء الخطيب الشهير الشيخ محمّد علي قسّام، يقول السيّد جواد شبّر في أدب الطفّ 10 / 65:... وكان يوم 29 كانون الثاني 1954، يوم مجيء جثمانه للنجف من الأيّام المشهودة؛ فقد اُقيمت على روحه عدّة فواتح، كما تبارى الخطباء والشعراء يوم أربعينه في (مسجد الهندي) بالنجف، وكنتُ ممّن شارك بقصيدة مطلعها:

سند الشريعة في جميعِ الأعصرِ

هذي الروائعُ من خطيبِ المنبرِ

ذاك الذي يُمسي ويُصبح ناشراً

عـلمَ الـجهادِ كقائدٍ في عسكرِ

أمـعلّم الأجـيالِ تنثرُ جوهراً

فـكأنّ صدركَ معدنٌ من جوهرِ

٢٧

يـا مـنبرَ الإسلامِ دمت متوّجاً

بـالأنجبينَ وكـلّ ليثٍ قسورِ

يـا مـنبرَ الإسلامِ دمت منوّراً

طـولَ الزمانِ بكلّ عقلٍ أنورِ

يـا منبرَ الإسلامِ دمت مضمّخاً

بـالرائعاتِ مـن الفمِ المتعطّرِ

ومجالسٍ هي كالمدارسِ روعةٌ

اُمٌّ لـكـلّ مـهـذّبٍ مـتنوّرِ

الـمنبر الـعالي رسالة مرشدٍ

جـاءت لـعقلِ النابِهِ المتحرّرِ

الـمنبر الـعالي حكيمٌ مبصرٌ

يصفُ الدواءَ بحكمةِ المتبصّرِ

يـا فارسَ الميدان عزّ عَلَيّ أن

تهوي وحولكَ سابغاتِ الضمّرِ

يـا مَنْ إذا أرسلت لفظك لؤلؤاً

جـرتِ الـعيونُ بلؤلؤٍ متحدّرِ

أو قمت في أعلى المنابرِ خاطباً

فـكأنّ قولكَ ريشةٌ لمصوّرِ(1)

11 - ومِن روائع شعره القصيدة التي حيّا بها الإمام المصلح الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عند عودته من مؤتمر باكستان عام 1371 هـ(2) :

كـذا يـلمعُ الـقمرُ الـنيّرُ

كـذا ينهضُ المصلحُ الأكبرُ

كـذا ترتقي عالياتُ النفوس

وهـامُ الأثـيرِ لـها مـنبرُ

كـذا يعذبُ العمرُ في مثل ذا

وإلاّ فـما قَـدْرُ مَنْ عَمّروا

كـذا يشمخُ العلمُ فوقَ السُّها

فما عرشُ كسرى وما قيصرُ

أشـيخَ الـشريعةِ بل رمزها

ومـفخرها عـشتَ يا مفخرُ

أُقــدّسُ شـخصك إذ إنّـه

مـثالُ الـكمالِ مـتى يذكرُ

إذا مـا انتسبتَ إلى «جعفرٍ»

فـحسبكَ مـنتسباً «جعفرُ»

لأن حـسبتك الـورى واحدا

«ففيك انطوى العالمُ الأكبرُ»

نـهضتَ لتجلوَ رينَ القلوب

وتـوقظَ جـيلاً بـدا يشعرُ

نهضتَ وبُوركتَ مِن ناهضٍ

فـما وثـبةُ الاُسـدِ إذ تزأرُ

وأبلغتَ في النصحِ في مجمعٍ

تـجدّدُ تـاريخهُ الأعـصرُ

وهزّ صدى صوتك المشرقين

ودوّى كـقـاذفـةٍ تـفـجرُ

حـياةَ الـشعوبِ بـأبطالها

وتـاريخها مـجدها الأزهرُ

إذا جـمعَ الناسَ «نيروزُهم»

فـنيروزنا وجـهكَ الأنـورُ

فـطـرت ولـكن بـآمالنا

ورحـت بـأرواحنا تـعبرُ

____________________

(1) القصيدة بكاملها نشرتها مجلّة العرفان اللبنانيّة مجلّد 41 ص1164.

(2) أدب الطفّ 10 / 49.

٢٨

فـحدّث أبـا الصالحاتِ التي

تـعالت سـناءً فـلا تسترُ

تـحدّث إلـينا فكلّ الحواس

شـعورٌ وأكـبادنا حـضّرُ

أتـينا لـنصدرَ عـن موردٍ

ومـنكَ حلى الوردُ والمصدرُ

تـحدّث فـهذي القلوب التي

تـرفرفُ جـائتكَ تـستخبرُ

تـلـقّتكَ تـفرشُ أكـبادها

وخـفّـت لـلقياكَ تـستبشرُ

تـحدّث ألـستَ أميرَ البيان

إذا مـا جـرى لفظهُ يسحرُ

أَبِـنْ لـلوفودِ عن المسلمين

فـمثلكَ لـلجرحِ مَـنْ يسبرُ

أَبِنْ فالحديثُ حديثُ الشجون

ومـن وقـعهِ القلبُ يستعبرُ

فـكيف تلمّستَ شرعَ الهدى

وهـل مـن أمانٍ بها تسمرُ

كـأنّي بـروحِ النبي الكريم

عـلى كـثبٍ نـحونا تنظرُ

متى هانَ شعبك يا مصطفى

مـتى ذلّ قومك واستُعمروا

مـتى طأطأت جبهةُ الفاتحين

لـذلّ اليهودِ إذا استصغروا

أيـا قـالعَ البابَ بابَ اليهود

ويـا فـاتحَ الحصنَ يا حيدرُ

تـداعت لـتدرك أوتـارها

وأنـتَ عـلى ردّهـا أقـدرُ

أبـا الشرعِ هـذي يـدٌ بـرّة

يـوافيكَ فـيها الفتى (شبّرُ)

12 - وقال في تأبين الشاعر أحمد الصافي النجفي:

ما جئتُ أرثيكَ أو أذري الدموعَ أسىً

إنّ الـرثاءَ لـشخصٍ ماتَ واندرسا

قـالوا لـقد مـاتَ قلتُ اليومَ مولدُه

ونـجمهُ قـد تـجلّى يـطردُ الغلسا

والـيوم يـبدأ تـاريخٌ لـهُ عـبقٌ

وطـيبُ تـأريخه قـد أنعشَ الجُلَسا

مـا الـحيُّ مقياسهُ مرُّ السنين ولو

طـالَ الـبقاءُ ولا تـردادهُ النفسا

إنّ الـحـياةَ بـأفـكارٍ يـخـلّدها

عبرَ العصورِ وغرساً صالحاً غرسا

وآخــذاً بـيـدِ الـعافي ومـنقذه

سـواء أحـسنَ هـذا أم إلـيه أسا

* * *

مـا كان أحمدُ في عصرٍ يعيشُ به

إلاّ كـشعلةِ نـورٍ تـحملُ الـقبسا

يعيشُ في الناسِ لكن روحُهُ انفردت

عنهم كمَنْ عاشَ بين الخلقِ محتبسا

سـما إلى عـالمٍ أسـمى بفكرته

لـذاك مـهما خـلا في نفسهِ أنسا

فـلا تـرى مـعهُ في بيتِ عزلته

إلاّ الـيراعة أَمَّ الـشعرُ والطرسا

* * *

٢٩

إيـهٍ أبـا الـخالداتِ النيّراتِ سنا

والـسائراتِ أقامَ الدهرُ أم جلسا

هـذي روائـعك الـغرّا يـردّدها

فـمُ الزمانِ ومن أنوارها اقتبسا

أمـواجُها انـدفعت تـتلو أشعّتها

تـجلي العقولَ ومنها تغمرُ اليبسا

وذي الهواجسُ ما أحلى هواجسَها

تـداعبُ الروحَ إن دقّت لها جرسا

رفّـت تـناغيك هـمساً في تدلّلها

والحبّ يعذبُ إن ناغى وإن همسا

أشـعّـةٌ فــي مـعانيها مـلوّنةٌ

إشعاعها مشرفٌ عن روحك انعكسا

إن كنتَ حلّقت أو أبدعت لا عجبٌ

قـرآنُ أحـمد قـدماً حيّر القسسا

وأذعـنت لـغةُ الفصحى لروعته

وعـادَ مـنطيقها مـستسلماً خرسا

الـناظمُ الـدرَ نـظماً لا نظيرَ له

بالشعرِ ينبوعهُ الصافي قد انبجسا

والمرسلُ الشعرَ سهلاً غير ممتنعٍ

سـلساله العذبُ يجري سائغاً سلسا

* * *

زَهـدتَ فـي هذه الدنيا وزخرفِها

إذ أنت أرفع ممّن يرتضي الدنسا

وكـنت تـهزأ ممّن راح يعشقها

ومَـنْ بـأوطارها قد ظلّ منغمسا

نـفسٌ ترى فوق هام النجم رفعتَها

وبـزّةٌ إذ تـراها بـزّة الـبؤسا

تـريـهمُ إنّ دنـياكم وبـهرجَها

كـشملتي هـذه من سامها بخسا

لاويت دهرك حتّى رضت جامحه

كـمن يروِّضُ من فرسانها فرسا

بـعزمة شـهد الـتأريخُ واقـعها

مـا كـنتَ هـيّابةً يوماً ولا نكسا

عـرفت دنـياك مذ وازنت قيمتها

وإنّـها عـرفتك الـنيقد الـمرسا

وكـم دعتك لِوصلٍ وهي ضاحكةٌ

لـكن رأتك على ما تبتغي علبسا(*)

رحماك ليست نفوس الناس واحدةً

إن خفّ ذاك فهذا في الوجود رسا

هـذي الـحياة وكم غذّيتها حكماً

غرّا وأرسيتَ من أركانها اُسسا

فـكنت تـشبعها بـحثاً وتـجربةً

وكـنت تـنشرها درساً لمن درسا

وتـوضح القول مجلوّاً ومزدهراً

فـلم يـعد بـعد فيها الأمر ملتبسا

دُمْ لـلخلود فـذي الأيّـام طوعك والـ

ـدهرُ استلان وإن قدماً عليك قسا

13 - وقال محيّياً الشيخ الأميني صاحب (الغدير) بمناسبة افتتاح مكتبة أمير المؤمنينعليه‌السلام العامّة في النجف، بعنوان (تحيّة المؤسّسة الفكريّة):

مـعهد الفكرِ طاولَ الدهرَ فخرا

ذاك يـبلى وأنتَ تخلدُ ذكرى

كلُّ شيء فانٍ سوى العلم والعد

لِ فإن شئت سل بإيوان كسرى

سـاندت ركـنك القديم يدُ العلـ

ـمِ فـلا زـت خـالداً مـشمخرّا

____________________

(*) هكذا وردت المفردة الأخيرة (علبسا)، ومعها يختل المصراع الثاني من البيت.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٣٠

منجباً كلّ أصيد يبعث النشـ

ـأ يـقود الأجيال عقلاً وفكرا

منجباً كلّ أصيد يجعل الدّهـ

ـرَ غـلاماً لـديه نـهياً وأمرا

وبرغم الزمان جئت ويبقى

لك عبداً وأنت لا زلت حُرّا

* * *

عـشت يـا صرحُ للعلوم مناراً

فـاض أشعاعُه على الكون بدرا

همّةُ المصلح (الأمينيّ) ثارتْ

فـاستثارت لـها الـعزائمُ طرّا

قـد أشـادتك بـعد جـهدٍ جهيدِ

كـرعت في سبيلك الصّاب مُرّا

ضـربت فـوقك القلوبُ رواقاً

يـوم قـدّت من العزائم صخرا

بـسطت مـن شُغافها لك أرضاً

وبـنت فـي ضلوعها لك وكرا

ثـمّ راحت عليك تحنو احتفاظاً

مـثلما تـحفظ الأضـالع سرّا

معهد الفكر هل علمت بأنّ الشيـ

ـخَ أفـنى من أجل عمرك عمرا

ومـشى ثـابت الخُطى باتّزانٍ

أشـبع الـدهرَ خـبرةً ثمّ سبرا

هـازئاً بـالخطوب تعرف منه

إنّ فـي أمـره مـع الله سـرّا

أي أبـا الطيّبات أحـييت فـينا

أمـلاً كـاد أن يـبدّد صـبرا

يـوم ضاق الفضا قنوطاً ولكن

فـاض من راحتيك يمناً ويسرا

قـد أرتـنا الأيّـامُ حمر المنايا

وتـرينا أنـت الأمانيَ خضرا

بـمساعيك قـام لـلعلم صرحٌ

عـشت لـلعلم والـديانة ذخرا

هـمّةٌ تـدفع الـسماء وعـزمٌ

يـسع الـكون مـذ يـنفذ أمرا

لـك فـي الـصالحات غرُّ أيادٍ

ويـدٌ في (الغدير) بيضاءُ غرّا

وحـقـيقٌ أقـول إنّـك فـينا

رابـح الـنشأتين دنـياً وأُخرا

14 - ودخل يوماً عائداً الخطيب المعروف السيّد علي الهاشمي على إثر وعكة صحيّة، فخاطبه:

متى كان في الظنّ أنّي أراك

ألـيف الـفراشِ حليفَ الألمْ

متى حوّمت حولك الواهمات

مـتى نـهشتك نيوبُ السّقمْ

متى زعزعتك سوافي الرّياح

وعـهدي بـك طـودٌ أشَـمْ

ألـست المُعاني الّذي يمتلي

نـشاطاً يزينك لطف الشّممْ

وثغرك ذاك الضحوك الوقور

يـعـطّر أجـواءنا بـالنّسمْ

٣١

فأجابه السيّد علي الهاشمي:

هـزار الـغريّين أتـحفتني

بـغرّاء تـذهب عنّي السّقمْ

نـظمت قـوافيها كـالعقود

فـنعم الـمنظّم والـمنتظمْ

فـقـبّلتها بـفـم الامـتنان

مـقلٌّ لـتقبيلها ألـف فـمْ

وجـلت بـبحرِ تـقاطيعها

بـمطرفةٍ دمـعُها مـنسجمْ

ومـا ذاك إلاّ اشـتياقٌ إليك

لأنّـك أنـت الـذي لا تُذمْ

فدم «يا جواداً» بكلّ الصِفات

ويـا عـلماً رفّ فوقَ العلمْ

وإنّـي لأكـبر هـذا الحنان

فـحبّك لي من جليل النِّعمْ

شعر التاريخ عند الخطيب شُبّر

1 - قال في تاريخ وفاة والده السيّد علي شبّر:

يـا أيّـها الـسائلُ عـن تاريخِه

مضى وأبقى العملَ الأبقى علي(1)

2 - وأرّخ فقيد الشباب السيّد نعيم الدين ابن السيّد عبّاس شبّر:

حـملتُ لـقبره إكليلَ وردٍ

وحنَّ القلبُ مِن شَغَفٍ وأنّا

وقلتُ لأدمعي سقياً فدهري

عـلينا بـالفراق لقد تجنّى

فنادتني احتبِسْ للدمع عيناً

فذا ماءُ الشباب يفيض عينا

وذا تـاريخه يـزهو بهاءً

نـعيمٌ لـلنعيم مضى مُهنّا

3 - وقال في تاريخ تمديد رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى للإمام السيّد موسى الصدر:

زهى المجلسُ الشيعيُّ والصدرُ زانه

بـطلعته الـغرّاء يـرفلُ مـأنوسا

فـعوّذته بـالغرِّ مـن آل هـاشمٍ

بـأربعِ عـشرٍ تدفع الضرَّ والبؤسا

أضـفناهمُ لـليمنِ مـذْ قيلَ أرّخوا

وقـلنا لـقد اُوتيت سؤلك يا موسى

4 - وقال مؤرّخاً بناء حسينيّة الزهراءعليها‌السلام في المنصوريّة (الكويت):

دارٌ لأهل البيت تسمو علاً

لـله فـيها بـعضُ أسراره

شعّتْ بنورِ السبطِ مذ أرّخوا

تـرفُّ إشـعاعاً بـأنواره

5 - وقال مؤرّخاً وفاة العلاّمة الشيخ حسين الفيليرحمه‌الله :

فـي يوم عاشوراءَ فارَقْتَنا

وقد بكتهُ السحبُ دمعاً صيّبا

____________________

(1) المقصود كتاب (العمل الأبقى في شرح العروة الوثقى) - للسيّد علي شبّر.

٣٢

ذاك الحسينُ واحدُ الفضلِ الذي

تـاريخهُ نـورُ حـسين غُيّبا

6 - وقال في تاريخ تزيين المرقد المطهّر للإمام عليعليه‌السلام بالمرايا والزجاج البديع:

مرآةُ قدس الله شعَّ سناؤها

فـتموّجتْ بزجاجةِ المرآةِ

قال الموحّدُ فيه أرِّخ زاهياً

مصباحُ نور الله في المشكاةِ

نشاطاته الاُخرى

1 - المباراة الدوليّة الثقافية للتأليف حول شخصيّة الإمام عليعليه‌السلام : هذا المشروع التاريخي طرحه السيّد على الوجيه السيّد هاشم شُبَّررحمه‌الله ، وهو تخصيص جوائز نقديّة لكلّ مَنْ يؤلّف كتاباً حول شخصيّة الإمام عليعليه‌السلام على أن يفوز من خلال المباراة.

وكان السيّد أميناً لسرّ اللجنة المنظّمة للمسابقة، فوجّه نِداءً لأرباب الفكر والأدب في العالم بعد ما أعلن برنامجه، وتشكّلتْ اللجنة المُحكّمة، وكانت تتألّف مِن أفذاذ العلم والوعي والتُقى، الأعلام الثلاثة: الشيخ مرتضى آل ياسين، والسيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد موسى بحر العلوم، فقُدّمت الكتب مِن قبل مؤلّفيها، فكانت النتائج كما يلي:

الفائز الأوّل: كتاب (الإمام علي - نبراس ومتراس) لمؤلّفه الكاتب اللبناني المعروف الاُستاذ سليمان كتّاني، وهو رجل مسيحي.

الفائز الثاني: كتاب (ملامح من عبقريّة الإمام) بقلم الدكتور مهدي محبوبة.

الفائز الثالث: كتاب (الإمام علي - رجل الإسلام المخلّد)، تأليف الاُستاذ عبد المجيد لُطفي.

ومن الكتب التي وقع الاختيار على طبعها كتاب (الإمام علي - أسد الإسلام وقدّيسه) للكاتب (روكس بن زائد العزيزي) رئيس رابطة حقوق الإنسان في الأُردن، وهو مسيحي.

2 - اهتمامه بالشعراء الشعبيين وتشجيعهم على الكتابة في رثاء سيّد الشهداء، وقد قرّض الديوان الشعري لكلّ مِن:

أ - الحاج محمّد باقر الإيرواني - شعراء الحسينعليه‌السلام .

ب - الشاعر المرحوم هادي القصّاب - ديوان الهداية الحسينيّة.

ج - الخطيب المرحوم الشيخ محمّد حسن دگسن - الروضة الدگسنيّة.

د - الحاج زاير - الشاعر الشعبي العراقي.

هـ - السيّد الشرع - منهل الشرع.

3 - اهتمامه ببناء وتشييد مراقد وأصحاب أهل البيتعليهم‌السلام كسعيه لبناء مرقد زيد الشهيدعليه‌السلام ، ومرقد رشيد الهجري، وكميل بن زياد وغيرهم مِن الأفذاذ والمظلومين؛ فقد كان

٣٣

يبذل لعمرانها من ماله الخاص.

4 - تحقيقه لبعض الكتب العظيمة ونشرها؛ فقد اعتنى السيّد بنشر ديوان (جواهر وصور) للفقيه السيّد عبّاس شبّر، وإخراجه أجمل إخراج بحلّة قشيبة وورق مؤطر بإطار ملوّن جميل يحيط بالقطعة الشعريّة، كما إنّه جمع وطبع وأشرف على إصدار ديوان (الموشور) للسيّد عبّاس شبّررحمه‌الله .

وقد كان للسيّد جواد الدور الرائد في صدور كتاب (الأخلاق) للسيّد عبد الله شبّر الذي عنى بنشره وطبعه. أمّا كتاب (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين - للراغب الأصفهاني) فقد عنى السيّد بنشره وإصداره؛ لأهمّيّته العلميّة.

5 - على صعيد الإصلاح: السيّد جواد شبّر كان من الروّاد الأوائل لحركة الإصلاح المنبري والاجتماعي. يقول في مقال كتبه تحت عنوان (الوعي نواة الإصلاح) في مجلّة الوعي الإسلامي: من أعذب الكلمات على السمع والروح كلمة الإصلاح، إنّها خفيفة على المشاعر، لطيفة في الأحاسيس، يترشّفها السامع ويتمنّى تحقيقها، ويتغنّى بها المجتمع ويهوى تطبيقها، لكن تختلف الآراء في الطريق المؤدّية إليها والوصول إلى أهدافها.

فالبعض يرى ذلك منحصراً في تسليم القيادة إلى موجّه حكيم، وهو الذي يقود الأُمّة إلى ساحل السلامة والنجاة، أمّا عقيدتي فهي أنّ أقرب الطرق إلى الإصلاح هو إيجاد الوعي العام في الأُمّة واليقظة في الشعب، والعمل على أن يشعر الكلّ بواجب المسؤوليّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ عن طريق الكتابة والخطابة، وتعاون الفرد والجماعة؛ فـ (( كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته ))(1) .

أمّا محاولاته الإصلاحيّة فيما يتعلّق بمؤسسة المنبر الحسيني فلقد كان من المبادرين السباقين لصيانة هذه المؤسسة الكبرى من الفوضى والترهّل، وحمايتها من الانحدار والتسيّب، ووضع الأسس والضوابط للانطلاق بها إلى مستوى المسؤوليّة، والارتقاء إلى مصاف المؤسّسات الإسلاميّة الهادفة.

يقول الخليلي في ترجمة الشيخ محمّد علي اليعقوبي أثناء حديثه عن الدعوة إلى إصلاح خطباء المنابر: وكان من أنشط العاملين في حلبة الإصلاح والدعوة إلى تهذيب الخطباء هو الخطيب السيّد جواد شبّر؛ ففتح في مدرسة المنتدى صفّاً خاصّاً بتعليم الخطباء فنّ الخطابة، وتهذيب الأخبار التي يروونها، وإعدادهم إعداداً يتّفق وروح العصر(2) .

____________________

(1) مجلة الوعي الإسلامي الكويتيّة، السنة الأُولى - العدد الثاني سنة 1965 م.

(2) هكذا عرفتهم - للخليلي 1 / 159، ومجلة الإيمان، عدد خاص في ذكرى اليعقوبي، سنة 1312 هـ.

٣٤

ولعمر الحقّ أنّ هذه المهمّة الشاقّة نحن بأمسّ الحاجّة إلى مَنْ يشمّر عن ساعد الجدّ ويتصدّى لتهذيب وتقويم هذه المؤسسة الهامّة؛ لئلاّ تكون مرتعاً سهلاً لمَنْ هبّ ودبّ، وسوقاً سوداء للمتاجرين بدماء الحسينعليه‌السلام ونبل أهدافه وشرف قضيّته(1) .

مؤلّفاته

للسيّد عدّة كتب ألّفها في حياته المعطاءة، وهذه أهمّها:

1 - إلى ولدي: كتاب في الأدب التربوي، جمع فيه عيون الشعر لأساطين الشعراء، طُبِع الطبعة الأُولى في النجف سنة 1954 م، ثمّ أعدتُ طبعه (مصوراً) في قم سنة 1984 م.

2 - قبس مِن حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام : وُزّع على الجمهور الذي شارك في الاحتفال بمناسبة ميلاد الإمام الحسينعليه‌السلام في النجف الأشرف.

3 - أشعة مِن حياة الصّادقعليه‌السلام : قُدّمَ هدية للمحتفلين بمولد سيّد الشهداء سنة 1385 هـ - 1965 م في النجف الأشرف.

4 - مقتل الحسينعليه‌السلام - عبرة المؤمنين: وهو الكتاب الماثل بين يدي القارئ الكريم.

5 - المطالب النفيسة: يقع في ثلاثة مجلّدات في التراجم والأخلاق والفلسفة الإسلاميّة (مخطوط).

6 - شواهد الأديب: مختارات شعريّة في ثلاثة أجزاء (مخطوط).

7 - المقتطفات: نوادر وحكم وأدب في جزئين ضخمين (مخطوط).

8 - شعراء العصر الحاضر (مخطوط).

9 - سوانح الأفكار في منتخب الأشعار: ثلاث مجلّدات في مدح ومراثي أهل البيتعليهم‌السلام (مخطوط)(2) .

10 - المناهج الحسينيّة: مجموعة مجالس قرأها في لبنان - مجلد واحد طبع في بيروت ثمّ أُعيد طبعه في قم.

11 - ديوان شعره: وفيه كثير من المراسلات والمساجلات، والقطع المستملحة والأوصاف البديعة(3) (مخطوط).

____________________

(1) معجم الخطباء 1 / 330.

(2) مشهد الإمام 3 / 160.

(3) شعراء الغري - للخاقاني 2 / 473.

٣٥

12 - أدب الطفّ أو شعراء الحسين - طُبع منه 10 أجزاء.

13 - الإسلام دين ودولة - 3 مجلّدات (مخطوط).

14ـ الأخلاق الإسلاميّة - 3 مجلّدات (مخطوط).

موقف بطولي وتأريخي

هنالك موقف تاريخي للسيّد الوالد ذكرته للأخ السيّد داخل، فدوّنه في موسوعته (معجم الخطباء)(1) قائلاً: ( يقول النجلُ الأصغر لسيّدنا المترجم الخطيب السيّد أمين عن أحد معارفه إنّه التقى في الهند بأحد عملاء النظام، وكان يتولّى تعذيبه عندما كان سجيناً، ولكنّه لم يعرفه لتغيير ملامحه، فاتّصل به وتظاهر بأنّه من الموالين للنّظام، وسأله عن بعض المساجين وبينهم السيّد جواد شبّر، فقال: إنّ أمر هذا الرجل لعجيب؛ فقد اجتمع مدير الأمن بضباطه ذات يوم ودار الحديث حوله وكيفيّة التعامل معه، وأخيراً قرّروا استمالته وتقديم العروض المغرية لتبديل موقفه، فاجتمعوا به وتحدّثوا معه بأنّك شخصيّة عراقية هامّة، ولك المواقف المشهودة، والخطب المؤثرة، والكلمة المسموعة في أوساط الشعب، فلا نريد منك سوى أن ترقى المنبر في الصحن الحيدري أو أيّ مكان عام وتخطب مشيداً بالسيّد الرئيس، وتشجب ما يقوم به الخميني اتّجاه العراق... إلخ!

ويذكّرني هذا المكر بمكر معاوية عندما طلب من الأحنف بن قيس بأن يرقى المنبر ويمتدح يزيد، فقال: لو تركتني لكان خيراً. قال: لماذا؟ قال: لأمرين؛ إذا صدقت أغضبتك، وإذا كذبت أغضبت الله. فلمّا طلبوا ذلك من السيّد مقابل إطلاق سراحه وإعطائه جواز سفره وبعض الإغراءات الأُخرى، أخرج السيّد لسانه وقال: اقطعوا لساني خير ممّا تدعونني إليه.

تحيّة لك أيّها البطل، ومرحى لصلابتك أيّها العظيم، وطبتَ حيّاً وميتاً، والسّلام عليك كلّما بدأ يعود ورحمة الله وبركاته.

قالوا في السيّد جواد شبّر

* قال الاُستاذ الأديب علي الخاقاني في (شعراء الغري): والسيّد جواد أديب ذكي، وخطيب شجاع، يعبّر عن كثير من الآلام التي يتحسّسها مجتمعه، ويندفع في تصوير ما يراه صالحاً لقومه بلهجة يغلب عليها الحماس، ويتخلّلها لون من الثورة النفسيّة؛ ولحماسه القوي فقد تصوّره فريق أنّه يتصنّع ذلك، غير أنّ مَنْ عرف سلوكه يعرف أنّه

____________________

(1) معجم الخطباء 1 / 348.

٣٦

صادق بتعبيره. (شعراء الغري 2 / 472).

* ووصفه الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني في معجمه: عالم فاضل، خطيب متكلّم، شاعر مجدّد، مؤلّف مؤرّخ متتبّع، نظم الشعر وجاهد بقلمه ولسانه في سبيل عقيدته ورسالته وتشيّعه الذي يعتبر بحقّ الإسلام الصحيح.

كتب بحوثاً ومواضيع توجيهيّة وأدبيّة في الصحف دلّت على تفوّقه العلمي ونضوجه الأدبي، اعتقلته السلطة الرعناء في شهر رمضان وضاع خبره حتّى هذه الساعة. (معجم رجال الفكر 2 / 713).

* وقال المرجاني في خطباء المنبر: هو أحد حسنات النجف الأشرف، وأحد خطبائها البارزين، وتراه إذا رقى ذروة المنبر انحدر كالسيل المتدفّق. واسع الرواية، قوي الحجّة. (1 / 136).

* وقال صاحب كتاب ومضات الشباب: اجتمعت له أسباب التوفيق في الحياة من انتشار صيت، وحسن حال، واستيعاب معرفة، ورخامة صوت، ونشاط أدبي ملموس الأثر؛ فانطلقت خلفه عيون فريق من مرتقي المنابر الذين يشاركونه المزاولة ولا يشاركونه المؤهّلات والمقام. (مشهد الإمام 4 / 154).

* قال الفقيه المظلوم الشيخ محمّد تقي الجواهري: السيّد جواد ليس له نظير في خطابته؛ فهو يركّز العقيدة. (المناهج الحسينيّة، تقديم: علي محمّد علي دخيّل).

* وقال العلاّمة الشيخ قاسم محيي الدين: الجواد هو رجل المناسبة، وأمل المستقبل في الخطابة. (خطباء المنبر 1 / 137).

* وقال العلاّمة العبقري الشيخ محمّد جواد مغنية في ختام تقديمه لموسوعة أدب الطفّ: وختاماً نسجّل تقديرنا لخطيب المنبر الحسيني الكفوء، صاحب هذه المجموعة التي ضاعفت حسناته بعدد أبياتها، وشهدت له بالتتبع وسعة الاطّلاع. (أدب الطفّ 1 / 16).

* ولمّا كان الشيخ محمّد جواد مغنية يقطن في المدرسة الشبّريّة، كنت أذهب إلى غرفته للاستفادة، ومرّةً حضر مجلساً حسينياً أُقيم في باحة المدرسة وقد قرأ الوالد، ولمّا انتهى قلت للشيخ مغنية: ما رأيكم بقراءة الوالد؟

فقال لي: إنّ أباك خطيب العُلماء، وعالم الخطباء.

* ومن ذكرياتي: تبادل الرسائل باستمرار بين الوالد والكاتب (روكس بن زائد العزيزي) رئيس رابطة حقوق الإنسان في الأُردن، فقد كنتُ أقرأ على ظرف رسائله كلّها عبارة: (... إلى أمير المنابر جواد شبّر...).

٣٧

* في لقاء مع آية الله العلاّمة السيّد محمّد مُفتي الشيعة في قم المقدسة(1) قال: كان الخطيب الفاضل السيّد جواد شبّر خطيباً مُبرزاً، واعياً جامعاً في خطابته، متكلّماً متميّزاً لفصاحته وبلاغته وشجاعته؛ حيث يُبيّن المطالب المنبريّة المهمّة... متحدّياً... دون تردّد ومداهنة...

وقد عرفته من الخطباء المتميّزين في شدّة ولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام ... مهيمناً على تلك المطالب، عارفاً بحُضّار مجالسه من العلماء والعامّة من الناس.

وكان هو الخطيب الذي يُختارُ غالباً لارتقاء المنبر الشريف في مجالس العلماء والمراجع... وكان ممّن ينصبُّ عليه الاهتمام في تأبين العلماء والمراجع؛ لإحاطته بكثير ممّا يتعلّق بسيرهم وحياتهم وآثارهم.

وممّا أتذكّره أنّه كان المعوّل عليه في تأبين العلماء والمراجع: السيّد الحكيم، والسيّد الميلاني، والسيّد عبد الهادي الشيرازي، والسيّد جواد التبريزي، والشيخ حسين الحلّي، والسيّد محمود الشاهرودي، وآقا بزرك الطهراني وغيرهم مِن أعلام الدين (رضوان الله تعالى عليهم).

* وقال الشيخ عبد الحسين الحويزي مخاطباً السيّد جواد شبّر(2) :

يـا آلَ شبّر لم تزل أنوارُكمْ

تـأبى بـأنديةِ الهدى إطفاءا

عرجت بكم هممٌ لغاياتِ العُلا

سبقت فجاوزت المدى إسراءا

تلامذته

يعتبر الخطيب السيّد جواد شبّر مدرسة واعية معطاءة تميّزت بإخلاصها وشموليّتها؛ فقد كان السَيّد موسوعة أدبيّة فقهيّة، حديثيّة تاريخيّة، فكنتُ عندما أجلس معه أو في مجالسه العامّة، أخرج بزيادة علم ومعرفة وأدب. وقد تتلمذ على يديه جمع من الخطباء نذكر بعضهم:

1 - الخطيب السيّد حسن الكشميري(3) .

2 - الخطيب الشيخ صالح الدجيلي(4) .

____________________

(1) اللقاء في تاريخ 18 شعبان 1420 هـ.

(2) أدب الطف 10 / 128.

(3) كما يشير هو في مجالسه من على المنبر، بل ويفتخر بذلك، ومعجم الخطباء 2 / 337.

(4) نقلاً عن السيّد حسن الكشميري.

٣٨

3 - الخطيب الشيخ شاكر القرشي(1) .

4 - الخطيب السيّد داخل السيّد حسن(2) .

5 - الخطيب السيّد عامر الحلو(3) .

6 - الخطيب الشيخ صالح الجزائري(4) .

7 - الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو الطابوق(5) .

سيّدي الاُستاذ والوالد والمُربّي، أيّها المُغيّب عنّا في السجون، يا مَن خَدَمْتَ منبر جدّك الحسينعليه‌السلام أكثر مِن نصف قَرن، ثمّ أودعوك في زنزانات مُظلمة. أيّها الأسد الهصور، كُنت تقول لنا - نحن أبناؤك -: مَنْ منكم يسلك طريقي، طريق الخطابة الحسينيّة؟

فكانت (اُمنيتك)، وها أنا أُحقّق أُمنيتك أيّها الكبير العظيم، وعلى طريقك ونهجك أيّها المخلص.

أدعو لك مع مُحبّيك وجمهورك بالفرج من أيدي الطغاة.

أدعو لك بدموعي الممزوجة بلوعتي على فراقك.

أدعو لك مِن على منبر جدّك الذبيح، مِن على نفس المنبر الذي كُنّا نراك عليه، وكلّنا آذان صاغية لحديثك المُمتع:

فـما اسـتشعرَ الـمُصغي إليك مَلالةً

ولا قُلتَ إلاّ قال مِن طَرَبٍ: زِدني

فـأعظمُ مَـجدي كـان إنّـك لي أبٌ

وأكـبرُ فـخري كان قولك: ذا اِبني

ولدك: محمّد أمين        

7 ذو القعدة 1420 - 13/2/2000

____________________

(1) نقلاً عن خطباء المنبر الحسيني - للمرجاني 4 / 135.

(2) نقلاً عن خطباء المنبر الحسيني - للمرجاني 6 / 142.

(3) معجم الخطباء 2 / 361.

(4) خطباء المنبر الحسيني 5 / 174، ومعجم الخطباء 4 / 212.

(5) معجم الخطباء 7 / 224.

٣٩

الحسينعليه‌السلام عبرة المؤمنين

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) «آل عمران 169 - 170».

عن عبد الله بن سنان قال: دخلت على سيّدي أبي عبد الله جعفر بن محمّدعليه‌السلام في يوم عاشوراء، فألفيته كاسفَ اللون، ظاهرَ الحزن، ودموعُه تتحادر مِن عينيه، فقلتُ: يابنَ رسول الله، مِمّ بكاؤك لا أبكى الله لك عيناً؟!

فقال: (( أوَ في غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسينعليه‌السلام أُصيب في مثل هذا اليوم؟! )) ثمّ بكى أبو عبد الله حتّى اخضلّت لحيته بدموعه.

المقدّمة

احتفال الأئمّة بيوم عاشوراء

جرت عادة الشيعة الإماميّة على الاحتفال بذكرى واقعة الطفّ الدامية، واتّخاذ يوم مقتل سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام يوم حزن وبكاء، اتّخذوا ذلك على سيرة الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)؛ فقد كان الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام إذا هلّ هلال عاشوراء اشتدّ حزنه، وعَظُمَ بكاؤه على مُصاب جدّه الحسينعليه‌السلام ، وتَفِدُ إليه الناس من كلّ جانب ومكان يُعزّونه بالحسينعليه‌السلام ويبكون وينوحون معه.

وكان الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تَغلبُ عليه حتّى تمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

للأغراض الزائدة على ذات الواجب، كما عن الإمامية والمعتزلة، والحكماء ينكرونه جداً ويقولون: إنّ الغرض من فعله، نفس ذاته المقدّسة. والأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى، ولكنّهم يجعلون صفاته زائدةً على ذاته، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم.

ومسألة تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة، مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جداً، ومع ذلك أُهملت في الكتب الكلامية، ولكنّنا سنستوفي بحثها في المقصد الخامس إن شاء الله تعالى، وسنبرهن من العقل والقرآن على صحته، لكنّ الشأن في الابتناء المذكور، فإنّ الفعل - بناءً على زيادة الداعي على الذات - وإن كان ممكناً بالنسبة إلى الذات المذكورة، من حيث الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار، وهو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات، لكنّه لا يثبت مذهب المتكلّمين، ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور، فإنّا لو فرضنا أنّ الداعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه - صدور المعلول عن علّته التامة - أيضاً غير مقدور، فأين الاختيار؟

وقد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة والمصلحة، ولعلّه المشهور بين العدلية، ومن الواضح أنّ العلم - سواء كان عين ذاته، أو زائداً عليها وقائماً بها من الأزل - غير مقدور للواجب.

وخلاصة المقال: أنّ مجرّد إمكان الفعل صدوراً وتركاً، بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي، لا يفي بإثبات اختيار الواجب، الذي يصرّ عليه المتكلّمون، فإنّه بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي، وأمّا ما ادّعاه شركاء الفن وغيرهم، من الضرورة على أنّ الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم، فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي - وهو علمه بما في الفعل من المصلحة - والقول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية، فإنّ الله قديم الذات وقديم العلم، فهو عالم أزلاً بأنّ الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلاً، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قِدم المعلول. نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي، فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله، كما يرومه الكلاميون، اعتماداً على ما سيجيء من دلائلهم في هذه المسألة ومسألة حدوث العالم، كما ستعلم وجهه في الدليل الثاني من أدلّة الحكماء.

السادس: الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سره، أنّ وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار، لكنّه غير مدلّل، بل الملاك هو إمكانه إمكاناً وقوعياً، وأمّا نفس التخلّف خارجاً فهو غير معتبر، نعم هنا شيء آخر وهو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قِدمه أو لا؟ وسيأتي بحثه

١٢١

في مسألة حدوث العالم، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار؛ إذ استحالة قِدم الممكن في نفسه شيء، ومنافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر، ولا ربط بينهما أصلاً.

هذا ما يتعلّق بجهات البحث وتصوير المدّعى، ولنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول: استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه، وإليك بيانها وتوضيحها:

الأَوّل: إنّ الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته، فهو واجب في ذاته وصفاته، وحيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى، فلا يعقل تفسيرها بالإمكان والصحّة.

أقول: هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة، القائمة بذاته تعالى، الزائدة عليها، وعدم وجوبها، فهذا الوجه لا يهمّه كما هو واضح، إلاّ أنّ الكلام في صحّة هذا الاعتذار، وستعلم أنّ لبّ القول بإمكان الصفات، ليس إلاّ التزاماً بمذهب الماديين، وأمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة، بما يقول في غير هذا المقام، أو يُنسب إليه من إنكار الصفات رأساً، ونيابة الذات منابها في آثارها، فمعنى كونه تعالى قادراً، أنّ ذاته تفعل وتترك بلا إيجاب ذاتي.

أقول: ويرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين، كما ستقف عليه في المقصد الرابع إن شاء الله، فالشبهة باقية على حالها، ولا وزن لهذين الجوابين المذكورين، فلابدّ الالتزام إمّا بإيجابه ونفي الإمكان عن قدرته، أو بعدم وجوب قدرته. والفلسفي يستريح بقبول الشقّ الأَوّل، كما أنّ الأشعري والاعتزالي يبنيان على الثاني؛ وحيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معاً، فيحتاج إلى طريق ثالث، لكنّني لم أرَ ذكراً له في كتبهم الموجودة عندي، بل هذه الشبهة قد أُهملت في الكتب الكلامية رأساً، مع أنّها ذات أهمّية جداً، ومغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين، لا يجامع القول بعينية الصفات، كما عليها الإمامية والحكماء. والتحقيق في الجواب: أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور واللاصدور كما في الحيوان، فإنّ القدرة فيه من الكيفيات النفسانية؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس، فكذا في الواجب؛ وحيث إنّ كنه الواجب وذاته يمتنع الاكتناه والإحاطة بها، استحال معرفة قدرته أيضاً، لكن يلزمها صحّة الفعل والترك، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة، لا في المخلوق ولا في الخالق، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة (١) .

فنقول: إنّ الله تعالى قادر لِما استخدمناه من الدلائل، وستدري أنّ قدرته عين ذاته؛ وحيث

____________________

(١) نقل العلاّمة قدّس سره في شرح قواعد العقائد / ٤٠: أنّ القادر عند أوائل المعتزلة مَن كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل. ونفاة الأحوال قالوا: هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل.

أقول: الثاني باطل كما عرفت، والأَوّل صحيح لكنّ الصفة نفس ذاته.

١٢٢

اتّفق الباحثون من المتكلّمين والحكماء - كاتّفاق العقل والنقل - على امتناع إدراك حقيقته وعرفان ذاته، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته، لكن نعلم أنّ الصحّة المذكورة من لوازم قدرته وشؤون سلطانه، فإذن لا منافاة بين القول باختياره والقول بعينية صفاته، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها. هذا، وللمتكلم أن يرجع ويقول على سبيل النقض: إنّ تفسير القدرة بأن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة؛ إذ مرجعها حينئذٍ إلى ضرورة المشيّة واللامشيّة، وليست المشيّة عندهم إلاّ العلم بالعناية، ولا نتعقّل من مفهوم العلم إلاّ الانكشاف والإراءة، ولا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة، وأنّ حقيقة الواجب هو الكشف! فلابدّ أن يقولوا: إنّ الكشف لازم علمه تعالى.

الثاني: إنّ إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضاً واجبة، وعليه فالفعل أيضاً واجب بالنسبة إلى ذاته، ولا يمكن التخلّف أصلاً؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة، يظهر ذلك من الأسفار وحواشيها للسبزواري.

أقول: المنقول من معظم متكلّمي الإمامية ورؤساء المعتزلة، أنّ إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة والمنفعة، ويعبّرون عنه بالداعي، وعليه فيتوجّه عليهم أنّ علمه عين ذاته تعالى، وتعلّقه بالأشياء ضروري، فيكون تحقّق الفعل أيضاً ضرورياً؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وهذا هو الإيجاب الذي يدّعيه الفلاسفة، وأمّا الأشاعرة فهم وإن يروا زيادة إرادته على ذاته، لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضاً، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب، وهي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل، وهذا عين الإيجاب، وما أجاب في المواقف (١) بأنّ الوجوب بالاختيار، لا ينافي الاختيار، فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك.

والإنصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى، يصام اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة.

ثمّ إنّ عينية الإرادة مع الذات وإن توجب ضرورة الفعل وبطلان الصحّة المذكورة، إلاّ أنّها لا تثبت قِدم العالم؛ لأنّها ليست هي العلم فقط، بل العلم بالمصلحة، ولعلّها غير متحقّقة في الأزل، أو إنّ قِدم الممكن غير ممكن، فإثبات قِدم العالَم موقوف على إمكان قِدم الممكن وتحقّق المصلحة، كما لا يخفى.

لكن الذي يبطل هذا الوجه، هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى، وعدم

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٦٩.

١٢٣

قِدمها، ووجوبها، وعينيتها، مع الذات الأحدية الواجبة، فهذه العويصة المهمّة منحلة على أُصولنا بلا تكلف.

الثالث: إنّ الواجب الوجود واجب من جميع جهاته، فكيف يعقل الصحّة في حقه؟ ذكره صاحب الأسفار والسبزواري وغيرهما ممّن تقدّمهما.

أقول: إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى، وعدم إمكان انفكاكها عن الذات، فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد، حتى من الأشعري القائل بإمكان صفاته، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى، وإن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها وأنّها واجبة، فهذا وإن كان حقاً متيناً وبه اعتقد الإمامية، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفي بإثبات ذلك، كما يظهر لمَن لاحظها، وإن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى، وأنّها تصدر عنه تعالى ضرورةً ووجوباً، ولا يعقل الإمكان في حقه مطلقاً سواء في أفعاله وأوصافه، فهذا وإن كان هو مفاد القاعدة، لكنّنا نردّه بأنّ القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبداً، كما سلف بحثها مفصّلاً.

الرابع: ما سلف في عبارة الأسفار وإليك بيانه الآخر، قال: ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد - سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى - هو ما أشرنا إليه، فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه، لم تكن صالحةً لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر، وإذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً يتحقّق عند الله... إلخ.

أقول: هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية، كما نقله هو في بعض فصول بحث إرادة الله تعالى، واللاهيجي أيضاً في مبحث إرادته تعالى من شوارقه، وجوابه: أنّ الوجوب الناشئ من قِبل الإرادة والاختيار، لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، وهذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين، وأمّا وجوب الإرادة نفسها فقد أشرنا إلى أنّ إرادته تعالى كإرادة بقية الفاعلين حادثة، كما سيأتي بحثهما.

الخامس: ما ذكره أيضاً صاحب الأسفار بقوله: وممّا يدلّ على ما ذكرنا - من أنّه ليس مَن شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل - أنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً، وذلك محال، والمؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب... مع أنّ الله مريد وقادر عليه.

أقول: وهذا التلفيق من مثله عجيب جداً، أَلم يعلم أنّ هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه، لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان وغيره؟ فيبطل الاختيار رأساً، ولا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور واللاصدور حتى في القادر، الذي يفعل بداع زائد على ذاته، وقدرة زائدة على ذاته، مع

١٢٤

أنّه صرّح - في غير مورد - بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب.

وحلّ هذه الشبهة، أنّ الله كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره، كذلك يعلم بصدوره عنه اختياراً، وأنّ تركه ممكن له ذاتاً ووقوعاً، فلو فرضا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى وهو محال، والمستلزم للمحال محال.

ثمّ إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قِبال العدلية، وسنرجع إليها في مباحث المقصد الخامس إن شاء الله.

السادس: ما ذكره هو أيضاً، من أنّ الفاعل قادراً، إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه، وفي تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل... إلخ.

أقول: وهذا منه غريب وخبط عظيم، فقد خُلط عليه محلّ البحث؛ ولذا أصرّ على أنّ هذا الوجه يثبت مرامه، ولا يدري أنّ الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختياراً، غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل، كيف والأَوّل عامّ يشمل جميع الفاعلين، والثاني خاصّ بمَن كان فعله لا لصفة زائدة ولا لداعٍ زائد، كما صرّح به مراراً؟ وإنْ كان اكتفى في بعض كلماته، بصدور الفعل عن علم وإرادة في صدق المختار، ولو في غير الله تعالى، بل ادّعى أنّه لا يقال مثل هذا الفاعل في العرف العامّي ولا الخاصّي: إنّه فاعل غير مختار.

أقول: بطلانه واضح؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي، والعرف لا يقول له المختار قطعاً، كما اعترف به ابن سينا وغيره أيضاً.

السابع: قد ثبت قِدم العالَم في طبيعيات الفلسفة، وهو لا يمكن إلاّ عن مُفيض تام الفاعلية. نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّاً على الرازي.

أقول: هذا الوجه باطل صغرى وكبرى. أمّا الصغرى؛ فلِما يأتي من حدوث العالم بشراشره، وأمّا الكبرى؛ فلِما تقدّم من أنّ المعتبر في مفهوم المختار، هو إمكان تخلّف فعله عنه، لا وقوعه خلافاً لشركاء الفن أو معظمهم، فقِدم العالَم لا يكشف عن صحّة مقصودهم، كما أنّ حدوثه على نحو مطلق لا يدلّ على اختياره، كما يأتي إن شاء الله.

الثامن: الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون، يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده ولا يفعل بعدمه، وليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور واللاصدور، وهي - أي زيادة الداعي على ذاته - تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى. يستفاد من الأسفار والشوارق.

أقول: استلزام الاستكمال باطل جداً، كما ستعرفه في المقصد الخامس إن شاء الله.

وأعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار: عند المعتزلة أنّ الاختيار يكون

١٢٥

بداعٍ أو بسبب، والاختيار بالداعي يكون اضطراراً، واختيار الباري وفعله ليس بداعٍ، انتهى. وقَبِله صاحب الأسفار أيضاً فكرّره في كتابه.

أقول: وهذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّاً ولا جواباً؛ لأنّه مثل أن يقال: إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود!

التاسع: إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع؛ لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذٍ على عدمه، وأيضاً يلزم قِدم الأثر؛ لأنّ الواجب وقدرته وتعلّقها أزلي مع أنّ أثر المختار حادث، وإمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي، ولا يجب الفعل مع ذلك المرجّح وإلاّ لزم الإيجاب، بل كان جائزاً هو وضدّه، فيحتاج إلى مرجّح آخر ويلزم التسلسل في المرجّحات.

العاشر: إنّ إرادة الله وقدرته، متعلقتان من الأزل إلى الأبد، بترجّح الحادث المعين، وإيجاده في وقت معيّن، والتغيّر في صفاته محال، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. نقلهما بعضهم عن الفلاسفة (١) .

الحادي عشر: إنّ ما لم يجب لم يوجد، فلابدّ من أن يكون الله تعالى موجباً - بكسر الجيم - فإنّه موجِد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - كما زعم المتكلمون وينسبونه إلى الحكماء. يظهر ذلك من كلام السبزواري المتقدّم.

أقول: أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل، ولكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه كما مرّ غير مرّة؛ ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين، بخلاف الثاني، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان.

وبالجملة: الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوباً ذاتياً، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته، وإن كانت غير ذاته بل كانت ممكنةً أو حادثة، وهذا ظاهر لا ستر عليه. وأجاب الناقل ومَن تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة، ولا يليق بنا أن نتعرّض له، ومنه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضاً، وأنّ الله تعالى على مذهبهم فاعل موجَب - بفتح الجيم - ولا يُستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلاً ولا عرفاً، فإصرار السبزواري وغيره على أنّه موجِب - بالكسر - لا موجَب - بالفتح - واستيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه وعدم اختياره، شيء عجيب جداً، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام؟

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٤٤، ٤٦.

١٢٦

هذا كلّه بناءً على تمامية القاعدة القائلة: إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، وأمّا بناءً على عدم تماميتها فالأمر واضح، وأمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات، فليس إلاّ دليلاً آخر على تلك القاعدة ونفي الأولوية، وسنرجع إليها في المقصد الخامس.

وأمّا الوجه العاشر فجوابه: أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك والأضداد، فليس الترجّح مستند إليها، وإلاّ لزم التناقض والجمع بين الضدين، بل هو مستند إلى إرادته، التي ليست هي إلاّ إحداثه، وتعلّق الإرادة بهذا المعنى من الأزل محال، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع، وتعلّق الإرادة حادث وموجب للوقوع لكنّها قابلة للتغيّر، فافهم جيداً.

ويناسب المقام مباحث أُخر، سنتعرض لها إن شاء الله في مباحث الإرادة، وحدوث العالم، وتعلّل أفعال الله بالأغراض؛ إذ هذه المباحث لها اشتراك وارتباط شديد كما يعرفه الراسخون.

هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم، ولم ندع شيئاً منه مهملاً، وقد دريتَ أنّ الإنصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم، بل وبعضها خارج عن محلّ النزاع رأساً، فحينئذٍ إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لَما كان بأساً ومانعاً من الالتزام به، وكذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي ولا محذور فيه أصلاً، فإنّ الاختيار وهو كيفية القدرة، ممّا لا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور ونحوه، فالآن نرجع إلى أدلّتهم، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه:

الأَوّل: لو لم يكن مختاراً للزم إمّا قِدم العالَم أو حدوث القديم، وكلا الأمرين محال، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي. بيان الملازمة: أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه، فهو وأثره مقارنان في الخارج، فإذا لم يكن الواجب مختاراً جاز تأخّر فعله عنه، ولوجب تحقّقهما - أي الله والعالَم - إمّا في الأزل أو في الحدوث، وأمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح، كما أنّ حدوث العالم مبيّن كما يأتي في محلّه. وبالجملة: أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه.

الثاني: إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص؛ لعدم تمكّنه حينئذٍ من الترك أو الفعل، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه، والنقص عليه محال اتّفاقاً وعقلاً، كما يأتي بحثه إن شاء الله في المقصد الآتي.

الثالث: إنّه لو لم يكن مختاراً للزم أحد الأمور الأربعة: إمّا نفي الحادث بالكلّية، أو عدم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التام، وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم. بيان الملازمة: أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد، فإن لم يوجد فهو الأمر الأَوّل، وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند، فإن لم يستند فهو الثاني، وإن استند فإمّا أن لا

١٢٧

ينتهي إلى قديم أو ينتهي، فإن لم ينتهِ فهو الثالث أي التسلسل؛ وذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم ولا منتهٍ إليه، فلابدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبةً مجتمعة، وهو تسلسل محال اتّفاقاً؛ وإن انتهى فلابدّ قديم يوجب حادثاً بلا واسطة من الحوادث؛ دفعاً للتسلسل فيها، سواء كانت مجتمعةً أو متعاقبة، فيلزم الرابع.

الرابع: إنّه تعالى لو لم يكن مختاراً لاستحال تغيّر الموجودات، وتبدّل الكائنات بالمرة، فإنّه يتبع تغيّر العلّة وتبدّلها، وهو في حقّ الواجب مستحيل، فثبت أنّه مختار.

الخامس: إنّه لو كان موجِباً لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة، في درجة واحدة، بلا تقدّم وتأخر بينها، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة، أعني بها ذاته المقدسة، والتخصيص الواقع يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل ترجّحاً من دون مرجّح.

السادس: الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مثل قوله تعالى: ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) (١) ، وقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٢) ، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (٣) ، وقوله: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (٤) وأمثالها من الآيات الصريحة في المدعى.

السابع: الأخبار المتواترة عن النبي الأعظم وآله الكرام (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، مثل ما ورد في أنّه يمحو ويثبت، ويقدّم ويؤخّر وله البداء، ونحو ذلك.

الثامن: الضرورة الدينية على اختياره، بل تقدّم عن العلاّمة الحلي قدّس سره أنّه الفارق بين الإسلام والفلسفة، بل ادّعى الجرجاني والقوشجي والأصبهاني اتّفاق المليّين قاطبةً على ذلك كما مرّ.

هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة على اختياره تعالى.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل، فهو موقوف على ثبوت أمرين، الأَوّل: حدوث العالم كما هو ظاهر، الثاني: إمكان أزلية الممكن؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل، وتحتّم مسبوقية الممكن بالعدم، لَما كشف حدوث العالم عن الاختيار.

وبالجملة: حدوث العالم بمجرّده، وإن كان يبطل قول الفلاسفة بقِدمه، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته، حتى يكون عدم تحقّقه مستنداً إلى إرادة الفاعل دون المانع

____________________

(١) إبراهيم ١٤ / ١٩.

(٢) النحل ١٦ / ٤٠.

(٣) الحج ٢٢ / ١٤.

(٤) الرعد ١٣ / ٣٩.

١٢٨

في نفس المفعول، وستعرف إن شاء الله في محلّه امتناع أزليته، فهذا الدليل - بما له من الاشتهار - غير تام، وأنّ الحدوث لا يثبت الاختيار، كما أنّ الاختيار أيضاً لا يدلّ على الحدوث، خلافاً لِما توهّمه الرازي في محكي شرح الإشارات، فإنّا قد ذكرنا إمكان مقارنة فعله معه من حيث هو مختار.

وأمّا الوجه الثاني، فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع، وأنّ صدور الفعل مع العلم والإرادة ليس بإيجاب، وإن لم يكن هناك التمكّن من تركه، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار وأفضل أنحاء الصنع، بل لا اختيار إلاّ لمَن يفعل لذاته بذاته، وأمّا مَن يفعل لداعٍ زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار، فالواجب - عزّ مجده - موجب بكسر الجيم لا بفتحه.

أقول: إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحت وتهافت واضح، ومهما قالوا في توجيهه وتصحيحه، فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال، ولا يكون الواجب على مذهبهم، إلاّ موجَباً بفتح الجيم لا بكسره، وتحريف الكلم عن مواضعه غير نافع، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل، وأنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص، بل هو ممّا أثبته الأدلة العقلية المتقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث، فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره، وإلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث، وهو معلول الواجب الموجب، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة.

وبالجملة: هذا الوجه راجع إلى الوجه الأَوّل ولا مزية له غير الزيادة في العبارة.

وأمّا الوجه الرابع والخامس، فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة، في ارتباط الحادث بالقديم؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما، على أنّ القابل في نفسه أيضاً قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة.

وأمّا الوجه السادس، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته، وهذا ممّا لا خلاف فيه لأحد، وإنّما الكلام في تحديد إرادته وأنّها واجبة أو لا، وهل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن - بظواهره لا بنصوصه - يدلّ على اختياره تعالى، فإنّ مَن أُلقي عليهم خطابات القرآن - وهم عامّة الناس - لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة وأمثاله إلاّ التمكّن المذكور، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة.

وأمّا الثامن فالإنصاف أنّه غير بعيد، فإنّ اختياره تعالى - بنحو يدعيه المتكلّمون - ممّا ارتكز في أذهان المسلمين، رجالهم ونسائهم، جاهلهم وعالمهم، صغيرهم وكبيرهم، وهذا الارتكاز لا يكون مستنداً إلاّ إلى الدين وطريقة الشارع، فالثابت من الدين هو ذلك، وقد عرفت

١٢٩

أنّ ما قيل في امتناعه وبطلانه كان مزيّفاً ضعيفاً، فإذن يتعيّن تعييناً تعبّدياً لا عقلياً التديّن والاعتقاد بهذا المسلك؛ لِما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم.

خلاصة المقال في تنقيح المقام

قد استبان ممّا ذُكر أنّ النظرية الفلسفة المذكورة لا تتمّ إلاّ بأُمور:

١ - كون إرادته عين ذاته، وإلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور واللاصدور.

٢ - كون الغرض من فعله نفس ذاته، وإلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته.

٣ - قِدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن.

فإذا لم يثبت واحد من هذه الأُمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه، ولكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين، كما يظهر من مراجعة ما سبق، نعم إذا ثبت حدوث العالم وأزلية الممكن، ثبت اختياره تعالى؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذٍ إلى إرادته تعالى، فيكون الواجب متمكّناً من الفعل والترك، فتأمل.

فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل وعدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى، وإلى داعيه، وعدم كون الإرادة واجبة، نعم الوجوب الناشئ من الإرادة - المسمّى بالوجوب السابق - لا ينافي الاختيار، فإذن اختياره تعالى وإن كان ثابتاً من جهة الشرع كما مرّ، إلاّ أنّه غير ثابت من جهة العقل؛ لِما عرفت من عدم تمامية أدلّة أرباب الكلام.

هذا، والذي يدلّ على حقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة المتقدّمة، فإنّ القدرة الواجبة - التي تستلزم التمكّن وصحّة الصدور واللاصدور - ممكنة الثبوت للواجب؛ لِما عرفت من بطلان دلائل الفلاسفة، فهي إذن ثابتة له، فهو قادر مختار أي له أن يفعل وله أن لا يفعل.

ويمكن أن يستدلّ أيضاً، بأنّ الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك، وأنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له، وحيث إنّه جامع لجميع الكمالات، بل لا كمال إلاّ وهو معطيه ولا سبيل للنقص إليه، فهو مختار بالمعنى الذي أثبته الكلاميون لا غير، والله الهادي.

تنبيه

اختياره بهذا المعنى وإن ادّعاه المتكلّمين بأجمعهم، بل مرّ أنّه ضروري من دين الإسلام، لكنّه لم يتديّن به - حقّ التديّن - إلاّ الطائفة الإمامية، الذين أخذوا أُصولهم وفروعهم من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، فإنّ الاعتزاليين قالوا بالثابتات الأزلية، والأشعريين بالقدماء

١٣٠

الثمانية، ولا شك أنّ الواجب بالنسبة إليها موجَب، كما صرّح به أنفسهم، فتأمل.

فأعظم الله جزاء الإمام الصادق من أئمة أهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أدّب أتباعه على سلوك صراط الحق ونهج الصدق.

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

المدّعى: أنّ الواجب الوجود قادر على كلّ ممكن (١) تحقّق في الخارج أم لا، والدليل على ذلك وجوه:

١ - إنّ الممكن - كما علمت ممّا مضى - لا يقتضي الوجود ولا العدم ولو بنحو الأولوية، بل هما متساويان إليه، يوجد لوجود المرجّح ويعدم بعدم المرجّح، فإذن هو محتاج إلى غيره في الوجود والعدم، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أنّ الممكن لا يعقل أن يبقى على حالة الاستواء في الخارج؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، وإنّما هي بلحاظ نفسه، وعليه فكل ممكن إمّا موجود وإمّا معدوم، وقد قرّرنا أنّ كل موجود محتاج إلى وجود المرجّح، وكلّ معدوم مفتقر إلى عدمه، وليس هذا المرجّح إلاّ إرادة الواجب عزّ اسمه؛ لانتهاء سلسلة الموجودات إليها، فيستنتج من هذه المسائل، أنّ الممكنات بأسرها محتاجة إلى الله تعالى أزلاً وأبداً، وأنّ الله هو المفيض القابض، وحيث تقدّم أنّ فاعليته تعالى بنحو الاختيار والتمكّن دون الجبر والإيجاب، فقد اتّضح أنّه قادر على كلّ ممكن، وكلّ ممكن مقدور له، وهذا دليل إنّي متين قوي على المطلوب.

٢ - إنّ القدرة ثابتة له في الجملة على ما مرّ، وبما أنّها عين ذاته المقدّسة، فهي غير محدودة، فإنّ التناهي من خصائص الإمكان ونواقض الوجوب، كما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله، وعليه فقد ثبت عدم تناهي قوته وقدرته، وهذا هو معنى عمومها وتعلّقها بكل ممكن، فتدبّر.

٣ - القدرة العميمة ممكنة الثبوت له تعالى، وما أمكن في حقّه وجب كما سلف.

٤ - العجز - ولو في بعض الموارد - نقص، وهو ممتنع عليه. ذكره بعضهم.

٥ - لو لم يكن قادراً على الإطلاق لكان محتاجاً - ولو في مورد - إلى غيره، فهو إن كان ممكناً لزم الدور، فإنّ الممكن في حدوثه وبقائه، وفي وجوده وأفعاله، محتاج إلى الواجب، وإن

____________________

(١) قال مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشر / ٨١: إنّ الله قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنّهم قالوا: إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد.

أقول: النسبة كاذبة، كما تعرف من مراجعة الصفحة الآتية، في الوجه التاسع، وقد ذكرنا في المطلب الثالث من عنوان تنوير عقلي:: ٣٦ مراد العلَمينِ: الشيخ الطوسي والسيد المرتضى قدّس سرهما.

١٣١

كان واجباً فأدلة التوحيد تنفيه.

أقول: هذا الوجه ينفي المحتاج إليه دون الحاجة، ولا ملازمة بينهما قطعاً.

٦ - إنّ علم الواجب فعلي، فإنّه عين ذاته، التي هي عين حيثية العلّية لكلّ شيء، وعلمه تعلّق بكلّ شيء، فقدرته تعلّقت بكلّ شيء. ذكره السبزواري في شرح المنظومة، وكذا الوجه الآتي.

وفيه: ما يأتي من أنّ إرادته زائدة على ذاته.

ويرد أيضاً على قوله: (وعلمه تعلّق بكل شيء) أنّه مصادرة محضة، فإنّ تعلّق علمه الفعلي، الذي هو إرادته بشيء فرع مقدوريته، وكون الواجب قادراً عليه وهو أَوّل الكلام، وإن شئت فقل: إنّه مستلزم للدور؛ بداهة توقّف الإرادة على شمول القدرة، فلو عُكس لدار، فافهم.

٧ - إنّ الإيجاد فرع الوجود، وإذ لا وجود حقيقي للممكنات في ذواتها؛ إذ الممكن من ذاته أن يكون ليس، وله من علّته أن يكون أَيس، فلا إيجاد حقيقي لها، فإذن كما لا وجود إلاّ وهو ترشّح من لديه، كذلك لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

أقول: هذا بيان متين، لكن مع أنّه أخص من المدّعى - حيث لا يجري في الممكن غير الموجود - راجع إلى الوجه الأَوّل.

٨ - ما قيل إنّه المشهور، من أنّ المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية، وإذا ثبت قدرته على بعضها تثبت على كلها.

ويُزيّف بأنّ مجرّد كون الإمكان مصحّحاً لا علّة موجبة، غير كافٍ لإثبات المقدورية؛ لاحتمال توقّفها على شرط مفقود، وإن أُريد من المصحّح العلية، فيفسده أنّ الإمكان علّة للاحتياج دون المقدورية، وإلاّ كانت العلل الموجبة مؤثّرات بالاختيار.

٩ - الضرورة المذهبية والإجماع والكتاب والسنّة بأجمعها تدل على ذلك، ذكره بعض المتكلّمين من أصحابنا.

أقول: الاستدلال بالنقل لا محذور فيه في المقام كما يظهر بالتدبّر، غير أنّ الإجماع التعبّدي غير متحقّق قطعاً، كما يظهر وجهه ممّا سبق، وأمّا الكتاب فيحتمل أن قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) ونحوه ناظر إلى كلّ شيء موجود، فيكون أخص من المدّعى، نعم قوله تعالى: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ

____________________

(١) فاطر ٣٥ / ١.

١٣٢

الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) يمكن أن يكون شاملاً للمقام، لكنّه ظهور غير قطعي. وأمّا الضرورة فهي غير بعيدة، فتأمل.

مطالب مهمّة

المطلب الأَوّل:

قد نسبوا الخلاف في هذه المسألة إلى طوائف من الناس، وأنّهم ينكرون عموم قدرة الله تعالى على كل ممكن.

أقول: الظاهر أنّه لا مخالف في المقام أصلاً، وأنّ الكلّ متّفقون على الكلّية المذكورة، وإنّما نزاعهم في امتناع بعض الأشياء وعدمه، فالبحث صغروي، وبعبارة واضحة: أنّ قدرته تعالى لا تتعلّق بالواجب والممتنع، فإنّ ضرورة الوجود أو العدم يبطل تعلّق القدرة، التي هي ما تلزمه صحة الصدور واللاصدور، فمتعلّقها هو الممكن لا غير، فيقال: هذا ممكن، وكل ممكن مقدور لله تعالى، والكبرى كما أنّها قطيعة عقلاً وفاقية قولاً، والصغرى مختلف فيها، وهذا الخلاف ليس بعزيز، بل هو منتشر في كثير من المسائل العلمية، إذا تقرّر ذلك فإليك بيان تلك الموارد، التي وقع الخلاف في إمكانها وامتناعها:

المورد الأَوّل: عدم صدور الكثير من الواحد الحقيقي، فلا يمكن أن يصدر عن الواجب البسيط أكثر من شيء واحد بلا توسّط أمر آخر، ادّعاه الحكماء وأصرّوا عليه، وأنكره أرباب الكلام وشدّدوا عليهم النكير، وإليك بيان هذه القاعدة المشهورة بـ (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد) من كتاب الأسفار: قال مؤلّفها (٢) :

البسيط إذا كان ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علّةً لشيء، كانت ذاته محض علّة ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات وعلّة؛ لتكون علّيتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة، أو شرط، أو غاية، أو وقت، أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطاً بل مركّباً، فالمراد من المبدأ البسيط، أنّ حقيقته التي بها يتجوهر ذاته هي بعينها كونه مبدأً لغيره، وليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته، وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أنّ لنا شيئين نتجوهر بأحدهما، وهو النطق ونكتب بالآخر هو صفة الكتابة، فإذا كان كذلك صدر عنه أكثر من واحد، ولا شك أنّ معنى مصدر كذا غير معنى مصدر غير كذا - فتقوّم ذاته من معنيين مختلفين، هو خلاف المفروض، فافهم هذا ودع عنك الإطنابات التي ليس فيها كثير فائدة، وإيّاك أن تفهم من لفظ

____________________

(١) يس ٣٦ / ٨١.

(٢) الأسفار ٢ / ٢١٤.

١٣٣

الصدور وأمثاله الأمر الإضافي، الذي لا يتحقّق إلاّ بعد شيئين؛ لظهور أنّ الكلام ليس فيها، بل كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول، فإنّه لابدّ أن تكون للعلّة خصوصية، بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن دون غيره، وتلك الخصوصية هي المصدر في الحقيقة، وهي التي يعبّر عنها بالصدور، ومرّة بالمصدرية، وطوراً بكون العلّة بحيث يجب عنها المعلول؛ وذلك لضيق الكلام عمّا هو المرام، حتى أنّ الخصوصية أيضاً لا يراد بها المفهوم الإضافي، بل أمر مخصوص له ارتباط وتعلّق بالمعلول المخصوص، ولا شك في كونه موجوداً ومتقدّماً على المعلول المتقدّم على الإضافة العارضة لهما، وذلك قد يكون نفس العلّة إذا كانت العلّة علّةً لذاتها، وقد يكون زائداً عليها، فإذا فرض العلّة بما هي به علّةً بسيطاً حقيقياً، يكون معلوله أيضاً بسيطاً حقيقياً، وبعكس النقيض، كلّ ما كان معلوله فوق واحد ليس بعضها بتوسّط بعض، فهو منقسم الحقيقة إمّا في ماهية أو في وجود، انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر ردّاً على الرازي: إنّ المصدرية بالمعنى المذكور نفس ماهية العلة البسيطة، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، فإذا كان البسيط الحقيقي مصدراً لـ «١» مثلاً، ولِما ليس «١» مثلاً، كانت مصدريته لِما ليس «١» غير مصدريته لـ «١» التي هي نفس ذاته، فتكون ذاته غير ذاته وهذا هو التناقض.

قال تلميذه في شوارقه (١) : إنّ الفاعل المستقل إذا كان واحداً من جميع الجهات، بحيث لا يكون فيه كثرة الأجزاء، ولا كثرة الوجود والمهية، ولا يكون متّصفاً بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو اعتبارية زائدة في العقل، ولا يتوقّف فعله على شرط وآلة وقابل، فلا يمكن أن يصدر عنه في مرتبة واحدة إلاّ معلول واحد، سواء كان الفاعل موجباً أو مختاراً اختياره وإرادته نفس ذاته، والحكماء يسمّون مثل هذا المختار الفاعل بالرضاء، وأمّا إذا كان إرادته واختياره زائدةً على ذاته، وهو الذي يسمّونه الفاعل بالقصد فهو خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ فيه اثنينية بالفعل، سواء تعدّد إرادته أو تعلّقها أو لا، فلا يكون واحداً من جميع الجهات.

أقول: لو سلّمنا هذه القاعدة، وفرضنا صحّة دليلها كما هو الصحيح، لم يصحّ إجراؤها في المقام؛ لأنّ فاعليته تعالى - كما سيأتي في محلّه - بالعلل الغائية الزائدة على ذاته، وإن شئت فقل: الممكن لابدّ من مسبوقية وجوده بعدمه، ولا ربط ولا سنخية بين الوجود البحت والعدم المحض، وإنّما يوجِد الواجب ما يوجده بلا ربط واقتضاء ذاتي، بل من أجل المصالح والغايات، فحينئذٍ الواجب الوجود عزّ اسمه غير مشمول لهذه القاعدة باعتراف الفلاسفة، فتدبّر جيداً.

هذا، وقد مرّ أنّ الفلاسفة لم يقدروا على إثبات أنّ ماهيته إنيّته، فمن هذه الجهة أيضاً لا

____________________

(١) الشوارق ١ / ١٩١.

١٣٤

يمكن إجراء القاعدة على الواجب، هذا كله بناءً على مسلك العدلية أو معظمهم، وأمّا بناءً على مسلك الأشاعرة القائلة بزيادة الصفات فالأمر أوضح، لكن الالتزام بمقالة الحكماء أسهل وأهون من الميل إلى هذه النظرية الرديئة الباطلة، بمراتب بالقياس إلى النواميس العقلية.

وأمّا ما قيل، من أنّ في القرآن ألف آية أو قريب منه تدل على بطلان المقالة المزبورة، فهو ممنوع، فتدبّر جيداً.

المورد الثاني: القبائح فإنّها غير مقدورة لله تعالى؛ إذ إتيانها مع العلم بقبحها سفه، وبدونه جهل، وكلاهما محال على الله سبحانه، نسبوه إلى النظام وأتباعه.

أقول: وكان هذا المسكين لم يعلم أنّ مفاد هذا البيان أنّها لا تصدر عنه لحكمته، لا أنّها غير مقدورة، فالقبيح مقدور له تعالى، فيمكنه إدخال الأنبياء في النار مثلاً، لكنّه لا يفعل لمخالفته لحكمته البالغة.

وأمّا ما أجاب به الأشعريون من أنّه لا قبح بالنسبة إليه، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء، فهو في سخافته كأصل الشبهة، كما ستعرفه في محله إن شاء الله.

المورد الثالث: الإتيان بمثل أفعالنا فإنّها إمّا طاعة أو معصية أو سفه، والكل محال.

أقول: إذ لا آمر له تعالى ليصدق الطاعة والمعصية في حقّه، وهو عالم فلا يتصوّر السفاهة فيه، نقل هذا عن البلخي ومَن تبعه، وفيه: أنّ المحال هو صدق هذه العناوين أي الطاعة والمعصية لا نفس الأفعال، نعم لابدّ من اشتمالها على مصلحة، ولكن المصلحة لا تستلزم عنوان الطاعة بلا إشكال، وإنّما هو في أفعالنا بلحاظها إلى أمر الله تعالى، نعم لا يمكن له أن يفعل مثل جملة من أفعالنا المحتاجة إلى الجسم كالتكلّم، والتفكّر، والتحرّك، والركوع، والسجود ونحوها، وذلك واضح ولعلّهم أيضاً أرادوا ذلك.

المورد الرابع: الإتيان بعين مقدورنا ومفعولنا، بعين دليل التمانع المذكور في مبحث التوحيد. نسب ذلك الجبائيينِ وأتباعهما. ويزيّف بأنّ التأثير في فرض مزاحمة قدرة العبد وربّه، مستند إلى إرادة الله تعالى فإنّها أقوى، وهذا واضح بل مشاهد في تزاحم إرادتي الممكنينِ، فإذا حرّك أحد جسماً إلى جانب، والآخر حرّكه إلى جانب آخر، يكون الترجيح مع الأقوى، نعم هاهنا شيء آخر وهو أنّ الله تعالى لا يمكنه الإتيان بعين أفعالنا، وإلاّ لم تكن الأفعال أفعالنا بل هي أفعاله، وهذا مثل عدم قدرته على إيجاد ابن زيد من غير زيد، أو إيجاد العرض بغير معروضه، وهكذا، فمعنى أنّه قادر على جميع الأشياء، أنّه قادر عليها إمّا بلا واسطة أو بواسطة، وهذا بيّن جداً.

المورد الخامس: ما علم الله عدم وقوعه لاستحالة وقوعه، وكذا ما علم أنّه يقع لوجوبه.

١٣٥

نقله في الشوارق، وقد تقدّم جوابه في بحث اختياره. قال شيخنا المفيد قدّس سره (١) : إنّه سبحانه قادر على ما علم أنّه لا يكون ممّا لا يستحيل كاجتماع الأضداد، ونحو ذلك من المحال، وعلى هذا إجماع أهل التوحيد إلاّ النظام وشذاذ من أصحاب المخلوق. انتهى.

المورد السادس: الشرور بحجّة أنّ الواحد لا يكون خيّراً وشرّيراً، فلو كان الله قادراً على الشرّ - كما هو قادر على الخير - لكان خيّراً وشرّيراً، والقائل به المجوس.

أقول: مع أنّه لا دليل على بطلان التالي في الفاعل المختار نمنع الملازمة؛ إذ مجرّد تعلّق القدرة على الشرّ لا يوجب كون القادر شرّيراً، وإنّما الشرّير مَن يفعل الشرّ لا مَن يقدر عليه، ولعلّ هذا ضروري، فالواجب الحكيم قادر على الخير والشر بقدرة تامّة، لكنّه لا يريد الشرور ولا يفعلها البتة.

تنوير عقلي

حديث الشرور ذو إعضال شديد، قد تحيّرت فيه الأنظار والآراء، ومجمله أنّ الشرور متحقّقة في الكون تحقّقاً محسوساً لكل أحد، فوقع البحث في استنادها وتعيين منبعها، وللناس فيه مذاهب ومسالك:

فمنهم مَن أنكروا وجود الواجب الصانع؛ بدعوى أنّ فاعل العالَم لو كان مدبّراً حكيماً لَما صدر عنه هذه الشرور، فأسندوا العالَم إلى المادة، وهم الماديون.

ومنهم مَن أثبتوا مع الله خالقاً آخر، فأسندوا الخيرات إلى الله والشرور إلى ذلك الآخر، وهم الثنوية، فقال المجوس منهم: (٢) إنّ فاعل الخير يزدان، أي الله، وفاعل الشر أهرمن، أي الشيطان.

وقالت الديصانية والمانوية منهم: إنّ فاعل الخير هو النور، وفاعل الشر هو الظلمة، ولعلّ حجّتهم في ذلك ما نقلناه عن الماديين.

ومنهم مَن أسندوا الشرور كلّها إلى الله الحكيم كاستناد الخيرات إليه فقالوا: إنّه تعالى خالق الجميع؛ ولذا أجابوا عن شبهة المجوس بالتزام التالي، وأنّه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها، وإنّما لا يطلق لفظ الشرّير عليه، كما لا يُطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقاً لهما؛ وذلك لأحد الأمرين: إمّا لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله توقيفية، وإمّا لأنّه يوهم أن يكون الشر غالباً في فعله كما يقال: فلان شرّير، أي ذلك مقتضى طبعه (٣) .

____________________

(١) أوائل المقالات / ٢٣.

(٢) ظاهر بعضهم كصريح آخر: أنّ الثنوية تشمل المجوس والمانوي والديصانية، لكنّ المذكور في تبصرة العوام أنّ الديصانية والمانوية من أقسام المجوس، وأنّ الثنوية غير المجوس فلاحظ. وأمّا تفصيل عقائدهم فلا ربط له بالمقام.

(٣) شرح المواقف ٣ / ٥١.

١٣٦

انتهى، وهم الأشاعرة.

وهذه الطوائف الثلاث بأسرها قد ضلّوا ضلالاً مبيناً، وخسروا خسراناً كبيراً، أمّا شبهة الماديين فسيأتي وجه حلها، وأمّا أهرمن المجوس وظلمة المانوية والديصانية، فإن كانتا ممكنتين فلابدّ من استنادهما واستناد أفعالهما إلى الله تعالى، وإن كانتا واجبتين، فأدلة التوحيد تدفعهما، وأمّا توهّم الأشعريين فهو سخيف جداً؛ لِما سيأتي من أنّ الله تعالى لا يفعل القبائح العقلية، فإنّها لا تليق بالحكيم، ولعمري إنّ هذا - أي عدم صدور الشر من الله الحكيم - ممّا أودعه الله في الفطرة البشرية؛ فلذا لم ينكره أحد غير هؤلاء المخالفين للنواميس العقلية.

ولذا أشرك المجوس، وكفر الماديون، ولم ينكروا حكمة الخالق القديم، واستحيوا من استناد الشرور إليه.

فإن قلت: لا موجود إمكاني إلاّ وهو معلول له تعالى، إمّا بلا واسطة أو بواسطة، والكلّ من عند الله وهو خالق كلّ شيء، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم، فما تقول أنت في إسناد الشرور؟ وهل يمكن إسنادها إلى غير الواجب؟ فإن أجبت بالنفي فهو مذهب الأشعري، وإلاّ فهو مذهب المجوس أو المادي.

قلت: قد أجابوا عن هذا بوجهين:

الأَوّل: ما نقل عن أفلاطون من أنّ الشرّ عدمي، والعدم لا يحتاج إلى علّة: فالشرور الواقعة في العالم لا تقتضي فاعلاً حتى يتكلّم فيه، فبهذا يُدفع جميع ما لزم الماديين والثنوية والأشعرية.

أقول: أمّا الصغرى فقد اعتنى بها الفلاسفة جداً، وأوضحوها بذكر أمثلة (١) ومن جملتها القتل، فإنّه شرّ عند العقلاء، فقالوا: إنّ شريّته ليست من جهة قدرة القاتل عليه، ولا من جهة حركات أعضائه فإنّهما كمال له، ولا من جهة قطع الآلة فإنّه أيضاً كمال لها، ولا من حيث قبول العضو المقطوع للتقطيع لأنّه أيضاً كمال له، بل هي من جهة إزالة الحياة، وهي عدمية. نعم كل واحد من هذه المذكورات شرّ بالعرض لا بالذات؛ لِما عرفت من أنّه خير كذلك، وهكذا النار فإنّها خير بالذات شرّ بالعرض، فالشر بالذات لا يكون إلاّ عدمياً.

وقد ادّعى عليها - أي على عدمية الشرّ - الضرورة بعضهم، ولشارح حكمة الإشراق عليها برهان ذكره صاحب الأسفار معتمداً عليه، والظاهر أنّ اهتمام الفلاسفة بذلك؛ إنّما هو لأجل اعتبار السنخية في العلّة والمعلول عندهم؛ إذ لو كان الشر وجودياً لامتنع استناده إلى الخير

____________________

(١) وللمحقّق الطوسي كلام في توضيح ذلك نقله اللاهيجي في شوارقه ١ / ٤٨ عن شرح الإشارات، ولصاحب الأسفار أيضاً كلام مفصّل في ذلك.

١٣٧

المحض، وهو الله الواجب، وإذا قيل لهم: إنّ العدم لا أثر له والشر مؤثّر، يقولون: إنّه ليس عدماً صرفاً بل عدم ملكة وله تأثير كالعمى ونحوها.

الثاني: ما نقل عن أرسطو - وقيل: إنّه تفاخر به - من أنّ الأشياء على خمسة احتمالات: ما لا خير فيه، وما لا شرّ فيه، وما يتساويان فيه، وما خيره غالب، وما شره غالب، وذات الواجب بالذات لمّا لم يمكن أن تصير مبدأ للشر، وجب أن لا يصدر عنها إلاّ قسمان من هذه الأقسام، أي ما لا شريّة فيه، وما خيريته غالبة، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل فبعد تسليم الصغرى وعدم المناقشة فيه، فيرد عليه: أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى إرادة الواجب، كذلك في عدمه إلى عدمها، فعدم الممكن مستند إلى عدم إرادته، فيعود الإشكال وأنّه تعالى لِمَ ما أراد كذا حتى لا يتحقّق الشر؟ فإرجاع الشرّ إلى العدم لا يجدي عن دفع الإشكال.

وأمّا الوجه الثاني فهو بمجرّده غير مفيد؛ لأنّه لم يخرج عن حدّ المدّعى بعد فهو مصادرة. هذا، والظاهر من جماعة من الفلاسفة جعل الوجهين وجهاً واحداً، فالشر عدم محض وليس بأمر وجودي حتى لا يصحّ صدوره من الواجب من أجل عدم السنخية. وأمّا الشرور بالعرض فهي وإن كانت أُموراً وجودية، لكن غير صادرة عنه تعالى بالقصد الأَوّل بل بالعرض،فإنّها غالبة الخيرية وإيجادها لأجل غلبة خيرها على شرها، وأمّا الشرور بالذات فهي مستندة إلى عدم إرادته، والواقع منها القسمان المتقدّمان لا غير، فإنّ الشرور التي تلحق الأشياء هي في أنفسها خيرات، وبالقياس إلى بعض الأشياء شرور، كوجود النار والماء، والسيف والسنان، والسبع والحية، وغيرها من الذوات، وكوجود الغضب والشهوة، والجُربزة والشيطنة، وغيرها من الصفات، وكوجود الضرب والطعن والقتل وغير ذلك من الأفعال.

أقول: لا شكّ في أنّ جملةً كثيرة من الموجودات - التي توجب الشر لبعض الأشياء الأُخر - خيرات في نفسها، وبها ينتفع غيرها انتفاعاً أكثر ممّا يترتّب عليها من الشر المذكور، إلاّ أنّ الإشكال لا يُدفع بهذا المقدار، فإنّه يقال: إنّ إحراق النار لثوب الفقير ممكن والله سبحانه قادر على منع تأثيرها، فلِمَ لم يمنعه؟ وكذا وقوع الطفل في النار، أو غرق شاب في الماء مثلاً، فإنّ إيجاد النار أو الماء مثلاً لأجل المنافع الكثيرة، لا يوجب استحالة منع تأثيرهما في توليد الشر في بعض الموارد، وهذا ما يقال: من أنّ الذي يغلب خيره على شره، لِمَ لم يوجد عن الباري على وجه لا يعتريه شرّ أصلاً؛ حتى يكون الموجودات كلها خيرات محضة؟

وأمّا ما أُجيب عنه وارتضاه صاحب الأسفار (١) - من أنّه لو كان كذلك لكان الشيء غير

____________________

(١) الأسفار، المجلد الثاني، الموقف الثامن، الفصل السادس.

١٣٨

نفسه؛ إذ كان هذا القسم غير ممكن في هذا القسم من الوجود... إلى أن قال: فإذا قلت: لِمَ لا يوجِد النار التي هي أحد أنواع هذا القسم على وجه لا يلزمها شر، فكأنّك قلت: لِمَ لم يجعل النار غير النار؟ ومن المستحيل أن يجعل النار غير النار، ومن المستحيل أن يكون النار ناراً، وتمس ثوب ناسك، ولا مانع من الحريق، ولا تحرقه. انتهى - فهو قعقعة، ويظهر فساده ممّا أشرنا إليه آنفاً فلاحظ.

وقال في مورد آخر من هذا الفصل: وأكثر مَن يطوّل حديث الخير والشر، ويستشكل الأمر يظن أنّ الأُمور العظمية الإلهية، من الأفلاك وما فيها، إنّما خُلقت لأجل الإنسان، وأنّ الأفعال الإلهية منشؤها إرادة قُصدت بها أشياء وأغراض، على نحو إرادتنا وأغراضنا في الأفعال الصادرة عنّا بالاختيار، ولو تأمّل هذا الجاهل المحجوب عن شهود العارفين أدنى تأمّل، لدرى أنّ الأمر لو كان كما توهّمه، ولم يكن هناك أحكام مضبوطة، وعلوم حقّة إلهية، وضوابط ضرورية أزلاً وأبداً، ما كان أحوال أولياء الله في الدنيا على هذا الوجه من المحن الشديدة... إلى آخر ما لفّقه ممّا لا فائدة في نقله.

وقد دريت أنّ الله تعالى فاعل مختار، وسيأتي أنّ أفعاله تابعة للأغراض على ما يقتضيه البرهان، فلا ضرورة له في إيجاد شيء أبداً، فإذن بقي الأشكال على حاله، وملخّصه أنّ المصلحة النوعية لشيء، لا تجوّز وقوع الشرّ منه من حيث الحكمة، ما دام تأثير الشيء موقوفاً على إذنه تعالى.

فالصحيح أن يقال: إنّ كلّ شرّ يستند إلى الله تعالى، له مصلحة زائدة على أصل المصلحة النوعية في نفس الموجود المسمّى بالشر بالعرض، مثلاً أنّ للنار مصلحةً هامّة نوعية، وفي إحراقها ثوب أحد، أو ولد آخر، مصلحة أُخرى للمتضرّر والمغموم أو لطف لأجنبي، لكن مع العِوض للمالك أو الوالد، وهكذا.

وهذا العِوض أكثر فائدة للمتضرّر من ضرره، وهذا الكلام ممّا لابدّ منه لوجوه:

الأَوّل: إنّ صدور الشرّ منه تعالى - ولو في مورد مع الاختيار والقدرة على دفعه - قبيح، والقبح غير جائز عليه.

الثاني: إنّ أفعاله معلّلة بالأغراض الراجعة إلى نفع غيره، فلابدّ من عائدة في الشرّ المذكورة راجعة إلى مَن ابتُلي بالشر المذكور، كما سيأتي تفصيله في بحث الأعراض من المقصد الخامس إن شاء الله.

الثالث: إنّ صدور الشر عنه ترجيح المرجوح على الراجح، أو ترجيح بلا مرجّح وهو باطل، فتلخّص أنّ الموجود في العالم هو ما لا شرّ فيه، أو ما فيه شرّ أقلّ من خيره، وهذا الشر

١٣٩

أيضاً لابدّ له من مصلحة شخصية، ويمكن أن يقال: إنّ الشرور الواقعة من سوء أفعال العباد الاختيارية لا مصلحة شخصية فيها، أو لا ملزم لها ولو دائماً سوى المصلحة العامّة في جعل الإنسان مختاراً؛ لكي لا تبطل التكاليف والتشريعات، فإنّ المضطرّ لا يجوز تكليفه، فتأمّل.

ثم إنّه بعد ما ثبت لزوم المصلحة في أفراد الشرور، لا مانع من إمكان موجود كان شره أكثر من خيره، كما لا يخفى وجهه على المتأمل، فتدبّر جيداً.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا واضح بحمد الله، فشبهة الشرور مندفعة، غير أنّ مسألة خلود الكافرين في العقاب أمر مشكل، كما سيأتي توضيحه في بحث تعلّل أفعاله بالأغراض، وما أُجيب عنه (١) من تجسّم الأعمال باطل.

المطلب الثاني:

قد دريت أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن وحده دون الواجب والممتنع، فإنّ الشيء إذا كان ضروري الوجود أو العدم ولا يمكن تغيّره، استحال أن يتعلّق به القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل والترك؛ بداهة تصادم الصحّة والضرورة، فذات واجب الوجود وصفاته الذاتية خارجة عن دائرة قدرته، بل لا قدرة على مطلق الذاتيات، فلا يكون زوجية الأربعة، وإمكان الماهيات، وفقر الموجودات الممكنة، وأمثالها بمقدورة أصلاً، وكذا شريك الباري واجتماع النقيضين ونحوهما.

كلّ ذلك ظاهر، وأمّا قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) إمّا منصرف إلى الشيء الممكن من الأَوّل بحيث لا يشمل لفظ الشيء الضروريات، أو هو مخصّص به على تقدير الشمول اللفظي، ولا فرق في ذلك التخصّص والتخصيص بين أن يعبّر بعدم القدرة، وبين أن يعبّر بعدم قابلية المحل، فإنّ الضروري ممّا لا يتعلّق به قدرة القادر، سواء كان عدم التعلّق من جهة العجز أو من نقص القابل، فإنكار التخصيص على الثاني كما توهّمه صاحب الأسفار (٣) لا وجه له.

وممّا ذكرنا كلّه ظهر أنّ إدخال العالم كلّه في بيضة، مع عدم تصغير العالم ولا تكبير البيضة، محال غير قابل لتعلّق القدرة الأزلية به، وقد دلّ عليه مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه‌السلام (٤) قال: إنّ إبليس قال لعيسى ابن مريم عليه‌السلام : أَيقدر ربّك على أن يدخل الأرض

____________________

(١) المجيب صاحب الأسفار ناسباً جوابه إلى الفلاسفة، وسيأتي وجه بطلانه في مسألة بطلان الجبر والتفويض.

(٢) النور ٢٤ / ٤٥.

(٣) الأسفار، مباحث الشرور.

(٤) البحار ٤ / ١٤٢.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296