صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132010 / تحميل: 7356
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علم الكلام

صراط الحق

في المعارف الإسلامية والأُصول الاعتقادية

بقلم: محمّد آصف المحسني

الجزء الأوّل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

هذه طبعة ثالثة لهذا الكتاب، قام بها الخيّر الموفّق السيد يعقوب - أيّده الله تعالى لخدمة الدين وأهله - صاحب مكتبة ذوي القربى.

بإجازتي، وأرائي الجزء الأوّل بعد طبعة ووجدته جيداً مرغوباً فيه، وأصلحت بعض أخطائه المطبعية الباقية وغيّرت بعض مطالبه زيادةً ونقصاً، بمقدار قليل.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منه ومني أَوّلاً، ثمّ أسأله أن يجعله نافعاً لأهل العلم طلاّب الحقيقة.

المؤلّف المحتاج إلى رحمة ربّه وغفرانه  

أفغانستان - كابل        

شعبان المعظّم سنة ١٤٢٧ هـ. ق  

الشهر السادس سنة ٨٥ / ١٣ هـ. ش

٥

الإهداء

أهدي كتابي هذا إلى ساحة خاتم الأوصياء، وقائم الأولياء، ولي العصر، وناموس الدهر، الحجّة ابن الحسن - عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أعوانه - قائلاً لحضرته الكريمة متضرّعاً ومتواضعاً:

( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمحض فضلك ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) بقبولها واجعلها ذريعةً إلى انتفاع روّاد العلم وهواة الحق ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، وبحدوث خلقه على أزليته، وباشتباههم أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته وعلمه وحكمته، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه.

والصلاة والسلام على سيدنا وسيد العالمين محمد خاتم المرسلين، وعلى آله الأئمة المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

المطالب الحاضرة في هذا الكتاب، هي غاية ما وصل إليها فكري من طريق البرهان العقلي والاستدلال النقلي، على ضوء الإنصاف، ونمط الاعتدال، من غير حماية فئة، أو التعصّب على طائفة، بل ركنت إلى ما قادني إليه الدليل حينما رفضت التقليد، فإنّ (الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

فإن أصبت الواقع فالله أشكر ولا أفتخر، وإن أخطأته فإيّاه استغفر وإليه اعتذر.

لكن الرجاء من دائم فضله أن يتقبّل هذا العمل مني، وينفع به المسترشدين، ويهدي به الضالين، إنّه قريب مجيب، وإنّه أرحم الراحمين.

٧

٨

مدخل

الفائدة الأُولى: في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

الفائدة الثانية: في وضع الكلام

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد بشرط

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي والإرشادي

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم

الفائدة التاسعة: في خواص واجب الوجود

الفائدة العاشرة: في خواص الممكن

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور والتسلسل

٩

مدخل

لا بدّ لنا من تقديم فوائد جليلة هامّة أمام المقاصد؛ لِما بينهما من تمام الارتباط وكمال الاتّصال.

١٠

الفائدة الأُولى

في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

قال الفيّاض اللاهيجي في گوهر مراد ما هذا محصّله: إنّ علم الكلام اعتبر على وجهين:

الأَوّل: كلام القدماء، وهو صناعة يقتدر معها على محافظة أوضاع الشريعة، بدلائل مؤلّفة من المقدّمات المسلّمة المشهورة بين المتشرعة، سواء انتهت إلى البديهيات أم لا.

الثاني: كلام المتأخرين، وهو علم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع، واحترزوا بالقيد الأخير عن علم الحكمة؛ لعدم اعتبار موافقة الشرع في مفهومها. انتهى.

وقال في المواقف: الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه.

وعرّفه في الشوارق: بأنّه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية.

أقول: التعريف الأَوّل باطل؛ إذ كل علم لا تنتهي مسائله إلى البديهيات، أو إلى ما في حكمها لا يعتنى به.

وأمّا الثاني فسيأتي أنّ القيد المذكور فاسد، فهو تعريف للحكمة دون الكلام.

وأمّا الأخيران فيرد عليهما أنّ مسائل العلم هو نفس العقائد الدينية، وأمّا الصناعة المذكورة فهي من المبادئ التصديقية كما بُيّن في المنطق، ومفاد التعريفين المذكورين هو عكس ذلك.

ثمّ إنّ المراد من الإثبات فيهما، هو الإثبات على الغير دون التحصيل كما صرّح به الجرجاني واللاهيجي، قال الأَوّل في شرح المواقف: العقائد تجب أخذها من الشرع وإن استقل بها العقل، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ جملةً من العقائد ممّا يتوقّف عليه الشرع فيدور هذا، مع أنّ الإثبات على الغير لا يمكن إلاّ بعد التحصيل، ولا موطن له إلاّ علم الكلام.

فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه مسائل مشتملة على العقائد الدينية الحاصلة من أدلتها اليقينية، وأمّا ما قيل من أنّه علم يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد فهو غير متين، فإنّ العلم غير دخيل في مفهوم الكلام، فإنّه مسائل متشتتة جمعها موضوع واحد، أو غرض واحد علم بها عالم أو لا، وتخصيص المعاد بلا مخصّص ظاهر.

وأمّا موضوع هذا العلم ففيه أقوال ثلاثة:

١١

أحدها: ما نُسب إلى المتقدّمين من علماء الكلام، من أنّه الموجود بما هو موجود، لكن من حيث كونه متعلّقاً للمباحث الجارية على قانون الإسلام؛ ليمتاز الكلام عن الفلسفة الإلهية (١) .

ثانيها: ما نُقل عن أكثر المتأخرين من أنّه المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية (٢) . قال في المواقف (٣) تعلّقاً قريباً أو بعيداً، والأَوّل مثل مباحث التوحيد وصفات الله وأفعاله، والثاني ما يتوقف عليه هذه الأُمور كمباحث الأُمور العامة والطبيعيات.

وإنّما عدلوا عن لفظ الموجود إلى المعلوم؛ ليدخل في العلم مباحث العدم بناءً على رأي مَن ينكر الوجود الذهني، ومباحث أُمور لا يتوقف أحوالها على وجودها خارجاً كما يقال: النظر الصحيح يفيد العلم أم لا؟ ونحو ذلك. ثالثها: ما نُقل عن بعضهم (٤) من أنّه ذات الله سبحانه.

أقول: لا بأس بالقول الأَوّل بناءً على دخول مباحث الأُمور العامة وغيرها في العلم، والتزام الاستطراد فيما لا يرجع إلى أحوال الموجود، غير أنّ ما جعلوه مميّزاً للكلام عن الفلسفة واهٍ جداً، بل لا فرق حينئذٍ بينهما من جهة الموضوع أصلاً.

بيان ذلك: أنّ مسائل الكلام إمّا ما يتوقّف عليه إثبات الشريعة، مثل مباحث إثبات الصانع، وعلمه وقدرته، وامتناع القبح عليه، وإثبات النبوّة ونحوها، وإمّا ما لا تتوقّف عليه فإنّه يستلزم الدور، وأمّا القسم الثاني فإن كان ممّا يدركه العقل ويستقل ويستنكف عنه، بل هو مجبول على اتّباعه فطرةً، فإن وُجد هنا ظاهر نقلي منافٍ لهذا الحكم العقلي، فلا ريب في لزوم تأويله، كما هو المتداول في الكلام والتفسير وغيرهما؛ وسرّ ذلك أنّ الشريعة أُسست من قبل المحيط بجميع الواقعيات، فلا تضاد العقل في أحكامه الصادقة، فنعلم أنّ الإرادة الجدّية من هذا الظاهر غير موافقة للإرادة الاستعمالية البتة.

وإن شئت فقل: إنّ حجّية النقل بالعقل وطرح الأصل لأجل الفرع غير معقول؛ فإنّه ينجر إلى سقوط الفرع وهذا خلف. وأمّا معارضة النقل القطعي مع حكم العقل الجزمي، فهذا غير ممكن ثبوتاً كي نبحث عنه إثباتاً، ولا يُظن بعاقل أن يدعي ذلك في مورد.

وإن لم يكن ممّا يدركه العقل، فإن ثبت بدليل قطعي من الشرع فنعتقد به؛ ضرورة حكم العقل بلزوم تصديق المعصوم عن الكذب والسهو، فهو مثل المستقلاّت العقلية في القبول إلاّ أنّه

____________________

(١) الشوارق ١ / ٧.

(٢) المصدر نفسه / ١٠.

(٣) المواقف ١ / ٢٦.

(٤) لاحظ نفس المصدرين.

١٢

إدراك إجمالي للعقل، بمعنى أنّ العقل يصدّقه وإن لم يحط بوجهه تفصيلاً.

ثمّ إنّ الصحيح هو صحّة حصول القطع من الأدلة النقلية، كما هو واقع وجداناً، فإنكاره - كما عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (١) - لا يستحقّ الجواب، بل لا يُظن بهم أيضاً الالتزام به، كما لا يخفى على الناظر في مسائل العلوم الشرعية، وإن لم يثبت بدليل قطعي بل بدليل ظني، فإن كان الظن المذكور حاصلاً من غير الطرق المنصوبة شرعاً، فهو لا يغني من الحق شيئاً فلا عِبرة به، وإن كان من الطرق الشرعية، فإن كان المورد ممّا اعتبر الشارع العلم في صحة الاعتقاد به، فلا يعتنى بالظن المذكور، وإلاّ فالأظهر - خلافاً لِما نُسب إلى المشهور - هو حجية الظن المذكور، وجواز الاعتقاد بمتعلّقه، كما يأتي في آخر الفائدة الثالثة. وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يمكن الشك فيه لمسلم، متكلماً كان أو حكيماً، فأين فائدة هذا القيد؟ وما هو الفارق بين العلمين؟ على أنّ القيد المذكور ممّا لا دخل له في عروض العوارض على الموجود فلا يصح أخذه في الموضوع، وإلاّ فتصبح العوارض المذكورة أعراضاً غريبة له، وإذا لم يصح ذلك فلا يكون وجهاً للامتياز، فإنّه عندهم بتمايز الموضوعات، والحيثية المذكورة راجعة إلى البحث دون الموضوع كما عرفت. والصحيح أنّ الفرق بين العِلمينِ من ناحية الغرض؛ حيث إنّ المتكلم يبحث لأجل معرفة العقائد الدينية، والفلسفي لأجل معرفة حقائق الأشياء عقلاً؛ ولذا عُنونت في الكلام مسائل اعتقادية غير مذكورة في الفلسفة؛ لعدم إدراك العقل لها تفصيلاً، ولعلّه واضح.

وعلى الجملة: لابدّ من انتهاء جميع المباحث الكلامية إلى البديهيات والقطعيات وإلاّ لا اعتبار بها، ومن هنا ينقدح أنّ طعن صاحب الشوارق (٢) على هذا العلم بقوله: إنّ الاعتماد على الدلائل الكلامية من حيث هي كلامية غير مجدٍ في تحصيل العقائد الدينية، بل جدواها إنّما هو حفظ العقائد إجمالاً على العقول القاصرة - الغير القادرة على البلوغ إلى درجة اليقين التفصيلي، والتحقيق التحصيلي - غير وارد، بل هذا منه ومن غيره إفراط في القول، وزلة جمع من الكلاميين في عدة من المسائل لا تضرّ بالعلم نفسه، كما أنّ أغلاط قوم من الفلاسفة لا تُحسب على الفلسفة كما لا يخفى.

وأمّا القول الثاني فهو يساوق إنكار الموضوع من أصله؛ ضرورة أنّ المعلوم عنوان انتزاعي لا تأصّل له خارجاً، كيف ولا يعقل الجامع التأصلي بين الوجود والعدم، إلاّ أن يلتزم بتعدّد العلم المذكور حسب تعدّد الموضوعات كالوجود والعدم والحال؟ وهو كما ترى، مع أنّه يدخل في

____________________

(١) شرح المواقف ١ / ٢٠٩.

(٢) الشوارق ١ / ٨.

١٣

هذا العلم بعض العلوم الأُخر أيضاً حسب هذا التعريف؛ لتعلّق العقائد بها ولو بعيداً، هذا مع أنّ الحيثية المذكورة - وهي المعلومية - لا ترتبط بعروض العوارض على موضوعاتها، فلا تكون راجعةً إلى الموضوع أصلاً. فالصحيح هو القول الثالث وإن كان القوم أبطلوه - كما في الشوارق - لوجهين:

الأَوّل: أنّه قد يُبحث فيه عن غير الأعراض الذاتية لذاته تعالى، كمباحث الجواهر والأعراض وغيرها، ولا يصح دخولها في المبادئ فإنّها غير مبيّنة في نفسها، فلابدّ من كونها مبيّنةً في علم آخر يكون هو أعلى من الكلام، وهو باطل اتّفاقاً. أقول: وفيه ما لا يخفى فلا مانع من إدراجها في المبادئ.

الثاني - وهو العمدة -: أنّ البحث عن وجود الموضوع خارج عن مسائل العلم، فإنّها مشتملة على إثبات العوارض الذاتية للموضوع، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فلابدّ وأن يكون وجود الموضوع بنحو (كان التامة) مفروغاً منه في كل علم؛ ليتمركز البحث عن أحواله وأطواره، وبناءً عليه لا يجوز جعل ذاته تعالى موضوعاً لعلم الكلام؛ لأنّ إثباته غير بيّن في نفسه، فلابدّ من تبيينه في علم آخر، أو في مبادئ هذا العلم، مع أنّه من أهم مقاصد الكلام.

أقول: قد ذكرنا في تعليقتنا على كفاية الأُصول أنّ ما قالوه - من أنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية - ممّا لا دليل عليه، وعليه فنقول: إنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث عنه وعن أحواله، وهذا التحديد لا يخرج عن الاستحسان العقلائي، الذي هو السرّ في تشعّب العلوم وتعنون المسائل بعنوان ما، وحينئذٍ يصحّ جعل واجب الوجود موضوعاً لعلم الكلام، فإنّ البحث فيه حوله وحول صفاته وأفعاله، فيكون البحث عن إثبات وجوده أيضاً من مسائل العلم، وإن كان بالنسبة إلى بقية المسائل من المبادئ، ولا غرو في أن تكون القضية الواحدة من المسائل باعتبار نفسها ومن المبادئ باعتبار غيرها، بل هو واقع في العلوم. هذا مع إمكان دعوى بداهة هذه القضية وكونها بيّنةً في نفسها، فإنّ اختلاف الماديين في الصفات دون أصل المبدأ كما يأتي.

وأمّا غرضه فهو عرفان الحقائق الدينية والأُصول الاعتقادية كما يظهر من الكلمات المتقدّمة. وأمّا إرشاد المسترشدين، وإلزام المعاندين، وحفظ قواعد الدين من شُبه المبطلين، فهي من الفوائد والآثار، وليست من الأغراض كما لا يخفى.

وأمّا شرف هذا العلم فهو غني عن البيان، فإنّه في غاية السمو ونهاية العلو،

١٤

أَوَ ليس من ثمراته سعادة الإنسان الأبدية وخلوصه عن العذاب الدائمي؟! ولعمري إنّ إطالة الكلام هنا لغو فإنّ العيان بنفسه يغني عن البيان، فكيف إذا وافقه البرهان والقرآن؟!

وأمّا وجه تسميته بالكلام فهو؛ إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أَوّلاً في كتب القدماء بـ (الكلام في كذا) فسُمّي العلم به، أو لأنّه يورث القدرة على الكلام في الأُصول الشرعية، أو لأنّ مسألة الكلام - أعني قِدم القرآن وحدوثه - أشهر أجزاء هذا العلم، حتى آلَ الأمر فيه إلى التضارب والتقاتل (١) ، أو لتكلّم أربابه في صفات الله وأفعاله. والأخيران أقرب من غيرهما.

____________________

(١) ففي التمدّن الإسلامي ٢ / ١٠٧: ضرب المعتصم العباسي أحمد بن حنبل على عدم إقراره بخلق القرآن ضرباً عظيماً، حتى غاب عقله وقطع جلده وحبس مقيّداً.

١٥

الفائدة الثانية

في وضع الكلام

لما توفّي النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة والإمامة، وما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ حزب أبي بكر - الخليفة الأَوّل - وإن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية، وعزل مخالفيهم عن تدبّر الأُمور، إلاّ أنّ النزاع لم يرتفع به، بل أصبح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة وغيرها، وهو البذر لحروب الجمل والصفين والنهروان وكربلاء وغيرها، وهو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتّت المذاهب والآراء في الأُصول والفروع.

وممّا وسّع هذا الاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان، فإنّه بغى واستكبر فصار من المفسدين، ومن سوء الاتّفاق أنّه علا أمره، واستولى على ما أراد، فأتاح الأمر لمَن بعده من آل أمية، الذين هم شر قبائل العرب (١) ، وأنّهم أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، فآلَ الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية والإرشادية أيضاً، بعدما افتقدوا السلطة التنفيذية والإجرائية. والناس على دين ملوكهم. فقام أُناس - لا صلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية، وتصدّوا لتدريس الأُصول وتطبيق الفروع، وكلّما دخلت أُمّة لعنت أُختها، وكأنّ القرآن ينظر إليهم حيث يقول: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (٣) . وبما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي، ولا أصل موضوعي، ولا قانون كلي، تكثّرث آراؤهم وتباينت أنظارهم، فاتّسعت الخوارج، وتولّدت المرجئة، وتكوّنت المعتزلة، وقامت الجبرية (٤) ، وظهرت الأشعرية وهكذا.

____________________

(١) قال ابن حجر في تطهير الجنان واللسان / ٣٠: إنّه حديث حسن.

(٢) وفي نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(٣) القصص ٢٨ / ٤١.

(٤) قُتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر مُلك بني أُميّة كما في الملل والنحل.

١٦

كل ذلك؛ لعدم مرجع لائق ديني يلم شَعث المسلمين، ويدير الحوزة العلمية.

وقد حكي (١) أنّه لمّا قيل لابن أبي العوجاء تلميذ الحسن البصري (٢١ - ١١٠هـ): لِمَ تركت مذهب صاحبك - الحسن - ودخلت فيما لا أصل له (أي الزندقة)؟ أجاب: إنّ صاحبي كان مخلِطاً، كان يقول طوراً بالعدل وطوراً بالجبر، وما أعلمه أعتقد مذهباً دام عليه... فإذا كان هذا حال الحسن - وهو من دعائم هذه الطريقة وأساطين هذه المدرسة - فما حال غيره؟!

وقد قيل في حقّه أيضاً (٢) : إنّه كان يلقى الناس بما يهوون، ويتصنّع للرئاسة، وكان رئيس القدرية، وكان يبغض علياً، ويُنقل حبّه له أيضاً، فإذا كان المصدر للمعارف الدينية أمثاله فما ظنّك بالمتعلّمين والمقلّدين؟

ولذا اخترع واصل بن عطاء (٨٠ - ١٣١ هـ) مذهب الاعتزال؛ حينما ألقى مسألةً بسيطة على أُستاذه - الحسن هذا - فعجز عن إقناعه، وقد علا أمر المعتزلة في المسائل الكلامية، فإنّ مطالبهم أقرب إلى الأحكام العقلية في الجملة، وربّما استفادوا من الفلسفة اليونانية لتصحيح مبانيهم، وللفلسفة المذكورة تأثير كبير في علم الكلام وتشتّت آراء المتكلمين.

وأمّا مخالفو المعتزلة فلم يكن لهم القوة في الكلام، حتى خالف علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري (٢٦٠ أو ٢٧٠ - ٣٣٠ على قول) في مسألة - نذكرها مع جوابها في موطنها المناسب من هذا الكتاب - أُستاذه المعتزلي محمد بن عبد الوهاب المعروف بأبي علي الجبائي (٢٣٥ - ٣٠٣ هـ)، فرجع عن مذهبه حينما لم يفهما حلّ المسألة، فتاب الأشعري من القول بخلق القرآن، والعدل، وعدم رؤية الله بالأبصار، ونحوها ممّا عليه أُستاذه (٣) ! وسعى في تدوين تلفيقات سلفه حتى سُمّي المذهب باسمه، وله أقوال عجيبة ربّما تصادم الضرورة كما تقف عليها في هذا الكتاب.

قال معين الدين الأيجي الشافعي (٤) ، واعلم أنّه - أي الأشعري - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له، مع أنّه منافٍ لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث... إلخ.

وهكذا خلفَ من بعدهم خلف أضاعوا الحق، واتّبعوا الميول والأهواء، وابتعدوا عن السفينة المنجية المحمدية، إلاّ القليل ممّن استقاموا على الطريقة الوسطى، فالتزموا العترة الهادية عن بكرة أبيهم، فانقادوا في كلّ عصر لإمامه من أئمة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذوا عنهم الأُصول والفروع.

____________________

(١) بحار الأنوار ٣ / ٣٣.

(٢) رجال المامقاني ١ / ٢٧٠.

(٣) لاحظ فهرست ابن النديم / ٢٧١.

(٤) إحقاق الحق ١ / ١٠٠.

١٧

ونبغ منهم في كلّ عصر رجال أفذاذ وأعلام هداة، وأَوّل مدرسة تخرّج فيها هؤلاء الجهابذة الإسلاميون، هي مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ، وهذا كتاب نهج البلاغة بين يديك وهو يدلّك على حقيقة الحال، ففيه أسرار التوحيد، وخفايا التنزيه، ومزايا المعارف الاعتقادية، وكليات القوانين الاجتماعية، والسنن الأخلاقية، والرسوم السياسية وغيرها.

ثمّ اتّسعت هذه المدرسة واشتهرت في عصر الإمامين العظيمين: الباقر والصادق عليهما‌السلام حتى عدّوا المتدرّسين فيها إلى أربعة آلاف، وقد تخرّج فيها الأكابر المتبحّرون والعلماء الكاملون، أمثال هشام بن الحكم، ومؤمن الطاق، ويونس وزرارة، وكثير من أقرانهم، فتحمّلوا من علوم آل نبيهم، وروّجوا ما تنوّر به المجامع العلمية الإسلامية والعالمية.

والمذاهب المتقدّمة (٢) حيث لم تتمكن من مقاومة هذه المدرسة في ميدان العلم والفضيلة، قابلتها بالظلم والتعدّي والافتراء؛ فلذا نُسب إلى بعض هؤلاء الكاملين القول بالتشبيه، وإلى آخر منهم القول بالتجسّم، وإلى ثالث الاعتقاد بحدوث صفات الله، وهكذا، بل جعل لكل من هؤلاء المنقادين لإمامهم الصادق عليه‌السلام مذهب على حدة! ولم يزل هذا الوضع المشؤوم إلى يومنا هذا، يوم النور والتفكير، فما من كتاب من هؤلاء الجماعة المتقدمة، إلاّ وفيه أباطيل منسوبة إلى الشيعة وهم براء منها، وكم وقع عليهم الظلم والعدوان:

وكان ما كان ممّا لست أذكرُه فظنْ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ

والله الهادي... وقد تحصّل ممّا سطّر - إن لم تغلب العصبية على العاقلة - أنّ الأقدمين في علم الكلام وغيره من العلوم الشرعية هم الإمامية؛ لأنّهم أَوّل مَن شرعوا في التأليف والتدوين، فما في جملة من الكلمات من نسبة المسائل إلى المعتزلة أو الأشاعرة، ثمّ نسبة المتابعة والموافقة إلى الإمامية؛ إمّا جهل أو عناد، بل كثيراً ما يُهمل نقل أقوالهم لجهات غير خفية على الخبير. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.

____________________

(١) قال ابن النديم في الفهرست / ٢٦٣: أَوّل مَن تكلم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من أجلّة أصحاب علي (رضي الله تعالى عنه) ولعلي من الكتب كتاب الإمامة، كتاب الاستحقاق.

أقول: قد سبق علياً غيره، فلاحظ مقدمة وسائل الشيعة المطبوعة حديثاً؛ حتى تعلم أنّ الشيعة ابتدؤوا بتدوين الكتب من بدو ظهورهم.

(٢) قال الشهرستاني في أوائل مِلله ونحله: أمّا رونق علم الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسية هارون وغيره، وانتهاؤه من الصاحب بن عبّاد وجماعة من الديالمة. وقيل: أَوّل مَن تكلّم في علم الكلام أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية.

١٨

الفائدة الثالثة

في بيان الأدلّة

المسائل اليقينية إمّا ضروريات أو نظريات منتهية إليها قطعاً. والضروريات المذكورة ست:

منها: الأوّليات: وهي ما لا يتوقف إدراكه على شيء زائد من تصوّر طرفيه، وإن كان هذا التصوّر كسبياً، كقولنا: الممكن محتاج، وتُسمّى بالبديهيات أيضاً.

ومنها: الحسّيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، فإن كانت ظاهرةً تسمّى المشاهدات، وإن كانت باطنةً - وهي الحس المشترك (بنطاسيا) والخيال، والواهمة، والحافظة - تسمّى الوجدانيات (١) ، وفيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسّط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا وبصفاتنا النفسية، كالخوف، والسرور، والحزن، والجزع، والشبع ونظائرها.

قال المحقّق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: ويدخل في المشاهدات الباطنية: الوهميات التي جعلها بعضهم قسماً سابعاً، وذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة، ولا يكون جسم واحد في مكانين، فإنّ العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات والمعقولات، كحكمه بأنّ كلّ موجود في جهة أو مكان... إلخ.

ومنها: المتواترات: وهي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب، ثمّ إنّ إفادة التواتر اليقين موقوف على أمور:

١ - كون المخبر عنه أمراً محسوساً؛ إذ لو كان أمراً حدسياً لَما حصل اليقين منه؛ لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، وهذا بخلاف الحسّيات حيث إنّ وضوحها ينفي هذا الاحتمال، وخالف فيه الفارابي (٢) فذكر أنّه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين، حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء والعقلاء،

____________________

(١) قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - والوجدان - بضمّها -: إنّ الأَوّل يُطلق على القوةّ المدركة، والثاني على إدراكها. وقيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.

(٢) رهبر خرد / ٢٣٦.

١٩

وعلّلوه بأنّ اتّفاق جمّ غفير من الأذكياء على شيء يوجب اليقين بصحّته؛ إذ من المحال عادةً أن يتّفقوا على أمر غير واقع، بل ذكر العلاّمة المجلسي رحمه‌الله (١)، أنّ ما يُجمع عليه العقلاء لا يكون إلاّ ضرورياً أو قريباً من الضروري، وبه استدلّ على استحالة النقص على الله تعالى.

أقول: حصول العلم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون إلزامياً، ولعلّ الغالب هو عدم حصول العلم منه في الحدسيات.

٢ - عدم العلم بالمخبر عنه قبل حصول التواتر لاستحالة تحصيل الحاصل.

٣ - عدم انتهاء الناقلين في تمام الطبقات والأدوار إلى عدد قليل يجوز تبانيهم على الكذب.

٤ - صفاء الذهن بالنسبة إلى المخبر عنه، وعدم الاعتقاد على خلافه، وإلاّ لم يفد العلم. ذكره السيد المرتضى قدّس سره وقَبِله عنه الآخرون، ووجهه واضح.

وأمّا اشتراط الإسلام، والعدالة، واختلاف النسب، وعدم جمعهم في بلد، وتعيين عدد خاصّ من الناقلين، كالخمسة أو العشرين أو الأربعين أو السبعين أو ثلاثمِئة، فغير لازم قطعاً، بل بعضها جزاف.

ثمّ إنّ التواتر على أقسام ثلاثة:

الأَوّل: التواتر اللفظي: وهو اتّفاق الناقلين على ألفاظ الخبر وعباراته، كتواتر ألفاظ القرآن، وحديث المنزلة، وحديث الغدير ونحوها.

الثاني: التواتر المعنوي: وهو تواطؤهم على معنىً واحد وإن اختلفت ألفاظهم، سواء كانت دلالة الألفاظ على المعنى المخبر عنه بالمطابقة، أو بالتضمّن، أو بالالتزام، وهذا مثل ما ورد من الأخبار الحاكية عن شجاعة علي عليه‌السلام .

الثالث: التواتر الإجمالي: وهو نقل الوقائع الكثيرة، فإنّه يحصل العلم بوقوع بعضها عادةً، وإن كان كل واقعة بخصوصه مشكوكاً فيها، وأورد عليه الأُصولي الشهير المحقّق النائيني قدّس سره (٢) ، بأنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز الكذب على كلّ منها في حدّ نفسه.

ويدفع أَوّلاً: بجريانه في القسمين الأَوّلين أيضاً وهو لا يلتزم به.

وثانياً: أنّه شبهة في مقابل البداهة، أَليس مَن لاحظ كتاب التهذيب مثلاً، يضطر إلى القطع بصدور بعض ما فيه عن الأئمة عليهم‌السلام ؟

____________________

(١) البحار ٣ / ٢٣١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ١١٣.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وأما سجود يعقوب لولده فإن السجود لم يكن ليوسف، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله تعالى وتحية ليوسف، كما أن السجود من الملائكة لم يكن لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله تعالى بإجماع الشمل. ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ الآية.

وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ ، فإن المخاطب بذلك رسول الله (ص) ولم يكن في شك مما أنزل الله إليه، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث نبياً من الملائكة؟ ولمَ لمْ يفرق بينه وبين الناس في الإستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟ فأوحى الله إلى نبيه: فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ، بمحضر من الجهلة، هل بعث الله نبياً قبلك إلا وهو يأكل الطعام والشراب، ولك بهم أسوة يا محمد، وإنما قال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، ولم يكن، للنصفة كما قال: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ. ولوقال: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم، لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه مؤدٍّ عنه رسالته، وما هومن الكاذبين، وكذلك عرف النبي (ص) بأنه صادق فيما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

وأما قوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية، فهوكذلك لوأن أشجار الدنيا أقلام والبحر مدادٌ يمده سبعة أبحر مداً، حتى انفجرت الأرض عيوناً، كما انفجرت في الطوفان، ما نفدت كلمات الله ..

٢٤١

وأما الجنة ففيها من المأكل والمشرب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأباح الله ذلك لآدم. والشجرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد الله إليهما أن لا ينظر إلى من فضله الله عليهما، والى خلائقه بعين الحسد، فنسي ولم يجد له عزماً.

وأما قوله: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، فإن الله تعالى زوج الذكران المطيعين، ومعاذ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لَبَّسْتَ على نفسك، تطلب الرخص لارتكاب المحارم! وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إن لم يتب. ( وكان ابن أكثم مشهوراً باللواط )!

فأما قول شهادة امرأة وحسدها التي جازت، فهي القابلة التي جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضاً فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها. فأما قول علي (ع) في الخنثى فهوكما قال: يرث من المبال، وينظر إليه قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة، ويقوم الخنثى خلفهم عريانة، وينظرون إلى المرآة، فيرون الشئ ويحكمون عليه.

وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة، فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها الإمام نصفين وساهم بينهما، فإن وقع السهم على أحد القسمين، فقد أقسم النصف الآخر، ثم يفرق الذي وقع عليهم السهم نصفين

٢٤٢

ويقرع بينهما، فلا يزال كذلك حتى تبقى اثنتان، فيقرع بينهما، فأيتهما وقع السهم عليها ذبحت وأحرقت، وقد نجا سايرهما.

وأما قول أمير المؤمنين (ع): بشِّر قاتل ابن صفية بالنار، لقول رسول الله (ص). وكان ممن خرج يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان. وأما قولك: إن علياً قاتل أهل صفين مقبلين ومدبرين، وأجهز على جريحهم وإنه يوم الجمل لم يتبع مولياً ولم يجهز على جريحهم، وكل من ألقى سيفه وسلاحه آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير متحاربين ولا محتالين ولا متجسسين ولا متبارزين، فقد رضوا بالكف عنهم، وكان الحكم فيه رفع السيف والكف عنهم، إذ لم يطلبوا عليه أعواناً.

وأهل صفين يرجعون إلى فئة مستعدة، وإمام منتصب، يجمع لهم السلاح من الرماح والدروع والسيوف، ويستعد لهم، ويسنى لهم العطاء، ويهئ لهم الأموال، ويعقب مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسوحاسرهم، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فإن الحكم في أهل البصرة الكف عنهم، لما ألقوا أسلحتهم إذ لم تكن لهم فئة يرجعون إليها، والحكم في أهل صفين أن يتبع مدبرهم ويجهز على جريحهم، فلا يساوي بين الفريقين في الحكم.

ولولا أمير المؤمنين وحكمه في أهل صفين والجمل لما عرف الحكم في عصاة أهل التوحيد، فمن أبى ذلك عرض على السيف. وأما الرجل الذي أقر باللواط، فإنه أقر بذلك متبرعاً من نفسه ولم تقم عليه بينة ولا أخذه سلطان، وإذا كان الإمام الذي من الله أن يعاقب في الله، فله أن يعفو في الله. أما سمعت الله يقول لسليمان: هذا عطاؤنا فامنن أوامسك بغير، فبدأ بالمن قبل المنع.

٢٤٣

فلما قرأ ابن أكثم قال للمتوكل: ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شئ بعد مسائلي هذه، وإنه لا يرد عليه شئ بعدها إلا دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة »!

ردَّ الإمام الهادي (ع) تفسير المجسمة للمقام المحمود

قال الله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا. وقال الإمام الصادق (ع) في تفسيرها، قال رسول الله (ص): « إذا قمتُ المقام المحمود تشفعتُ في أصحاب الكبائر من أمتي، فيُشَفِّعُنِي الله فيهم. والله لا تشفعتُ فيمن آذى ذريتي ». « أمالي الصدوق / 370 ».

وروى غيرنا أيضاً أن المقام المحمود هوشفاعة النبي (ص) لأمته، كما في مسند أحمد بن حنبل « 2 / 441 » والبخاري « 5 / 228 ». وفسر بعض المشبهة المقام المحمود بأنَّ الله تعالى يُقعد النبي (ص) معه على العرش!

قال ابن عبد البر في التمهيد « 19 / 64 »: « روي عن مجاهد أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية.

والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين، أن المقام المحمود هوالمقام الذي يشفع فيه لأمته. وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك، فصار إجماعاً في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة ».

لكن رواية مجاهد أعجبت جماعة المتوكل فتبنوها، مع أنها ضعيفة السند، لأن راويها ليث بن أبي سليم اختلط وخرف!

٢٤٤

ولم يقف مجسمة الحنابلة عند قبولها فقط، بل جعلوها التفسير الوحيد للمقام المحمود، وجعلوا تفسيره بغير ذلك كفراً!

قال الخلال الحنبلي في كتابه: السنة « 1 / 215 »: « قال أبوبكر بن أبي طالب: من رده فقد رد على الله عز وجل »!

وجعل جماعة ابن صاعد ذلك شعراً، وجماعة أبي بكر المروذي، تلميذ ابن حنبل، وأخذوا يفرضونه على العلماء الذين يأتون الى بغداد!

قال الصفدي في الوافي « 2 / 213 »: « لما قدم « الطبري » من طبرستان إلى بغداد تعصب عليه أبوعبد الله ابن الجصاص وجعفر ابن عرفة والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبوجعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف، فقال: ما رأيته رويَ عنه، ولا رأيت له أصحاباً يُعَوَّل عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحالٌ. ثم أنشد:

سبحانَ من ليس لهُ أنيسُ

ولا لَهُ في عَرشِهِ جليسُ

فلما سمعوا ذلك وثبوا ورموه بمحابرهم، وقد كانت ألوفاً، فقام بنفسه ودخل داره، فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتلِّ العظيم!

وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدم، فأمر نازوك بمحوذلك، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:

لأحمد منزلٌ لا شكَّ عالٍ

إذا وافى إلى الرحمن وافدْ

فيُدنيه ويُقعده كريماً

على رغمٍ لهم في أنفِ حاسد

٢٤٥

على عرشٍ يُغلِّفُهُ بطيبٍ

على الأكبار يا باغٍ وعانِد

إلا هذا المقام يكون حقاً

كذاك رواهُ ليثٌ عن مجاهد

فخلا في داره، وعمل كتاب المشهور في الإعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفَضَّلَ أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يخرج كتابه في الإختلاف حتى مات، فوجدوه مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه »!

ومعنى قول الطبري: أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافه، أنه ليس من الفقهاء الذي يحسب له حساب إذا خالف فتوى الآخرين.

فثاروا عليه بوحشية، كما نرى في ثورة الوهابية على من خالفهم! فخضع الطبري وألف كتاباً ضد عقيدته، وتقرب به الى مجسمة الحنابلة!

ثم ألف كتاباً ضدهم سماه الرد على الحرقوصية، بعد أن خفت موجتهم.

ويظهر أن المجسمة في بغداد كانوا قلة لكنهم شريرون يخشاهم عوام المسلمين!

قال ابن كثير في النهاية « 11 / 184 »: « وفيها « سنة 317 » وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين طائفة من العامة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً ، فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش. وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى ».

وتبنى ابن تيمية رأي مجسمة الحنابلة فقال: « حدَّث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون، أن محمداً رسول الله (ص) يجلسه ربه على العرش معه »!

٢٤٦

وزعم أنه يبقى من العرش أربع أصابع! « مجموعة الفتاوى: 4 / 374 و 16 / 438 ».

أما أهل البيت (ع) فكان موقفهم ثابتاً بأن المقام المحمود الشفاعة، وأن الله تعالى منزه عن الجسمية والجلوس، وكان الإمام الهادي (ع) يؤكد هذه العقيدة:

ففي أمالي الطوسي / 298، عن الإمام الهادي (ع) عن جده أمير المؤمنين (ع) قال: « سمعت النبي (ص) يقول: إذا حشر الناس يوم القيامة ناداني منادٍ يا رسول الله إن الله جل اسمه قد أمكنك من مجازاة محبيك، ومحبي أهل بيتك، الموالين لهم فيك، والمعادين لهم فيك، فكافئهم بما شئت. وأقول: يا رب الجنة، فأبوؤهم منها حيث شئت، فذلك المقام المحمود الذي وعدتُ به ».

تكريم الإمام لعالم مناظر وإفحامه العباسيين

في الإحتجاج « 2 / 259 »: « اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري (ع): أن رجلاً من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب، فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته، فدخل إلى علي بن محمد (ع) وفي صدر مجلسه دستٌ ( كالفراش ) عظيم منصوبٌ وهوقاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه.

فاشتد ذلك على أولئك الأشراف، فأما العلوية فأجلُّوه عن العتاب، وأما الهاشميون « العباسية » فقال له شيخهم: يا ابن رسول الله، هكذا تؤثر عامياً على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين! فقال (ع): إياكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب

٢٤٧

الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون. أترضون بكتاب الله حكماً؟ قالوا: بلى.

قال: أليس الله يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن.

أخبروني عنه قال: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات؟ أوقال: يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات؟ أوليس قال الله: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله! إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إياها لأفضل له من كل شرف في النسب.

فقال العباسي: يا ابن رسول الله قد أشرفت علينا، هوذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه. فقال (ع): سبحان الله، أليس عباس بايع أبا بكر وهو تيميٌّ والعباس هاشمي؟ أوليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهوهاشمي أبوالخلفاء، وعمر عدوي! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكراً، فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز. فكأنما ألقم الهاشمي حجراً »!

٢٤٨

عالمٌ يعرض عقيدته على الإمام الهادي (ع)

روى الصدوق (قدس سره) في التوحيد / 81: « عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: دخلت على سيدي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، فلما بصر بي قال لي: مرحباً بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقاً، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً أثبتُ عليه حتى ألقى الله عز وجل.

فقال: هات يا أبا القاسم، فقلت: إني أقول إن الله تبارك وتعالى واحد، ليس كمثله شئ، خارجٌ عن الحدين: حد الإبطال وحد التشبيه، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هومُجسم الأجسام، ومُصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شئ ومالكه، وجاعله ومحدثه، وإن محمداً عبدُه ورسوله، خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة.

وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي. فقال (ع): ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده، قال فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: لأنه لايرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

٢٤٩

قال فقلت: أقررتُ. وأقول إن وليهم ولي الله، وعدوهم عدوالله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله. وأقول: إن المعراج حق، والمسألة في القبر حق، وإن الجنة حق، وإن النار حق، والصراط حق، والميزان حق، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور.

وأقول: إن الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمد (ع): يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ».

محاولة ابن تيمية التشكيك بفضائل الإمام الهادي (ع)

أورد العلامة الحلي (رحمه الله) في كتابه منهاج الكرامة ترجمة مختصرة للإمام الهادي (ع) فتصدى ابن تيمية لردها والتنقيص من الإمام (ع) مهما كلفه الأمر!

قال ابن تيمية في منهاجه « 4 / 75 »: « قال الرافضي: وكان ولده علي الهادي (ع) ويقال له العسكري، لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد، ثم منها إلى سر من رأى، فأقام بموضع عندها يقال له العسكر، ثم انتقل إلى سر من رأى، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر. وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض علياً فبلغه مقامُ علي بالمدينة وميلُ الناس إليه فخاف منه فدعا يحيى بن هبيرة « هرثمة »، وأمره بإحضاره فضج أهل المدينة لذلك خوفاً عليه لأنه كان محسناً إليهم ملازماً

٢٥٠

للعبادة في المسجد، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه، ثم فتش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عينه، وتولى خدمته بنفسه.

فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي « الطاهري » والي بغداد فقال له: يا يحيى هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتوكل من تعلم فإن حرضته عليه قتله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك يوم القيامة. فقال له يحيى: والله ما وقفت منه إلا على خير. قال فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده، فأكرمه المتوكل.

ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفيَ تصدق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جواباً، فبعث إلى علي الهادي فسأله فقال: تصدق بثلاثة وثمانين درهماً، فسأله المتوكل عن السبب فقال: لقوله تعالى: لقد نصر ـ كم الله في مواطن كثيرة ، وكانت المواطن سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستاً وخمسين سرية.

قال المسعودي: نُمِيَ إلى المتوكل بعلي بن محمد أن في منزله سلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنه عازم على الملك فبعث إليه جماعة من الأتراك فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه وهويقرأ، وعليه مدرعةٌ من صوف وهوجالس على الرمل والحصى، متوجهاً إلى الله تعالى يتلوالقرآن، فحمل على حالته تلك إلى المتوكل، فأدخل عليه وهوفي مجلس الشراب والكأس في يد المتوكل، فعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس فقال: والله ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني، فأعفاه وقال له: أسمعني صوتاً، فقال: كم تركوا من

٢٥١

جنات وعيون الآيات. فقال أنشدني شعراً، فقال إني قليل الرواية للشعر، فقال لا بد من ذلك، فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجال فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن معاقلهمْ

فأُودعوا حُفَراً يا بئسَ ما نزلوا

ناداهُم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسِرَّةُ والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستار والكِللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوهُ عليها الدود يَقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

وطالما عمروا دوراً لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادخروا

فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قفْراً مُعَطلةً

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا »

فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته. انتهى .

ثم عقَّب ابن تيمية بقوله: « فيقال: هذا الكلام من جنس ما قبله لم يذكرمنقبة بحجة صحيحة، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي، وهذا من جهله فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعة معروف هو وأهل بيته كانوا من خزاعة، فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، أمير خراسان المشهور المعلومة سيرته، وابن هذا محمد بن عبد الله بن

٢٥٢

طاهر، كان نائباً على بغداد في خلافة المتوكل وغيره، وهوالذي صلى على أحمد بن حنبل لما مات. وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائباً لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل. وهؤلاء كلهم من خزاعة، ليسوا من طئ، وهم أهل بيت مشهورون ».

أقول: يظهر أن نسخة ابن تيمية من كتاب العلامة فيها تصحيف الطاهري بالطائي، وهرثمة بهبيرة، وقد تحامل عليه ابن تيمية بسببها، ورماه بالجهل بغير حق!

على أن ابن طاهر المشهور ليس خزاعياً بل مولاهم، كما بيناه في فصل ثورات العلويين بعد هدم قبر الحسين (ع)، وقتل ابن طاهر للثائر العلوي، وزوال ملكهم بعده!

ثم قال ابن تيمية: « وأما الفتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عوفيَ يتصدق بدراهم كثيرة، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جواباً، وأن عليَّ بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهماً، لقوله تعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، وأن المواطن كانت هذه الجملة، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستاً وخمسين سرية.

فهذه الحكاية أيضاً تحكى عن على بن موسى مع المأمون، وهي دائرة بين أمرين: إما أن تكون كذباً، وإما أن تكون جهلاً ممن أفتى بذلك، فإن قول القائل له عليَّ دراهم كثيرة أو والله لأعطين فلاناً دراهم كثيرة، أولأتصدقن بدراهم كثيرة، لا يحمل على ثلاث وثمانين، عند أحد من علماء المسلمين! والحجة المذكورة باطلة لوجوه:

٢٥٣

أحدها، أن قول القائل إن المواطن كانت سبعاً وعشرين غزاة، وستاً وخمسين سرية، ليس بصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز سبعاً وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك.

الثاني: أن هذه الآية نزلت يوم حنين، والله قد أخبر بما كان قبل ذلك فيجب أن يكون ما تقدم قبل ذلك مواطن كثيرة، وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف، وغزوة تبوك، وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين، كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة، مثل إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة، وأمثال ذلك. وجرير إنما أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة. وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية، امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخباراً بجميع المغازي والسرايا.

الثالث: أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي، بل يوم أحد تولوا وكان يوم بلاء وتمحيص، وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا، لم يكونوا منصورين فيها، فلوكان مجموع المغازي والسرايا ثلاثاً وثمانين، فإنهم لم ينصروا فيها كلها حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثاً وثمانين. الرابع: اختصاص هذا القدر بذلك، فإن لفظ الكثير لفظ عام يتناول الألف والألفين والآلاف، وإذا عم أنواعاً من المقادير، فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكم.

الخامس: أن الله تعالى قال: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، والله يضاعف الحسنة إلى سبع مائة ضعف بنص القرآن، وقد ورد أنه يضاعفها ألفي ألف حسنة، فقد سمى هذه الأضعاف كثيرة، وهذه المواطن

٢٥٤

كثيرة، وقد قال تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . والكثرة هاهنا تناول أنواعها من المقادير، لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين، وقد تكون الفئة القليلة ألفاً، والفئة الكثيرة ثلاثة آلاف، فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى، وقد قال تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولوأراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم . ومعلوم أن الله أراه أهل بدر أكثر من مائة، وقد سمى ذلك قليلاً بالنسبة والإضافة، وهذا كله مما يبين أن القلة والكثرة أمر إضافي، ولهذا تنازع الفقهاء فيما إذا قال: له عليَّ مال عظيم أوخطير أوكثير أوجليل، هو يرجع في تفسيره إليه فيفسره بما يتمول، كقول الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، أولا يقبل تفسيره إلا بما له قدر خطير، كقول أبي حنيفة ومالك. وبعض أصحاب أحمد على قولين، وأصحاب القول الثاني منهم من قدره بنصاب السرقة، ومنهم من قدره بنصاب الزكاة، ومنهم من قدره بالدية، وهذا النزاع في الإقرار، لأنه خبر والخبر عن أمر ماض قد علمه المقر.

وأما المسألة المذكورة فهي إنشاءٌ كما لو أوصى له بدراهم كثيرة، والأرجح في مثل هذا أن يرجع إلى عرف المتكلم، فما كان يسميه مثله كثيراً حمل مطلق كلامه على أقل محتملاته، والخليفة إذا قال دراهم كثيرة في نذر نذره لم يكن عرفه في مثل هذا مائة درهم ونحوها، بل هويستقل هذا ولا يستكثره، بل إذا حمل كلامه على مقدار الدية اثنة عشر ألف درهم، كان هذا أولى من حمله على ما دون ذلك. واللفظ يحتمل أكثر من ذلك، لكن هذا مقدار النفس المسلمة في الشرع ولا يكون عوض المسلم إلا كثيراً، والخليفة يحمل الكثير منه على ما لا يحمل الكثير

٢٥٥

من آحاد العامة، فإن صاحب ألف درهم، إذا قال أعطوا هذا دراهم كثيرة احتمل عشرة وعشرين، ونحوذلك بحسب حاله.

فمعنى القليل والكثير هومن الأمور النسبية الإضافية كالعظيم، والخير يتنوع بتنوع الناس فيحمل كلام كل إنسان على ما هو المناسب لحالة في ذلك المقام ».

أقول: يحاول ابن تيمية دائماً تكذيب أي فضيلة لأهل البيت (ع) لأنه يبغضهم! وقد أطال في رد هذه الفتيا التي رواها العلامة عن الإمام الهادي (ع).

وقد رواها الخطيب البغدادي « 12 / 56 » بسنده الصحيح، ونصها: « اعتلَّ المتوكل في أول خلافته، فقال: لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر فسأله فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً فعجب قوم من ذلك وتعصب قوم عليه، وقالوا: تسأله يا أمير المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه فقال له قل لأمير المؤمنين في هذا الوفاء بالنذر، لأن الله تعالى قال: لقد نصر ـ كم الله في مواطن كثيرة، فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع والسر ـ ايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له، وأجر عليه في الدنيا والآخرة ».

ورواها الذهبي في تاريخه « 19 / 218 » بسند صحيح عن الصولي، ولم ينتقدها.

ورواها ابن الجوزي في المنتظم « 12 / 75 » ولم ينتقدها.

ورواها أحمد بن محمد النيسابوري الثعلبي في الكشف والبيان، كما في إحقاق الحق « 14 / 250 ». ورواها السمعاني في الأنساب « 4 / 196 ».

٢٥٦

ورواها من مصادرنا علي بن إبراهيم في تفسيره بسند صحيح « 1 / 284 » ونصها: « كان المتوكل قد اعتل علة شديدة فنذر إن عافاه الله أن يتصدق بدنانير كثيرة أو قال بدراهم كثيرة، فعوفي، فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه، قال أحدهم عشرة آلاف وقال بعضهم مائة ألف، فلما اختلفوا قال له عَبادة: إبعث إلى ابن عمك علي بن محمد بن علي الرضا فاسأله، فبعث إليه فسأله فقال: الكثير ثمانون، فقالوا له رد إليه الرسول فقل: من أين قلت ذلك؟ فقال من قوله تعالى لرسوله: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، وكانت المواطن ثمانين موطناً ».

فلا معنى لتشكيك ابن تيمية في أصلها بعد هذه الإستفاضة.

وأما تشكيكه في الفتيا بعدد المواطن التي نصر الله بها المسلمين، فقد أيد علماء السيرة قول الإمام الهادي (ع) وأن مواطن النصر ثمانون.

أما تشكيكه بالفتيا بيُحتمل ويحُتمل، وبكثرة احتملات الفقهاء في المسألة، فهذا لايضر بقول الإمام (ع) الذي قبله الفقهاء الذين كانوا حول المتوكل، وكان فيهم رأي مخالف كرأي ابن تيمية، فردوه ولم يأخذوا به، فقد ردوا رأيه أيضاً!

ثم قال ابن تيمية عن إحضار المتوكل للإمام (ع): « والحكاية التي ذكرها عن المسعودي منقطعة الإسناد، وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى، فكيف يوثق بحكاية منقطعة الإسناد في كتاب قد عرف بكثرة الكذب مع أنه ليس فيها الفضيلة إلا ما يوجد في كثير من عامة المسلمين، ويوجد فيهم ما هوأعظم منها ».

٢٥٧

يقول ابن تيمية: إن القصة كاذبة، ولو صحت فلا فضيلة فيها تُميز الإمام الهادي (ع)! وهذا من تعصبه وهواه، فالمسعودي ثقة، ولم يتفرد بها، بل استفاضت روايتها، وصححها شيوخ يوثقهم ابن تيمية ولكنه أعشى!

فقد أرسلها الذهبي إرسال المسلمات، ولم ينتقد سندها ولا متنها.

قال في تاريخه « 18 / 199 »: « وكان قد سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل، وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب. فكَبَسَ بيته ».

بل صححها في سِيَره « 12 / 41 » فمدح إمامه المتوكل لأنه بكى من موعظة الإمام الهادي (ع) قال: « وقد بكى من وعظ علي بن محمد العسكري العلوي ».

وكذلك قبلها ابن كثير فقال في النهاية « 11 / 19 »: « ذكر للمتوكل أن بمنزله سلاحاً وكتباً كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالساً مستقبل القبلة الخ. ».

وكذلك فعل القلقشندي في مآثر الخلافة « 1 / 231 » قال: « ومن غريب ما اتفق له في ذلك أنه طلب علياً الزكي، ويقال علي الهادي وعلي التقى فحمل إلى المتوكل والمتوكل في مجلس شرابه، والكأس في يده فلما رآه ».

وكذلك فعل ابن خلكان في وفيات الأعيان « 3 / 272 ».

وأبو الفداء في تاريخه / 233، والدميري في حياة الحيوان / 553، وغيرهم.

فتبين أن ابن تيمية صاحب هوى يريد تكذيب قصة فاحت منها رائحة الخمر من إمامه، وفاضت منها الكرامة النبوية من الإمام الهادي (ع)!

٢٥٨

الفصل الحادي عشر:

الإمام الهادي (ع) يطلق منشور الغدير والزيارة الجامعة

منشورالغدير في فضائل أمير المؤمنين (ع)

قامت عقيدة المتوكل والنواصب على ركنين: بُغْضَ عَليٍّ وأهل البيت (ع)، وما سموه أحاديث الصفات، أي وصف الله تعالى بالجسم وشبهه. فكان المتوكل يقرِّب النواصب والمجسمة، ويغدق عليهم المال.

أما بغضه لعلي (ع) فقال الذهبي في تاريخه « 17 / 18 »: « أمر المتوكل بهدم قبر السيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهدم ما حوله من الدور وكان معروفاً بالنصب، فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء، دعبل وغيره ».

والإنصاف أن بغض المتوكل لعلي (ع) مشهورٌ ككفر إبليس، فقد كان يعقد مجالس الغناء والرقص، والسخرية من علي (ع) في دار الخلافة!

قال ابن الأثير في الكامل « 6 / 108 »: « وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم! وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهوأصلع، ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون قد أقبل الأصلع البدين، خليفة المسلمين، يحكي بذلك علياً! والمتوكل يشرب

٢٥٩

ويضحك! ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه، فقال المتوكل ما حالك؟ فقام وأخبره، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هوابن عمك، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك! فكل أنت لحمه إذا شئت، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه! فقال المتوكل للمغنين: غنوا جميعاً:

غَارَ الفَتَى لابن عَمِّهْ

رأسُ الفَتى في حَرِ أمِّهْ »!

وقد روى ذلك عامة المؤرخين، وتقدم في ترجمة المتوكل.

وكذلك تبني المتوكل للتجسيم، قال الخطيب في تاريخ بغداد « 10 / 67 »: « حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: سنة أربع وثلاثين ومائتين، فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بني عبس، وكانا من حفاظ الناس. فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية!

فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووضع له منبر واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً من الناس. فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة. وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً ».

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296