صراط الحق الجزء ١

صراط الحق26%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132039 / تحميل: 7356
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فكذلك في هذه الحالة يعتبر الشيك حوالةً من المَدين لدائنه على البنك، غير أنّ المحوّل عليه ليس مَديناً للمُحيل، ولهذا يصطلح الفقهاء على ذلك بالحوالة على البريء، وهي عندي حوالة صحيحة تنفذ بالقبول من البنك، فإذا قبل البنك الشيك أعتبر ذلك قبولاً منه للحوالة، فتشتغل ذمّته للمُحال في ذمّة المحوِّل، ويصبح المحوِّل مَديناً للبنك - المحوِّل عليه - بقيمة الحوالة.

فمَديونيّة محرّر الشيك للبنك لا تقوم هنا على أساس الاقتراض لكي يتوقّف على القبض، بل على أساس قبول البنك للحوالة، ولمّا كان البنك بريئاً فبقوله للحوالة وانتقال دَين المحوِّل إلى ذمّته يصبح دائناً للمحوِّل بنفس المقدار(١) .

وهكذا يتّضح أنّه يصحّ استعمال الشيكات على البنك كأداة وفاءٍ على أساس الحوالة، سواء كان لمحرّر الشيك رصيد دائن في حسابه الجاري، أو كان حسابه الجاري على المكشوف.

وهناك قيود مَدينة يجريها البنك دون تفويضٍ من العميل، كالعمولات المختلفة، وأجرة البريد، والرسم الدوري لكشوف الحسابات البيانية.

وكلّ هذا صحيح ؛ لأنّ العميل تشتغل ذّمته بأُجرة المثل للبنك لقاءَ الخدمات المصرفية، بما فيها كشوف الحسابات البيانية، وأجرة البريد التي يتكلّفها البنك بأمرٍ صريحٍ أو ضمنيّ موجبٍ للضمان من العميل. وبموجب المقاصّة القهرية بين الدَينين يقوم البنك بخصم قيمة هذه الأجور من الرصيد الدائن لعميله.

____________________

(١) بناءً على أنّ المحوِّل يضمن للمحوّل عليه البريء بسبب إشغاله لذمّته الذي يحصل بمجرّد قبول البريء للحوالة. وأمّا إذا كان الضمان بسبب تسبيب المحوّل لتلف المال على البريء خارجاً فلا يكون الضمان فعلياً إلاّ بعد الدفع.(المؤلّف قدس‌سره ).

١٠١

اندماج أكثر من صفتين في شخصٍ واحد:

وهناك حالات في سحب الشيك على البنك تندمج فيها صفتان في جهةٍ واحدة، ومن هذا القبيل حالة سحب العميل على البنك شيكاً لأمره، أي لأمر العميل نفسه، فهو في هذه الحالة يمثّل مركزَي الساحب والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب يحاول استيفاء قيمة الشيك المسحوب من دَينه على البنك، وليس تحريره للشيك إلاّ لكي يستخدم كوثيقةٍ على الوفاء عند تقديمه لدى البنك وسحب قيمته منه.

ومن هذا القبيل أيضاً حالة سحب العميل شيكاً لأمر البنك، وبهذا يمثّل البنك مركزَي المسحوب عليه والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب كان قد أصبح مَديناً للبنك بأيِّ سببٍ من الأسباب، فوقعت المقاصّة في حدود ذلك الدَين بين دائنية البنك هذه ودائنية العميل المتمثِّلة في رصيده الدائن في الحساب الجاري، وليس الشيك في هذه الحالة إلاّ وثيقةً على وقوع هذه المقاصّة بين ذمّتي البنك والعميل، وكلّ ذلك جائز شرعاً.

الودائع لأجَل (الثابتة):

وهي مبالغ يستهدف أصحابها من وضعها في البنك الحصول على فوائدها ما داموا ليسوا بحاجةٍ ماسّةٍ إليها في الوقت القريب، ولا يجوز سحبها من البنك إلاّ بعد مدّةٍ يتّفق عليها العميل مع البنك، ويجدّد عقد إيداعها في نهاية المدّة إذا رغب المودِع في إبقاء الوديعة، كما يتّفق في أكثر الأحيان.

وهذه الودائع تمثِّل في الحقيقة قروضاً ربويةً محرَّمة، ولهذا يتمنع عنها البنك اللاربوي، ويحوّلها إلى ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل لوديعةٍ قد أودعها

١٠٢

أصحابها في البنك ريثما يجدون مجالاً لتوظيفها واستثمارها على أساس المضاربة. وقد مرّ تفصيل ذلك في الأطروحة التي قدّمناها.

ودائع التوفير:

يقصد بها كلّ حسابٍ في دفترٍ واجب التقديم عنه كلّ سحبٍ أو إيداع. وهي قسم من الودائع الادّخارية، غير أنّ العادة جرت على تمكين الموفِّرين من السحب عليها متى شاءوا، أو ضمن شروطٍ خاصّة.

والبنك اللاربوي لا يرفض قبول ودائع التوفير هذه، ولا يختلف عن البنوك الربوية في إعطاء فرصة السحب للموفِّرين متى أرادوا ذلك، ويقوم باستثمار هذه الودائع عن طريق المضاربة، كما يستثمِر الودائع الثابتة.

ولكنّ موقف البنك اللاربوي من ودائع التوفير يختلف عن موقفه من الودائع الثابتة في أمرين، كما أوضحنا ذلك في الفصل الأوّل:

أحدهما : تمكينه من السحب على ودائع التوفير متى أراد الموفِّر، خلافاً للودائع الثابتة التي يشترط فيها على المودِع أن تظلّ في حوزته مدّةً لا تقلّ عن ستّة أشهر.

والآخر : أنّ البنك اللاربوي يقتطع من كلّ وديعة توفيرٍ نسبةً معيّنةً يعتبرها قرضاً، ويحتفظ بها كسائلٍ نقدي، ولا يدخلها في مجال المضاربة والاستثمار، كما مرّ بنا في الأطروحة.

الودائع الحقيقية:

وهي عبارة عن أشياء معيّنةٍ يَوَدّ أصحابها أن يحتفظوا بها، ويتجنّبوا مخاطر السرقة والضياع والحريق ونحو ذلك، فيودعونها لدى البنك على أن يستردّوها

١٠٣

بعد ذلك بنفس مظهرها المادّي، وقد يقوم البنك لهذا الغرض بإعداد خزائنٍ خاصّةٍ ويؤجرها لعملائه، ويتقاضى لقاء ذلك أجراً منهم.

وهذه الودائع هي ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل، وعلى هذا الأساس يجوز للبنك أن يأخذ أجرةً لإنجاز العملية، سواء كانت لقاءَ منفعة الخزينة الحديدية التي تحفظ فيها وديعة العميل، أو لقاءَ نفس عمل البنك في تحصينها والحفاظ عليها.

الأهمّية الاقتصادية للودائع المصرفية

تتلخّص الأهميّة الاقتصادية للودائع المصرفية في البنوك القائمة في النقاط الثلاث التالية:

١ - إنّ الودائع المصرفية بالرغم من أنّها مجرّد قيدٍ في سجّلات البنك يتضمّن حساباً لأحد العملاء تعتبر وسيلةً هامّةً من وسائل الدفع، لِمَا تحيط بها من الضمانات القوية المشتقّة من عنصر الثقة في البنوك وإن لم يعترف لها القانون بصفة النقد في التداول، ولهذا ليس هناك إجبار على قبول الوفاء بها، كما هو الحال في النقود الأخرى، ولكنّ عدم اعترافه هذا لم يمنع عن اتّساع نطاق التعامل بالودائع المصرفية، وذلك بنقل ملكيّتها من شخصٍ لآخر عن طريق استعمال الشيكات، وبذلك تزداد وسائل الدفع في المجال التجاري والاقتصادي.

٢ - إنّ الودائع المصرفية تمثِّل على الأغلب أموالاً كانت عاطلةً قبل إيداعها إلى البنك، وأتيح لها عن طريق إيداعها في البنك دخول مجال الإنتاج والاستثمار على شكل قروضٍ مصرفيةٍ لرجال الأعمال، وبذلك أصبح بإمكانها أن تساهم بدور كبيرٍ في إنعاش اقتصاد البلاد ونموّه الصناعي والتجاري.

٣ - إنّ الودائع المصرفية تمنح البنك القدرة على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر

١٠٤

من كمّية تلك الودائع، والائتمان يخلق بدوره الوديعة المصرفية أيضاً، وهكذا تزداد بهذا الشكل كميّة الودائع المصرفية، وبالتالي تكثر وسائل الدفع التي تعوَّض عن النقود، وكلّما كثرت وسائل الدفع اتّسعت الحركة التجارية ونمت.

ويجب أن نحدِّد موقف الشريعة الإسلامية، وبالتالي وضع البنك اللاربوي تجاه هذه النقاط الثلاث.

الودائع المصرفية وسائل دفع:

أمّاالنقطة الأولى فبالإمكان أن تعتبر الودائع المصرفية وسائل دفعٍ عن طريق استعمال الشيكات. ونظراً إلى أنّ وسيلة الدفع هي نفس الوديعة المصرفية لا الشيك، وإنّما الشيك مجرّد أمرٍ بالسحب على الرصيد المودَع، والوديعة ليست إلاّ ديناً في ذمّة البنك للمودِع فاتّخاذها وسيلةَ دفع يعني اتّخاذ الدَين وسيلةَ دفع ن ولهذا يصبح استعمال الودائع بدلاً عن النقود جائزاً في الحدود التي يجوز التعامل ضمنها بالدَين. ولكي نعرف هذه الحدود نقسّم التعامل بالدَين إلى قسمين:

أحدهما : التعامل به كأسلوب لوفاء دَينٍ آخر عن طريق الحوالة، فالمَدين يمكنه أن يُحيل دائنه على مدينه، وبذلك يكون قد استخدم الدَين الذي يملكه في وفاء دائنه وإبراء ذمّته من ناحيته، وهذا صحيح شرعاً كما تقدّم، وبذلك يجوز استعمال الشيك كأداة وفاء.

والآخر : التعامل به كوسيلة دفعٍ ينصّب عليها العقد مباشرة، كأن يشتري الدائن بالدَين الذي يملكه في ذمّة مَدينه بضاعةً، أو يهب ذلك الدين لشخصٍ آخر، وهذا التعامل يُحكم بصحّته أحياناً ويُحكم ببطلانه أحياناً من الناحية الشرعية.

فمثلاً: شراء الدائن بضاعةً بما يملكه من دَينٍ في ذمّة مَدينه صحيح شرعاً

١٠٥

إذا لم تكن البضاعة المشتراة مؤجّلة، وإلاّ بطل الشراء ؛ لأنّه يكون من بيع الدَين وهو باطل.

ومثال آخر: هبة الدائن للدَين الذي يملكه في ذمّة شخصٍ آخر صحيحةٌ شرعاً إذا كان الموهوب له نفس المَدين، وأمّا إذا كان شخصاً آخر فالهبة باطلة عند من يرى من الفقهاء أنّ قبض الموهوب له للمال الموهوب شرط في صحة الهبة، فلا يجوز للموهوب له، على هذا، التصرّف في الدَين الذي وهبه له الدائن قبل الوفاء وقبض الدائن له، أو قبض الموهوب له بالوكالة عن الدائن.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ التعامل بالشيك كأداة وفاءٍ لدَينٍ سابقٍ صحيح شرعاً. وأمّا التعامل به كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً لكي تكون الوديعة المصرفية نفسها هي موضع التعامل، فهذا يصحّ أحياناً، ولا يصحّ أحياناً.

ولكنّ التعامل بالشيك كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً يعتبر باطلاً دائماً إذا كان السحب بالشيك من دون رصيدٍ دائنٍ للساحب ؛ إذ لا يوجد عندئذٍ للساحب شيء حقيقيّ يملكه ممّا يعبّر عنه الشيك لكي به بضاعةً مثلاً أو يهبه. ورصيد المدين في حسابه الجاري ليس إلاّ مجرّد قرضٍ من البنك، والقرض لا يملكه المقترض إلاّ بالقبض، فلا معنى للتعامل به وهبته وشراء بضاعةٍ به مثلاً قبل أن يقبض مباشرةً أو توكيلاً.

والغالب من التعامل بالشيكات في الحياة الاعتيادية هو التعامل بالشيكات كأداة فاء، وهو صحيح لِمَا عرفت.

دور البنك اللاربوي في توظيف الأموال العاطلة:

وأمّاالنقطة الثانية ، وهي أنّ البنك يؤدّي بنشاطه إلى تجميع الأموال العاطلة وتوظيفها، فسوف تظلّ صادقةً على البنك اللاربوي كما صدقت على البنوك

١٠٦

الربوية. وإنّما الفارق بينهما في أسلوب التوظيف، فبينما يتمّ التوظيف في البنوك الربوية على أساس إقراض المستثمِرين يتمّ في البنك اللاربوي على أساس المشاركة معهم عن طريق المضاربة.

خلق الائتمان بدرجةٍ أكبرَ من كمّية الودائع:

وبالنسبة إلىالنقطة الثالثة ، وهي قدرة البنك على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع، يجب أن نتساءل: هل يتاح للبنك اللاربوي أن يخلق الائتمان، وبالتالي الدائنية، بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع الموجودة لديه فعلاً ؟

والجواب بالإيجاب، ولكن على شرط أن تكون الدائنية التي يخلقها البنك مستندةً إلى سببٍ شرعيّ، لا إلى سببٍ غير مشروع. ولتمييز السبب المشروع من غيره نقارن بين الحالات الثلاث التالية:

١ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك هي (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم إليه شخصان يطلب كلّ واحدٍ منهما قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، وحيث إنّ البنك يعلم أنّهما سوف يودِعان ما يقترضانه لديه مرّةً أخرى وسوف لن يسحبا ودائعهما معاً في وقتٍ واحدٍ، فهو يرى أنّه بإمكانه أن يلتزم لكلّ واحدٍ منهما بقرضٍ قدره (١٠٠٠) دينار، وبذلك يعتبر نفسه دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار بينما ليس لديه في خزائن ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٢ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم شخص طالباً قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، فيقرضه البنك المبلغ المطلوب ويتسلّفه المقترِض ويدفعه إلى دائنه وفاءً لدينه، فيتسلّمه الدائن ويودِعه بدوره في البنك، فيتقدّم شخص آخر طالباً اقتراض (١٠٠٠) دينارٍ من البنك فيقرضه ويدفع إليه المبلغ، وبذلك يصبح البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار، بينما لم يكن لديه في خزانة

١٠٧

ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٣ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فتتقدّم إليه حوالتان من شخصين ليس لهما أيّ رصيدٍ لديه، كلّ منهما يحوِّل دائنه على البنك ب- (١٠٠٠) دينارٍ، والبنك يعرف أنّه إذا قبل الحوالتين معاً فسوف لن يتعرّض لخطر المطالبة ب- (٢٠٠٠) دينار ؛ لأنّ الدائَنين سوف لن يسحبا دَينَهما في وقتٍ واحد، وعلى هذا الأساس يتقبّل البنك كلتا الحوالتين، فيصبح بذلك دائناً لكلٍّ من المحوِّلَين ب- (١٠٠٠) دينار، ويتقاضى فوائد (٢٠٠٠) دينارٍ من القرض، بينما لم يكن لديه إلاّ (١٠٠٠) دينارٍ من الودائع.

ونحن إذا فحصنا هذه الحالات الثلاث وجدنا أنّ دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ في الحالة الأولى نشأت من قرضين التزم بهما لشخصين، ولكنّ القرضين لم يتوفّر فيهما القبض اللازم شرعاً في كلّ قرض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين لم يحصل من البنك إلاّ على مجرّد الالتزام له ب- (١٠٠٠) دينار، أي على قيدٍ في رصيده المَدين فيعتبر القرض باطلاً، وبالتالي لا يعتبر البنك دائناً للشخصين ب- (٢٠٠٠) دينار، وإنّما يعتبر دائناً بالقدر الذي يتمّ تسليمه لهما من المبلغ.

وفي الحالة الثانية نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ من قرضَين أيضاً، غير أنّ القرضَين هنا يتوفّر فيهما القبض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين قد قبض المبلغ الذي اقترضه كاملاً، فيعتبر القرضان صحيحين، ويكون البنك دائناً شرعاً ب- (٢٠٠٠) دينار.

وفي الحالة الثالثة نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين من قبوله بحوالتيهما، لا من عقد القرض، والحوالة صحيحة شرعاً، فيعتبر البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين ومديناً في نفس الوقت ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لدائني المحوِّلَين.

١٠٨

ويتّضح ممّا سبق أنّ دائنية البنك بأكبرَ من الكمّية الموجودة من الودائع لديه فعلاً أمر جائز شرعاً إذا وجد السبب الشرعيّ للدائنية، وهو الإقراض الذي يتوفّر فيه قبض المقرِض المبلغ كما في الحالة الثانية، أو قبول الحوالة كما في الحالة الثالثة. وأمّا إذا لم يتحقّق السبب الشرعيّ للدائنية من إقراضٍ مع القبض، أو قبول الحوالة، أو غيرهما من الأسباب الشرعية فلا مبرِّر للدائنية كما في الحالة الأولى، فإنّ مجرّد التزام البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لكلٍّ من الشخصَين وتقييد المبلغ في الرصيد المَدين لحسابه الجاري في سجلاّته الخاصّة لا يخلق دَيناً ودائناً ومَديناً.

ويجب أن يعلم بهذا الصدد أنّنا حين نؤكِّد على بطلان القرض في الحالة الأولى لعدم توفّر القبض، ونربط صحة القرض بقبض المبلغ المقترَض، لا نريد بالقبض فصله نهائياً عن البنك المقرِض، بل بإمكان العميل الذي يطلب قرضاً قدره ألف دينارٍ مثلاً أن يقبض هذا المبلغ ثمّ يودِعه في حسابه الجاري في البنك، ويكون القرض في هذه الحالة صحيحاً ؛ لأنّه قرض مقبوض.

وقد يقال: إنّ العميل بإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في البنك يكون قد أقرضه للبنك ؛ لأنّ الإيداع إقراض من الناحية الفقهية، فيصبح العميل دائناً للبنك بألف، أي بنفس قيمة المبلغ الذي اقترضه منه، وبذلك تحصل المقاصّة الجبرية بين الدَينيَن وتتلاشى دائنية البنك، وهذا يعني أنّ البنك لا يمكنه أن يحتفظ بدائنّيته لعميله ما لم ينفصل المبلغ المقترَض نهائياً عن البنك.

والجواب على هذا القول: أنّ العميل بقبضه للمبلغ مباشرةً أو توكيلاً يصبح مديناً للبنك بألف دينارٍ مثلاً، وبإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في حسابه الجاري في البنك وإن خلق ديناً جديداً له من البنك إلاّ أنّ الدَينَين لا يسقطان بالمقاصّة ؛ لأنَّ العادة في القرض الذي تسلّمه العميل من البنك أن يكون مؤجّلاً إلى مدّةٍ محدّدة، بينهما لا يكون القرض المتمثِّل في إيداع العميل للمبلغ في حسابه الجاري مؤجّلاً.

١٠٩

ولهذا لا يتمكّن العميل من سحبه متى شاء. وما دام أحد الدَينَين مؤجّلاً دون الآخر فلا تحصل المقاصّة بينهما، ولا يسقطان بالتهاتر ؛ لأنّ من شروط التهاتر اتّفاق الدَينَين في ذلك. وعلى هذا الأساس تكون دائنية البنك بألف دينارٍ شرعية، وتظلّ على شرعيّتها إذا قبض العميل المبلغ المقترَض ثم أودعه في البنك مرّةً أخرى في حسابه الجاري، ويظلّ البنك دائناً حتّى يحلّ الأجل، فتحصل المقاصّة ويسقط الدَينان بالتهاتر.

التحصيل

إنّ قيام البنوك بقبول ودائع العلاء جعلها تتصدّى لإتمام جميع التسويات التي تترتّب على ذلك بعمولةٍ أو بدون عمولة، وعلى هذا الأساس تمارس البنوك تسوية الديون عن طريق المقاصّة، أو الترحيل في الحساب دون حاجةٍ إلى تداول كمّياتٍ كبيرةٍ من العملة، وما يترتّب على ذلك من نقل وتكاليف وتعرّضٍ لمخاطر السرقة والضياع. وتتمثّل التسويات التي تقوم بها البنوك في: تحصيل الشيكات، وتحصيل الكمبيالات، والتحصيلات المستندية، وقبول الشيكات والكمبيالات.

تحصيل الشيكات:

تقدّم منّا في الحديث عن الحساب الجاري أنّ أحد أساليب الإيداع هو: أن يتقدّم أحد العملاء إلى البنك بشيكٍ مسحوبٍ لمصلحته على حساب محرّر الشيك في البنك، فيقوم البنك بخصم قيمته من حساب المسحوب عليه وترحيلها إلى حساب المستفيد بالشيك ؛ بعد التأكّد من صحة الشيك من الناحية الشكلية ،

١١٠

وتصديق قسم مراكز العملاء على وجود رصيدٍ للمحرّر يسمح بخصم قيمة الشيك منه.

والشيك قد يكون مسحوباً على نفس المركز أو الفرع الذي يقوم بتحصيله لحساب المستفيد، وقد يكون مسحوباً على فرعٍ آخر من فروع البنك، وقد يكون مسحوباً على بنكٍ آخر.

ففي الحالة الأولى نواجه في علمية تحصيل الشيك حوالةً واحدةً من محرّر الشيك لدائنه، أي المستفيد من الشيك على البنك المدَين للمحرّر.

وفي الحالة الثانية لا توجد إلاّ حوالة واحدة أيضاً ؛ لأنّ مركز البنك وكلّ فروعه لها ذمّة واحدة شرعاً لوحدة المالك والمَدين.

وأمّا في الحالة الثالثة فهناك حوالة من صاحب الشيك على البنك المسحوب عليه، والمفروض أنّ الذي يقوم بتحصيل الشيك هو بنك آخر، فإذا فرضنا أنّ البنك الآخر حصّل قيمة الشيك من البنك الأوّل بتسجيل قيمة الشيك في الرصيد المَدين للبنك الأوّل في سجلاّته لكي يستوفي بعد ذلك بالمقاصّة، فإنّ معنى ذلك أنّ البنك الأول الذي أصبح بتحرير الشيك عليه مَديناً للمستفيد من الشيك بقيمته قد أحال المستفيد من الشيك - ضمناً أو إجازةً - على البنك الآخر، مديناً كان البنك الآخر للأول أو بريئاً، وهذه حوالة ثانية، فعملية التحصيل حينئذٍ تتمّ خلال حوالتين.

ويمكن تكييف العملية نفسها على أساس حوالةٍ وبيع. أمّا الحوالة فهي حوالة صاحب الشيك للمستفيد على البنك المسحوب عليه، وبموجب هذه الحوالة يصبح المستفيد مالكاً لقيمتها في ذمّة البنك المحوَّل عليه.

وأمّا البيع، فيمارسه المستفيد نفسه بعد أن أصبح مالكاً لقيمة الشيك في ذمّة البنك المسحوب عليه، إذ يبيع ما يملكه في ذمّة ذلك البنك بإزاء مبلغِ نقديّ

١١١

يتسلّمه من البنك الذي دفع إليه الشيك لتحصيله، ويكون هذا من بيع الدين. وسواء كيَّفنا العملية فقهياً على أساس أنّها حوالتان أو حوالة بدَينٍ ثمّ بيع الدَين، فإنّ كلّ ذلك صحيح وجائز شرعاً.

وهل بإمكان البنك من الناحية الشرعية أن يتقاضى عمولةً - أجرة - على تحصيل الشيك ؟

وللجواب على هذا السؤال يجب أن نميِّز بين الحالات المتقدّمة: ففي الحالة الثالثة التي كيّفنا فيها العملية على أساس حوالتين متعاقبتين يجوز للبنك المحصّل أن يأخذ من المستفيد أُجرةً على قيامه بتحصيل قيمة الشيك له عن طريق اتّصاله بالبنك المسحوب عليه وطلب تحويل قيمة الشيك عليه(١) .

وأمّا في الحالة الأولى فساحب الشيك على البنك إمّا أن يكون قد سحبه على رصيده الدائن، أو سحبه لحسابه الجاري على المكشوف مع البنك. فإن كان قد سحبه على رصيده الدائن فالحوالة تصبح من الحوالة على مَدين، والحوالة على مَدينٍ ليست بحاجةٍ إلى قبول المَدين للحوالة، بل تنفذ بمجرّد سحب الشيك عليه، ويكون البنك مَديناً للمستفيد ويجب عليه وفاء دينه أو إضافته إلى رصيده الدائن، ولا يمكن للمَدين أخذ أجرة على وفاء دائنه. ويستثنى حالة ما إذا شرط البنك على كلّ دائن حين تولّد دينه أن لا ينقل ملكية الدَين عن طريق الحوالة إلاّ

____________________

(١) نقصد هنا دراسة إمكان أخذ العمولة من وجهة نظر الفقه الإسلامي. وأمّا ما هو واقع في البنوك الربوية، فهو عدم أخذ عمولةٍ على تحصيل الشيك إلاّ إذا كان مسحوباً على بنكٍ أو جهةٍ في بلدٍ آخر غير البلد الذي يوجد فيه البنك المحصِّل للشيك. وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ بنكٍ آخر يقوم كالبنك اللاربوي لا يمكن له من الناحية الواقعية أن يفرض أجرة على تحصيل الشيك إلاّ في الحدود المتّبعة في الواقع المعاش. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٢

بإذنه، وحينئذٍ يكون بإمكان البنك أن يأخذ أجرة وعمولةً في مقابل قبوله بالحوالة وإسقاطه الشرط.

وأمّا إذا كان الساحب قد سحب قيمة الشيك من حسابه الجاري على المكشوف فالشيك في هذه الحالة يعني الحوالة على بريء الذمّة، والبريء يمكنه أن لا يقبل الحوالة إلاّ بأجرٍ من المحوِّل، أي المستفيد من الشيك، وليس ذلك من الفائدة التي يتقاضاها الدائن من المَدين ؛ لأنّ الأجر هنا يتقاضاه المَدين من الدائن في مقابل قبوله للحوالة وبأن يصبح مَديناً.

وهكذا يتلخّص: أنّ العمولة على تحصيل الشيك جائز إذا كان الشيك مسحوباً على بنكٍ آخر غير البنك المحصّل، أو على البنك المحصّل دون رصيدٍ دائنٍ للساحب. وأمّا إذا كان مسحوباً على البنك المحصّل مع رصيدٍ دائنٍ للساحب، فلا يجوز للبنك أخذ العمولة على تحصيل قيمة الشيك من المستفيد إلاّ في حالة ارتباط البنك مع عملائه الدائِنين منذ البدء بقرارٍ يقضي بعدم التحويل عليه بدون إذنه.

وقد درسنا حتّى الآن حكم العمولة في الحالة الثالثة والأولى، أي في حالة كون البنك المسحوب عليه غير البنك المحصّل (وهذه هي الحالة الثالثة)، وفي حالة كون الشيك مسحوباً على نفس البنك ونفس الفرع الطالب من قبل المستفيد بتحصيل قيمة الشيك (وهذه هي الحالة الأولى).

وبقي علينا أن نعرف حكم العمولة في الحالة الثانية، وهي: ما إذا كان المسحوب عليه الشيك فرع البنك في البصرة مثلاً، والمطالب بتحصيل قيمة ذلك الشيك هو فرع نفس البنك في الموصل، فهل بإمكان الفرع في الموصل أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك ؟

إنّ الفروع تمثّل وكلاء متعدّدين لجهةٍ واحدةٍ وهي أصحاب البنك، فكلّ

١١٣

فرعٍ هو وكيل للجهة العامة التي تملك البنك، وكل رصيدٍ دائنٍ في فرعٍ من فروع البنك هو في الحقيقة دَين على تلك الجهة العامة، فصاحب الشيك على فرع البنك في البصرة هو دائن لتلك الجهة بحكم إيداعه مبلغاً معيّناً من النقود لدى فرع البصرة وفتحه حساباً جارياً عنده، فإذا سحب شيكاً على فرع البصرة لصالح دائنه فقد حوّل في الحقيقة دائنه على الجهة العامة التي تمثّلها الفروع جميعاً، وهو من الحوالة على مَدين، ولكنّ تلك الجهة العامة غير ملزمةٍ بدفع الدَين إلى المستفيد إلاّ في نفس المكان الذي وقع فيه عقد القرض بين الساحب وبينها، أي البصرة ؛ لأنّ المفروض أنّ الحساب الجاري للساحب مفتوح مع فرع البصرة، فلا يلزم على الجهة التي تمثّلها كلّ فروع البنك أن تسدِّد الدَين المحوَّل عليها إلاّ في نفس مكان الفرع الذي وقع قيه القرض، أي الإيداع وفتح الحساب الجاري.

وعلى هذا الأساس يصبح بإمكان البنك - إذا طولب فرعه في الموصل بخصم قيمة الشيك المسحوب من عمليه على فرعه في البصرة - أن يطالب بعمولة وأجرة لقاءَ تسديد الدَين في غير المكان الذي وقع فيه عقد القرض - الإيداع - بينه وبين العميل الساحب للشيك.

التحصيل المستند:

قد يستغني المصدَّر للبضاعة عن الاعتماد الذي يطلب المستورِد فتحه لصالح المصدِّر عادةً ثقةً منه بالمستورد، وتعويلاً على وعده الشخصي بتسليم الثمن عند تسليم مستَندَات البضاعة. وفي هذه الحالة يقدِّم المصدِّر إلى مصرفه المستندات المتّفق عليها بينه وبين المستورد، ويتولّى البنك إرسال هذه المستندات إلى مراسله في بلد المستورد، ويطلب منه تسليم مستندات الشحن

١١٤

إلى المستورد مقابل دفع ثمن البضاعة، وعندما يسدّد المستورد يُخطر البنك المراسل بنكَ المصدِّر بما يفيد تحصيل القيمة وقيدها في الحساب الجاري له.

وهذه خدمة جائزة يقوم بها البنك بقصد تسهيل التبادل التجاري، ومؤدّاها توسّط البنك في إيصال مستندات الشحن إلى المستورد عن طريق مراسله في بلد ذلك المستورد وتسلّم الثمن عن طريق المراسل، ونظراً إلى أنّ الثمن الذي يتسلّمه المراسَل يدخل في الحساب الجاري لبنك المصدِّر لدى البنك المراسَل فهذا يعني أنّ بنك المصدّر يقرض هذا المبلغ ويودعه في حسابه الجاري لدى المراسَل، أي يقرضه للبنك المراسَل ثمّ يقوم بتسديد دَينه للمصدِّر بدفع قيمة الثمن إليه نقداً، أو إن شاءَ اكتفى بتقييده في حسابه الجاري باعتباره دَيناً للمصدِّر على البنك ؛ لأنّ كلّ دَينٍ للعميل على البنك يمكن أن ينشئ إيداعاً جديداً في الحساب الجاري.

وللبنك أن يأخذ عمولةً من المصدِّر لقاءَ قيامه بخدمة التوسّط في إيصال المستندات وتسلّم الثمن عن طريق مراسَله في الخارج، كما أنّ له أن يقيّد على المصدِّر ما تحمّله من نفقات، كأجرة البريد ونحوها ممّا يتطلّبه من التوسّط المذكور ؛ لأنّ هذا التوسط تمّ بأمر المصدِّر فيتحمّل ضمان ما أنفق لأجله.

كما أنّ البنك الذي يقوم بالتحصيل يتحمّل عادةً فائدةً من قبل البنك في بلد المصدِّر خلال الفترة من شحن البضاعة حتى تسليمها للمستورد، وهو يقوم بتحميلها بدوره على المستورد، وهذا جائز أيضاً ؛ لأنّ الفائدة التي يحمِلها بنك المصدِّر على البنك الذي يقوم بتحصيل الثمن، مهما كانت أسبابها غيرُ مشروعة، إنّما تفرض على البنك المحصّل لقيامه بالوساطة بين المصدّر والمستورد، فبإمكان البنك المحصّل أن يمتنع عن القيام بالتحصيل ما لم يلتزم المستورد بتحمّل تلك الفائدة ويتعهّد بتدارك ما تكبّده من خسارة.

١١٥

عمليات التحويل الداخلي:

إذا اتّفق أنّ شخصاً في بلدٍ أصبح مَديناً لشخصٍ في بلدٍ آخر فبإمكانه بدلاً عن إرسال شيكٍ إليه بالبريد مثلاً أن يستعمل طريقة الحوالة المصرفية، وهي عبارة عن أمرٍ كتابيٍّ يصدِّره العميل المَدين إلى البنك لدفع مبلغٍ من النقود إلى شخصٍ آخر في جهةٍ أخرى، فيتولّى البنك المأمور الاتّصال بفرعه أو مراسله في الجهة المحدّدة لتنفيذ أمر عمليه، ويتّصل الفرع أو البنك المحوَّل إليه حينئذٍ بالمستفيد طالباً منه الحضور إلى البنك لتسلّم قيمة الحوالة، أو يقوم البنك بنفسه بتقييد المبلغ في الحساب الجاري للمستفيد إذا كان هذا الحساب موجوداً وإرسال إشعارٍ بذلك إلى المستفيد.

ويمكن تكييف هذا التحويل من الناحية الفقهية على عدّة أوجه:

فأولاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من العميل المحوِّل لاستيفاء دَينه الذي له ذمّة البنك، فبدلاً عن أن يطالبه بدفع قيمة الدَين إليه فوراً يطلب منه تسديد الدَين عن طريق دفع قيمته إلى المحوِّل إليه الدائن للمحوِّل ؛ لكي تبرأ بهذا الدفع ذمّة البنك تجاه المحوِّل وذمّة المحوِّل تجاه المحوَّل إليه.

وثانياً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من البنك المأمور بالتحويل لتسديد الدين الثابت للمحوَّل إليه على المحوِّل ؛ وذلك عن طريق الاتّصال بفرعه أو مراسله وأمره بدفع قيمة ذلك الدين، ونظراً إلى أنّ ذلك وقع بطلبٍ من الآمر بالتحويل المَدين فيصبح هذا الآمر ضامناً للبنك قيمة الدَين الذي سدّده عنه، وتحصل المقاصّة بين دَائنيّة البنك الآمر بالتحويل نتيجةً لتسديد دَينه ودائنيّة الآمر للبنك المتمثّلة في رصيده الدائن.

١١٦

وثالثاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي(١) . فالآمر بالتحويل مَدين، والمستفيد من الحوالة دائن، فذاك يحيل هذا على البنك المأمور بالتحويل، فيصبح البنك بموجب هذه الحوالة مَديناً للمستفيد، وهو بدوره قد يحيل المستفيد على بنكٍ آخر مراسلٍ له في البلد الذي يقيم فيه المستفيد، فتتمّ بذلك حوالة ثانية يصبح بموجبها البنك المراسل مَديناً للمستفيد. وقد يكون للبنك الأوّل فرع يمثّله في بلد إقامة المستفيد فيتّصل به ويأمره بالدفع، ولا يكون هذا حوالةً ثانية ؛ لأنّ الفرع ممثّل للبنك المَدين، وليس له ذمّة أخرى ليحال عليها الدَين من جديد.

ورابعاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي، ولكنّ المحوِّل ليس هو الآمر بالتحويل كما فرضنا في التفسير السابق، بل البنك المأمور بالتحويل نفسه بوصفه مَديناً للآمر بما له من رصيدٍ دائنٍ في ذلك البنك، فيحيله على مراسله في بلد إقامة المستفيد، فيصبح البنك المراسل هو المدين للآمر بالتحويل، فيقوم الآمر بالتحويل بدوره بإحالة دائنه المقيم في بلد البنك المراسل على ذلك البنك، ويكلِّف البنك الذي يتعامل معه بتبليغه ذلك.

والأكثر انسجاماً مع واقع العملية كما تجري فعلاً هو التفسير الثالث دون التفاسير الثلاثة الأخرى ؛ لأنّ التفسيرين الأوَّلَين لا يجعلان المستفيد من الآمر بالتحويل دائناً بالفعل للبنك المراسل، وإنّما هو مخوَّل في أخذ قيمة دينه منه، فلا يتاح له أن يأمره بترحيل القيمة إلى حسابه دون قبض، خلافاً للتفسير الثالث الذي تتمّ فيه دائنيّة المستفيد بمجرّد قبوله للتحويل.

____________________

(١) راجع الملحق (٦) للتوسّع من الناحية الفقهية في تبرير أخذ العمولة على تحصيل الشيك في هذه الحالة. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٧

كما أنّ التفسير الرابع لا ينطبق على حالة ما إذا كان المراسل للبنك المأمور بالتحويل فرعاً له؛ إذ في هذه الحالة لا معنى لأنْ يحوِّل البنك المأمور دائنه عليه. وعلى أيّ حالٍ فالعملية صحيحة وجائزة شرعاً.

أخذ العمولة على التحويل:

عرفنا سابقاً أنّ البنك يجوز له أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على بنكٍ آخر أو فرعٍ آخر، ولا يجوز أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على الرصيد الدائن للساحب في نفس البنك والفرع الذي يقوم بالتحصيل إلاّ في حالات اشتراطٍ معيّنة. ونريد أن نعرف الآن حكم العمولة على التحويل، فهل يجوز للبنك أن يتقاضى عمولةً من المحوِّل على التحويل ؟

والجواب بالإيجاب مهما كان التخريج الفقهي لعميلة التحويل.

وتفصيل ذلك : أنّ عملية التحويل إذا كانت تعني أنّ البنك يريد أن يسدّد الدَين الذي عليه للآمر بالتحويل عن طريق دفعه إلى دائنه - كما تقدّم في الوجه الأوّل من أوجه التكييف الفقهي للعملية - فهو يأخذ عمولةً لقاءَ تسديده للدَين في مكانٍ آخر غير مكان القرض الذي نشأ بينه وبين الآمر بالتحويل، فالبنك وإن كان مَديناً للآمر بالتحويل، والمَدين وإن كان ملزماً بتسديد دينه دون عوض، ولكنّه غير ملزم بالدفع في أيّ مكانٍ يقترحه الدائن، فإذا أراد الدائن منه أن يسدِّد دَينه في مكانٍ معيّنٍ غير المكان الطبيعي للوفاء كان من حقّ البنك أن يتقاضى عمولةً على ذلك.

وإذا كانت عملية التحويل تعني محاولة البنك المأمور لتسديد دين المستفيد على الآمر - كما مرّ في الوجه الثاني لتكييفها الفقهي - فمن الواضح أنّ هذه الخدمة

١١٨

يؤدّيها البنك لعميله ويتقاضى عليها عمولة، وقيمة هذه الخدمة هي عبارة عن قيمة المبلغ المدفوع وفاءً عن ذمّة الآمر بالتحويل زائداً قيمة دفعه في مكانٍ آخر لم يكن ليتيسّر للآمر بالتحويل الدفع فيه إلاّ بنفقات.

وإذا كانت عملية التحويل تقوم على أساس الحوالة، بأن يُحيل الآمر بالتحويل دائنَه الموجود في بلدٍ آخر على البنك كما مرَّ في الوجه الثالث للتكييف الفقهي، فالآمر بالتحويل:

إمّا أن يكون حسابه مع البنك على المكشوف.

وإمّا أن يكون له رصيد دائن يتمثّل في حسابٍ جارٍ مع البنك.

وإمّا أن يكون قد تقدّم الآن حين أراد التحويل بمبلغٍ من النقود ليسلّمها إلى البنك ويكلّفه بالتحويل.فإن كان حسابه على المكشوف، فالبنك بريء، والحوالة حوالة على بريء.

وإن كان له رصيد دائن سابق، فالبنك مَدين والحوالة على مَدين، وفي كلتا الحالتين يجوز للبنك أن يأخذ عمولةً حتى لو كان مَديناً ؛ لأنّه غير ملزمٍ بقبول الدفع في مكانٍ آخر، والحوالة على المدين لا تعني إلزامه بالدفع في مكانٍ معيّنٍ لم يفرضه عقد القرض الذي نشأت مَدينيّته على أساسه، فيأخذ البنك عمولةً لقاءَ الدفع في مكانٍ معيّن.

وأمّا إذا تقدّم الآمر بالتحويل بالمبلغ فعلاً إلى البنك، فهذا يعني أنّ عقد القرض سوف ينشأ فعلاً، ويصبح البنك بموجبه مديناً والآمر بالتحويل دائناً ؛ لكي يُتاح له توجيه الآمر إلى البنك، وفي هذه الحالة يمكن للبنك أن يشترط في عقد القرض على الآمر بالتحويل أن لا يحيل الآمر دائنه عليه إلاّ بإذنه، أو إلاّ إذا دفع إليه عمولةً معيّنة، وهو شرط سائغ ؛ لأنّه لمصلحة المَدين على الدائن، لا العكس.

١١٩

وأخيراً، إذا كانت عملية التحويل قائمةً على أساس الوجه الرابع في تكييفها، وهو أن البنك المأمور هو المحوّل لعملية الآمر باعتباره دائناً له على بنكٍ مراسلٍ له في بلدٍ آخر، فيجوز للبنك أن يأخذ العمولة وإن كان مديناً ؛ لأنّ المدين غير ملزمٍ بهذا النوع من الوفاء، بل يمكنه تسديد الدَين بدفعه نقداً، فإذا أراد الدائن منه هذا النوع الخاصّ من الوفاء أمكنه الامتناع ما لم تدفع إليه عمولة خاصّة(١) .

التحويل المقترن بدفع مبلغٍ من النقود:

تقدّم أنّ الآمر بالتحويل قد يكون له رصيد سابق لدى البنك المأمور بالتحويل، وقد ينشأ القرض بينهما فعلاً تمهيداً لإنجاز عملية التحويل ؛ بأن يدفع الآمر بالتحويل فعلاً قيمة التحويل نقداً إلى البنك ويأمره بالتحويل، فينشأ عقد القرض في هذه الحالة، وهو جائز كما تقدّم، ويجوز للبنك أن يأخذ عمولةً لقاءَ قبوله بالدفع في مكانٍ آخر، أو بحكم شرطٍ يدرجه في نفس عقد القرض يفرض فيه على الدائن أن لا يوجّه إليه تحويلاً إلاّ بإذنه.

التحويل لأمره:

قد يريد شخص أن يحصل على مبلغٍ من النقود في بلدةٍ أخرى، فيدفع إلى البنك في البلدة الأُولى قيمة المبلغ نقداً، ثمّ يتسلّمه في البلدة الأخرى من أحد فروع البنك أو من بنكٍ آخر مراسل.

____________________

(١) راجع للتوسّع في المناقشة الفقهية الملحق (٧) في آخر الكتاب. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

المسألة الثالثة: في الكراهة الاختيار

الكراهة بمعنى عدم الإيجاد، أو بمعنى عدم النقش، وربّما تأتي بمعنى منع الإلطاف، وإيجاد المانع أيضاً، ولعلّ قوله تعالى: ( وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ) (١) بالمعنى الثالث، وأمّا على المشهور فالكراهة بمعنى العلم بعدم المصلحة.

وأمّا الفرق بين الإرادة والاختيار، فهو أنّ الاختيار إيثار لأحد الطرفين وميل إليه، أو التمكّن منه، والإرادة هي القصد إلى إصدار ما يؤثره ويميل إليه، فكأنّ المختار ينظر إلى الطرفين ويميل إلى أحدهما، والمريد ينظر إلى الطرف الذي يميل إليه، هذا في الشاهد، وأمّا في الباري تعالى فيشبه أن يكون كلاهما واحداً، كما في الشوارق وغيرها.

ولكن على طريقتنا الحقّة الإرادة هي الإيجاد الإفاضة، والاختيار هو التمكّن من الفعل والترك، فالفرق بينهما ظاهر جداً. وللاختيار معنى آخر وهو الترجيح، وهذا عين الإيجاد الذي هو معنى الإرادة، فلا تغفل.

وسيأتي أنّ بعض أصحاب الحكمة قد خلطوا بين المعنيين واشتبه عليهم الاختيار، بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، والاختيار بمعنى الترجيح.

المسألة الرابعة: في الإرادة التكوينية والتشريعية

قسّموا الإرادة إلى: التكوينية والتشريعية، فالأُولى هو علمه بالنظام الأصلح، والثانية علمه بالمصلحة في فعل المكلّف، وتخلّف المراد عن الأُولى غير معقول؛ ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن العلّة، وأمّا تخلّفه عن الثانية فلا، بل هو واقع كما في الآثام والمعاصي والفسوق. ولسيدنا الأُستاذ المحقّق الحكيم - دام ظله العالي - كلام يوضّح المقام إيضاحاً تامّاً، وإليك شطر منه:

(فالإرادة التشريعية هي إرادة الشيء بلحاظ وجوده من حيث التشريع، وتقابلها الإرادة التكوينية وهي المتعلّقة بالفعل من جميع جهات وجوده، ومنه يظهر أنّ امتناع تخلّف المراد عن الإرادة، إنّما هو في المراد بالإرادة التكوينية لا التشريعية؛ إذ الثانية لم تتعلّق بالمراد من جميع جهات وجوده، وإنما تعلّقت به من جهة تشريع حكمه.... نعم لو لم يُحفظ وجود المراد من قِبل التشريع يلزم تخلّف المراد عن الإرادة، لكن المفروض حفظه كذلك بتحقّق التشريع انتهى.

وقال أيضاً: إنّ الإرادة التكوينية والتشريعية من سنخ واحد، وإنّما الاختلاف في كيفية

____________________

(١) التوبة ٩ / ٤٦.

٢٢١

التعلّق بالمراد... إلخ) (١) .

وأمّا سيدنا الأُستاذ المحقّق الخوئي - أدام الله ظله - فقد أبطل هذا التقسيم بإبطال الإرادة التشريعية؛ إذ لا يعقل تعلّق إرادته تعالى بفعل الغير الاختياري إلاّ على سبيل الجبر، فالفعل فعله تعالى لا فعل الغير، نعم لا مضايقة من هذه التسمية بلحاظ كون متعلّق الإرادة أمراً شرعياً، ففي الحقيقة الإرادة تكوينية أبداً، غير أنّ متعلّقها تارةً من التكوينيات وأُخرى من الشرعيات.

أقول: ويمكن أن نتخلّص من هذا الاعتراض بما ذكره بعض الأفاضل بقوله: للمشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينية الحقيقية، والإرادة التشريعية الاعتبارية، فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه حقيقية تكوينية، تؤثّر في الأعضاء للانبعاث إلى الفعل، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع، وأمّا الإرادة التي تتعلّق منا بفعل الغير - كما إذا أمرنا بشيء أو نهينا عن شيء - فإنّها إرادة بحسب الوضع والاعتبار، لا تتعلّق بفعل الغير تكويناً... إلخ (٢) .

فالشوق وإن يتعلّق بالملائم بشكل واحد، سواء كان الملائم المذكور فعل نفسه أو غيره، إلاّ أنّ الإرادة وهي القصد لا تتعلّق إلاّ بأمره ونهيه، لا بفعل الغير إلاّ بحسب الاعتبار، ولعلّ هذا هو مراد الجميع فلا اختلاف في المقام؛ إذ مركز النفي غير مركز الإثبات فافهم.

ومنه يظهر جواز تخلّف المراد عن إرادته التشريعية دون التكوينية، فإنّ عمل المكلّف مراد بالاعتبار لا واقعاً، والذي يكون مراداً واقعاً هو التشريع، وتخلّفه عنها محال، فإنّها بالنسبة إليه تكوينية.

لكن يشكل بأنّ إرادة الله - التي هي نفس الإيجاد - لا يعقل تعلّقها بالتشريع الذي ليس إلاّ اعتبار الفعل على ذمة المكلّف، فإنّه اعتباري صرف، فكيف يصحّ أن يتعلّق الإيجاد بشيء غير موجود؟

هذا، ويمكن أن يقال: إنّ الإرادة بمعنى الإيجاد لا تُقسّم بهذا التقسيم، وإنّما الإرادة بمعنى النقش في اللوح هي التي تنقسم إليهما، فإنّ المنقوش إن كان أمراً تكوينياً فهي الإرادة التكوينية، وإن كان حكماً شرعياً فهي الإرادة التشريعية، فتدبّر في المقام والله ولي الإفضال.

المسألة الخامسة: في القدر

قال في مجمع البحرين: فالقدر - بالفتح فالسكون - ما يقدّره الله من القضاء، وبالفتح ما

____________________

(١) حقائق الأُصول ١ / ١٥٢.

(٢) أُصول الكافي ١ / ١٥١، الحاشية.

٢٢٢

صدر مقدوراً عن فعل القادر... إلخ (١) .

وفي مختار الصحاح: قدّر الشيء مبلغه.

قلت: وهو بسكون الدال وفتحها، ذكره في التهذيب والمجمل، وقَدر الله وقدّره بمعنى، وهو في الأصل مصدر.. والقدر أيضاً ما يقدّره الله من القضاء. إذا تقرّر ذلك فالكلام يقع فيه من جهات:

الأُولى: في عموم تعلّقه بكلّي شيء، وهذا ممّا لا يحتاج إلى دليل؛ إذ كلّ شيء لابدّ له من حدّ خاصّ من جميع الجهات بلا شك، وقد مرّ أنّ كلّ شيء - بجميع حالاته وأوصافه - ثابت في علم الله ومذكور في اللوح.

ولا نعني بالقدر إلاّ تحديد الشيء من جميع جوانبه، فقد ثبت أنّ كلّ شيء بقدر الله سبحانه، ولعلّه المومأ إليه بقوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٢) ، وقوله تعالى: ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) (٣) ، وأمّا ما في تفسير الرازي من احتمال كون القدر في الآية الأُولى بمعنى التقدير، أو المقدار، أو القدر المقابل للقضاء فمن الفضول؛ إذ المقدار والتقدير عين معنى القدر، الذي هو مقابل للقضاء كما عرفت، وهو المدلول عليه لبعض الروايات أيضاً (٤) .

الثانية: في أنّ النهي الوارد عن الكلام في القدر (٥) ، لا يشمل شرح مفهومه وبيان مدلوله كما فعلنا، بل الظاهر أنّه راجع إلى السؤال عن علّة تقديره تعالى وأنه لِمَ قدّر كذلك؟ وما قدّر كذا؟ فإنّ عقول الناس لا تصل إلى علل الأشياء أبداً. فوزانه وزان قوله تعالى: ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (٦) ، وهذا الذي استظهرنا هو أحد احتمالي كلام شيخنا المفيد قدّس سره (٧) في هذه المسألة.

الثالثة: في أنّه ذُمّت القدرية في أخبارنا أشدّ الذمّ، وأنّ قوله تعالى: ( ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٨) نزل في حقهم، وورد أيضاً التحريض على الإيمان بالقدر وعدم التكذيب به (٩) .

وقال الرازي عند تفسير هذه الآية: أكثر المفسّرين اتّفقوا على أنّها نازلة في القدرية...

____________________

(١) وقد تُسكّن داله، ومنه: ليلة القدر كما قال.

(٢) القمر ٥٤ / ٤٩.

(٣) الرعد ١٣ / ٨.

(٤) البحار ٥ / ٩٣ و ٩٥ و ١١٤ وغيرها.

(٥) البحار ٥ / ٩٧ و ١١٠ و ١٢٦.

(٦) الأنبياء ٢١ / ٢٣.

(٧) شرح عقائد الصدوق / ٢٠.

(٨) القمر ٥٤ / ٤٨ و ٤٩.

(٩) وهذه الروايات منتشرة في أوائل الجزء الخامس من البحار.

٢٢٣

وكثرت الأحاديث في القدرية.

وعن شارح المقاصد: لا خلاف في ذم القدرية، وقد ورد في صحاح الأحاديث، لعنَ الله القدريةَ على لسان سبعين نبياً... إلخ.

فالمسألة متسالم عليها، إلاّ أنّ الكلام في تشخيصهم، فإنّ كلاًّ من المعتزلة والأشاعرة ادّعى صاحبتهم مصداقاً للروايات، غير أنّ الرازي أراح الفرقتين من هذه المعضلة فقال في تفسيره الكبير: والحقّ أنّ القدري الذي نزل فيه الآية، هو الذي ينكر القدر، ويقول بأنّ الحوادث كلّها حادثة بالكواكب اتّصالاتها... إلخ. وأمّا القدري في هذه الأُمّة فجعله الذي ينكر قدرة الله إن قلنا: إنّ النسبة للنفي، أو الذي يثبت قدرة غير الله على الحوادث إن قلنا: إنّ النسبة للإثبات.

وقال أيضاً: والحقّ الصراح أنّ كلّ واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية، ولا يصير واحد منهم قدرياً إلاّ إذا صار النافي نافياً للقدرة والمثبت منكراً للتكليف، يعني به الجبري الذي ينفي التكليف؛ لعدم الاختيار في المكلّف.

هذا وقال العلاّمة المجلسي قدّس سره (١) : إنّ لفظ القدري يُطلق في أخبارنا على الجبري وعلى التفويضي... إلخ.

وما ذكره صحيح، فالقدرية كلّ مَن لم يستقم في قدرة الله وقدره، سواء كان في جانب التفريط كالمفوّضة، أو في طرف الإفراط كأتباع الجهم ومقلّدي الأشعري.

فإن قلت: القدري إذا كان لفظه من القدرة فهو يشمل الطائفتين المتقدّمتين، فإنّ إحداهما تقول: بكفاية قدرة العبد في أفعاله، وعدم احتياجه فيها إلى الله تعالى، وثانيتهما تقول: بتأثير قدرة الله وحده، وعدم استناد أفعال العباد إلى قدرتهم وإرادتهم.

وأمّا إذا قلنا بأنّ لفظ القدري من القدر والتقدير الذي هو مع القضاء كما هو الظاهر، فلا يرتبط بهاتين الطائفتين، فإنّهما لا ينكران تحديد الأشياء في اللوح، ولا أنّ الجبر والتفويض يستلزمان ذلك، كيف وذكر التقدير لا يزيد على علمه بالتقدير؟ فكما أنّ الثاني لا ينافيهما فكذا الأَوّل.

قلت يمكن أن يقال: إنّ القدر والقدرة متلازمان في الإنكار والإفراط، فإنّ هؤلاء يزعمون أنّ لقدر الله تأثيراً، فإذا قالوا: إنّ أفعالنا ليست بقدرة الله بل بقدرتنا، فمعناه أنّهم ينكرون تعلّق قدره بها أيضاً، وهكذا إذا قيل: إنّ كلّ شيء حتى أفعال الإنسان واقع بقدرة الله تعالى، فلابدّ لقائله أن يقول: إنّ كلّ شيء حتى فعل العبد واقع بقدره تعالى لا باختيار العبد، وهذا هو التعدّي في قدر الله تعالى.

____________________

(١) البحار ٥ / ٥.

٢٢٤

وهذا الذي ذكرنا يستفاد من مجموع الروايات الواردة، في باب نفي الجبر والتفويض، وباب القضاء والقدر، يؤيّد ذلك ما في شرح المواقف (١) : والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد، ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال، ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم، بل إلى اختيار العباد وقدرتهم انتهى.

وسيأتي في مبحث عموم إرادته، وهو مبحث الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين، أنّ جميع الأشياء واقع وِفق تقدير الله سبحانه حتى أفعال العباد خلافاً للمعتزلة، ومع ذلك العبد مختار في فعله خلافاً للأشعرية، فالقدر والقضاء لا ينافيان الاختيار كما زعموه، وهذا هو الأمر بين الأمرين، الذي ثبت من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم) وقالت به الإمامية.

والحاصل: أنّ الجبري يُسند جميع القبائح والآثام إلى قدر الله فهو قدري، والتفويضي يسند أَفعاله إلى نفسه وينكر قدره فيها، فهو قدري فتشملهم الروايات، فتأمّل.

المسألة السادسة: في القضاء

قال الصدوق رحمه‌الله (٢) : وسمعت بعض أهل العلم يقول: القضاء على عشرة أوجه: الأَوّل العلم... والثاني: الإعلام... والثالث: الحكم... والرابع: القول... الخامس: الحتم... والسادس: الأمر... السابع: الخلق... الثامن: الفعل... التاسع: الإتمام... العاشر: الفراغ... الحادي عشر: القتل كما في مجمع البحرين.

أقول: الظاهر أنّ هذه المذكورات ليست بمعانٍ موضوع لها اللفظ بالاشتراك اللفظي، بل بعضها داخل في البعض، فذكرها من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وبعضها غير ثابت في نفسه، وللفقهاء فيه اصطلاح آخر، وهو إتيان العمل المؤقّت خارج وقته، ولا يبعد أن يكون معناه الحكم الفصل تكوينياً كان أو اعتبارياً، وبهذا المفهوم الفارد يُستعمل في المعاني المذكورة، وقد عرفت أنّ معنى القضاء الذي هو من أسباب الفعل، هو كتابة الحكم البتّي - ولو من غير جهة الدعاء والصدقة ونحوهما - في اللوح.

ويدلّ على عمومه ما مرّ، ورواية حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال: (ما من قبض ولا بسط، إلاّ ولله فيه مشيئة وقضاء وابتلاء)، وروايته الأُخرى عنه عليه‌السلام قال: (إنّه ليس شيء فيه قبض أو بسط، ممّا أمر الله به أو نهى عنه، إلاّ وفيه لله عزّ وجل ابتلاء وقضاء)، وما في

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ١٤٥.

(٢) توحيد الصدوق، الباب ٥٩.

(٣) أُصول الكافي ١ / ١٥٢.

٢٢٥

آخر رواية أبان المذكورة في التوحيد وغيره (١) من قول الصادق عليه‌السلام : (وإن كان كلّ شيء بقضاء الله وقدره فالحزن لماذا؟)، والمتتّبع يجد أكثر من ذلك، والأمر سهل.

نكتة

روى الصدوق بإسناده عن ابن نباتة (٢) قال: إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: (أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّ وجلّ) انتهى.

ويشكل أَوّلاً: بأنّ وقوع الحائط عليه‌السلام لم يحرزه السائل أنّه من قضاء الله، فهو منه تخرّص، بل قضاء الله تشريعاً هو فراره من عنده، وقد أقرّه الإمام على سؤاله.

وثانياً: إنّ قضاء الله فرع قدره ومترتّب عليه والقدر أصل له، فلا مخالفة بينهما حتى يفرّ من أحدهما إلى الآخر، ويمكن أن يقال: إنّ مقصوده عليه‌السلام أنّ الله كما قضى على الحائط السقوط قدّر عمري باقياً بعد ذلك، وبالجملة كما أنّ السقوط - بعد تقديره - مقضي فكذا بقاء حياتي - قبل قضائه - مقدّر، فأفرّ من قضاء الله المتعلّق بسقوط الحائط إلى قدر الله المتعلّق بحياتي فتأمل.

تنبيه: بقي هنا شيء وهو ما اتّفقوا عليه من لزوم الرضا بالقضاء.

أقول: الكلام تارةً في أصل تصوير الرضا بالقضاء، وأخرى في لزومه، والبحث عن هذه المسألة وإن كان مربوطاً بالمقام، غير أنّا ذكرناه في مسائل الجبر والتفويض، فسيمر تفصيله عليك هناك إن شاء الله.

دقيقة

الروايات الواردة في ترغيب المكلّفين إلى الرضا بكثرتها مختصة بالقضاء دون القدر، نعم في الدعاء الذي يُقرأ ليلة الجمعة قبل فجرها: (والرضا بقضائك وقدرك).

وأمّا الروايات الواردة في الإيمان وعدم التكذيب فهي مخصوصة بالقدر، فاللازم هو الإيمان بالقدر وعدم التكذيب به، والرضا بالقضاء.

أقول: والوجه في ذلك - على ما أظن - أنّ الفعل الخارجي هو الذي يعتريه السخط والرضا، وقد مرّ أنّ القضاء هو الحكم الفصل، وهو آخر مقدمات فعله تعالى، بحيث إنّ الفعل يصدر عنه؛ فلذا أمر الأئمة عليهم‌السلام بالرضا بمناشئ الفعل الأخير المستتبع له، وبما أنّ القضاء تابع للقدر، وأنّ

____________________

(١) توحيد الصدوق، الباب ٥٩.

(٢) توحيد الصدوق، الباب ٥٩.

٢٢٦

الأصل في أفعاله هو تقديره وتدبيره، أُمروا بالإيمان به، وبما أنّ المصالح والمفاسد الواقعية غير معلومة للإنسان، مُنعوا عن الخوض فيه، والله العالم.

خاتمة حول آراء الناس في القدر والقضاء

مسألة القدر والقضاء ممّا جاءت به جميع الأديان، وليست من خصائص الإسلام كما يقيل، وهي من المسائل التي تَوجّه المسلمون إليها في الصدر الأَوّل، كما يظهر من الآثار، ثمّ اتّسعت دائرتها باتّساع الآراء والأنظار، حتى أصبحت عند الناس من المعضلات التي لا تنحل، والحال أنّ الأمر ليس كذلك كما عرفته من أئمة أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين)، لكنّ للباحثين فيها أقولاً، وإليك نبذة منها:

قال خاتم الفلاسفة في كتابه الأسفار: وأمّا القضاء فهي عندهم - أي المشّائين - عبارة عن وجود الصور العقلية لجميع الموجودات، فائضةً عنه تعالى على سبيل الإبداع دفعةً بلا زمان؛ لكونها عندهم من جملة العالَم، ومن أفعال الله المبائنة ذواتها لذاته، وعندنا صور علمية لازمة لذاته بلا جعل وتأثير وتأثّر، وليست من أجزاء العالم؛ إذ ليست لها حيثية عدمية ولا إمكانات واقعية، فالقضاء الربانية - وهي صور علم الله - قديمة بالذات باقية ببقاء الله كما مرّ بيانه.

وأمّا القدر فهو عبارة عن وجود صور الموجودات في عالَم النفسي السماوي على الوجه الجزئي، مطابقةً لِما في موادّها الخارجية الشخصية، مستندةً إلى أسبابها وعللها، واجبةً بها، لازمةً لأوقاتها المعيّنة وأمكنتها المخصوصة. انتهى.

قال الفيّاض اللاهيجي (١) : ولفظا القضاء والقدر ربّما يطلقان بحسب العلم، وربّما بحسب الوجود، فإذا أُطلقا في العلم، كان المراد من القضاء العلم الإجمالي البسيط الذي هو عين الواجب تعالى، ومن القدر الصور العلمية المفصّلة؛ وإذا أُطلقا في الوجود، كان المراد من القضاء المعلول الأَوّل، الذي اشتمل إجمالاً على جميع وجودات ما بعده، والمراد من القدر أعيان الموجودات الكلية والجزئية المتحقّقة في الخارج على سبيل التفصيل.

وعلى كلّ، القدر تفصيل للقضاء، والأقرب إلى التحقيق هو الإطلاق الثاني، أعني الإطلاق بحسب الوجود؛ إذ من الظاهر أنّ القضاء والقدر اعتباران للأشياء باعتبار تعلّق فاعلية الواجب بها، وليس العلم إلاّ اعتبار ظهور الأشياء وانكشافها؛ ولذا أنّ الشارح المحقّق - يعني به العلاّمة الطوسي - والشارح المشكّك - الرازي - كليهما فسّرا لفظ القضاء والقدر في شرح الإشارات بما يطابق الإطلاق الثاني، قال الرازي: وأمّا لفظا القضاء والقدر فنعني بالقضاء معلوله الأَوّل؛ لأنّ

____________________

(١) گوهر مراد / ٢٣٠، وما ذكرناه ترجمة كلامه بالفارسية.

٢٢٧

القضاء هو الحكم الواحد الذي تُرتّب عليه سائر التفاصيل والمعلول الأَوّل كذلك، وأمّا القدر فهو سائر المعلولات الصادرة عنه طولاً وعرضاً؛ لأنّها بالنسبة إلى المعلول تجري مجرى تفصيل الجملة وهو القدر.

وقال المحقّق الطوسي: فاعلم أنّ القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعةً ومجملةً على سبيل الإبداع، والقدر عبارة عن وجودها في موادّها الخارجية بعد حصول شرائطها مفصّلةً واحداً بعد واحد، كما جاء في التنزيل: ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (١) .

وقال الرازي في تفسيره عند قوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (٢) : وقالت الفلاسفة... إنّ ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر، فيقولون: خلق النار حارّة بقضاء وهو مقضي به؛ لأنّها ينبغي أن تكون كذلك، لكن من لوازمها أنّها إذا تعلّقت بقطن عجوز.. تحرقه فهو بقدر لا بقضاء، وهو كلا فاسد، بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة... إلخ.

وقال الجرجاني في شرح المواقف (٣) : واعلم أنّ قضاء الله عند الأشاعرة، هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، وقدره إيجاده إيّاها على قدر مخصوص، وتقدير معيّن في ذواتها وأحوالها، وأمّا عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود؛ حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام، وهو المسمّى عندهم بالعناية، التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها، والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها، على الوجه الذي تقرّر في القضاء. انتهى.

إلى غير ذلك من الكلمات والتعابير المختلفة والمتضادة، وهي ظلمات بعضها فوق بعض، ولا يكشف بها واقع القضاء والقدر، الذي أراده الدين الإسلامي من هذين اللفظين المذكورين، فهذه الأقاويل - لو صحّت في أنفسها - اصطلاحات من أربابها، ولا دخل لها بالقدر والقضاء الثابتين شرعاً، مع أنّها في أنفسها أيضاً غير تامّة، كما يعرفها المتطلّع على أصولنا الحقة المتقدّمة والآتية، والله الهادي الملهم.

____________________

(١) الحجر ١٥ / ٢١.

(٢) القمر ٥٤ / ٤٩.

(٣) شرح المواقف ٣ / ١٤٦.

٢٢٨

الفريدة الثالثة

في حكمته

براهين حكمته تعالى

تفريع وتكميل: في أدلّة النظام الأحسن الفعلي الحاضر

مسألة: في ترجيح أحد المتساويين على الآخر

٢٢٩

الفريدة الثالثة

في حكمته

الحكمة ربّما تُفسّر بالعلم بالأشياء على ما هي عليه، وحيث إنّا قد أسلفنا القول في علمه تعالى فلا نبحث عنها بهذا المعنى. وربّما تفسّر بإصدار الأشياء وإبداعها على أكمل ما ينبغي أن يصدر، وهذا المعنى هو المقصود في هذا المبحث، والإنصاف أنّه أشرف من أكثر المسائل، ومع ذلك قد تسامح فيه الكلاميون ولم يبحثوا عنه حقّ البحث.

وكيف ما كان، والذي يدلّ على إثبات حكمته بهذا المعنى، وأنّه لا يفعل إلاّ ما هو أكمل الوجوه الممكنة وأفضلها، وجوه:

الأول: إنّه تعالى عالم بجميع جهات الفعل المحسّنة والمقبّحة، وقادر على إيجاده بأيّ وجه شاء، وليس له حاجة وشهوة بشيء أصلاً، فلا مانع ولا رادع له من إتيانه أبداً، فإذا فُرض دوران الأمر بين إيجاد شيء على وجه أكمل وأسدّ ممكن، وإيجاده على وجه كامل فضلاً عن ناقص، فلا شكّ في اختياره تعالى الجانب الأَوّل بالضرورة، أَلا ترى أنّا معاشر العقلاء في مفروض المثال، نختار إيجاد الشيء على النحو الأكمل، فالأكمل بطبيعة عقولنا وخميرة فطرتنا، بلا تردد وتوقّف، فما علمك بالواجب المتعالي عن النقصان، المتكامل ذاتاً بكل الكمال؟

فإن قلت: فكيف هؤلاء العقلاء الذين يختارون اللذات الآنية، والشهوات الدنية، ويؤثرونها على الأنعام الدائمية والآلاء العظيمة؟ وكيف يرجّحون مقتضى الشهوية والغضبية على العاقلة؟ وغضب الخالق على رضاه؟

قلت: المختار لهذه الأُمور حين اختياره لا محالة يرى أرجحية فعلها من تركها وإلاّ لَما فعلها، فالجاني - لضعف عقله وغلبة شهوته أو غضبه - يعتقد في ذلك الحين أنّ جريمته أرجح من تركها، فيرتكبها ولا دخل لمفسدتها الواقعية في اختياره هذا، واعتقاده الأرجحية كما لا يخفى، فهذا السؤال غير متوجّه إلى المقام، فإنّ الإقدام على القبيح إمّا من جهة الجهل، أو الغفلة عن حقيقة الحال، أو من جهة مزاحمة الداعي، ومحل الكلام فرض انتفاء الجميع، وإن شئت فقل: إنّ اختيار الناقص بل الكامل على الأكمل في مفروض المثال، ترجيح المرجوح على الراجح، وهو ممتنع عقلاً.

٢٣٠

الثاني: إنّ إتقان أكثر أفعاله محرز، وكلّ ما يزداد في رقي العلوم ويتّسع دائرتها، يزداد في انكشاف حكمته البالغة المتحقّقة في الأشياء، ويظهر إتقان المصنوعات وإحكامها على وجه أدق، تندهش به العقول وتضطرب الأفكار، فيضطر الإنسان إلى الإقرار بحكمته، وكمال خلقته، وتمام فاعليته. فلست أن ترى ( فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) والبصيرة كرّات ( يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) (١) والبصيرة عاجزة وهي متحيّرة.

وعن هرشل: كلّما اتّسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدافعة القوية، على وجود خالق أزلي لا حدّ لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون - علماء طبقات الأرض - والرياضيون والطبيعيون، قد تعانوا وتضامنوا على تشييد صَرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده. انتهى.

فالناظر لهذه الكائنات المرموزة التي تظهر كلّ يوم عجائبها، بكراتها السامية المنظّمة الكثيرة الكبيرة، التي تخرج عن سلطان عقولنا، وبموجوداتها الأرضية البرية والبحرية إلى المكروبات الصغار، وإلى حِكم أعضاء الإنسان نفسه وإلى... وإلى... وإلى ما لا نهاية، يتيقّن - يقيناً تامّاً قوياً متأكداً وأشدّ من كلّ يقين - أنّ فاعلها وموجِدها خلق جميع أفعاله بإحكام وإتقان، كما إذا شاهدنا ماكنةً دقيقة، وعلمنا إحكام جملة من أجزائها وجهلنا إتقان بعضها، فإنّ عقلنا يحكم بإتقانه واقعاً، ولا يجعل جهله دليلاً على عدم إتقانه، فهذا الاستقراء وإن كان ناقصاً؛ ضرورة عدم إحراز الحكمة في جميع أفعاله غير أنّ العقل - بقوة الحدس - يذعن بحكمته تعالى مطلقاً إذعاناً قطعياً قهرياً.

هذا، ولكن مقتضى هذه الحجة إثبات محكمية أفعاله وإتقانها وعدم الخلل فيها، وأمّا صدورها عنه على أكمل الوجوه الممكنة كما هو المقصود فلا يثبت بها، فإنّا لم نحرز المقيس عليه بهذا الوصف، بل لا يمكن للبشر العادي تحصيله، فقد ظهر الفرق بينهما وبين الحجّة الأُولى في المفاد.

الثالث: إنّ إرادته تعالى هو علمه بالنظام الأكمل، فكل أكمل فهو موجود لا محالة؛ ضرورة استحالة تخلّف المعلول عن علّته، فلو تحقّق ما ليس بأكمل وأصلح في الخارج، فقد وُجد المعلول بلا علّة، وهذا هو الترجّح بلا مرجّح.

أقول: وهذا أحسن الأدلة حتى من الوجه الأَوّل، فإنّه يبطل إمكان اختيار المقابل للأكمل فضلاً عن وقوعه.

لكن يرد عليه: أَوّلاً: ما مرّ من إبطال كون العلم إرادةً ومؤثراً.

____________________

(١) الملك ٦٧ / ٤.

٢٣١

وثانياً: إنّه لا دليل على كون العلم بالأصلح هو الإرادة، بل يمكن أن يكون العلم بالصالح إرادة فلا يثبت المقصود، إلاّ أن يقال: إنّ اختيار الكامل وترك الأكمل - مع إمكانه - شر، وهو ممتنع على الواجب، فتأمّل. فإنّ العلم بالأصلح وأن لم يكن إرادةً ومؤثّراً، لكن لا شك في أنّه مرجّح لإرادته وإحداثه، فيتمّ به المطلوب.

الرابع: إنّ اختيار غير الأكمل مع إمكانه نقص، وهو عليه محال، لكنّه مزيّف بأنّ النقص في أفعاله، هو عبارة أُخرى عن القبح الممتنع عليه من جهة حكمته، فيكون الاستدلال دورياً.

الخامس: دلالة النقل عليه، فقد وصف الله نفسه في كتابه بالحكيم ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) (١) ، وهكذا في السُنة.

قال الفاضل الطريحي في مجمع البحرين: المحكم في اللغة المضبوط المتقن، الحكمة العلم الذي يرفع الإنسان عن فعل القبيح، مستعار من المحكمة: اللجام، وهي ما أحاط بحَنك الدابة، يمنعها الخروج، والحكمة فهم المعاني، سُمّيت حكمة لأنّها مانعة عن الجهل.

ثمّ قال: ومن أسمائه: الحكيم والقاضي، فالحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل، أو ذو الحكمة وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم انتهى.

أقول: المقطوع من الكتاب والسُنة مثل قوله تعالى: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) (٢) وغيره هو حكمته بمعنى إتقان فعله، وأمّا إنّه على أكمل أنحائه الممكنة فلا، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني في المفاد.

هذا ولكنّ المعنى الأَوّل وإن ثبت شرعاً لكنّه غير قابل للتعبّد؛ إذ حجّية الشرع موقوفة على امتناع الكذب والقبح عليه تعالى، وهذا الامتناع موقوف على حكمته، وعدم الفساد في أفعاله، نعم إذا ثبت عقلاً إحكام أفعاله، وإنّه لا يفعل القبيح الفاسد كما في الوجه الثاني - وهو المستفاد من الوجه الأَوّل أيضاً بالأولوية - أمكن التعبّد بأخباره، بأنّه يُصدر الأشياء عنه بأكمل محتملاتها الممكنة، ولكنّه غير واقع، فما يصحّ به التعبّد لم يثبت شرعاً ثبوتاً قطعياً، وما لا يصلح التعبّد به فهو ثابت كذلك. فلابدّ لنا من حمله على الإرشاد إلى حكم العقل بحكمته أو إثبات وجوده وغيره، فتدبّر جيداً.

فالعمدة في المقام هو الوجهان الأَوّلان، أَوّلهما برهان لمّي، وثانيهما دليل إنّي، والأَوّل يدلّ على أنّ الصادر عنه يكون على نحو الأكمل، بل وعلى لزوم صدور الأكمل عنه لزوماً غير منافٍ

____________________

(١) النساء ٤ / ١٢٢.

(٢) السجدة ٣٢ / ٧.

٢٣٢

لاختياره، والثاني يدل على أنّ أفعاله محكمة متقنة، فلا خلل، ولا فساد، ولا قبح، ولا نقص، في أفعاله تعالى.

تفريع وتكميل: في أدلّة النظام العقلي الحاضر

بعد ما تقرّر أنّ أفعاله تعالى على أفضل ما ينبغي أن تكون، وأكمل ما يمكن أن تصدر عنه، بحيث لا يتصوّر مرتبة أرقى ممّا هي عليه، فقد ظهر أنّه لا يمكن وجود نظام أحسن وأكمل من النظام الفعلي الحاضر، فإنّه على آخر درجة من درجات الكمال، وكأنّه ظاهر لا يحتاج إلى بيان أزيد ممّا تقدّم.

ولهذا المطلب أدلة أُخرى ذكرها الفلاسفة وغيرهم، إلاّ أنّها بين ما يرجع إلى المختار، وبين ما لا يتمّ على أُصولنا المبرهن عليها، ونحن نذكر وجهين منها:

الأَوّل: ما عن الغزالي من أنّه لا يمكن أن يوجد العالم أحسن ممّا هو عليه؛ لأنّه لو أمكن ذلك ولم يعلم الصانع المختار أنّه ممكن إيجاد ما هو أحسن، فيتناهى علمه المحيط بالكلّيات والجزئيات، وإن علم ولم يفعل مع القدرة عليه فهو يناقض جوده الشامل لجميع الموجودات.

واستحسنه العربي في محكي فتوحاته، ثمّ الحكيم الشيرازي في أسفاره، فقال في ربوبياتها: وهو كلام برهاني، فإنّ الباري - جلّ شأنه - غير متناهي القوة، تام الجود والفيض، فكلّ ما لا يكون له مادّة، ولا يحتاج إلى استعداد خاصّ، ولا أيضاً له مضادّ ممانع، فهو بمجرّد إمكانه الذاتي فائض عنه تعالى على وجه الإبداع، ومجموع النظام له ماهية واحدة كلية، وصورة نوعية وحدانية بلا مادّة، وكل ما لا مادّة له نوعه منحصر في شخصه... فلم يمكن أفضل من هذا النظام نوعاً ولا شخصاً. انتهى.

أقول: حديث الجود ليس بخطابي، فإنّه واجب عليه بحسب حكمته كما مرّ، نعم ليس بواجب عنه على ما سلف في بحث اختياره، فقول الغزالي راجع إلى المختار.

وأمّا ما أتى به صاحب الأسفار فهو ضعيف، فإنّ فرض العالم بمجموعه موجوداً واحداً غير مادي، مجرّد خيال ينفع الشعراء ولا وزن له في المباحث العقلية، وربّما سنفصّل القول فيه في بعض مسائل التوحيد إن شاء الله.

الثاني: ما ذكره اللاهيجي (١) ناقلاً عن الحكماء، ومحصّله: أنّ الواجب الوجود خير محض، فإنّ الخير ليس إلاّ فعلية الوجود وكمالاته وتماميتهما، والشر فقدان الوجود أو كمالاته، وواجب الوجود عين الوجود، وتامّ الوجود، وكامل في وجوده وكمالاته، فهو خير محض ولا

____________________

(١) گوهر مراد / ٢٢٤.

٢٣٣

موجود غيره بخير محض، وكلّ ما هو خير محض لا يصدر عنه إلاّ الخير المحض؛ إذ جهة صدور الشر - وهي العدم - ليس بمتحقّق فيه..... وظاهر أنّ سبب نظام الكلّ - أي المجموع من حيث هو مجموع - ليس إلاّ الواجب الوجود، فهو خير محض على وجه لا يمكن الأتمّ منه؛ إذ مكان الأتمّ من هذا النظام يستلزم عدم تمامية هذا النظام، فإذا لم يكن بتامّ لزم كونه شراً، فيمتنع صدوره عن الخير المحض.

أقول: وللنظر فيه مواضع.

منها: ما تقدّم في بحث الشرور.

ومنها: أنّ الواجب وإن كان هو المؤثّر في الكل، غير أنّ للعقول والأفلاك أيضاً تأثيراً فيه، فإنّها عندهم واقعة في السلسلة الفاعلية وتكون جهات مؤثّريته تعالى، وحيث إنّ هذه الأُمور ممكنة وإمكاناتها عدمية، والعدم شرّ، فلا يتحقّق الخير المحض في المعاليل.

ومنها: أنّ فيه تناقضاً، فإنّه تارةً يقول: ولا موجود غيره بخير محض، وأُخرى يدّعي أنّ الجميع خير محض، فتأمل، فإنّ البرهان على قدرتنا تام، وهو يدلّ على نفي النقص في ذاته تعالى أيضاً.

فإن قلت: كيف يكون هذا النظام على نهاية الكمال وغاية الإتقان، والحال أنّ المصائب والبلايا محيطة بالحيوان ولا سيما الإنسان؟

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أنّ الآثام، والمعاصي، والقتل، وهتك الناموس، والظلم وغير ذلك من الجنايات، ما زالت مستمرّة الصدور عن نوع الإنسان، حتى قُتل الأنبياء والأولياء، وضعفت الديانة والإنسانية، وأُخفيت معالم الشرع، وقلّ الديّانون.

قلت: أمّا البلايا والمصائب فقد مرّ بحثها مفصّلاً، وأمّا المعاصي فهي وإن كانت مبغوضاً عليها لله الحكيم سبحانه من حيثية التشريع وقبيحة في نفسها، غير أنّ تكليف الإنسان لمّا كان ذا مصلحة هامّة في نفس الأمر، وهو كان موقوفاً على اختيار الإنسان وتمكّنه، وإلاّ لارتفع فائدة التشريع، وبطل الثواب العقاب، فجعل الله الإنسان مختاراً ثمّ كلّفه، فهذه الجنايات مستندة إلى اختيار الإنسان، واختياره ممّا لابدّ منه لمصلحة أهمّ من قبح هذه المفاسد، فافهم جيداً.

مسألة: في ترجيح أحد المتساويين على الآخر

هل يحسن للمختار أن يرجّح أحد المتساويين على الآخر بمجرّد إرادته أم لا؟ وعلى تقدير العدم هل هو جائز أو ممتنع؟

٢٣٤

المعروف عن الأشاعرة هو الجواز بل الوقوع (١) ، وعن العدلية - الإمامية والمعتزلة - والحكماء امتناعه (٢) . والظاهر تمركز النزاع في المختار فقط، فإنّ الموجب إذا رجّح أحد المتساويين على الآخر - كما إذا أحرق النار أحد المتساويين فقط - فقد وقع الترجّح بلا مرجّح، لكنّه مجرّد فرض باطل.

ثمّ إنّ الأشاعرة ليس لهم دليل على قولهم سوى ذكر أمثلة، ودعوى الضرورة على وقوع الترجيح بلا مرجّح فيها، مع أنّ بعضهم ناقش في الأمثلة المذكورة (٣) .

قال المحقّق الآشتياني: واستدلّوا عليه - أي الأشاعرة على الجواز - بالوجدان؛ حيث إنّ العطشان والجائع والهارب من السبع، يختار أحد القدحين والرغيفين والطريقين، مع فرض المساواة من جميع الجهات التي لها دخل في الترجيح، فيعلم من ذلك أنّ اختيار أحد طرفي الممكن لا يتوقّف على مرجّح خارجي. والعدلية من الإمامية والمعتزلة إلى الثاني؛ لِما عرفت من قضاء ضرورة العقل، بعدم تعلّق الاختيار بأحد طرفي الممكن من دون داعٍ وسبب، فلو وُجد لوُجد بلا سبب، وهذا معنى رجوع الترجيح بلا مرجّح إلى الترجّح بلا مرجّح.

وأمّا ما زعمه الأشاعرة ففاسد جداً.

أمّا أَوّلاً: فلمنع تحقّق التساوي من جميع الجهات فيما مثّلوا به وأمثاله، ومجرد الفرض لا يوجب تحقّق المفروض، والمدار عليه لا على فرضه.

وأمّا ثانياً: فلأنّا نختار بعد التسليم عدم اختيار أحدهما، ومجرّد دعواه لا يفيد في شيء... إلخ.

أقول: هذان الجوابان اللذان نُقلا عن المعتزلة، بل ادّعوا الضرورة على الجواب الثاني، ممنوعان جداً، بل الضرورة على خلافه، وأنّ المضطرّ يختار أحدهما بلا تردّد. والإنصاف أنّهما لا يستحقان الجواب.

ويلحق بهما في الضعف ما أجاب به صاحب الأسفار (٤) ، فإنّه مبني على الجبر، وإنّ أفعال المخلوقين أفعال الله تعالى فلاحظ.

قال بعض أهل التدقيق من جامعي المعقول والمنقول (٥) : تحقيق المقام أنّ الترجيح موضوعه الفعل الإرادي، وثبوت الإرادة فيه مفروغ عنه، وإلاّ لكان ترجّحاً بلا مرجّح، وهو

____________________

(١) شرح المواقف ٢ / ٢١٨.

(٢) حاشية المحقّق الآشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري / ٢٤٦.

(٣) شرح المواقف ٢ / ٢١٨.

(٤) الأسفار ١ / ٢٠٩.

(٥) نهاية الدراية في شرح كفاية الأُصول ٣ / ١٧٠.

٢٣٥

مساوق للمعلول بلا علّة، وامتناعه بديهي لا يختلف فيه أحد، ففي الموضوع الإرادي قالوا بقبحه تارة وبامتناعه أخرى بيانه:

إنّ الأشاعرة بنوا على خلو أفعال الله تعالى التكوينية والتشريعية، عن الغايات الذاتية والعرضية، وعن الحِكم والمصالح الواقعية؛ نظراً إلى جواز الترجيح بلا مرجّح؛ لإمكان الإرادة الجزافية تمسّكاً منهم بأمثلة جزئية... ونفياً منهم للحسن والقبح بالكلّية، فالفعل الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد، فلا يلزم المعلول بلا علّة، وحيث لا حسن ولا قبح فلا يتّصف مثل هذا الفعل الخالي عن الغاية بكونه قبيحاً.

وأجاب الحكماء - بعد إثبات الحسن والقبح عقلاً في كلية أفعال الله تعالى والعباد - بأنّ الفعل الخالي عن الغاية والغرض قبيح من كل عاقل، وبأنّ تجويز الإرادة الجزافية يؤول إلى تجويز الترجّح بلا مرجّح؛ لأنّ الإرادة من الممكنات فتعلّقها بأحد الأمرين دون تعلّق إرادة أُخرى بالآخر، إمّا بإرادة أُخرى فيدور أو يتسلسل، وإمّا بلا إرادة... كان معناه حدوث الإرادة بلا سبب، وهو عين الترجّح بلا مرجّح... فبالإضافة إلى نفس الفعل وإن كان ترجيحاً بلا مرجّح، إلاّ أنّه بالإضافة إلى إرادته ترجّح بلا مرجّح.

فعُلم ممّا ذكرنا أنّ محلّ النزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية والغرض، لا الخالي عن الغرض العقلائي، فإنّه لم يقع النزاع في إمكانه، كما عُلم أنّ القبح بأي نظر، وأنّ الامتناع بأي لحاظ، فإنّه قبيح بالنظر إلى خلوه عن الحكمة والمصلحة، وممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب، غاية الأمر أنّ الموجب في إرادته تعالى منحصرة في الحكمة والمصلحة لا مطلق الغرض.

وأمّا مسألة ترجيح المرجوح على الراجح فهي أجنبية عن مقاصد الحكماء، والأشاعرة في تلك المسألة المتداولة، إلاّ أنّه يمكن فرضها قبيحاً تارةً وممتنعاً أُخرى، فبالنظر إلى خلو الفعل عن جهة مصحّحة من حكمة ومصلحة قبيح، وبالنظر إلى حدوث الإرادة بلا سبب ممتنع.

ويزيد على الترجيح بلا مرجّح، بأنّ ترك الراجح مع وجود غاية مصحّحة قبيح آخر، وتخلّف الإرادة عمّا يوجبها محال آخر انتهى.

أقول: فقد ظهر أنّ استحالة الترجيح بلا مرجّح؛ لأجل رجوعه إلى الترجّح بلا مرجّح، وإلاّ فهو ليس بمحال، انتهى.

وأمّا ما ذكره المحقّق اللاهيجي (١) من استحالة الترجيح المذكور في نفسه أيضاً، بل ادّعى بداهتها عند الوجدان المستقيم، فممّا لم نعرف له وجهاً.

____________________

(١) گوهر مراد / ١٤٧.

٢٣٦

والتحقيق أنّ الترجيح بلا مرجّح ربّما يصير ممتنعاً، وربّما يكون ممكناً، فإذا أمكن فهو تارةً يكون واجباً ولازماً فضلاً عن مجرّد كونه حسناً، وأُخرى يكون قبيحاً.

بيان ذلك: أنّ الترجيح بمجرّد الإرادة من دون سبب ومرجّح أصلاً محال لِما تقدّم، ولا وقع لإنكار الأشعريين وغيرهم، وبمرجّح غير عقلائي قبيح، كما في تقديم المفضول على الفاضل لأجل كبر السِّن مثلاً، وهذا ممكن قبيح وليس بمحال كما هو ظاهر، وبمرجّح عقلائي قائم بطبيعي الفعل الجامع للفردين لازم وواجب، كما في الأمثلة المتقدّمة وغيرها؛ وذلك لأنّ طبيعي الفعل إذا كان ذا مصلحة ملزمة أو غير ملزمة، وكانت الأفراد بالنسبة إليه متساويةً، حيث إنّ كلاً منها محصّل له ومحقّق إيّاه، فلا يجوز أو لا ينبغي للعاقل أن يترك أصل الفعل المشتمل على المِلاك؛ لأجل استواء الأفراد في المزية وتحصيل الغرض، أَلا ترى أنّ العقلاء بأسرهم يقبّحون، مَن ترك الأكل من أحد الإناءين المتساويين حتى مات جوعاً، بل يضحكون على مَن اعتذر عنه بعدم جواز الترجيح بلا مرجّح أو قبحه.

والسرّ في جوازه وعدم مآله إلى الترجّح، هو أنّ المنظور إليه استقلالاً هو طبيعي الفعل وحده، وأمّا الأفراد فلا نظارة إليها إلاّ آلةً وتبعاً، فالإرادة المتعلّقة بطبيعي الفعل المذكور تسوّغ اختيار أي من الأفراد، ولا تؤول إلى الإرادة الجزافية الممتنعة.

وهذا الذي ذكرنا - مضافاً إلى عدم الدليل على امتناع، بل الدليل على صحته كما عرفت منا - ضروري أيضاً كما يفهم من المثال المزبور، فالصحيح في المسألة هو هذا التفصيل الثلاثي.

وأمّا ما تقدّم من المحقّق الآشتياني، من نسبة القول بالامتناع إلى الإمامية والمعتزلة ففيه: أنّ كثيراً من المعتزلة قائلون بالجواز، كما نقله اللاهيجي (١) .

وأمّا الإمامية فلم يثبت هذا القول منهم جلياً، بل ذهب بعض الأجلاّء الأُصوليين (٢) منهم إلى الجواز مطلقاً، والحق ما قلنا.

____________________

(١) گوهر مراد / ١٤٧.

(٢) وهو المحقّق صاحب الكفاية قدّس سره ٢ / ٣٦٩ من كتابه، ويمكن حمله على ما ذكرنا من التفصيل.

٢٣٧

الفريدة الرابعة

في تكلّمه

المقام الأَوّل: في حدوثه

المقام الثاني: في الكلام النفسي

المقام الثالث: في إطلاق الكلام على القرآن

٢٣٨

الفريدة الرابعة

في تكلّمه

التكلّم هو التحدّث، والكلام هو القول كما في القاموس وغيره، فهو في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم.

وإن شئت فقل: إنّه الحروف المنتظمة المسموعة، فهو من الكيف المسموع. قال المحدّث المجلسي رحمه‌الله (١) : فالإمامية قالوا بحدوث كلامه تعالى، وأنّه مؤلّف من أصوات وحروف، وهو قائم بغيره، ومعنى كونه تعالى متكلّماً عندهم، أنّه موجِد تلك الحروف والأصوات في الجسم، كاللوح المحفوظ، أو جبرئيل، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو غيره كشجرة موسى، وبه قالت المعتزلة أيضاً... إلخ.

أقول: إن أراد من الحروف تلفّظها فهو متين، وإن أراد نقشها كما يشهد له ذكر اللوح المحفوظ، أو إلهامها كما يشعر به ذكر النبي، فيردّه أنّ النقش والإلهام ليسا بكلام، وفاعلهما ليس بمتكلّم، بل هو ملهَم ومنقش أو كاتب.

وبالجملة، الذي هو من فعله ليس إلاّ مثل كلام الآدميين بلا فرق أصلاً، غير أنّ إصداره عنا بجارحة مفقودة في حقه تعالى.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد (٢) ذكر، أنّ طريق إثبات تكلّمه تعالى عند الأشاعرة عقلي، وعند المعتزلة نقلي، لكن فيه نظر بل منع كما ستعرفه.

نعم، ربّما استدلّ عليه من جهة العقل جماعة من غير الأشعرية، وإليك بيان الوجوه العقلية المذكورة وغيرها:

١ - قاعدة الملازمة المتقدّمة، استدلّ بها اللاهيجي (٣) ، وابنه قدّس سرهما (٤) ، لكنّك عرفت فيما تقدّم اختصاص القاعدة بالصفات الذاتية، وأنّه لا مجرى لها في أفعاله تعالى التي هي ممكنة

____________________

(١) بحار الأنوار ٤ / ١٥٠.

(٢) شرح الباب الحادي عشر / ١٩.

(٣) سرمايه إيمان / ٣١.

(٤) شمع اليقين / ١٧.

٢٣٩

بالإمكان الخاصّ.

وأمّا ما صنعه المستدلّ، من تفسير كلامه تعالى بالقدرة على إيجاد الألفاظ لا نفس الألفاظ، فإنّها كلام بمعنى ما يتكلم به؛ وذلك لأنّ الكلام من صفاته تعالى، وصفاته لا تكون حادثةً (١) ، فهو تعسّف بلا جهة، ولا فرق في كلام الله وغيره كما عرفت.

وأمّا دليله فهو خلط بين صفاته الذاتية والفعلية، فإنّا وإن نصفه بالتكلّم وأنّه متكلّم، إلاّ أنّه من صفات أفعاله كغيره من الأفعال، وهذا واضح جداً.

ومثله في الضعف ما يظهر من المحقّق الطوسي قدّس سره في التجريد، من أنّ عموم قدرته يدلّ على ثبوت الكلام، فإنّ الكلام وإن كان مقدوراً له، إلاّ أنّه ليس كلّ مقدور بواقع وموجود خارجاً بالضرورة.

٢ - عدم التكلّم ممّن يصحّ اتّصافه به نقصٍ واتّصاف بأضداد الكلام، وهو محال على الله تعالى، فإن نوقش في كونه نقصاً سيما إذا كان مع قدرته على الكلام - كما في السكوت - فلا خفاء في أنّ المتكلّم أكمل من غيره، ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه. ذكره القوشجي (٢) دليلاً لقول المحقّق الطوسي في تجريده.

أقول: بعد تخصيصه بما لا يزال وإلاّ فهو واضح الفساد، يرد عليه منع النقص قطعاً، وعدم اتّصافه بأضداده جزماً؛ إذ تكلّمه إيجاد الصوت ونقيضه عدم الإيجاد، وهذا ليس بضدّ.

وأمّا الخرس فهو في المخلوق دون الخالق المنزّه عن الجوارح، بل ضدّ التكلّم فيه إيجاد شيء آخر غير الصوت، وهو كمال له ومنع أكملية المتكلّم من غيره، وإلاّ لزم استمرار إيجاده الأصوات إلى الأبد! أو أكملية مخلوقه منه من هذه الجهة، حين عدم إيجاده الصوت وتكلّمهم.

وبالجملة، هذا الوجه ضعيف جداً لمنع جميع مقدماته، ومنه انقدح بطلان ما استدلّ به الفاضل الطبرسي (٣) من أنّ التكلّم كمال لفعله فعدمه نقص له، والنقص بجميع أنحائه محال عليه؛ إذ فيه أنّ إيجاد الصوت ممّا لا كمال فيه بحيث يعدّ عدمه نقصاً، أي قبيحاً كما هو الظاهر.

٣ - اللطف واجب على الله الحكيم سواء فسّر ببيان المصلحة والمفسدة، أو بتقريب المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، وهو لا يمكن إلاّ بإنزال الكتب وإرسال الرسل، وإنزال الكتب موقوف على التكلّم بما يعرفه المخاطب من الكلام، فوجب عليه التكلّم عقلاً (٤) .

____________________

(١) كما في الشوارق وسرمايه إيمان.                     (٢) شرح التجريد / ٣٥٦.

(٣) كفاية الموحّدين ١ / ٣٢٨.                                    (٤) المصدر نفسه / ٣٢٧.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296