صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132015 / تحميل: 7356
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فمع قرب ابن حنبل من المتوكل وبعده عن أهل البيت (ع) لكن موجة الغضب العامة على المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع) تجعله يشك في أقرب الناس اليه!

3. أبوهاشم الجعفري هو: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. وهو من كبار أصحاب الأئمة المعصومين (ع)، ولم يكن من خطهم الثورة كالزيديين، لكنهم كانوا يتضامنون مع الثائرين منهم إذا نُكبوا، ويدافعون عنهم. قال السيد الخوئي « 8 / 122 » : « أبوهاشم الجعفري (رحمه الله): كان عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، شريف القدر، ثقة، روى أبوه عن أبي عبد الله (ع). وقال الشيخ: داود بن القاسم الجعفري، يكنى أبا هاشم، من أهل بغداد، جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، وقد شاهد جماعة منهم: الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وقد روى عنهم كلهم (ع). وله أخبار ومسائل، وله شعر جيد فيهم، وكان مقدماً عند السلطان وله كتاب، أخبرنا به عدة من أصحابنا ».

4. بنوطاهر وآل طاهر: هم أولاد طاهر بن الحسين وأقاربه، وهوقائد جيش المأمون في حربه مع أخيه الأمين، وهوالذي احتل بغداد وقتل الأمين. وقد أطلق المأمون يده في خراسان حتى عرفت بالدولة الطاهرية، كما أطلق يد آل طاهر في العراق، فكانت بغداد بيد إسحاق بن إبراهيم.

قال ابن الأثير في الكامل « 7 / 236 »: « وفيها « 235 » توفي إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب المصعبي وهوابن أخي طاهر بن الحسين، وكان صاحب

١٨١

الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. ولما مرض أرسل إليه المتوكل ابنه المعتز مع جماعة من القواد يعودونه، وجزع المتوكل لموته ».

وقال اليعقوبي « 2 / 488 »: « وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصيَّر إليه ما كان إلى إسحاق بن إبراهيم ».

وبنوطاهر ليسوا خزاعيين، بل من موالي خزاعة، وأصلهم من أمراء فارس. قال العمري في أنساب الطالبين / 383: « وأما ابن طاهر فهومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان، أسلم جده رزيق على يد عبيد الله بن طلحة الطلحات الخزاعي، والي سجستان فنسب إليه ولقب بالخزاعي لهذا السبب، لا لانتمائه الى قبيلة خزاعة من جهة النسب.

وآل طاهر أسرة قديمة تنتسب الى أمراء الفرس الأولين، ويذكر منها في عالم الحرب والأدب والنجدة أفرادٌ كثيرون، وكان مصعب يتولى أعمال مَرْو مع أعمال هراة. وأول من نبغ من هذه الأسرة واشتهر في عهد بني العباس، طاهر بن الحسين بن مصعب، أبلى في خدمة المأمون أحسن بلاء وأخلص له ونصح في ولائه وتوطيد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها، فأصبحت دولة طاهرية مستقلة في حكومتها، لا تربطها ببغداد الا خطبة المنبر.

وكان محمد بن عبد الله بن طاهر عظيم النفوذ في الدولة، تميل الخلافة حيث يميل ومات محمد في ذي الحجة من سنة 253 ، وهوالذي أنفذ جيشاً الى يحيى ».

ويظهر أن بني طاهر كانوا كأسيادهم العباسيين يعتقدون بصدق النبي (ص)، وبأنهم غصبوا سلطانه من أهل بيته (ع) وظلموهم وقتلوهم بغير حق.

١٨٢

فقد روى أبوالفرج أن محمد بن طاهر والي بغداد تشاءم من قتله يحيى بن عمر العلوي، فأرسل عائلته الى خراسان، لأنه كان يعتقد أن قتله لبني علي (ع) سيسبب زوال ملكه! « وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذه الرؤس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج »! « مقاتل الطالبيين / 423 ».

وبالفعل جاءهم الشؤم في الصراعات الداخلية بين خلفاء بني عباس، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر في حرب المعتز في أواخر سنة 253 : فـ « اشتد وجد المعتز عليه، وكان يرى أن الأتراك يهابونه من أجله ». « الأعلام: 6 / 222 ».

وانتهت دولة آل طاهر بعد قتلهم يحيى فما انتعشوا بعد ذلك! « نثر الدرر: 1 / 265 ».

ويؤكد ما ذكرنا من اعتقاد بني طاهر بأهل البيت (ع) ما رواه الصدوق في الخصال / 53: « عن محمد بن عبد الله بن طاهر قال: كنت واقفاً على أبي وعنده أبوالصلت الهروي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن محمد بن حنبل، فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث، فقال أبوالصلت الهروي: حدثني علي بن موسى الرضا، وكان والله رضاً كما سمي، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): الايمان قولٌ وعملٌ فلما خرجنا قال أحمد بن محمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سُعُوطُ المجانين، إذا سُعِطَ به المجنون أفاق ».

١٨٣

5. تدل قصيدة ابن الرومي على أنه كان شيعياً (رحمه الله). وشعره ملئ بالصنعة وفيه تكلف، وهو لايرقى الى شعر الطبقة الأولى من شعراء العصر العباسي.

كما تدل قصيدته على أن الأبنة والشذوذ كان منتشراً في شخصيات العباسيين، وأن العلويين كانوا طاهرين من هذا الرجس، لاحظ قوله:

أروني امرأ منهم يُزَنُّ بأُبنة

ولا تنطقوا البهتان والحق أبلج

وقوله: يُزَنُّ بأبنةٍ: فعل زَنَّ بتشديد النون بمعنى: اتَّهم.

قال ابن فارس «3/5»: « يقال أزننت فلاناً بكذا، إذا اتهمته به. وهو يُزَنُّ به ».

دور قم المميز في زمن الإمام الهادي (ع)

1. تميزت قم بموقعها الجغرافي ، في طريق خراسان، فكل قاصد من العراق أوالحجاز الى خراسان وما وراء النهر، يمر بها.

2. وتميزت ثانياً بمركزها التجاري ، فقد كانت ضريبتها السنوية مليوني درهم!

قال الطبري « 7 / 183 »: « وفي هذه السنة « 210 » خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذُكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج وكان خراجهم ألفي ألف درهم ». وتقدم ذلك في سيرة الإمام الجواد (ع).

3. وتميزت ثالثاً بشجاعة أهلها وثوراتهم، فقد احتاج المأمون في مهاجمتها الى ثلاث فرق، وكان عمدة أهلها الأشعريون.

قال البلاذري في فتوحه « 2 / 386 »: « وقد نقضوا في خلافة أبي عبد الله المعتز بالله بن المتوكل على الله، فوجه إليهم موسى بن بغا عامله على الجبل، لمحاربة الطالبيين الذين ظهروا بطبرستان، ففتحت عنوةً وقتل من أهلها خلق كثير ».

١٨٤

وقال البلاذري في فتوحه « 2 / 398 »: « ولما كانت سنة 253 ، وجه أمير المؤمنين المعتز بالله، موسى بن بغا الكبير مولاه إلى الطالبيين الذين ظهروا بالديلم وناحية طبرستان. وكانت الديالمة قد اشتملت على رجل منهم يعرف بالكوكبي فغزا الديلم وأوغل في بلادهم وحاربوه فأوقع بهم، وثقلت وطأته عليهم واشتدت نكايته ».

وفي رجال الطوسي / 443: « إبراهيم بن عبد الله بن سعيد، قال: لما توجه موسى بن بغا إلى قم فوطأها وطأة خشنة، وعظم بها ما كان فعل بأهلها، فكتبوا بذلك إلى أبي محمد صاحب العسكر (ع) يسألونه الدعاء لهم، فكتب إليهم أن ادعوا بهذا الدعاء في وتركم، وهو وذكر الدعاء ». « محمد بن الحسين بن سعيد بن عبد الله بن سعيد الطبري، يكنى أبا جعفر، خاصي، روى عنه التلعكبري وقال: سمعت منه سنة ثلاثين وثلاث مائة وفيما بعدها، وله منه إجازة. وسمع منه الدعاء الذي كتب به إلى أهل قم، وروى حديث ابن بغا لما توجه إلى قم ».

وكانت حملة موسى بن بغا على الثوار العلويين في آذربيجان وطبرستان سنة 253 قبل وفاة الهادي (ع) بسنة، وقبل قتل المعتز بسنتين. « ثقات ابن حبان: 2 / 331 ». وسيأتي ذكرها إن شاء الله في سيرة الإمام العسكري (ع).

وتميزت قم بأنها مصدر نصرة للأئمة (ع) « وكان قد سعيَ بأبي الحسن إلى المتوكل، وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم ». « تاريخ الذهبي: 18 / 199 ».

١٨٥

وكان القميون يحملون أخماسهم وهداياهم الى الإمام (ع) في سامراء، وكانت الدولة تحاول كشف ذلك ومعاقبة القميين.

وتميزت قم خامساً، بأنها العاصمة الدينية لأهل البيت (ع) في إيران، فقد كانت مركزاً علمياً فيها فقهاء كبار ووكلاء للأئمة (ع)، وكان الشيعة يأخذون منهم فتاواهم ومعالم دينهم، ويدفعون اليهم أخماسهم ليوصلوها الى الإمام (ع).

« وعن الصادق (ع): إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهوالكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم ». « البحار: 57 / 216 ».

هذا، وكان لقم صلة بمصر لأن المأمون نفى عدداً من زعمائها الى مصر، ونبغ منهم قادة عسكريون كالقائد المعروف: محمد بن عبد الله القمي الذي ولاه المتوكل أمر قبائل البجة في السودان الذين منعوا المسلمين مناجم الذهب، فوضع لهم خطة وانتصر عليهم، وأسر ملكهم علي بابا، وجاء به أسيراً الى سامراء سنة 241.

وقد روى الطبري تفصيل ذلك في تاريخه « 7 / 379 ».

١٨٦

الفصل التاسع:

مرسوم إمامة ابن حنبل بعد هدم قبر الحسين (ع)

كان ابن حنبل غير مرضي عند المأمون والمعتصم والواثق

قال الخليل في العين « 3 / 338 »: « الحنبل: الضخم البطن في قصر. ويقال: هوالخُف أوالفرو الخلق. والحِنبال والحِنبالة: القصير الكثيرالكلام ».

وأضاف ابن منظور « 11 / 182 »: « الحَنْبَل والحِنْبَال والحِنْبَالة: القصيرالكثير اللحم. والحُنْبُل: طَلْعُ أُمّ غَيْلان ». وهي شجرة العُضَاه، وثمرها كاللوبياء لايؤكل .

وكان أحمد بن محمد بن حنبل من العلماء العاديين في بغداد، ولم يشتهرحتى أحضره المأمون ليمتحنه في خلق القرآن في سنة 212، فقد كان المأمون يُحضرالعلماء ويحذرهم من القول بأن القرآن غير مخلوق، لأنها تعني أنه قديمٌ مع الله تعالى، وأن الله مركبٌ وكلامه جزءٌ منه، وهذا شرك!

فإذا أصرَّ أحدٌ منهم على أن القرآن قديم، كان يُعَزَّره ويحرمه من تولي القضاء. وفي سنة 218، أرسلوا الى المأمون أربعة علماء الى طرطوس ليمتحنهم وكان منهم أحمد بن حنبل، وقبل أن يصلوا جاءهم خبر موت المأمون، فأرجعوهم الى السجن ببغداد، وواصل المعتصم سياسة أخيه المأمون في امتحانهم.

قال السبكي في طبقات الشافعية « 2 / 53 »: « سمعت أبا العباس بن سعد يقول: لم يصبر في المحنة إلا أربعة كلهم من أهل مَرْوٍ: أحمد بن حنبل أبوعبد الله، وأحمد

١٨٧

بن نصر بن مالك الخزاعي، ومحمد بن نوح بن ميمون، المضروب، ونعيم بن حماد، وقد مات في السجن مقيداً. فأما أحمد بن نصر فضربت عنقه، وهذه نسخة الرقعة المعلقة في أذن أحمد بن نصر بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون وهوالواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك.

ومات محمد بن نوح في فتنة المأمون. والمعتصم ضرب أحمد بن حنبل. والواثق قتل أحمد بن نصر بن مالك. وكذلك نعيم بن حماد ».

اتهموا ابن حنبل بالخيانة وفتشوا بيته!

اتهموه بأنه آوى ثائراً علوياً، وهي تهمة عقوبتها القتل! قال الذهبي في تاريخه « 18 / 84 »: « رفع إلى المتوكل أن أحمد بن حنبل ربَّصَ « خبأ » علوياً في منزله، وأنه يريد أن يُخرجه ويُبايع عليه ولم يكن عندنا علم. فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف سمعنا الجلَبة، ورأينا النيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا وإذا أبوعبد الله قاعد في إزار، ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر وجماعة معهم، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل: وَرَدَ على أمير المؤمنين أن عندكم علوياً ربصته لتبايع عليه وتُظهره. في كلام طويل. ثم قال له مظفر: ما تقول؟

١٨٨

قال: ما أعرف من هذا شيئاً، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وآثره لأدعوالله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار. في كلام كثير غير هذا. وقال ابن الكلبي: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحُلِّفَكَ.

قال: فأحْلَفَهُ بالطلاق ثلاثاً أن ما عنده طَلِبَةُ أمير المؤمنين.

قال: وفتشوا منزل أبي عبد الله والسِّرْب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشوا النساء والمنازل، فلم يروا شيئاً ولم يحسوا بشئ »!

أقول: يدل اتهامهم على الشعبية الواسعة للعلويين ورُعب السلطة منهم! وكان المتوكل يعرف أن أحمد ليس في خط العلويين، لكنه من خوفه احتمل أن يكونوا أغروه! كما تفاجأ ابن حنبل فسارع بالقول: « إني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وأوثره عليَّ، وأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار ». فقبل منه المتوكل وسُرَّ به واستقدمه الى سامراء وأكرمه، واتفق معه .

أحضر المتوكل أحمد الى سامراء عدة مرات

قال الآلوسي في جلاء العينين « 1 / 242 »: « بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته لتسيير أحمد بن حنبل، فقد نقل غير واحد أنه وجه المتوكل إلى إسحق بن إبراهيم يأمره بحمله إليه، فوجه إسحق إليه وقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك ».

وأحضره المتوكل في أواخر عمره، وكان أحمد يومها في الثالثة والسبعين، وعاش بعدها ثلاث سنوات ونصفاً.

١٨٩

ففي تاريخ الذهبي « 18 / 119 »: « ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله فذهب إليه فقرأ عليه كتاب المتوكل فقال له: يأمرك بالخروج. فقال: أنا شيخ ضعيف عليل. فكتب عبد الله بما رد عليه، فورد جواب الكتاب بأن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجه عبد الله جنوده، فباتوا على بابنا أياماً حتى تهيأ أبوعبد الله للخروج، فخرج، وخرج صالح، وعبد الله، وأبو رميلة.

قال صالح: كان حَمْلُ أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم عاش إلى سنة إحدى وأربعين، فكان قَلَّ يومٌ يمضي إلا ورسول المتوكل يأتيه ...

لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام، ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به، فما رد عليه أبوعبد الله شيئاً، وجعلت أنا أدعولأمير المؤمنين، ودعوت لوصيف. ومضينا فأنزلنا في دار إيتاخ ولم يعلم أبوعبد الله، فسأل بعد ذلك: لمن هذه الدار قالوا: هذه دار إيتاخ. فقال: حولوني، إكتروا لي. فلم نزل حتى اكترينا له داراً.

وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والفاكهة والثلج وغير ذلك. فما نظر إليها أبوعبد الله، ولا ذاق منها شيئاً.

وكانت نفقة المائدة كل يوم مائة وعشرين درهماً. وكان يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله وعلي بن الجهم، يأتون أبا عبد الله ويختلفون إليه برسالة المتوكل.

١٩٠

ودامت العلة بأبي عبد الله وضعف ضعفاً شديداً، وكان يواصل، فمكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، فلما كان في اليوم الثامن دخلت عليه وقد كاد أن يطفأ فقلت: يا أبا عبد الله، ابن الزبير كان يواصل سبعة أيام، وهذا لك اليوم ثمانية أيام. قال: إني مطيق. قلت: بحقي عليك. قال: فإني أفعل، فأتيته بسويق فشرب. ووجه إليه المتوكل بمال عظيم فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك. قال: هم مستعفون فردها عليه، فأخذها عبيد الله فقسمها على ولده وأهله.

ثم أجرى المتوكل على أهله وولده أربعة آلاف في كل شهر، فبعث إليه أبوعبد الله: إنهم في كفاية وليست بهم حاجة. فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، ما لك ولهذا؟ فأمسك أبوعبد الله. فلم يزل يجري علينا حتى مات المتوكل.

قال حنبل: فلما طالت علة أبي عبد الله كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب فيصف له الأدوية فلا يتعالج، ودخل المطبب على المتوكل فقال: يا أمير المؤمنين أحمد ليست به علة في بدنه، إنما هومن قلة الطعام والصيام والعبادة.

وبلغ أم المتوكل خبر أبي عبد الله فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرجل. فوجه المتوكل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المعتز ويسلم عليه ويدعوله ويجعله في حجره. فامتنع أبوعبد الله من ذلك، ثم أجاب رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد، فوجه إليه المتوكل خلعة، وأتوه بدابة يركبها إلى المعتز فامتنع، وكانت عليها مَيْثَرَةُ نُمُور، فقدم إليه بغل لرجل من التجار فركبه.

١٩١

وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان، وعلى المجلس ستر رقيق، فدخل أبوعبد الله على المعتز، ونظر إليه المتوكل وأمه، فلما رأته قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله فَأْذَنْ له فليذهب. فدخل أبوعبد الله على المعتز فقال: السلام عليكم وجلس، ولم يسلم عليه بالإمرة. قال: فسمعت أبا عبد الله بعد ذلك ببغداد يقول: لما دخلت عليه وجلست قال مؤدب الصبي: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك. فرد عليه الغلام وقال: إن علمني شيئاً تعلمته. قال أبوعبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره. وكان صغيراً.

فأذن له بالإنصراف، فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر فقال: إن أمير المؤمنين قد أذن لك، وأمر أن تفرش لك حَرَّاقَة تنحدر فيها. فقال أبوعبد الله: أطلبوا لي زورقاً فأنحدر فيه الساعة، فطلبوا له زورقاً فانحدر فيه من ساعته ..

وجاء عن لسان ولده الآخر صالح: فلما كان من الغد جاء يعقوب فقال: البشرى يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد أعفيتك عن لبس السواد والركوب إلى ولاة العهود وإلى الدار. فإن شئت فالبس القطن، وإن شئت فالبس الصوف. فجعل يحمد الله على ذلك ».

أقول: توجد عدة روايات عن إحضار أحمد الى سامراء. وقد حاول أحمد ومحبوه أن يقولوا إنه كان زاهداً في الدنيا، ولم يكن راغباً في تكريم المتوكل، ولا بالمناصب والأموال، لأن المتوكل عند المسلمين ظالم لا يجوز الركون اليه!

١٩٢

وفي كلام أحمد وأبنائه نقاط ضعف، ومنها كلام أحمد عن صغر سن المعتز، بينما كان عمره لما زاره أحمد نحوسبع عشرة سنة. فقد خلع نفسه سنة 255 ، وعمره أربع وعشرون سنة. « مروج الذهب: 4 / 81 ».

اتفق المتوكل مع أحمد وجعله مرجعاً للدولة!

في النهاية لابن كثير « 10 / 373 »: « وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وما من يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره في أشياء تقع له. ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها ».

وفي تاريخ الذهبي « 20 / 203 »: « قال عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: أمر المتوكل بمساءلة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء ».

أي أمر أن يأخذوا برأيه في تعيين القضاة في الدولة، فلايعينوا إلا من وافق عليه. وفي المقابل تبنى أحمد طاعة المتوكل، ونشر أحاديث التشبيه والتجسيم!

قال المَلَطي العسقلاني في: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع / 7: « وقال أمير المؤمنين المتوكل لأحمد بن حنبل: يا أحمد إني أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجة فأظهرني على السنة والجماعة. وما كتبته عن أصحابك عما كتبوه عن التابعين، مما كتبوه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه ».

١٩٣

وقال تلميذه أبو بكر المروذي: « سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردُّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش، فصححها وقال: قد تلقتها الأمة بالقبول، وتُمَرُّ الأخبار كما جاءت ». « طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 56 ».

وهذه هي أحاديث صفات الله تعالى ورؤيته بالعين، التي رفضها الأئمة من أهل البيت (ع) ومالك بن أنس صاحب المذهب، ويريدها المتوكل!

مرجعية ابن حنبل لمواجهة مرجعية الإمام الهادي (ع)

بدأ حكم المتوكل أواخر سنة 232 . وفي سنة 233 ، أحضرالإمام الهادي (ع) الى سامراء وفرض عليه الإقامة الجبرية، وحاول قتله بتهمة أنه ينوي الخروج عليه فظهرت للإمام (ع) كرامات ومعجزات، فهابه وزراء المتوكل والقادة وأحبوه، وكانت أم المتوكل تعتقد أنه ولي الله تعالى وتنذر له النذور في المهمات!

وفي السنة التالية استقدم المتوكل المحدثين المجسمين، الذين يقولون إن الله يُرى بالعين، والقرآن غير مخلوق، وقرَّبهم وأعطاهم جوائز ومناصب.

وكان المتوكل يريد تغيير خط الخلافة فيتبنى المجسمة، لكن نفوذ ابن دؤاد كان قوياً، فهوالذي دبَّر خلافة أبيه المعتصم ورتَّبَ قتل العباس بن المأمون. وهوالذي رتب بيعة أخيه الواثق. وهو الذي خلع ابن الواثق ودبَّر بيعة المتوكل وأخرجه من السجن وجاء به الى كرسي الخلافة.

قال في تاريخ بغداد « 1 / 314 »: « كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد، ويستحي أن ينكبه، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق، وعقد

١٩٤

الأمر له والقيام به من بين الناس. فلما فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أول ما وليَ المتوكل الخلافة، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين، ووكل بضياعه وضياع أبيه.

ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم وَحَدَّرَهُم إلى بغداد، وولي يحيى بن أكثم ما كان إلى ابن أبي دؤاد ».

فكان المتوكل يمهد تمهيدات لضرب ابن دؤاد، الى أن تم عزله في سنة 237، وجاء بابن حنبل الى سامراء، واتخذه مرجعاً.

قال ابن أحمد بن حنبل: « لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به ». « تاريخ الذهبي: 18 / 119 ».

وهذا يدل على أن وصيفاً اتفق مع المتوكل، وكان مهتماً بأن تكثر الشكاية من ابن أبي دؤاد لتبرير عزله، وإعلان مرجعية أعدائه القائلين بقدم القرآن والتشبيه.

احتفل المتوكل بمرجعية أحمد وإنزال رأس ابن نصر!

وكان عزل ابن دؤاد وتولية خصمه ابن أكثم، وإنزال جثة ابن نصر، ودعوة أحمد الى سامراء وإعلان مرجعيته. كل ذلك حول شهر رمضان سنة 237.

١٩٥

قال ابن كثير في النهاية « 10 / 306 »: « ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أويومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية (رحمه الله). وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق ».

وقال في النهاية « 10 / 348 »: « وفي عيد الفطر منها « سنة 237 » أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، واجتمع في جنازته خلق كثير جداً، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوماً مشهوداً. ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحاً وسروراً، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا، وعن المغالاة في البشر.

ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لوتكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير.

ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيراً، فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلاً فيه، ثم نزعها نزعاً عنيفاً وهويبكي رحمه الله تعالى.

١٩٦

وارتفعت السُّنَّة جداً في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لايولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر ».

أهم إنجازات مرجعية أحمد بن حنبل

كانت مدة مرجعية أحمد للدولة ثلاث سنوات ونصفاً، لأن مجيئه الى سامراء في شهر رمضان سنة 337، ووفاته في ربيع الثاني سنة 341.

لكنها كانت مرجعية مؤثرة، حيث حققت إنجازين كبيرين عند أصحابهما:

الأول: ترسيخ حزب المجسمة النواصب، الذين كان يقودهم ابن صاعد، وعرفوا بإسم الصاعدية. وكانوا في زمن المتوكل وبعده تياراً متطرفاً.

ويظهر أنهم صاروا بعد ذلك مذهباً لهم آراؤهم التي تخالف المسلمين!

قال المقدسي في البدء والتاريخ « 5 / 149 »: « وأما الصاعدية فهم أصحاب ابن صاعد يجيزون خروج أنبياء بعد نبينا « ص » لأنه رويَ: لا نبيَّ بعدي إلا ما شاء الله »!

وهم مجسمة الحنابلة الذين يشكو منهم أهل بغداد وأئمة الحنابلة المعتدلون كابن الجوزي. وهم الأجداد الحقيقيون لابن تيمية وأتباعه الوهابية.

والإنجاز الثاني: تأليف صحيح البخاري، فقد كان البريد يصل من المتوكل في سامراء الى أحمد بن حنبل في بغداد كل يوم، وكان البخاري مشغولاً بتأليف

١٩٧

كتابه، وقد زار أحمد بن حنبل ثمان مرات، وكان يسانده ويمدحه، وكان تعيين جميع القضاة ومساعدات جميع المحدثين عن طريق أحمد بن حنبل.

وعندما أكمل البخاري صحيحه عرضه على أحمد فارتضاه، وطلب منه أن يسكن بغداد، فكان البخاري يتأسف لأنه لم يسمع كلامه، ولم يأت الى بغداد.

قال الخطيب في تاريخ بغداد « 2 / 22 »: « محمد بن يوسف يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: دخلت بغداد آخر ثمان مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل. فقال لي في آخر ماودعته: يا أبا عبد الله، تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان؟ قال أبوعبد الله: فأنا الآن أذكر قوله ».

وفي تغليق التعليق لابن حجر « 5 / 423 »: « قال العقيلي: لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة ».

محنة أحمد بن حنبل كذبة حنبلية!

1. لن تستطيع أن تفهم نظرية عمر بن الخطاب بأن الله تعالى أنزل القرآن على سبعة أحرف، فقد قال بعض محبيه إنه حاول فهمها ثلاثين سنة وتوصل الى بضعة ثلاثين وجهاً، لكن ليس منها وجهٌ معقول!

ولن تستطيع حتى لوكنت حنبلياً أن تفهم محنة ابن حنبل التي أحيت الدين! وهي أنه سجن سنتين، وضربوه ثمانية وثلاثين سوطاً، فأحيا بذلك الدين!

١٩٨

قالوا: حبس هو وثلاثة، فمات أحدهم في الطريق، ومات الثاني في السجن بعد عشر سنين، وقتل الثالث بعد سجنه بأكثر من عشر سنين، وعفوا عن أحمد، فأحيا الله الدين بمن أطلقوه، وليس بمن قتلوه، ولا بمن مات في السجن!

ولن تستطيع معرفة كيف صار ابن حنبل أعظم شخص في الأمة بعد النبي (ص)!

قال أبو يعلى في طبقات الحنابلة « 1 / 13 و 227 »: « قال علي بن المديني: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبوبكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل في يوم المحنة! ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل. قال قلت له: يا أبا الحسن ولا أبوبكر الصديق؟ قال: ولا أبوبكر الصديق، لأن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب »!

وقال ابن كثير في النهاية « 10 / 369 »: « قال البخاري: لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة. وقال إسماعيل بن الخليل: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً ».

وصادروا لأحمد صفات أئمة الشيعة فقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: « أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه »! « تاريخ بغداد: 5 / 183 ».

2. قصة المحنة كما يسمونها: أن المأمون أمر بإرسال المحدثين الذين لم يقبلوا أن القرآن مخلوق، اليه الى طرسوس، فأرسلوا اليه من بغداد أربعة: أحمد بن حنبل،

١٩٩

وأحمد بن نصر، ومحمد بن نوح بن ميمون، ونُعَيْم بن حماد. فمات المأمون وهم في الطريق فأرجعوهم الى بغداد. ومات محمد بن ميمون في الطريق.

وأحضر المعتصم أحمد بن حنبل وناظره وأطلق سراحه، لأنه قال لهم: أنا أقول بقول أمير المؤمنين! كما شهد بذلك المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي.

وبقي نُعيم بن حماد في السجن عشر سنوات حتى مات. وبقي أحمد بن نصر في السجن ثلاث عشرة سنة، فأحضره الواثق ابن المعتصم وقتله.

3. ولكل واحد من هؤلاء الأربعة، قصةٌ ومحاكمةٌ ومناظرةٌ، وأعظمهم بلاءً أحمد بن نصر، حيث أصر على رأيه بأن القرآن غير مخلوق حتى قتله الواثق بيده! لكنهم أهملوه وبالغوا في محنة ابن حنبل، وبالغَ هو في الحديث عن « بطولته » في السجن وصموده تحت سياط الخليفة، وتفوقه في مناظرته لقاضي قضاة المعتصم والواثق. وروى لنفسه ورووا له الكرامات والمعجزات في المحنة!

قال المروزي في مسائل الإمام أحمد / 109، وابن كثير في النهاية، ملخصاً « 10 / 365 »: « وفي عام مائتين واثني عشر أعلن المأمون القول بخلق القرآن، وفي عام ثماني عشرة ومائتين رأى المأمون حمل الناس والعلماء والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم، وكان آنذاك منشغلاً بغزوالروم، فكتب إلى نائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعوالناس إلى القول بخلق القرآن، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الإمتناع من

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وفيه: أَوّلاً: منع وجوب اللطف وسيأتي بحثه.

وثانياً: أنّ إنزال الكتاب غير موقوف على التكلّم، بل يمكن بنقش الحروف في اللوح ليطالعه المَلَك المبلِّغ إلى النبي أو الرسول، بل اللطف غير موقوف على إنزال الكتاب أصلاً؛ لإمكان إلهام الله نبيه في النوم أو اليقظة الأحكام والمعارف النافعة للناس؛ ولذا لم يكن لكلّ نبي كتاب كما يأتي.

٤ - إنّ الله قادر على كلّ ممكن، فالتكلّم - بما أنّه ممكن - مقدور، والداعي والغرض من إيجاده متحقّق، والصارف والمانع مفقود، فوجب تحقّق التكلّم؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته. ذكره وسابقه في كفاية الموحّدين (١) .

أقول: تحقّق الداعي غير بيّن ولا بمبيّن، ولعلّه أراد به إنزال الكتب، وقد عرفت ما فيه.

٥ - إجماع الأنبياء وتواتر أخبارهم (سلام الله عليهم) بذلك، ذكره جمع. ولكنّه محتاج إلى علم الغيب؛ إذ لم يصل إلينا من نبي - غير خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله - أنّه تعالى متكلّم، وقد عرفت أنّ إنزال الكتب والوحي لا يدلاّن على تكلّمه؛ لاحتمال استنادهما إلى إيجاد الحروف المنقوشة دون المسموعة.

٦ - إجماع الملّيين واتّفاق المسلمين.

٧ - الكتاب والسُنة، فمن الأَوّل قوله تعالى: ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (٢) وقوله: ( وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) (٣) وقوله تعالى: ( يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على قوله، ومن الثاني ما سيجيء بعضه. وهذا الوجه هو العمدة في المقام، فتحصّل أنّ إثبات تكلّمه نقلي لا عقلي.

إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ هاهنا مقامات للبحث:

المقام الأَوّل: في حدوثه

لا خفاء في أنّ كلامه حادث، فإنّه عبارة عن إيجاد الصوت القائم بالهواء المعدوم في الأزل، بناءً على حدوث العالَم، وأيضاً قِدمه يستلزم وجود المخاطب القديم صوناً عن اللغوية، والمسلّم بين المتكلّمين عدمه، فيبطل قِدم الكلام ولو بتوارد الأمثال، ويثبت

____________________

(١) المصدر نفسه / ٣٢٨.

(٢) النساء ٥ / ١٦٤.

(٣) الأعراف ٦ / ١٤٣.

(٤) البقرة ٢ / ٧٥.

٢٤١

حدوثه شخصاً ونوعاً.

وأيضاً الحروف المسموعة من الموجودات الغير القارّة، ولا يمكن جمع حرفين منهما في آن واحد، فلابدّ من الترتّب بينهما، ولا شكّ أنّ الحرف المسبوق المتأخر عن السابق حادث، فكذا السابق فإنّه سابق عليه بزمان محدود، والمتقدّم على الحادث بمقدار محدود حادث بالضرورة، كلّ ذلك واضح لا سترة عليه، وقد نصّ عليه القرآن الكريم أيضاً حيث قال: ( مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ) (١) وقال: ( وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ) (٢).

ومع ذلك فالحنابلة - أتباع أحمد بن حنبل، من أهل السُنة - ادّعوا أنّ كلامه حرف وصوت يقومان بذاته تعالى، وأنّه قديم، وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلاً: الجلد والغلاف قديمان فضلاً عن المصحف (٣) ، سبحانك عن هذه الضلالة العظيمة.

وأمّا الكرامية فهم وإن خالفوا هؤلاء في قِدم الكلام وقالوا بحدوثه، لكنّهم وافقوهم في قيامه بذاته تعالى؛ لتجويزهم قيام الحوادث به (٤) ، لكن سيأتي بطلان هذا التجويز، وأنّ قيام الحوادث وحلولها به تعالى ممتنع عقلاً.

ومن هنا اخترع الأشاعرة الكلام النفسي؛ ليصحّ قيامه بذاته، ولا يلزم منه ما ذكره الكرامية، فكأنّ هؤلاء الأحزاب لم يصلّوا إلى الحقّ أصلاً، ولم يفهموا أنّ الحروف لا تصير قديمةً، وأنّ الحادث لا يحلّ فيه تعالى، وأنّ قيام الحادث به لا يستلزم الحلول حتى يحتاج إلى الاختراع الفاسد المذكور، فإنّ قيام المبادئ بذويها على أنحاء شتّى، ونحن نذكرها هنا فإنّه ينفعك في غير المقام أيضاً، فلا تقع في الغلط والضلالة كما وقع فيه أقوام، فنقول وبالله الاعتماد:

١ - القيام الحلولي: مثل: مريض، ميت، جائع، خائف، شجاع، عالم، حليم، طويل، أسود، قائم، عاشق، غضبان، راضٍ، محبّ، عدو... إلى غير ذلك من المبادئ التي تحلّ محالها، ويسمّى قيامها بالقيام الحلولي.

٢ - القيام الانتزاعي: وهو ما ليس بإزاء المبدأ في الخارج شيء متأصّل، ويعبّر عنه في بعض أفراده بالمحمول بالصميمة، مثل: ممكن، زوج، مالك، حر، عبد، مملوك، أب، ابن، قريب، بعيد، واحد... إلى غير ذلك من المبادئ الاعتبارية التي لا تحقّق لها في الخارج أصلاً، وإنّما

____________________

(١) الأنبياء ٢١/ ٢.                                     (٢) الشعراء ٢٦ / ٥.

(٣) شرح المواقف ٣ / ٧٦ وكذلك في غيره.

وفي الحاشية شرحها: نقل عن بعضهم، أنّ الجسم الذي كُتب به القرآن فانتظم حروفاً ورقوماً هو بعينه كلام الله، وقد صار قديماً بعد ما كان حادثاً!

(٤) المصدر نفسه.

٢٤٢

الموجود هو نفس الذات، وأمّا المبدأ فهو إمّا في الذهن فقط كما هو الغالب، أو في نفس الأمر كما في مثل الإمكان والامتناع، وزوجية الأربعة، ونحوها.

٣ - القيام الوقوعي: مثل: محمود، مضروب، مشكور، منصور، معلوم، معبود.... إلى غير ذلك من المشتقات التي تُحمل مبادئها على ذويها باعتبار وقوعها عليها وقوعاً حسّياً أو اعتبارياً.

٤ - القيام الذاتي: وهو ما كان المبدأ نفس الذات، مثل: قولنا: الوجود موجود، فإذا قلت في تحليل الموجود: شيء له الوجود، فذلك الشيء نفس الوجود بلا مداخلة شيء آخر، ومثله قولنا: الضوء مضيء والنور منور.

ومن هذا القبيل الصفات الذاتية الثابتة للواجب الوجود، بناءً على مذهب أهل الحقّ من عينيتها مع الذات، فإذا قلنا إنّه عالم، قادر، حيّ، وغير ذلك فقد اعترفنا بقيام مبادئها بذاته تعالى، والحال أنّها نفس ذاته المقدّسة.

وأمّا على زعم الأشعريين فهي داخلة في القسم الأَوّل، وعلى حسبان جمع من الاعتزاليين داخلة في القسم الثاني كما لا يخفى على البصير.

فإن قلت: فقد اختلف إطلاق هذه الصفات عند أهل الحقّ على الخالق والمخلوق؛ حيث إنّ قيام مبادئها في الأَوّل ذاتي وفي الثاني حلولي، فهل يلتزمون بالاشتراك أو المجاز أو غير ذلك؟

قلت: لا بل الإطلاق على كلا الموردين حقيقة، والاستعمال بنحو فارد، والاختلاف الواقع في ناحية المصداق، غير مرتبط بجانب المفاهيم التي عليها مدار وضع الألفاظ، وتحقيق هذه المسألة في أُصول الفقه.

٥ - القيام الصدوري: وهو ما كان المبدأ صادراً عن الفاعل وحالاًّ في غيره، كالقاتل، والكاسر، والجارح، والضارب، والمعطي، والمكرِم ونحوها، ومن هذا القبيل التمّار، والحدّاد، واللابن، والصبّاغ، ونحوها بناءً على تفسيرها ببائع التمر والحديد واللبن أو صانع الحديد وعامل الصبغ، وأمّا لو فسّرناها بغير هذا المعنى، فلابدّ من جعل القيام فيها قسماً برأسه، وتسميته بالقيام الاعتباري؛ إذ لا يدخل في القسم الثاني كما لا يخفى.

وهذا التقسيم ممّا لا يحتاج إلى دليل وشاهد، فإنّه بيّن في نفسه، فإنّ العاقل إذا تصوّره على وجهه يصدّقه لا محالة، ويذعن بأنّ المشتقّات وما بحكمها لم توضع للقيام الحلولي فقط، بل لمطلق القيام وتعيين أحد الأقسام من خصوصيات الموارد، كما في سائر الألفاظ الموضوعة، كلفظ الإنسان مثلاً فإنّه وضع للطبيعي الجامع، وأمّا كونه متحرّكاً أو ساكناً، عالماً أو جاهلاً، ذكراً أو أُنثى، إلى غير ذلك من أقسامه، فهو يستفاد من الخارج وهذا واضح جداً، اللهم إلاّ أن يرجّح الشخص تقليد مشايخه الأَوّلين على وجدانه وإدراكاته الأَوّلية.

٢٤٣

فإذا تحقّق ذلك فاعلم أنّ جميع أفعاله تعالى قائمة به قياماً صدورياً، كما أنّ صفاته الذاتية قائمة به قياماً ذاتياً كما مرّ، فالتكلّم كنظائره من الأفعال صادر عنه وقائم به قياماً صدورياً، ويحلّ في جسم من الأجسام لا فيه تعالى، بل الصحيح أنّ قيام مبدأ التكلّم بالمتكلّم الممكن أيضاً قيام صدوري، وفرقه عن الواجب بالجارحة المخصوصة لا يرتبط بما هو محل البحث، فإنّ صدور الكلام عن العضو المذكور، غير معتبر في مفهوم التكلّم أصلاً، كعدم اعتبار جهل المتكلّم، أو فقره، أو سيادته، أو علمه، أو غير ذلك من الخصوصيات، بل معناه هو إيجاد الكلام كما دريت.

وأنت من عقائد الحنابلة والكرامية في الكلام اللفظي، ومن أوهام الأشعرية في الكلام النفسي الآتي وغيره من المسائل الأُصولية، تعلم قيمة قول نبيك الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومَن تركها غرق) والهداية من الله تعالى.

المقام الثاني: في الكلام النفسي

فقد تحصّل أنّ كلامه هو الحروف المسموعة، وتكلّمه إيجادها مثل كلامنا وتكلّمنا، وهذا هو مذهب الإمامية ووافقهم عليه المعتزلة، وأمّا الأشاعرة فلا أدري أنّهم يتبعوننا في ذلك بأسرهم أم لا؟ غير أنّ المصرّح به في كلام جماعة منهم (١) ، هو الأَوّل وقبول أنّ كلامه اللفظي حادث غير قائم به، إلاّ أنّهم أثبتوا معنى آخر للكلام، وسمّوه بالكلام النفسي (٢).

أقول: الكلام تارةً في تصوّره، وأُخرى في تصديقه، فللبحث جهتان:

أمّا الجهة الأُولى:

فقد قال جمع من أعلامنا: إنّه غير معقول في نفسه، لكنّ الأشعرية أصرّت على تصويره، ففي المواقف وشرحها (٣) : وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ، ونقول هو الكلام حقيقةً، وهو قديم قائم بذاته تعالى، ونزعم أنّه غير العبارات؛ إذ تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام، ولا يختلف ذلك المعنى النفسي، بل يدلّ عليه بالإشارة والكتابة كما يدلّ

____________________

(١) لاحظ شرح المواقف وحواشيه، وشرح القوشجي وكلام ابن روزبهان.

(٢) قال الأحسائي في شرح المشاعر: إنّ هذا قول الأشعري ومتابعيه تبعاً لمحمد بن عبد الوهاب القطّان.

أقول: وعن بعض العامّة نقلاً عن بعض العلماء، إنّه ما تلفّظ بالكلام النفسي أحد إلاّ في أثناء المِئة الثالثة، ولم يكن قبل ذلك في لسان أحد. لاحظ إحقاق الحق ١ / ٢٢٢.

وفي حاشيته لبعض المتتبعين: قيل: إنّ أَوّل مَن تفوّه به أبو محمد عبد الله المتكلّم البغدادي من أهل القرن الثالث.

(٣) شرح المواقف ٣ / ٧٧.

٢٤٤

عليه بالعبارة، والطلب الذي هو معنىً قائم بالنفس واحد لا يتغيّر مع تغيّر العبارات، وغير المتغيّر غير المتغيّر، وهو غير العلم؛ إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه، بل يعلم خلافه أو يشك فيه، وغير الإرادة؛ لأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبِر. وأمّا قِدمه؛ فلامتناع حلول الحوادث في الواجب... وهو واحد (١) وانقسامه إلى الأمر والنهي والاستفهام والخبر والنداء بحسب التعلّق، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبراً، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر... يكون أمراً، وكذا الحال في البواقي.

وقيل: كلامه خمسة. وقال ابن سعيد من الأشاعرة: هو في الأزل واحد، وليس متّصفاً بشيء من تلك الخمسة، وإنّما يصير فيما لا يزال.

أقول: كلّ ذلك لا يرجع إلى معنى معقول:

أمّا أَوّلاً: فدعوى أنّه الكلام حقيقةً دعوى كاذبة؛ فإنّ الكلام حقيقةً هو الحروف المسموعة كما مرّ؛ ولذا اعترف ابن روزبهان أنّ هذا المعنى ممّا لا يفهمه العرف.

وأمّا ثانياً: فلأنّهم لم يعلموا الفرق بين التصوّر والتصديق، وإلاّ لم يدّعوا تغايره مع العلم، فإنّ الإخبار - ولو عن شيء مقطوع العدم - أمر اختياري لابدّ له من تصوّر وعلم، ولا مانع من أن يتصوّر المخبِر ما يذعن بعدمه ثمّ يخبر عن وجوده، فالعلم التصوري موجود، ولعمري إنّ أكثر ما قالوه في معناه لا يخرج عن معنى العلم أصلاً، فهذا المعنى هو الوجود الذهني ولو كان تصوراً لا تصديقاً.

وأمّا ثالثاً: فكما أنّه لا إرادة حقيقةً في فرض الاختيار، ولا طلب جدياً أيضاً، بل الموجود هو الطلب الصوري وفيه تأمّل.

وأمّا رابعاً: فلِما ذكره بعض الأشاعرة (٢) بأنّ قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (٣) مع قوله: ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا ) (٤) متباينان لفظاً ومعنىً تباين زيد مع عمر، فالقول باتّحادهما في الأزل قول باتّحاد الآيتين، وهو ضروري البطلان.

وأمّا خامساً: فلأجل أنّ الالتزام بكون الكلام النفسي المذكر مدلولاً للكلام اللفظي، التزام بأنّه أمر ونهي، وخبر واستفهام، وتمنٍ وترجٍّ، وتعجّب وقَسَم ونداء، فإنّ الكلام اللفظي ليس إلاّ أحد هذه الأمور، ومن البديهي عدم تعقّل معنى آخر له وراء هذه المعاني، فإذا صحّ ذلك فيلزمهم الالتزام بكذبه تعالى وسفهه، تعالى الله عمّا يقول الظالمون الجاهلون علواً كبيراً؛ وذلك لأنّه أخبر

____________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٨٣.                              (٢) حاشية شرح المواقف ٣ / ٨٢.

(٣) البقرة ٢ / ١١٠.                                    (٤) الإسراء ١٧ / ٣٢.

٢٤٥

بقوله: ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ) (١) ، وهكذا أخبر عن وقوع جملةً كثيرة من الأُمور، والحال أنّ وقوعها غير ثابت في الأزل.

والكلام النفسي عندهم قديم، وأيضاً أنّه أمر بأُمور ونهى عن أُمور وحكى أشياء، والحال أنّه لا مكلّف ولا مخاطَب في الأزل، وقطعية بطلان التالي يكشف عن قطعية بطلان المقدّم.

وأمّا إنكار اتّصافه بهذه الأنواع في الأزل مع كونه مدلولاً للفظ، فهو عسير جداً، كما اعترف به القوشجي، بل هو غير معقول أصلاً.

وأمّا سادساً: فلوقوع النسخ اتّفاقاً، وهو غير راجع إلى اللفظ فقط، بل إلى المعنى قطعاً، فلو كان الكلام قديماً لَما وقع النسخ، الذي هو بمعنى الدفع حقيقةً، والرفع صورةً؛ وذلك لِما تسالم عليه الجميع من أنّ ما ثبت قِدمه امتنع رفعه، بل لزم أبديته وهذا ظاهر.

ثمّ إنّ صحّة هذه القاعدة المتسالم عليها بإطلاقها وإن كانت غير ثابتة عندي، وقد تقدّم بحثها في البحوث الماضية، إلاّ أنّها في غير الأفعال الاختيارية ممّا لا شكّ فيه، والكلام النفسي من الصفات دون الأفعال.

قاله القوشجي في تصوير هذا الكلام النفسي (٢) .

أقول: المعنى النفسي الذي يدّعون أنّه قائم بنفس المتكلم، ومغاير للعلم في صورة الإخبار عمّا لا يعلمه، هو إدراك مدلول الخبر، أعني حصوله في الذهن مطلقاً.

أقول: هل الإدراك المذكور إلاّ العلم التصوّري فأين المغايرة؟ ولعمري إنّ هذا غير خافٍ على المبتدئين. قال ابن روزبهان (٣) في تصويره: ليراجع الشخص إلى نفسه إنّه إذا أراد التكلّم بالكلام، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر - يقوّم ويحسّن - ويرتّب معانٍ فيعزم على التكلّم بها... ويقول في نفسه: سأتكلّم بهذا... فهذا هو الكلام النفسي.

أقول: وبمثله أجاب عن لزوم السفه والكذب، كما أوردناه في الإيراد الخامس، ولكنّه ما التفت إلى أنّ ما ذكره ليس إلاّ تصوّر المعاني، وتصوّر ترتيبها والتصديق بحسنه، فيدخل في العلم الذي يتخيّل تغايره معه، فلا دافع عن لزوم السفه والكذب أصلاً.

وقيل: إنّه ألفاظ متخيّلته.

أقول: وهذا أيضاً راجع إلى التصوّر كما هو ظاهر، مع أنّ هذه التلفيقات لا تتمّ إلاّ بقياس الغائب على الشاهد الباطل اتّفاقاً.

____________________

(١) نوح ٧١ / ١.                                       (٢) شرح التجريد / ٢٧٧.

(٣) إحقاق الحق ١ / ٢٠٤.

٢٤٦

ثمّ إنّ الكلام وإن دلّ على التصوّر والتصديق، لكنّها دلالة عقلية كدلالة كلّ فعل اختياري على مقدّماته، فالأقوال والأفعال من هذه الجهة سواء، فليست بوضعية فضلاً عن كونها لفظيةً.

تعقيب وتحقيق

الذي يظهر من هؤلاء الناس أنّ معنى الأمر والنهي هو الطلب - أي طلب الفعل وطلب الترك - القائم بالنفس المغاير للإرادة.

وأمّا الأخبار فقال القوشجي (١) : والأشاعرة يدّعون أنّ نسبة أحد طرفي الخبر قائمة بنفس المتكلم ومغايرة للعلم... إلخ فيكون معنى الإخبار عندهم هو هذه النسبة.

أقول: أمّا الطلب فهو عندي وعند جملة من أصحابنا الأُصوليين المتأخرين مغاير للإرادة، كما أشرنا إليه في أَوّل الفريدة الثانية، فإنّ الإرادة بمعنى القصد ومن النفسيات.

وأمّا الطلب فهو بمعنى السعي نحو الشيء؛ ولذا يقال لمَن عزم على تحصيل العلم ولكنّه لم يحصّله بعد: إنّه مريد للعلم، ولا يقال: إنّه طالب؛ إذ هو ما طلبه بعد فهو من الأفعال، ومنه ينقدح أنّه ليس قائماً بنفس المتكلّم، فإنّه فعل لا صفة.

فالذي يدلّ على أنّه غير الإرادة خلافاً لجمع من أصحابنا والمعتزلة، هو الذي يدلّ على أنّه غير قائم بالنفس، فلا يكون معنىً للكلام النفسي في الأمر والنهي.

وأيضاً الأمر والنهي بنفسهما مصدقان للطلب، لا أنّهما وضعا لمعنى الطلب وهو موضوع له لهما.

وأمّا الإخبار فالمنسوب إلى العدلية (٢) ، أنّه دال على ثبوت النسبة وعدمها، نعم خالف فيه بعضهم منهم سيدنا الأُستاذ المحقّق - دام ظله - فذهب إلى أنّ معناه أمر آخر قرّرناه مع جوابه في أُصول الفقه، فحينئذٍ يتّحد المذهبان - أي: مذهب جمهور العدلية ومذهب الأشعرية - في ذلك مع أنّ النزاع بينهما قائم أشد قيام، وإلى هذا يُنظر ما حكي عن المحقّق الرشتي قدّس سره في بدائعه، من أنّ الالتزام بالنسبة الحكمية التزام بالكلام النفسي.

أقول: والتحقيق عدم الاتّحاد؛ وذلك لأنّ لفظ النسبة يطلق على معنيين:

أحدهما: الصفة الموجودة النفسية في قبال سائر الصفات النفسانية، وهذه هي مراد الأشعرين، ويجعلونها الكلام النفسي في الأخبار، ويزعمون قِدمها في الواجب.

ثانيهما: الأمر الاعتباري المحض، الملحوظ للعقل بين المحمول والموضوع، الساري في

____________________

(١) شرح التجريد / ٢٧٦.

(٢) كفاية الأُصول ١ / ٩٨.

٢٤٧

الممتنعات وبين الشيء ونفسه ولوازمه، مثل: اجتماع الضدّين محال، زيد زيد، الإنسان ممكن، والنسبة الوجودية غير معقولة في هذه الموارد، وقيام هذه النسبة الاعتبارية في النفس على حدّ قيام سائر الأُمور الاعتبارية، مثل الملكية، والزوجية، والأُمور الإضافية، مثل الفوقية، والتحتية ونحوها.

وإن شئت فقل: إنّ النسبة الأُولى قائمة بالنفس قياماً عينياً، على حذو قيام العلم والشوق والتمنّي، والثانية قائمة بها قياماً علمياً، مثل قيام الموجودات الخارجية بالنفس، فإنّه بصورها لا بأعيانها؛ ولذا يقول الأصحاب ومَن تبعهم بصحّة الثانية وبطلان الأُولى، وأنّها غير معقولة، وما قالوه حقّ لمَن أنصف من نفسه، ولم يكابر وجدانه؛ تحفّظاً على تقليده مذهب أبائه وأشياخه!

فتحصّل: أنّ كلامه تعالى هو إيجاده الألفاظ المترتّبة، المسموعة، الدالة على معانيها، المنقسمة تقسيماً ذاتياً إلى الإخبار والإنشاء الطلبي وغير الطلبي، وليس هنا معنى آخر غير الصفات المشهورة من العلم والإرادة ونحوهما، يسمّى كلاماً نفسياً كما تخيّله هؤلاء.

وكلامه تعالى هذا حادث متكثّر مثل تكثّر بقية أفعاله، كالرزق والخلق، والإحياء والإماتة، ونحوها، كل ذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّ للعضدي توهّماً آخر أضعف ممّا مرّ، نقله الجرجاني في شرح كتابه المواقف في هذا المقام، وقد اعترف التفتازاني في شرح العقائد النفسية، والقوشجي في شرح التجريد، بخروجه عن التعقّل وطور العقل، فلا نطيل الكلام بنقله وردّه.

ثمّ للأحسائي حديث آخر حول الكلام النفسي، في شرحه على عرشية الحكيم الشهير الشيرازي، ولا بأس بنقل كلامه وكلام الماتن مختصراً.

قال الماتن (١) : الكلام ليس كما قالته الأشاعرة: صفةً نفسية ومعاني قديمة قائمة بذاته... لأنّه غير معقول، وإلاّ لكان علماً لا كلاماً، وليس عبارةً عن مجرّد خلق الأصوات والحروف الدالة على المعاني، وإلاّ لكان كلّ كلام الله، ولا يفيد التقييد بكونه على قصد إعلام الغير من قِبل الله، أو على قصد الإلقاء من قِبله؛ إذ الكل من عنده، ولو أُريد بلا واسطة فهو غير جائز أيضاً، وإلاّ لم يكن أصواتاً وحروفاً، بل هو عبارة عن إنشاء كلمات تامّات... إلخ.

قال الشارح، ذكر الكلام بعد العلم لجعله إيّاه من الصفات الذاتية، والمستفاد من فحوى كلامه وكلام أتباعه - مثل الملا محسن - أنّه قديم... لأنّه بعض الشؤون الذاتية... وقد صرّح الملا محسن في كتابه أنوار الحكمة، والتكلّم فينا مَلَكة قائمة بذواتنا... وفيه سبحانه عين ذاته... قوله: (ليس كما قالته الأشاعرة) أصحاب علي بن إسماعيل بن أبي بشير أبي الحسن الأشعري...

____________________

(١) شرح العرشية / ٦٧.

٢٤٨

وكان على طريقة المعتزلة يقول بحدوث القرآن، ثم خطب وهو قاضٍ بالبصرة، وعدل إلى مذهب محمد بن عبد الوهاب القطّان...

أقول: الذي ظهر لي أنّ الأشاعرة أشاروا إلى معنى لو كان ذلك في حق الحادث لكان صحيحاً، ولكنّ بطلان قولهم لا من حيث إنّه غير معقول، بل هو معقول معروف، إلاّ أنّهم عجزوا عن التعبير في بيان ما أرادوا بعبارة تدلّ على مطلوبهم، فلمّا نظر مخالفوهم إلى المفهوم من خصوص تعبيرهم عنه، وجدوا شيئاً لا يعرف العقل استقامته... والعبارة الدالة على مرادهم: هو أنّ النفس لها كلام مثل كلام اللسان بحروف وأصوات إلاّ أنّها نفسية، فالنفس تخاطب مثال غيرها، وتأمره، وتنهاه، وتطلب منه، وكذلك، مثالها وهو قولهم: مثل حديث النفس؛ لأنّ النفس قد تحدّث نفسها، وتحدّث غيرها بكلام مشتمل على كلمات لفظية، وحروف صوتية، مثل الكلام المسموع بالأذان، إلاّ أنّه نفسي لا جسماني. هذا كلامهما. أقول: أمّا قول الماتن (وإلاّ لكان كلّ كلام الله) فهو مبني على كون أفعال المخلوق أفعال الله، أي على الجبر الباطل عندنا وعند متابعينا من المعتزلة.

وأمّا قوله: (وإلاّ لم يكن أصواتاً وحروفاً)، فهو مبني على أنّ الصادر عن الله تعالى بلا واسطة أمر مجرّد، وسيأتي في آخر هذا الجزء بطلانه.

وأمّا جعله إيّاه من الصفات الذاتية، فهو أضعف بناءً على إرادة ما أرادته الشريعة الإسلامية من هذه الكلمة، وإلاّ فلكل أحد الاصطلاح بكل ما أراد!

وأمّا ما أتى به الشارح الأحسائي، وزعم عجز الطرفين عن فهمه، فهو شيء عجيب، فإنّه ليس إلاّ تصوّر الألفاظ لا غير، وكلامه بطوله وما أصرّ عليه من أنّه غير العلم خبط وغلط، فلا نطوّل المقام به، فاستقم ولا تكن من ذوي الاعوجاج.

وأمّا الجهة الثانية

ففي بيان أدلتهم على ذلك المرام الخيالي وهي وجوه:

١ - إنّ الكلام صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، فكلامه قديم.

أقول: وهذا منهم عجيب، فإنّ الكلام ليس بصفة، بل هو يضاف إلى الله فيقال: كلام الله، ولا يقال: الله كلام، كما يقال: زيد مخلوق الله، ولا يقال: الله زيد المخلوق، فالكلام الذي هو مؤلّف من الحروف والأصوات مخلوقه لا وصفه، وما يتّصف به هو التكلّم فيقال: الله متكلم، أي ثبت له التكلّم، وهذا ظاهر للمبتدئين، فلو تمّت الكبرى لكانت النتيجة هي قِدم التكلّم، الذي هو إيجاد الحروف المذكورة لا نفس الكلام؛ ليحتاج حينئذ إلى الكلام النفسي، فافهم.

وأمّا الكبرى، فإن أُريد بالصفة المذكورة فيها مطلق ما يتّصف به الله سبحانه فهي باطلة؛ إذ

٢٤٩

صفاته الفعلية كلها حادثة، كما تقول: الله رازق، خالق، رحيم، مميت، معطي، مثيب، ومعاقِب، إلى غير ذلك، وإنّما القديم صفاته الذاتية.

وإن أُريد بها الصفة الذاتية فالأوسط غير متكرّر؛ فإنّ التكلّم في الصغرى صفة فعلية وهذا واضح.

وإن شئت فقل على سبيل النقض: إنّ الله كما يتّصف بالكلام النفسي على زعمهم، يتّصف بالكلام اللفظي باعترافهم، فلابدّ لهم من القول بقِدم اللفظي بعين هذا الوجه! فهذا التلفيق فاسد جداً.

٢ - كلّ متكلّم يرتّب الكلام في نفسه قبل التلفّظ به، واللفظ كاشف عن الكلام النفسي المذكور، كما قال الأخطل:

إنّ الكلام لفي الفؤادِ وإنّما جُعل اللسانُ على الفؤادِ دليلاً

وفيه: أنّ الكلام النفسي بهذا المعنى تصور الألفاظ لا غير، ولا نمنع عن إطلاق الكلام عليه غير أنّه عين العلم، ودلالة اللفظ عليه ليست بلفظية، بل هي عقلية كما في الأفعال على ما قلنا سابقاً.

٣ - إنّ إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح بلا عناية فيقال: في نفسي كلام، وفي التنزيل ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (١) .

أقول: وهذا كما يقال: في نفسي أن أُسافر غداً، وفي نفسي صوم الجمعة، وهكذا، فهل للصوم والمسافرة مسافرة نفسية وصوم نفسي حتى يكون للكلام كلام نفسي؟

٤ - إطلاق المتكلّم على الواجب صحيح، ومعناه مَن قام به الكلام لا مَن أوجده؛ ولذا لا يقال: الذائق على مَن أوجد الذائقة، ولا المتحرّك إلاّ لمَن قام به الحركة، والقائم به تعالى لا يكون إلاّ قديماً.

أقول: قد عرفت ضعفه، وإنّ قيام المبادئ بذويها على أنحاء مختلفة، وأنّه ليس بحلولي دائماً، فهذا الإشكال صدر عن غفلة وجهالة بأنحاء القيام، وإلاّ فيرد عليه استلزامه قِدم الرزق والخلق وغيرهما، كما هو واضح.

وفي خاتمة البحث نقول: الدليل على إثبات أصل هذه الصفة للواجب، هو إجماع الأنبياء وتواتر أخبارهم، بأنّ الله أمر بكذا ونهى عن كذا، والأمر والنهي من أقسام الكلام كما قالوا، والثاني القرآن العزيز، وكلاهما يدلّ على الكلام اللفظي دون النفسي، فلا ملزم بل لا مجوّز لهم أن يعتقدوا بالكلام النفسي القائم بذاته بعد قبولهم الكلام اللفظي، فتأمّل جيداً.

____________________

(١) الملك ٦٧ / ١٣.

٢٥٠

المقام الثالث: في إطلاق الكلام على القرآن

قد عرفت أنّ الكلام من مقولة الكيف المسموع، ولا يقال للألفاظ المنقوشة: إنّها كلام، وأمّا إطلاق الكلام على القرآن المجيد في لسان المسلمين تبعاً لقوله تعالى: ( حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ) ، فهو باعتبار أنّ هذه الحروف أوجدها الله سبحانه من غير وساطة، فمَن سمعها - ولو من إنسان - فكأنّما سمع من الله تعالى.

وهذا الإطلاق - بهذه العناية - شائع في العرف؛ ولذا يقال: سمعت كلامك من فلان، بلغني كلامك، وهكذا، فالقرآن بمعنى كلامه حادث؛ ضرورة حدوث الألفاظ المسموعة، وكذا بمعنى المنقوش والمكتوب، وهو واضح وإن عميت عنه الحنابلة، حتى إنّ إمامهم أحمد بن حنبل أفتى بكفر مَن اعتقد مخلوقية القرآن! ونقل أيضاً (١) عن شرح المقاصد مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر، ثمّ استقرار رأيهما على أنّ مَن قال بخلق القرآن فهو كافر!

ولعمري إنّ تكلّمه تعالى ممّا لا يحتاج إلى بحث وتوضيح أصلاً، غير أنّ مخالفة هؤلاء الناس وتفرّدهم بأمر باطل حملنا على هذا البحث، ونختم كلامنا في هذه الفريدة بنقل بعض الروايات الواردة عن أهل العصمة والطهارة:

ففي آخر رواية أبي بصير (٢) قال: قلت: فلم يزل الله متكلماً؟ قال: فقال - أي الصادق عليه‌السلام -: (إنّ الكلام صفة محدَثة، ليست بأزلية كان الله عزّ وجلّ ولا متكلّم). ورواها المفيد باختصار (٣) وفي آخرها: (كان الله عزّ وجل وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام)، وكذلك الشيخ الطوسي قدّس سره (٤) ، وأمّا الصدوق فرواها بتعبير آخر، لكن ذيلها متحد مع ما رواه الكليني (٥) .

وفي رواية عبد الملك بن أعين قال عليه‌السلام : (كلام الله محدَث وغير أزلي). وفي صحيحة صفوان قال الرضا عليه‌السلام في جواب أبي قرّة المحدّث: (التوراة والإنجيل، والزبور والقرآن، وكل كتاب أنزله كان كلام الله، أنزله للعالمين نوراً وهدىً، وهي كلها محدَثة، فقال أبو قرّة: فهل يفنى؟ قال عليه‌السلام : أجمع المسلمون على أنّ ما سوى الله فعل الله، والتوراة والإنجيل والزبور القرآن فعل الله، أَلم تسمع الناس يقولون: ربّ القرآن... كلّها محدَثة مربوبة، أحدثها مَن ليس كمثله شيء... فمَن زعم أنّهنّ لن يزلنَ فقد أظهر أنّ الله ليس بأَوّل قديم ولا واحد، وأنّ الكلام لم يزل معه).

أقول: وهذا هو الإلزام بتعدّد القدماء كما اشتهر، وسيأتي في محلّه.

____________________

(١) آخر الشوارق، الجزء الثاني.                                      (٢) أُصول الكافي ١ / ١٩٧.

(٣) بحار الأنوار ٤ / ١٥٠.                                         (٤) المصدر نفسه / ٦٨.

(٥) المصدر نفسه / ٧٢.

٢٥١

الفريدة الخامسة

في صدقه تعالى

٢٥٢

الفريدة الخامسة

في صدقه تعالى

لا شكّ في أنّه صادق في كلامه وإخباره، فإنّ الكذب قبيح وهو ينافي حكمته البالغة المبرهن عليها سالفاً، فلا يصدر عنه الكذب بالضرورة.

ثمّ إنّ الصدق وإن كان من نعوت الكلام باعتبار مطابقته للواقع، لكنّ مرادنا هو الأعم، وهو عدم إغرائه غيره بخلاف الواقع، سواء كان من ناحية التكلّم، أو من جهة الإلهام، أو من جانب النقش في اللوح، أو من غيرها، فهو وإن كان قادراً على جميع القبائح إلاّ أنّه لا يفعلها البتة؛ لأنّه حكيم كما عرفت.

وهنا وجوه أُخر استدلّ بها على هذا الوصف كما في كفاية الموحّدين وغيرها:

١ - لا داعي للكذب سوى العجز والاضطرار المنفيين في حقّه تعالى فهو صادق.

أقول: حصر الداعي فيما ذُكر ممنوع، كما يظهر ممّا قلناه في حكمته تعالى، فهذا البيان ناقص إلاّ أن يرجع إلى ما قرّرناه.

٢ - لو جاز عليه الكذب لارتفع منه الوثوق والاعتماد بوعده ووعيده؛ لاحتمال تخلّفه في ثوابه وعقابه، والتالي مخالف لضرورة العقل فكذا المقدّم.

أقول: وهذا من قبيل إثبات العلّة بالمعلول ثبوتاً وهو باطل جزماً.

وإن شئت فقل: إنّ الوثوق المذكور إنّما يحصل من أجل أنّه صادق، فلو عُكس لجاء الدور المحال.

هذا، ولكن العضدي والجرجاني والقوشجي نقلوا هذا الوجه عن المعتزلة بنحو آخر، وهو: إنّ في ارتفاع الوثوق عن إخباره تعالى بالثواب، والعقاب، وسائر ما أخبر به من الأحوال الآخرة والأُولى، فوات مصالح لا تُحصى، والأصلح عليه واجب، فلا يجوز الإخلال به.

أقول: وجوب الأصلح إن تمّ فهو لأجل محذور القبح كما يأتي، وهو يكفي لإثبات صدقه بلا توسيط الوجوب المذكور.

٣ - لو جاز عليه لانتفى فائدة الترغيب في الطاعات والترغيب على المعاصي، وفيه ما تقدّم.

٢٥٣

٤ - جواز الكذب عليه مستلزم للظلم على العباد؛ إذ يجوز حينئذٍ أن يأمر بالمفاسدة ويخبر عن المهالك، وأن ينهى عمّا هو مصالحهم ومنافعهم، وهذا ظلم.

أقول: وفيه أَوّلاً: إنّ الملازمة ممنوعة؛ إذ جواز الكذب لا يلازم الظلم نفسه بل جوازه.

وثانياً: إنّ هذا ليس بدليل لمّي ولا إنّي، فإنّ المقدّم لا علّية ولا معلولية له للتالي، بل بطلان الكذب وبطلان الظلم، وكلاهما معلولان لبطلان القبح وعدم صدوره عن الله الحكيم، فتفطن.

٥ - الكتاب والسُنة كقوله تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) .

أقول: الاستدلال بالأَوّل دور مصرّح، وبالثاني دور مضمر كما هو ظاهر.

٦ - اتّفاق الملل عليه.

أقول: وجهه ما مرّ فليس بدليل مستقل.

٧ - إخبار الأنبياء والأوصياء بذلك بالتواتر.

وفيه: ما في سابقه مع أنّه ليس هنا خبر واحد صحيح نقل عن أحدهم في هذا الباب، وإنّما نعلم ذلك - أي إخبار الأنبياء بصدقه تعالى - من جهة ما مرّ من الدليل العقلي، كل ذلك ظاهر.

وأمّا الذين ينكرون الحسن والقبح العقليين بلسانهم، فاستدلّوا على إثبات صدقه تعالى بأُمور:

١ - إنّ الكذب نقص، والنقص عليه محال إجماعاً، وأيضاً فيلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه، أن نكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات، أعني وقت صدقنا في كلامنا.

٢ - إنّه لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديماً؛ إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب، وإلاّ لجاز زوال ذلك الكذب وهو محال، فإنّ ما ثبت قِدمه امتنع عدمه، واللازم باطل، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ مَن علم شيئاً أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه.

٣ - وعليه اعتمادهم لصحّته ودلالته على الصدق في الكلام النفسي واللفظي معاً، وهو خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه صادقاً في كلامه كلّه، وهذا ممّا يُعلم بالضرورة من الدين، بل نقول تواتر عن الأنبياء عليهم‌السلام كونه صادقاً.

لا يقال: صدق النبي موقوف على تصديق الله إيّاه، وهو موقوف على كونه تعالى صادقاً، فلو ثبت صدقه تعالى بصدق النبي لزم الدور.

فإنّه يقال: تصديق النبي غير موقوف على صدقه تعالى بل على المعجزة، فهو تصديق فعلي لا قولي، ودلالتها على التصديق دلالة عادية لا يتطرّق إليها شبهة.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل فهو مخصوص بالكلام النفسي - كما صرّح به الجرجاني - دون

٢٥٤

اللفظي فإنّه من الأفعال، والنقص فيها عين القبح العقلي كما اعترف به العضدي في مواقفه، وهو عندهم غير ثابت، وما تكلّف القوشجي من إجرائه في اللفظي أيضاً، لا يرجع إلى محصّل أصلاً.

وكذا الوجه الثاني كما اعترف به العضدي أيضاً، فإنّ الكلام اللفظي الكاذب حادث فلا يمتنع عدمه.

فهذان الوجهان إن تمّا لدلاّ على صدق الكلام النفسي، دون اللفظي الذي هو الأهم في المقام، وقد عرفت أنّ النفسي غير معقول، وما هو معقول لا يكون مدلول اللفظي قطعاً.

فهذان الوجهان ساقطان، مع أنّ الوجه الأَوّل يزيّف، بأنّ الكبرى ممّا لا دليل عليها إلاّ الإجماع، الذي استفادوا حجّيته من ظواهر الكتاب والسُنة، ومن الضروري أنّ اعتبارهما موقوفين على صدقه تعالى في كلامه، وهو عين النزاع في المقام.

وأمّا لزوم أكمليتنا منه تعالى، فبطلانه على قواعد الأشعريين غير بيّن، ولا بمبيّن، فإنّ أئمتهم يقولون: إنّ القول بالكمال والنقصان خطابي.

والوجه الثاني ممنوع من جهة أنّ دعوى الضرورة المذكورة من قبيل قياس الغائب على الشاهد، فإنّ كذبنا غير قديم؛ فلذا يمكننا التكلّم صادقين بالضرورة، وأمّا إذا كان قديماً فلا تجري فيه الضرورة المذكورة.

وأيضاً ينتقض بامتناع الكذب عليه، فإنّ صدقه قديم فيمتنع عدمه فلا يمكنه الكذب، مع أنّا نعلم بالضرورة أنّ مَن علم شيئاً يمكنه الإخبار على خلافه. وأمّا الوجه الثالث فهو يزيّف أَوّلاً: بما قدّمناه في مبحث علمه تعالى في جواب مَن استدلّ على إثباته بالأدلة النقلية.

وثانياً: إنّه لا دلالة للمعجزة على صدق النبي في دعوى نبوته على أُصولهم، فإنّهم ينكرون تعلّل أفعاله بالأغراض، ويجوّزون عليه جميع القبائح العقلية، بدعوى أنّه لا قبح بالنسبة إليه تعالى، فإذن إجراء المعجزة وإن كان يدلّ على وجود الواجب الوجود: لكنّه لا يدل عل نبوّة المدّعي، فإنّ الله لم يجرِها لتصديق دعواه، وإلاّ لزم تعلّل أفعاله بالغرض، وهو مستلزم لنقصه في أوهامهم، ودعوى الضرورة في حصول العلم العادي مع هذا البناء مجازفة واضحة ومكابرة ظاهرة؛ ولذا اضطر بعضهم، بأنّ يجوّز الكذب على الله (١) تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وهذا معنى قول بعض أصحابنا: إنّ القواعد الإسلامية لا تجري على أُصول الأشاعرة، وهو متين، فإنّه إذا لم يثبت صدقه تعالى فلا يثبت شيء من الشرعيات الاعتقادية والعملية، فيجوز حينئذٍ إنكار جملة من الضروريات الدينية، إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة.

____________________

(١) نقله السيد الجليل المعاصر في حاشيته على إحقاق الحق ١ / ٢٣١.

٢٥٥

بقي في المقام أمران:

الأمر الأَوّل: لا إشكال في حدوث صدقه فإنّه من صفة أفعاله، نعم لا يقال في العرف: كان الله ولم يكن صادقاً لإشعاره بثبوت ضدّه له، بل لابدّ أن نقول: كان الله ولم يكن متكلّماً أو فاعلاً، فالمسلوب هو المنشأ.

هذا ولكن في رواية جابر عن الباقر عليه‌السلام قال: (إنّ الله تبارك وتعالى كان - ولا شيء غيره - نوراً لا ظلمة فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالِماً لا جهل فيه، وحياً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً) (١) ، وفي رواية المفضّل عن الصادق عليه‌السلام (... وصدق ليس فيه كذب، وعدل ليس فيه جور... كذلك لم يزل ولا يزال... إلخ) (٢) .

أقول: ويمكن حمل الصدق فيهما على الحقّ والكذب على الباطل، فيرجعان إلى الصفات الثبوتية، وتشهد له صحيحة هشام بن سالم (٣) عن الصادق عليه‌السلام ففيها: (هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحقّ لا باطل فيه... إلخ)، ويُحتمل أن يكون الصدق والعدل بمعنى سلب الكذب والجور كما ذكره الإمام أيضاً، ولا شك أنّه تعالى كان في الأزل غير كاذب ولا بجائر، والأمر سهل.

الأمر الثاني: قد عرفت أنّ امتناع الكذب عليه تعالى إنّما هو من جهة عدم صدور القبح عنه، وسيأتي في المقصد الخامس أنّ الصحيح كونه بالوجوه والاعتبار، فإذن يمكن أن يقول قائل: بمنع امتناع الكذب عليه؛ إذ على هذا القول - أي كون القبح بالوجوه والاعتبار - يمكن أن تتحقّق في الكذب مصلحة مرجّحة لوقوعه رافعة لقبحه، فإذا تطرّق هذا الاحتمال فقد بطل الاستدلال على امتناع الكذب المذكور.

ويؤيّده ما ثبت عند أصحابنا الإمامية - رضي الله عنهم - من جواز التقية على الإمام، فإنّها لا تختصّ عندهم بالأفعال، بل تجري في الأقوال أيضاً، فإذا جاز أن يقول الإمام عبارةً كاشفة عن الواقع على خلاف ما هو عليه؛ مراعاةً لمصلحة التقية، جاز مثله في حقّ النبي بل وفي حق الله تعالى.

ومن هنا ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الإسلام - كما في الفصول الغروية في الأُصول الفقهية - إلى أنّ الأخبار الواردة في الشريعة - ممّا يتعلّق بتعذيب الكفّار والفسّاق بأسرها - أخبار صورية غير مطابقة للواقع، قصد بها مجرّد التخويف؛ لحفظ النظام وتكميل الأنام.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤ / ٦٩.

(٢) المصدر نفسه ٣ / ٣٠٦.

(٣) المصدر نفسه ٤ / ٧٠.

٢٥٦

هذا ولكن هذا الإشكال مقطوع البطلان، فإنّ القبح وإن كان بالوجوه والاعتبار، غير أنّه من الواضح أنّ قبح الكذب لا يزول، إلاّ من جهة الاضطرار الممتنع في حقّ القادر على كلّ شيء، فإنّه لا يُعجزه شيء في السماوات والأرض، فلا يعقل جواز الكذب في حقّه أبداً، وهذا ظاهر.

وأمّا النبي فقد استدلّ المحقّق الأُصولي صاحب الفصول على امتناع الكذب في حقه بوجهين:

الأَوّل: إنّ المعجزة تدلّ على تصديق الله إيّاه فيما يدّعي ويُخبر به، ولا ريب في قبح تصديق الكاذب إلاّ مع الاضطرار؛ لأنّه في معنى الكذب، وقد ثبت امتناع الاضطرار عليه تعالى.

الثاني: إنّه لو جاز التقية على الأنبياء لزال فائدة بعثتهم، وهو منافٍ للحكمة الباعثة عليه. ثمّ قال: وأمّا الإمام فليس الحال فيه كذلك، والفرق أنّ النبي منصوب بقاعدة اللطف؛ لإظهار الحقّ، وإمحاق الباطل، وإتمام الحجّة، وقطع المعاذير على مَن آمن برسالته ومَن كفر بها، سواء أَمن من شره أو لم يأمن، وأمّا الإمام فهو وإن كان قائماً مقام الرسول، في كونه الرئيس العام الواجب اتّباعه على سائر الأنام، إلاّ أنّ منصبه منصب العلماء الحاملين لأحكام الشريعة وأسرارها، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عند التمكّن من الضرر، فإذا اضطرّوا إلى التقيّة في الكلام جاز لهم ذلك بطريق التورية.

والسر في ذلك: أنّ الحجّة قد تمّت ولزمت على الأنام ببيان الرسول (عليه وآله السلام)، حتى بالنسبة إلى وجوب معرفة الإمام واتّباعه، فشأنه بعد الرسول إنّما هو إزاحة الجهل، ببيان ما يحتاج إليه من تفاصيل المعارف والأحكام مع أمن الضرر، ولا ريب أنّ هذا لطف آخر لا يغني عنه اللطف السابق، وعند التحقيق هذا كمال لذلك اللطف... إلخ.

أقول: لم أرَ لحدّ الآن أحداً من علمائنا ذكر جواز التقية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير أنّ جملةً من علماء العامة نسبه إلى الإمامية، وأنّهم يقولون بجواز التقية على النبي، وهذه النسبة كذب، بل الأمر بالعكس؛ إذ يظهر من بعض رواياتهم أنّ النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتّقي من قوم عائشة، كما ورد (١) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعائشة: (لولا أنّ لقومك عهداً بالجاهلية - وفي رواية عهد حديث بالكفر - وأخاف أن ينكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت ما أخرج عنه... إلخ)، فتدبّر.

وأمّا ما ذكره صاحب الفصول قدّس سره من الوجهين المتقدّمين، والفرق بين الإمام والنبي فهو ممنوع بل ظاهر الفساد، كما لا يخفى على الخبير.

____________________

(١) رواه القاضي في صوارمه عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة، ومن المتّفق عليه، وذكره شارح الوقاية من الحنفية في كتاب الحجّ.

٢٥٧

الفريدة السادسة

في رحمته

الفرق بين الرحمن والرحيم

نقد كلام سيدنا الأُستاذ الخوئي

٢٥٨

الفريدة السادسة

في رحمته

الفرق بين الرحمن والرحيم

قد وصف الله نفسه بالرحمن والرحيم، وهما مشتقان من الرحمة، وهي - كما في القاموس - الرقّة والمغفرة والتعطّف، وعليه فليست الرقّة مأخوذة في مفهومها، حتى لا يكون استعمالها في حقّه تعالى حقيقياً، كما يظهر من مجمع البحرين، وإلى الأَوّل ذهب بعض السادة الأفذاذ من أساتذتنا الأعلام في تفسيره (١)، وقال: إنّ الرقّة من لوازم الرحمة في البشر.

ثمّ إنّه لا شك أنّ لفظة الرحمن لا تُطلق على غيره بخلاف الرحيم؛ وعلّله الشهيد الثاني قدّس سره (٢) بأنّ معنى الرحمن المنعِم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وليس الوجه فيه كونها من الصفات الغالبة؛ لأنّه يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى بحسب الوضع انتهى.

أقول: إنكار الجواز بحسب الوضع مشكل، نعم لا شكّ فيه بحسب الشرع، بل هو بمنزلة العلم في حقه تعالى؛ ولذا لا يقال: رحمان بنا أو بالناس، وقد استعمل في القرآن المجيد في غير مورد من دون اعتبار الوصفية كقوله تعالى: ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) (٣) وقوله: ( وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ ) (٤) وقوله: ( إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ ) وغيرها.

وأمّا ما نقله الصدوق قدّس سره، من أنّ قوماً جوّزوا أن يقال للرجل: رحمان، فهو باطل وخطأ.

ثمّ إنّ الفرق بين الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية بوجهين:

١ - ما قاله الشهيد رحمه‌الله من أنّ تعقيب الرحمن بالرحيم من قبيل التتميم، فإنّه لمّا دلّ الرحمن على جلائل النِعم وأُصولها ذكر الرحيم؛ ليتناول ما خرج منها، لكنّه ليس بوجه وجيه.

٢ - ما ذكره أُستاذنا المتقدّم - دام ظله - من أنّ الفارق بين الصفتين، أنّ الرحيم يدلّ على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها، والرحمن يدلّ على ثبوت الرحمة فقط... إلخ؛ وذلك لِما

____________________

(١) البيان / ٣٠٠.

(٢) ديباجة شرح اللمعة.

(٣) يس ٣٦ / ٥٢.

(٤) يس ٣٦ / ١٥.

٢٥٩

أفاده أَوّلاً بقوله: ومن خصائص هذه الصيغة - الرحيم - أنّها تُستعمل غالباً في الغرائز واللوازم الغير المنفكة عن الذات: كالعليم والقدير والشريف والوضيع وغيرها.

أقول: ليس مراده عدم انفكاك الرحمة عن ذاته تعالى مطلقاً حتى يلزم قِدم المرحوم، فإنّه لا يقول بقِدم العالَم.

ويظهر من الأخبار فرق ثالث بينهما، وهو أنّ الرحمة الرحمانية تعمّ جميع الخلق، والرحمة الرحيمية تخصّ المؤمنين فقط، وهذه الروايات موجودة في أوائل تفسير البرهان (١) :

منها: ما رواه بطرق عديدة عن الصادقينَ عليهم‌السلام في تفسير البسملة، قال: (الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، والله إله كل شيء، والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصةً).

ومنها: مرسلة صفوان عنه عليه‌السلام : قلت: الرحمن، قال: (بجميع العالم، قلت: الرحيم، قال: بالمؤمنين خاصّةً).

ومثلها رواية ابن سنان، وقريب منها رواية أبي بصير، وهو المستفاد من رواية محمد بن سيّار الطويلة عن العسكري عليه‌السلام ، وإليه يرجع ما في المجمع والصافي من قول الصادق عليه‌السلام : (الرحمن اسم خاصّ لصفة عامة، والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة)، فإنّ معناه أنّ لفظ الرحمن يختصّ بالله ولا يُطلق على غيره، لكنّ معناه عام لجميع العالَم، ولفظ الرحيم يُطلق عليه وعلى غيره، لكنّ معناه مخصوص بالمؤمنين، أو أنّ الرحمة الرحمانية خاصّة بالدنيا، عامة للمؤمن والكافر، والرحيمية عامة للدنيا والآخرة، لكن مختصة بالمؤمنين.

ولا منافاة بين هذه الروايات، وما في المجمع من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قال عيسى بن مريم: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة)، فإنّه رحمان في الدنيا برحمته على الجميع، ورحيم في الآخرة برجوع رحمته إلى ما يتعلّق بالآخرة، وإن كانت الرحمة على المؤمنين في الدنيا.

وأمّا ما عن الصحيفة السجّادية من قوله عليه‌السلام : (يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما)، فلا شك في أنّه رحيم على المؤمنين في الدنيا والآخرة.

نعم يشكل إثبات الرحمة الرحمانية في الآخرة، ويمكن أن تكون مختصّةً بالمؤمنين؛ إذ لا دليل على انقطاع الرحمة المذكورة في الآخرة حتى من المؤمنين، نعم في الصافي عن تفسير

____________________

(١) ويوجد بعضها في تفسير القمي، وبعضها في الكافي وفي غيرهما، وفيها الصحيح وغيره.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296