صراط الحق الجزء ١

صراط الحق20%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132069 / تحميل: 7357
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

احتياج المركّب إلى كل جزء بنفسه في تحقّقه، والجزء غير الكل، فكل مركّب محتاج إلى غيره في وجوده، وهذا هو الإمكان المضاد للوجوب.

وأيضاً الواجب لا يكون متكمّماً فلا مقدار له، وأيضاً المركّب لابدّ له من مركّب - بالكسر - والواجب لا فاعل له.

وأمّا تركّبه من الأجزاء العقلية - وإن فرض بساطته خارجاً - فيفسده:

أوّلاً: إنّه لو كان له جنس وفصل لكان جنسه مفتقراً إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه، بل في أن يوجد ويحصل بالفعل، فحينئذٍ نقول: ذلك الجنس لا يخلو إمّا أن يكون وجوداً محضاً أو مهية غير الوجود، فعلى الأَوّل يلزم أن يكون ما فرضناه فصلاً لم يكن فصلاً؛ إذ الفصل ما يوجد به الجنس، وهذا إنّما يتصوّر إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب ذا مهية، والحال أنّه نفس الوجود.

ذكره صاحب الأسفار (١) ولعلّه تفصيل ما ذكره الفارابي في الفصّ السابع من فصوصه.

وثانياً: إنّ المركّب محتاج إلى أجزائه العقلية فيصير ممكناً، وتنظّر فيه بعض المتكلّمين (٢) فقال: إنّ الممكن هو ما يحتاج في وجوده الخارجي إلى غيره، والواجب ما لا يحتاج كذلك؛ إذاً التقسيم الثلاثي المتقدّم إنّما هو بملاحظة الوجود الخارجي، فلو فرض تركّب الوجود من الأجزاء الذهنية لا يلزم إلاّ احتياجه في التحقّق الذهني إلى أجزائه العقلية، وهذا لا ينافي الوجوب.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ تقسيم المفهوم إلى الجهات الثلاث وإن كان بحسب الوجود الخارجي، إلاّ أنّ الأجزاء العقلية موجودة في نفس الأمر؛ ضرورة عدم كونها من الاختراعيات، فحينئذٍ يتوقّف وجوده في نفس الأمر على غيره، وهذا النحو من الافتقار أيضاً ينافي الوجوب؛ إذ وجود الواجب ضروري في حد نفسه، فافهم.

وقال الفارابي في الفصّ التاسع من فصوصه: وجوب الوجود لا ينقسم بأجزاء القوام مقدارياً كان أو معنوياً - يريد به الصورة والمادة فقط، أو مع الجنس والفصل - وإلاّ لكان كلّ جزء منه إمّا واجب الوجود فيتكثّر واجب الوجود، وإمّا غير واجب الوجود فهو أقدم بالذات من الجملة، فيكون الجملة أبعد من الجزء في الوجود. انتهى.

وهذا برهان متين؛ إذ الواجب أقدم في الوجود من جميع الممكنات فلا جزء ممكن له، وبقية الكلام في محله.

____________________

(١) المجلد الثاني.

(٢) شرح القوشجي على التجريد / ٥٢.

٦١

٥ - امتناع كون وجوده واجباً بذاته وبغيره معاً، ووجهه ظاهر؛ ضرورة أنّ الواجب الوجود إنّما يستند وجوب وجوده إلى ذاته لا إلى غيره أيضاً.

طريق آخر وهو: أنّ الغير الذي يُفرض استناد الوجوب إليه، إن كان واجباً ننقل الكلام إليه، ونسأل عمّا به وجوبه الغيري ليتسلسل، وإن كان ممكناً يلزم الدور؛ ضرورة توقّف وجوده ووجوبه الغيري على الوجوب الذاتي، فلو استند وجود الواجب ووجوبه إلى الممكن المذكور لدار.

وأيضاً الوجوب الغيري يعرض للمعلول، والمعلول ممكن، والمسألة واضحة جداً، والصحيح أنّها ليست من خواصّ الواجب لجريانها في الممكن أيضاً كما لا يخفى.

٦ - تشخّصه بذاته ونفسه، وإن قلنا بأنّ تشخّص الموجودات بالعوارض لا بنفس وجوداتها الخاصة؛ وذلك لأنّ الواجب لو تشخّص بغير نفسه لاحتاج إلى ذاك الغير، والوجوب لا يجامع الاحتياج.

وأيضاً إن كان هذا الغير واجباً ننقل الكلام إلى تشخّصه حتى يتسلسل، وإن كان ممكناً لزم تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال.

٧ - تفرّده وعدم تعدّده، فإنّ التعدّد يستلزم الإمكان ولا يجامع الوجوب؛ إذ الواجبان إمّا أن يكونا متساويين في تمام الذات، أو متخالفين كذلك، أو يتشاركان في جهة ويفترقان من جهة، ولا شق رابع.

والأَوّل باطل؛ لاستلزام افتقار كلّ منهما إلى التمييز بما هو خارج عن ذاتيهما، وبالجملة حالهما حينئذٍ حال فردين من نوع واحد في الاحتياج إلى المشخّصات الفردية، وهو عين الإمكان.

قال الفارابي في الفصّ الخامس من فصوصه: (كل واحد من أشخاص الماهية المشتركة فيها ليس كونه تلك الماهية، هو كونه ذلك (١) الواحد وإلاّ لاستحال تلك الماهية لغير ذلك الواحد، فإذن ليس كونها ذلك الواحد واجباً لها من ذاتها، فهي بسبب وهي معلولة) هذا، مع أنّ المائز المذكور إن كان واجباً ننقل الكلام إلى مائزه حتى يتسلسل، وإن كان ممكناً فلا يصلح للتمييز؛ إذ نسبة كل ممكن إلى الواجبين على حد سواء، فتأمّل جيداً، مع أنّ وجود الممكن قبل تشخّص الواجب باطل لكونه دورياً، كما لا يخفى.

والثاني: فاسد، فإنّ حقيقة كلّ منهما إن كانت نقصاً يصير كلّ منهما ممكناً؛ لأنّ النقص من لوازم الإمكان ولا يكون الواجب إلاّ كمالاً خالصاً، وإن كانت كمالاً وبهاءً يلزم خلو كلّ منهما من الكمال؛ لفرض أنّ كلاً منهما فاقد في نفسه حقيقة الآخر، والخلو من الكمال لا يلائم

____________________

(١) في العبارة نوع غموض والمراد واضح.

٦٢

الوجوب؛ لِما قلنا من استلزام النقص للإمكان.

وأمّا الثالث: فضعفه جلي؛ لأنّ التركيب يمتنع في حقّ الواجب كما تقدّم، وبهذا التقرير اندفع شبهة ابن كمونة، بل لم يبقَ لها مجال أصلاً، فهذا البرهان مع قلّة مؤونته، ووضوح أركانه، كثير المعونة جداً، إلاّ أنّه متوقّف على استحالة النقص على الواجب، ولزوم اتّصافه بكل كمال، وسيأتي بحثها في المقصد الثالث إن شاء الله.

ثمّ إنّ الكلام في هذا المقام طويل الذيل، وسنفصّله في المقصد الرابع إن شاء الله.

٨ - في أنّ الواجب ماهيّته إنيّته، بمعنى أنّه لا ماهية له سوى الوجود الخاصّ المجرّد عن مقارنة الماهية، بخلاف الممكن كالإنسان مثلاً، فإنّ له ماهية هو الحيوان الناطق، ووجوداً وهو كونه في الأعيان، واستدلّوا عليه بوجوه.

الأوّل: لو لم يكن وجود الواجب عين ذاته يلزم كونه مع بساطته قابلاً وفاعلاً؛ لأنّ وجوده - لكونه عرضياً لماهيته - يكون معلولاً؛ لأنّ كلّ عرضي معلول إمّا لمعروضه وإمّا لغيره، فلو كان معلولاً لغيره يلزم إمكانه؛ إذ المعلولية للغير ينافي الواجبية، فإذن الماهية تكون قابلةً للوجود من حيث المعروضية، فاعلةً له من حيث الاقتضاء، وهذا - أي كون الماهية فاعلةً وقابلةً - مستلزم للتركيب.

الثاني: لو كان وجوده زائداً عليه لزم تقدّم الشيء بوجوده على وجوده، وبطلانه ضروري.

بيان الملازمة: أنّ الوجود حينئذٍ يحتاج إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض، فيكون ممكناً ضرورة احتياجه إلى الغير، فيفتقر إلى علّة هي الماهية لا غير؛ لامتناع افتقار الواجب في وجوده إلى الغير، وكلّ علّة فهي متقدّمة على معلولها بالضرورة، فيكون الماهية متقدّم على وجودها بوجودها.

أقول: وإن شئت فقل: إنّ الكلام فيما يكون العلّة فيه علّةً للوجود أو الموجود في الخارج، وبديهة العقل حاكمة بوجوب تقدّمها عليه بالوجود، كما أفاده المحقّق الطوسي قدّس سره، فما تخيّله الرازي الأشعري من قياس المقام بقابلية الماهية وغيرها مزيّف جداً.

الثالث: لو كان زائداً يلزم إمكان زوال وجود الواجب وهو ضروري الاستحالة؛ وذلك لأنّ الوجود إذا كان محتاجاً إلى غيره كان ممكناً، وكان جائز الزوال نظراً إلى ذاته وإلاّ لكان واجباً لذاته، مستقلاً في حقيقته، غير متعلّق بالماهية، وهذا خلف.

الرابع: ما ذكره صاحب التلويحات، واستحسنه صاحب الأسفار، وأوضحه بقوله: إنّه لمّا كان الوجوب والامتناع والإمكان من لوازم الماهيات والذوات؛ إذ المنظور إليه في تقسيم الشيء إلى الأُمور الثلاثة حاله في نفسه مقيساً إلى الوجود، فلو كان المفروض واجباً معنىً غير

٦٣

نفس الوجود، يكون معنىً كلياً له جزئيات بحسب العقل، (فإنّ كلّ ما يفصّله الذهن إلى معروض وعارض وهو الوجود، كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن وجوده كلياً لا محالة، وكلّ ما له ماهية كلّية فنفس تصوّره، لا يأبى عن أن يكون له جزئيات غير ما وقع إلاّ لمانع خارج عن نفس ماهيّته).

فتلك الجزئيات إمّا أن يكون جميعها ممتنعةً لذاتها، أو واجبةً لذاتها، أو ممكنةً لذاتها، والشقوق الثلاثة بأسرها باطلة؛ إذ الأَوّل ينافي الوجوب والوجود، والثاني ينافي العدم فيما لم يقع، والثالث ينافي الوجوب فيما يُفرض واقعاً، وبطلان شقوق التالي بأسرها مستلزم لبطلان المقدّم، وهو كون الواجب معنىً غير الوجود. فإذن، إن كان في الوجود واجب بالذات، فليس إلاّ الوجود الصرف المتأكد المتشخّص بنفسه، لا يلحقه عموم ولا خصوص، وإن شئت أن تطلع على بطلان ما أُورد على هذه الحجّة فلاحظ الأسفار.

الخامس: إنّ الوجود لو كان زائداً على ماهية الواجب لزم وقوعه تحت مقولة الجوهر، فيحتاج إلى فصل مقوّم فيتركب ذاته، وهو محال.

السادس: كلّ ما صحّ على الفرد صحّ على الطبيعة من حيث هي؛ لأنّ اللابشرط ولا سيما المقسمي عين الفرد، فصحّة شيء على الفرد عين الصحّة على الطبيعة، وكلّ ما امتنع على الطبيعة امتنع على أفرادها، ولمّا لزم قول الإمكان على بعض الجواهر ضرورةً، صحّ وقوع الإمكان على مقولتها لذاتها، فلو دخل واجب الوجود تحت مقولة الجوهر، للزم فيه جهة إمكانية باعتبار الجنس، فلا يكون واجب الوجود بالذات، وهذا خلف، فكل ما له ماهية زائدة على الوجود فهو إمّا جوهر أو عرض، فلا يكون للواجب ماهية كذلك.

قلت هذه الوجوه الستة بتغيير عمّا في الأسفار (١) .

السابع: لو كان للواجب تعالى ماهية سوى الوجود - ولو كانت ماهيةً بسيطة نوعية - لكان زوجاً تركيبياً، والتالي باطل، فالمقدّم مثله. بيان الملازمة: أنّ الواجب حينئذٍ مجموع الماهية والوجود لا الماهية فقط؛ إذ المراد بها ما هي مقابلة للوجود، فليست من حيث هي إلاّ هي، فلا يمكن كونها بلا وجود حقيقة الواجب تعالى وهو ظاهر، ولا من حيث كونها ملزومة الوجود بحيث يكون الوجود خارجاً، والحقيقة نفس الماهية اللاموجودة واللامعدومة، بل مجموع الماهية والوجود حقيقته تعالى، وهذا لا يرتفع بجعل أحدهما لازماً والآخر ملزوماً، كما أنّ التركيب لا يُسلب عن الممكن بجعل الوجود عارضاً والماهية معروضةً أو بالعكس.

الثامن: لو كان له ماهية لم يكن محيطاً بكل التعيّنات؛ لأنّ خصوصية أيّة ماهية كانت، لا

____________________

(١) الأسفار ١ / ٩٦ - ١٠٨.

٦٤

تجامع خصوصيات الماهيات الأُخر، فلابدّ أن يكون هو تعالى وجوداً يجامع كلّ التعيّنات، وينبسط على كلّ الماهيّات.

التاسع: لو كان له ماهية لزم إمكان تعقّله للبشر، واللازم باطل عقلاً واتّفاقاً، فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أنّ سنخ الماهية ممكن التعقّل والاكتناه أينما تحقّقت، كما اشتهر أنّ التعريف للماهية وبالماهية، ولو لم تعقل بالفعل فلا أقلّ من إمكان التعقّل، كما أنّ ماهية الإنسان ممكنة التعقّل وإن لم يعقلها العامّي بالفعل، ولو فرض أنّ الممكن لم يكن له ماهية لم يمكن تعقّله أيضاً؛ إذ وجوده الخارجي لا يحصل في الذهن وإلاّ لانقلب.

ذكر هذه الوجوه الثلاثة الحكيم السبزواري في حاشيته على الأسفار (١) في هذا المقام، وله وجه رابع قرّره في حاشيته على إلهيات الأسفار، لكن لم نرَ لزوماً لنقله.

العاشر: لو كان وجوده زائداً عليه، حتى يكون ألفاً موجوداً مثلاً، لم يكن في حدّ ذاته مع قطع النظر عن العارض موجوداً ولا معدوماً، كما حقّق في مبحث الماهية، وكلّما كان كذلك فهو ممكن؛ لأنّ اتصّافه بالوجود إمّا بسبب ذاته وهو محال؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه وهذا خلف، وإمّا بسبب غيره فيكون معلولاً فلا يكون واجباً بل ممكناً.

نقله في إلهيات الأسفار، وربّما يُقرّر (٢) بأنّ اتّصاف الشيء بالوجود لابدّ له من علّة بها يصير متصفاً بالوجود، فتلك العلّة إمّا ذات الشيء أو غيرها، وعلى الأَوّل يلزم تقدّم الشيء على الوجود بالوجود؛ ضرورة تقدّم المحتاج إليه على المحتاج بالوجود، فيلزم التسلسل أو تقدّم الشيء على نفسه، وعلى الثاني يلزم إمكان الواجب وهو واضح.

الحادي عشر: لو كان الوجود زائداً لكان ذاته فاقداً في ذاته للوجود خالياً عنه، فلم تكن موجوديته نظراً إلى ذاته بذاته، بل تحتاج موجوديته إلى غير الذي هو وجوده، فيلزم إمكانه (٣) .

الثاني عشر: إنّه لو كان للواجب ماهية ووجود، فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركّبه ولو بحسب العقل، وإن كان أحدهما لزم احتياجه؛ ضرورة احتياج الماهية في تحقّقها إلى الوجود، واحتياج الوجود لعروضه إلى الماهية، نقله القوشجي في شرحه على التجريد (٤) .

____________________

(١) الأسفار ١ / ١٠٦ - ١٠٧.

(٢) كما نقله في الشوارق ١ / ٩٩.

(٣) ذكره بعض محشي الشوارق ١ / ٩٩.

(٤) شرح التجريد / ٥٧.

٦٥

تحليل وتنقيد

وهذه هي الوجوه التي استدلّوا بها على المدعى، وقبل التفتيش فيها لابدّ من إرجاع النظر إلى أصل الدعوى؛ لتحليلها وتصويرها بصورة معقولة، فإنّ المسألة نفسها مجملة محجوبة، فها هنا موقفان:

الموقف الأَوّل: في تحليل نفس المدعى،

وأنّه ما هو مقصودهم من نفي الماهية

عنه تعالى، وأنّها عين وجوده؟

فنقول: إنّ كل ممكن زوج تركيبي له ماهية ووجود، أحدهما تأصلي والآخر اعتباري انتزاعي، ولا يصح تأصّلهما معاً؛ لِما ذكره السبزواري في أوائل شرح منظومته وحاشيتها، واختلفوا في الأصيل منهما فذهب بعضهم إلى أنّه الماهية والمنتزع هو الوجود، فالمجعول بالذات هو الماهية نفسها، والوجود يُنتزع من تحقّقها خارجاً، وذهب الآخرون إلى أنّه الوجود والماهية هي المنتزعة من حدود الوجود، وقد استقرّ عليه المذهب من زمن صاحب الأسفار.

بيان ذلك: أنّه لا خلاف يعتد به بين المشّائين وأهل الإشراق وغيرهم من المحقّقين، في أنّ الكلّي الطبيعي المعبّر عنه بالماهية في ألسنة الحكماء - أي المقسم للمطلقة والمجرّدة والمخلوطة - موجود، إلاّ أنّ الخلاف في أنّه بعد جعل الجاعل موجود بالأصالة والوجود واسطة في الثبوت، أو موجود بالعرض والوجود واسطة في العروض.

والأَوّل هو معنى أصالة الماهية، والثاني هو معنى أصالة الوجود، والمراد من الواسطة بالعروض هو قسم خاصّ منها، وهو ما لا تحصّل للمعروض بدون الواسطة، كما صرّح به السبزواري في حاشية الأسفار (١) ، إذا تقرّر ذلك فيتّضح لك معنى مسألتنا المبحوث عنها، وأنّه يختلف باختلاف القولين المتقدّمين.

أمّا على القول بأصالة الماهية فإليك - في تفسير مقصود المسألة - تعبير الدواني الذي هو من المصرّين على أصالتها قال: هذا المعنى العام المشترك فيه (يعني به مفهوم الوجود) من المعقولات الثانية، هو ليس عيناً بشيء منها حقيقةً، نعم مصداق حمله على الواجب ذاته بذاته، ومصداق حمله على غيره ذاته من حيث هو مجعول الغير، فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن، إلاّ أنّ الأمر الذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاتها، من حيثية مكتسبة من الفاعل، وفي الواجب ذاته بذاته، فإنّه وجود قائم بذاته، فهو في ذاته بحيث إذا لاحظه العقل انتزع

____________________

(١) الأسفار ١ / ٣٨.

٦٦

منه الوجود المطلق بخلاف غيره (١) انتهى.

وهذا هو ظاهر المحقّق اللاهيجي أيضاً في (گوهر مراد).

وأمّا على القول بأصالة الوجود، فإليك تقرير صاحب الأسفار الذي هو كالمؤسس لهذا القول - أي أصالة الوجود - قال: فقولهم: إنّ الوجود زائد في الممكن عين في الواجب، معناه أنّ ذات الممكن وهويّته ليست بحيث إذا قُطع النظر عن موجده ومقوّمه يكون موجوداً وواقعاً في الأعيان؛ لأنّ الهويات المعلولية - كما مرّ - فاقرات الذوات إلى وجود جاعلها وموجدها، فوجود الممكن حاصل بالجعل البسيط، فوجود الجاعل مقوّم للوجود المجعول، فلو قُطع النظر إلى وجوده عن جاعله لم يكن وجوده متحقّقاً - كما علمت - بخلاف الواجب جلّ ذكره، فإنّه موجود بذاته لا بغيره، فالممكن لا يتمّ له وجود إلاّ بالواجب، فوجود الواجب تمام لوجود غيره، وهو غني الذات عن وجود ما سواه، فثبت أنّ الوجود زائد في الممكن عين في الواجب، تأمّل فيه فإنّه حقيق بالتدقيق (٢) انتهى. وقد ذكره في مبحث عموم علمه تعالى أيضاً.

وقال في الشوارق: إنّ هذا المعنى هو مراد الحكماء وهو المطابق للبرهان (٣) .

أقول: فعلى هذا تصبح المسألة - على رغم اهتمام الباحثين بها - لغواً لا أثر لها؛ إذ معنى الواجب الوجود هو أن لا يكون له حيثية تعليلية، وأنّ ذاته بذاته مصداق لحمل الوجود الاعتباري عليه بلا جهة مكتسبة من الغير، أو أنّ وجوده قائم بنفسه لا بغيره، فليس في هذه المسألة شيء زائد يكون خاصة للواجب، بل مفادها تشريح مفهوم الواجب فقط، فتأمّل.

فإن قال قائل: إنّ الأدلة القائمة على وجود الواجب تنفي الواسطة في الثبوت، ولا تتكفل بإبطال الواسطة بالعروض، بل هو من ثمرة هذه المسألة.

نقول له: أمّا على القول بأنّه تعالى ماهيّة مخالفة لسائر الماهيّات فلا مسرح لهذا الكلام، فإنّ الأدلة المذكور إذا أبطلت الواسطة في الثبوت، تبطل الواسطة في العروض أيضاً، كما هو غير خفي على مَن أمعن النظر.

وأمّا على القول بأنّه وجود بحت قائم بنفسه، فالأدلة المزبورة وإن لم تكن كافيةً لنفي الواسطة في العروض؛ لاحتمال أن يكون لوجوده ماهية موجودة - كما في الممكن - ويحمل الوجود عليها بالواسطة في العروض، إلاّ أنّ نفيها غير لازم، فإذا قيل: إنّ الواجب حقيقته وجود بحت لا علّة له ولا واسطة في العروض له، ولكن له ماهية اعتبارية تُنتزع من وجوده، وهي

____________________

(١) نقله في الأسفار ٢ / ١١.                          (٢) الأسفار ٢ / ١١.

(٣) الشوارق / ١٠٥. فبين كلامه هذا وما ذكره في گوهر مراد / ١٤٤ تغاير.

٦٧

موجودة بسبب وجوده، لا محذور فيه، فتأمل جيداً.

الموقف الثاني: في صحة تلك الوجوه وسقمها

فنقول: أمّا الوجه الأَوّل فيزيّف بمنع استلزام كونه فاعلاً وقابلاً تركّبه، كما أشرنا إليه فيما مرّ وحقّ الجواب أنّه لا علّية في المقام؛ إذ الوجود - بناءً على أصالة الماهية - ليس أمراً متحقّقاً ومتأصّلاً، بل مفهوم انتزاعي على الفرض فلا يقع معلولاً كما هو ظاهر جداً.

وأمّا بناءً على أصالته فالماهية شيء اعتباري، فلا معنى لتأثّرها من الوجود تأثر المسبّب من سببه. ولعمري إنّ حديث العلّية في المقام ظاهر البطلان، ومنه ينبثق ضعف الوجه الثاني أيضاً؛ لابتنائه على تخيّل السببية.

وأمّا الوجه الثالث فيفسده أنّ إمكان الوجود الذاتي لا يستلزم إمكان زواله عن الماهية؛ لاحتمال وجوبه لها كالزوجية للأربعة، وبعبارة صناعية: أنّ الإمكان الذاتي لشيء لا ينافي وجوبه الذاتي على نحو مفاد (كان الناقصة).

وأمّا الوجه الرابع فهو متين؛ تصويباً لنظر الحكيم الشيرازي والشيخ السهروردي، إلاّ أنّ مفاده أنّ حقيقة الواجب هو الوجود لا الماهية، فالباحث وإن قال بأصالة الماهية في الممكن، لكن لابدّ له من القول بأصالة الوجود في الواجب من جهة هذا الدليل. وأمّا نفي الماهية المنتزعة عن الوجود الخاصّ الخارجي - كما هو محلّ الكلام - فلا نظارة للدليل إليه، فتأمّل.

أمّا الوجه الخامس فهو ممنوع بما لا يخفى على أهله، ويلحق به الوجه السادس أيضاً.

وأمّا السابع فضعفه لائح لمنع لزوم التركّب فيه؛ إذ حقيقة الواجب هو الوجود الخاص فقط أو الماهية فقط؛ إذ كلّ منهما - على القول بأصالة الآخر - أمر اعتباري محض، فلا موضوع للتركّب أبداً.

وأمّا الثامن فهو ساقط، فإنّه إن أُريد من الإحاطة الإحاطة من حيثية القدرة والعلم والفيض ونحوها، فالملازمة ممنوعة، وسند المنع واضح؛ وإن أُريد منها ما يتضمّنه قاعدة: إنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء، فالتالي غير باطل بل سيأتي - في محلّه - أنّ القاعدة المذكورة باطلة ولو على القول بأصالة الوجود، نعم إنّ الله داخل في الأشياء لكن لا كدخول شيء في شي، كما أنه خارج منها لكن لا كخروج شيء من شيء، وتفصيل الكلام في غير المقام.

وأمّا التاسع فلا يتّسع؛ إذ الماهية وإن كانت - بسنخها - قابلةً للاكتناه بها، إلاّ أنّه ما لم يمنع عنه مانع كما في المقام؛ إذ عدم تناهيها يُبطل إمكان تعقّلها واكتناهها للمدرك المحدود، نعم لو التزمنا بوجود ممكن غير محدود فنلتزم بإمكان تعقّلها له.

٦٨

وأمّا العاشر فغير نافع؛ إذ بناءً على أصالة الماهية يكون الوجود يُنتزع عنها، وهي منشأ لانتزاعه، فكيف لا تكون موجودةً في نفسها وإن منع من إطلاق لفظ الموجود؟ فنقول: إنّها بنفسها متحقّقة واجبة الصدق خارجاً فأنّى يلزم إمكانها؟ وأمّا التقرير الثاني ففيه: إنّ اتّصاف الماهية بالوجود لا يحتاج إلى علّة؛ إذ هو ذاتي لها، ونعني بالذاتي الذاتي في كتاب البرهان.

وملخّص الكلام أنّ الوجود ضروري الثبوت للماهية فهو من لوازمها، وقد تقرّر أنّ الجعل لا يتعلّق باللوازم استقلالاً، بل يتعلّق بها بتبع الجعل المتعلّق بالملزومات، وإذا كان الملزوم غير قابل للجعل - كما في المقام - فلا يكون اللازم أيضاً مجعولاً لا مستقلاً ولا تبعاً، فمرادنا من ضرورية الوجود لماهية، ليس هو الوجوب الغيري كما زعمه المحقّق اللاهيجي، بل الوجوب الذاتي بنحو مفاد (كان الناقصة)، ومثل هذه الضرورة لا تنافي الإمكان، بل المنافي له هو الضرورة بنحو مفاد (كان التامّة) وهذا واضح، وبهذا البيان ينهدم ما أورده المحقّق المذكور في شوارقه (١)، والدواني في حواشيه على شرح القوشجي فتأمّل.

وأمّا الوجه الحادي عشر فيفسده ما أفسد الوجه العاشر، ولا ينكره إلاّ القاصر.

وأمّا الوجه الأخير فلا خير فيه عند الخبير بما تقدّم من النظير والله الهادي.

ويمكن أن يفسّر قولهم: إنّ ماهيّته إنيّته، وإنّ للممكن ماهيّة انتزاعية من وجوده، بأن لا حدّ للواجب بخلاف الممكن فإنّه محدود؛ وذلك لأنّ الماهية تنتزع من حدود الوجود، فما له ماهيّة يكون ذا حدّ وتناهٍ، وما ليس له ماهيّة لا حدّ له ولا نهاية له، قال الحكيم الشيرازي في بعض كلماته: والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول، ينشأ منها الماهية، وينتزع بحسبها المعاني الإمكانية... (٢) إلخ فتأمّل جيداً.

ونختم المقام بجملة من رواية هشام بن الحكم المروية في الكافي، وهي قول السائل للصادق عليه‌السلام : فله - أي الله تعالى - إنيّة ومائية؟ قال عليه‌السلام : (نعم لا يثبت الشيء إلاّ بإنيّة ومائية... إلخ) (٣) ، وللشرّاح حولها كلمات يراجع إليها طالبها والله الهادي.

وأمّا ما نُقل عن جمهور المتكلّمين (٤)، من أنّ الوجود عرض قائم بالماهية في الواجب والممكن جميعاً قيام الأعراض، ففيه منع جداً.

____________________

(١) الشوارق ١ / ١٠٠.

(٢) الأسفار ١ / ١٨٧.

(٣) الكافي ١ / ٨٤.

(٤) الأسفار ١ / ٢٤٩.

٦٩

الفائدة العاشرة

في خواصّ الممكن

الخاصة الأُولى: عدم اقتضائه الوجود والعدم

فنقول: الممكن - على ما خرج من التقسيم الثلاثي المتقدّم - هو ما لا ضرورة لوجوده وعدمه بلحاظ نفسه، قبال الواجب لذاته والممتنع لذاته، فإذن، يُحتمل أن يكون الممكن موجوداً أو معدوماً بنفسه، لكن لا بنحو الضرورة بل بالأولوية غير البالغة حدّ الضرورة، وهذه الأولوية راجعة إمّا إلى اقتضاء ذات الممكن كما في تقرير المشهور، أو إلى نفس أحد الطرفين، بأن يكون الوجود أو العدم أليق وأولى بذات الممكن، كما في تقريب السيد الداماد قدّس سره (١) ، فينسدّ باب إثبات الصانع حينئذٍ، فلابدّ من إقامة الدليل على إبطال هذه الأولوية.

ثمّ إنّ الأولوية المتصوّر على أقسام أربعة: الأولوية الذاتية الكافية، والأولوية الذاتية غير الكافية، والأولوية الغيرية الكافية، والأولوية الغيرية غير الكافية. والبحث هنا يتشعبّ إلى شعبتين:

الشعبة الأُولى: في الأولوية الذاتية

وفيها أقوال:

القول الأَوّل: إنّ وجود الممكن وعدمه بالنظر إلى ذاته على السواء، ولا أولوية لأحدهما على الآخر، فيكون متساوي الطرفين. نقله في الشوارق عن الجمهور (٢) .

القول الثاني: إنّ العدم أَولى به؛ لأنّه أسهل وقوعاً، فإنّ الوجود يتحقّق بعد تحقّق جميع أجزاء علّته التامّة بخلاف العدم؛ إذ يكفيه انتفاء جزء من العلّة.

القول الثالث: إنّ وجود بعض الممكنات أَولى من عدمه بالنظر إلى ذاته، لا على وجه يخرج عن حيّز الافتقار إلى الغير، ويسدّ به إثبات الصانع، بل على وجه يستدعي أكثرية وقوع وجوده بإيجاب العلّة وإفاضة الجاعل، وبعض الممكنات بالعكس ممّا ذكر.

____________________

(١) الشوارق ١ / ٨٤.

(٢) الشوارق ١ / ٨٢.

٧٠

أقول: المراد بالأُولى الوجودات القارّة، وبالثانية الوجودات السيّالة غير القارّة، بتوهّم أنّ العدم أَولى بهذه الوجودات - كالأصوات والحركات والأزمنة - وإلاّ لجاز بقاؤها مع أنّه غير جائز، وإذا جازت الأَولوية في جانب العدم فليكن جوازها في جانب الوجود - كما في الوجود القارّ - أَولى.

القول الرابع: تخصيص هذه الأَولوية في طرق العدم فقط، بالقياس إلى طائفة من الممكنات بخصوصها، أي السيّالة غير القارة.

نُقلت هذه الأقوال الثلاثة الشاذة عن الفلاسفة.

أقول: أمّا القول الثاني فهو أجنبي عن المقام؛ إذ السهولة في علّة العدم لا في نفسه، فهذه الأولوية إنّما هي بالنظر إلى الغير لا بالنظر إلى ذات الممكن.

وأمّا القول الثالث فيفسده أنّ الوجود غير البقاء، بل لا يلزمه، فعدم البقاء لا يسبّب أَولوية العدم بالنسبة إلى الماهية. وبوجه آخر: إنّ التصرّم والبقاء من خصوصيات الوجود أو الماهية، ولا صلة لهما بأَولوية أحد الطرفين بها، وأَولوية الماهية بأحدهما كما لا يخفى، وإن شئت فقل: إنّهما راجعان إلى الإمكان الاستعدادي دون الإمكان الذاتي، ومنه ينقدح بطلان القول الرابع أيضاً.

وأمّا القول الأَوّل فله دلائل:

١ - ما ذكره القوشجي في شرحه على التجريد (١) من أنّه مع ذلك الرجحان، لو لم يجز وقوع الطرف المرجوح نظراً إلى ذات الممكن، لم يكن ممكناً ما فرضناه ممكناً، ولو جاز وقوعه نظراً إلى ذاته، لجاز رجحانه على الطرف الراجح نظراً إلى ذاته؛ إذ لا يتصوّر الوقوع بدون الرجحان، لكنّه لا يجوز: لمنافاته مقتضى ذات الممكن وهو رجحان الطرف الراجح.

ويمكن الخدش فيه، بأنّه مبني على أنّ الذات تقتضي الأولوية وجوباً، وأمّا إذا قيل بأنّ اقتضاءها لها أيضاً على نحو الأَولوية فيرتفع المنافاة المذكورة.

٢ - ما ذكره الرازي واستحسنه غيره (٢)، من أنّ ما يقتضي رجحان طرف فهو بعينه يقتضي مرجوحية الطرف الآخر؛ للتضايف الواقع بينهما، ومرجوحية الطرف الآخر يستلزم امتناعه؛ لاستحالة ترجيح المرجوح، وامتناعه يستلزم وجوب الطرف الراجح، فتصبح الأولوية وجوباً وهو خلف. واختاره الدواني أيضاً (٣) .

____________________

(١) شرح التجريد / ٤٣.

(٢) نقله في الأسفار ١ / ٢٠٢.

(٣) شرح القوشجي (الحاشية) / ٤٣.

٧١

وردّه صاحب الأسفار، بأنّه إذا كان اقتضاء رجحان طرف بعينه على سبيل الأُولوية، كان استدعاء مرجوحية الطرف المقابل أيضاً على سبيل الأولوية لمكان التضايف، والمرجوحية المستلزمة لامتناع الوقوع إنّما هي المرجوحية الوجوبية، لا ما هي على سبيل الأولوية، فلا خلف.

ولو سلّمنا ذلك فمن المستبين أنّ مرجوحية الطرف المرجوح، إنّما يستدعي امتناعه بالنظر إلى الذات مع تقييدها بتلك المرجوحية، أعني الذات المحيّثة بالحيثية المذكورة لا الذات بما هي هي، وهذا امتناع وصفي، فيكون بالغير، ولا يستدعي إلاّ وجوب الطرف الراجح كذلك، أي بالغير لا بالذات، فليس فيه خرق الفرض، والامتناع بالوصف الذي هو ممكن الانفكاك يكون ممكن الانفكاك، فكيف ظنّك بالوجوب الذي بإزاء هذا الامتناع؟

٣ - ما قيل (١) من أنّ الطرف الآخر إن امتنع بسبب تلك الأَولوية، كان هذا الطرف الأَولى لذاته واجب الوجود أو العدم، وهذا خلف وإن لم يمتنع، فإمّا أن يقع بلا علّة فهو محال وإمّا أن يقع بعلّة، فثبوت الأولوية للطرف الأَولى به يتوقّف على عدم تلك العلّة التي للطرف الآخر؛ إذ معها يكون الراجح هو الطرف الآخر بالضرورة، وعليه فلا تكون تلك الأَولوية لذات الممكن وحده، بل مع انضمام ذلك العدم إليه، وهذا خلاف المفروض.

أقول: ويرد على الشقّ الأَوّل من الترديد، أنّ الامتناع المذكور وصفي كما عرفت آنفاً، وعلى الثاني منه أنّ الأولوية المذكورة كما تقتضي وجود الطرف الأَولى، كذلك تقتضي مرجوحية سبب الطرف الآخر، فتكون الأولوية لذات الممكن وحده، ولا تتوقّف على شيء آخر، فإنّها توجب العدم المذكور فكيف يفرض توقّفها عليه؟ فتأمل.

٤ - ما نقل القوشجي (٢) من أنّه لو تحقّق أولوية أحد الطرفين لذاته، فإن لم يمكن طريان الطرف الآخر، كان ذلك الطرف ممتنعاً، فيكون الطرف الراجح واجباً وقد فرضناه ممكناً، وإن أمكن طريان الطرف الآخر فإمّا لا بسبب فيلزم ترجّح المرجوح وهو محال، أو بسبب، فإن لم يصر ذلك الطرف أَولى به لم يكن السبب سبباً، وإن صار يلزم مرجوحية الطرف الأَولى لذاته فيزول ما بالذات وهو ممتنع.

أقول: ويرد عليه ما أوردناه على الوجه الأَوّل.

هذا ولكن التحقيق أنّ المسألة غير محتاجة إلى مزيد العناية وكثير الرعاية؛ لأنّها إمّا ضرورية أو قريبة من الضروري؛ إذ الوجود إن كان عين الذات أو جزءها كان الموجود واجباً،

____________________

(١) شرح المواقف ١ / ٤١٧.

(٢) شرح التجريد / ٤٣.

٧٢

وإن كان زائداً عليها - كما هو المفروض - لم يعقل اقتضاء أولوية أحد الطرفين لها أصلاً، فإنّ الذات المذكورة قبل وجودها أو جعل جاعلها أمر اعتباري محض، فالقول باقتضائها الوجود ملازم للالتزام بتأثير المعدوم في الوجود، وهذا واضح البطلان وضروري الفساد، ولا فرق في ذلك بين كون الاقتضاء بنحو الوجوب أو الأولوية، وإلى ما ذكرنا ينظر كلام الأسفار حيث قال: فأمّا تجويز كون نفس الشيء مكوّن نفسه ومقرّر ذاته - مع بطلانه الذاتي - فلا يتصوّر من البشر تجشّم ذلك ما لم يكن مريض النفس... (١) إلخ.

وقال أيضاً: ثمّ مع عزل النظر عن استحالة الأولوية يقال: لو كفت في صيرورة الماهية موجودةً، يلزم كون الشيء الواحد مفيداً لوجود نفسه ومستفيداً عنه، فيلزم تقدّمه بوجوده على وجوده (٢) انتهى.

أقول: ومن هنا لم يلتزم بالأولوية الكافية أحد من العقلاء، ومَن قال بالأولوية فإنّما قال بغير الكافية منها، هذا مع أنّا لو فرضنا صحّة الأولوية الكافية - بفرض المحال - لكان باب إثبات الواجب الوجود مفتوحاً غير مسدود كما سيأتي في محلّه، نعم ينسدّ به باب إثبات الصانع وهذا ظاهر.

ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من بطلان الاقتضاء للذات الاعتبارية الصرفة، بين كون الأولوية كافيةً أو غير كافية كما لا يخفى، وإن كان نفي الثانية مستصعباً عند قوم من الباحثين، وأمّا الأولوية بالمعنى المنقول عن السيد الداماد قدّس سره فهي أيضاً ظاهرة البطلان، على كلّ من أصالة الوجود وأصالة الماهية كما يظهر وجهه بالتأمّل.

الشعبة الثانية: في الأَولوية الغيرية

وفيها أيضاً أقوال:

الأَوّل: أَولوية الوجود عند وجود المقتضي وانتفاء الشرط، وأَولوية العدم في صورة فقدان المؤثّر وتحقّق الشرط (٣) .

الثاني: أَولوية ما هو الواقع خارجاً من الوجود أو العدم، نسبها في الأسفار (٤) إلى طائفة من أهل الكلام؛ لمنعهم تحقّق الوجوب فيما سوى الواجب وإن كان بالغير، وفي موضع آخر منها إلى

____________________

(١) الأسفار ١ / ٢٠٠.

(٢) الأسفار ١ / ٢٠٢.

(٣) شرح المواقف ١ / ٤١٧.

(٤) الأسفار ١ / ٢٠٤.

٧٣

أكثر المتكلمين (١) .

الثالث: التفصيل بين الأفعال الاختيارية وغيرها، فالأُولى تصدر عن غير وجوب سابق، والثانية لا تتحقّق ما لم تجب كذلك، والظاهر أنّ هذا مذهب جماعة من العلماء، وهو مختار سيدنا الأُستاذ العلاّمة الخوئي - دام ظله - وكان يصرّ عليه في مجلس درسه الشريف (خارج أُصول الفقه).

ثمّ إنّ بعض الكلاميين أنكروا الأَولوية أيضاً كما قيل، بل نسبه العلاّمة الحلي قدّس سره (٢) إلى أكثر المعتزلة والأشاعرة متمثّلين بالهارب الواصل إلى طريقين متساويين، فإنّه يسلك أحدهما لا محالة من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.

بل يظهر من الأسفار أنّ بعض المتكلّمين أنكر الوجوب اللاحق أيضاً، وهو الضرورة بشرط المحمول، لكنّه بعيد فإنّ العقل بإدراكه البدوي يجزم بالوجوب المذكور.

الرابع: إنّ ما لم يجب وجوده لم يوجد، وما لم يمتنع عدمه لم ينعدم، ولا تكفي الأَولوية في ترجيح أحد طرفي الممكن أصلاً، ذهب إليه الفلاسفة وجمع من المتكلّمين، بل نسبه المحقّق الطوسي رحمه‌الله إلى محقّقيهم، ونقل إنكاره عن بعض القدماء (٣) .

واستدلّوا عليه بأنّا إذا فرضنا هذه الأَولوية متحقّقةً ثابتة، فإمّا أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية، أو لا يمكن، والثاني يقتضي أن تكون الأَولوية وجوباً، والأَوّل يلزم منه المحال، وهو ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجّح؛ لأنّا إذا فرضنا الأَولوية ثابتةً يمكن معه وجود الطرف الراجح والمرجوح، فتخصيص أحد الطرفين بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجّح وهو محال، ولهذه الحجّة تقريبات كلّها متحدة المعنى لكنّها عندي مزيّفة، فإنّ الأَولوية وإن لا تنفي إمكان المقابل، إلاّ أنّها تكفي لوقوع متعلّقها على الفرض، ولا ملازمة بين الأمرين كما زعموها، فافهم.

الثاني: ما استدلّ به الحكيم السبزواري بقوله: (٤) الأَولوية ماهية من الماهيات، فهي مستوية النسبة إلى الوقوع واللاوقوع، فوقوعها ولا وقوعها جائز.

أقول: وفيه نظر.

الثالث: ما استدلّ به هو أيضاً، من أنّ الأولوية لو لم تكن مستويةً بل متعلّقة بأحد الطرفين

____________________

(١) الأسفار ١ / ٢٢٢.

(٢) شرح قواعد العقائد / ٤٢.

(٣) شرح قواعد العقائد / ٤٠.

(٤) الأسفار (الحاشية) ١ / ٢٢٢.

٧٤

جاء لزوم التعلّق ووجوبه، والفرض أنّه لا وجوب، وفيه أيضاً نظر.

الرابع: ما في شرح المواقف (١) ، من أنّ الوجود إذا صار بسبب تلك العلّة أَولى بلا وجوب، وكان ذلك كافياً في وقوعه، فلنفرض مع تلك الأَولوية الوجود في وقت والعدم في وقت آخر، فإن لم يكن اختصاص أحد الوقتين بالوجود لمرجّح لم يوجد في الآخر، لزم ترجّح أحد المتساويين بلا سبب، وإن كان لمرجّح لم تكن الأولوية الشاملة للوقتين كافيةً للوقوع، والمقدّر خلافه.

أقول: الأَولوية مرجّحة للوجود، فالعدم لابدّ له من مخصّص فتأمل.

الخامس: ما فيه أيضاً، من أنّ الأولوية لا تنشأ إلاّ من العلّة التامة؛ لأنّه متى فُقد جزء من أجزائها كان العدم أَولى، فإذا فُرض أنّ اختصاص أحد الوقتين لمرجّح لم يوجد في الآخر، لم تكن العلّة التامّة علّةً تامّة، فقد ثبت أنّ الأولوية وحدها غير كافية. وفيه بحث.

هذا ما وجدناه من أدلّتهم، والصحيح عندي، أنّ الآثار الصادرة من العلل الموجبة والأفعال الاختياري التوليدية، ممّا لابدّ من وجوبها قبل وجودها، فما لم يجب شيء منها لم يوجد، وأمّا الأفعال الاختيارية المباشرية ففيها إشكال سندرسه في مسألة الجبر والتفويض.

ثمّ إنّ الموجود من الممكن مع لحاظ وجوده واجب بالضرورة، وهذا هو الوجوب بشرط المحمول، المسمّى بالوجوب اللاحق، وهذا ممّا لا شكّ في تحقّقه، وهكذا الكلام في المعدوم من الممكن، فإنّه مع لحاظ عدمه ممتنع.

فالنتيجة: أنّ كلّ ممكن موجود محفوف بالوجوبين، وكلّ ممكن معدوم محفوف بالامتناعين، هذا مع بقاء الماهية الإمكانية على ما هي عليه من الإمكان الذاتي، غير أنّ في الوجوب السابق للفعل المباشري كلاماً أشرنا إليه آنفاً، بل الوجوب اللاحق يجري في الواجب أيضاً، كما يقال: الله العالم عالم بالضرورة، الله الموجود موجود بالضرورة، وهكذا، كما أنّ الامتناع اللاحق يجري في الممتنع الذاتي أيضاً.

الخاصّة الثانية: حاجة الممكن

وفيها بيان ملاكها: أقول: بعد ما تقرّر أنّ الممكن لا يقتضي الوجود ولا العدم، وأنّهما بالنسبة إليه متساويان، فقد أصبح احتياج الممكن في وجوده إلى العلّة ضرورياً لا يقبل الترديد، والخفاء الطارئ عليه في بدء النظر إنّما هو؛ لعدم تصوّر الممكن كما هو حقّه، وعدم وضوح مفهومه، وإلاّ فالتصديق في نفسه ضروري، على حدّ التصديق بأنّ الكل أعظم من الجزء. وهذا

____________________

(١) شرح المواقف ١ / ٤١٩.

٧٥

ممّا لا ينبغي أن يُتكلّم فيه أكثر من ذلك، وإنّما المهم معرفة علّة هذه الحاجة، فإنّ الباحثين قد اختلفوا فيها على أقوال:

فمنها: أنّها الإمكان، وهو مذهب الحكماء والمحقّقين من متأخّري المتكلّمين، كما في الشوارق (١) .

ومنها: أنّها الحدوث، نسبه في المواقف إلى المتكلّمين (٢) ، وقيل: إنّه مذهب جماعة منهم.

ومنها: أنّها الإمكان والحدوث مركّباً، نُقل عن بعض المتكلّمين.

ومنها: أنّها الإمكان بشرط الحدوث، حكي أيضاً عن بعضهم.

ومنها: أنّها الوجود، قال به بعض الفلاسفة الماركسية (٣) .

استدلّوا على الأَوّل، بأنّ العقل إذا لحظ كون الشيء بحيث يتساوى طرفا وجوده وعدمه بالنظر إلى ذاته، حكم بأنّه لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح، سواء لاحظ الحدوث في هذه الحالة أو لم يلاحظه، فالعلم بإمكان شيء لمّا استلزم العلم بافتقاره، دلّ على أنّ الإمكان هو العلّة للافتقار في نفس الأمر دون الحدوث؛ إذ يمكن تصوّر الحدوث بلا استلزامه حصول العلم بافتقار الشيء الحادث إلى علّته ما لم يُلحظ إمكانه، حتى لو فُرض حادث واجب بالذات - فرض محال - يحكم باستغنائه عن المؤثّر كما قيل، والعمدة في نفي علّية الحدوث للحاجة - ولو بنحو الشرطية - أنّ الحدوث كيفية للوجود؛ لأنّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم، فيتأخّر عن الوجود، المتأخّر عن الإيجاد، المتأخّر عن الحاجة، المتأخّرة عن الإمكان، فلو كان الحدوث هو علّة الحاجة لكان سابقاً على نفسه بدرجات وهو محال.

وتوهّم صاحب المواقف (٤) أنّ هذا الدليل مغالطة ناشئة من اشتباه الأُمور الذهنية بالخارجية؛ لأنّ القائلين بعلّية الحدوث لا يريدون إلاّ أنّ حكم العقل بالحاجة لملاحظة الحدوث وحده أو مع الإمكان، لا أنّ الحدوث علّة في الخارج للحاجة، فيوجد فتوجد الحاجة؛ لأنّ الحدوث والحاجة أمران اعتباريان، فكيف يتصوّر كون أحدهما علّة للآخر في الخارج حتى يرد عليه ما أُورد؟

لكن خفي عليه أنّهما وإن لم يكونا بخارجيين، إلاّ أنّهما من الأُمور الموجودة في نفس

____________________

(١) الشوارق ١ / ٨٠.

(٢) شرح المواقف ١ / ٤١٢.

(٣) فلسفتنا / ٣٠٠.

(٤) شرح المواقف ١ / ٤١٤.

٧٦

الأمر؛ إذ لا شك أنّ الممكن متّصف في نفس الأمر بالحاجة، وهذا الاتّصاف محتاج إلى علّة في نفس الأمر، فهي إن كانت الإمكان فهو، وإن كانت الحدوث فجاء فيه المحذور المذكور، وأمّا كونه علّةً للتصديق بالحاجة فقط، فهو خارج عن محلّ الكلام، فإنّ البحث في العلّة في نفس الأمر لا في مقام الإثبات.

فإن قيل: الإمكان - أيضاً لكونه كيفية النسبة بين الماهية والوجود - متأخّر عن الوجود، فلا يكون علّةً للافتقار المتقدّم عليه بمراتب.

فيقال: الإمكان إنّما هو كيفية النسبة بين الماهية ومفهوم الوجود من حيث هو متصوّر، لا بين الماهية والوجود الحاصل لها؛ ولهذا تُوصف الماهية بالإمكان قبل اتّصافها بالوجود بخلاف الحدوث، فإنّه مسبوقية الوجود الحاصل للماهية بالعدم، فلا شك في تأخّره عن الإيجاد.

والإنصاف أنّ الحكم بعلّية الإمكان لافتقار ضروري أو قريب منه جداً، فإنّ الإمكان هو تساوي الطرفين، بمعنى عدم اقتضاء الممكن شيئاً منهما في نفسه كما مرّ، وهذا المعنى يُعطي حاجته إلى المرجّح في أحد الطرفين بالضرورة، ولا نعني بالعلّية إلاّ هذا المعنى، وإن شئت فقل: كما أنّ الغَناء معلول للوجوب والامتناع بلا مدخلية القِدم فيهما، فكذا الافتقار وعدم الغَناء معلول لعدم الوجوب والامتناع - وهو الإمكان - بلا مشاركة الحدوث أصلاً.

نقل وإبطال

إنّ الذين قالوا بعلّية الحدوث للحاجة زعموا أنّ الممكن متساوي الطرفين، فلا حاجة له إلاّ مع اعتبار حدوثه خارجاً، فما لم يلحظه العقل موصوفاً بصفة الحدوث لم يجزم باحتياجه إلى سبب، وإنّ الإمكان إذا كان علّةً للافتقار لاحتاج الباقي أيضاً إلى المؤثّر مع أنّه غير ممكن، فإنّ التأثير إن كان في الحاصل لزم تحصيل الحاصل، وإن كان في أمر متجدّد كان الباقي مستغنياً، والتأثير إنّما هو في الحادث، (١) ولاحتاج المعدوم منه أيضاً إلى العلّة، فتكون الأعدام الأزلية معلّلةً مع كونها مستمرّةً.

وأمّا مَن ذهب إلى أنّ السبب هو الإمكان بشرط الحدوث، فكأنّه ظنّ أنّ العقل ما لم يُحط بالإمكان المفسّر باستواء الطرفين لم يحكم بالاحتياج إلى السبب، وما لم يَلحظ معه صفة الحدوث لم يتحقّق بنظره حصول الاحتياج، كما أنّ مَن دان باشتراكهما في السببية، نظر إلى عدم تحقّق الحاجة بدون كلّ منهما، ويمكن أن يكون القولان الأخيران ناشئين من عدم ترجيح أحد القولين الأَوّلين على الآخر، فتوهّموا أنّ لكلّ من الإمكان والحدوث مدخليةً في السببية، وأنّ

____________________

(١) شرح قواعد العقائد / ١٠.

٧٧

أدلة الطرفين تقتضي اعتبارهما معاً فيها.

أقول: يبطل القول الأَوّل بأنّ الإمكان أحوجَ الممكن في وجوده إلى المؤثّر، فالحدوث متعلّق الحاجة لا سببها، وأمّا الممكن الباقي فهو كالحادث منه في الاحتياج على ما سيمرّ بك بحثه، ويلحق بالباقي المعدوم الممكن في الحاجة، فإنّ عدم علّة الوجود علّة لعدم المعلول، وهذا ممّا لابدّ منه؛ لئلا يلزم ترجّح أحد المتساويين على الآخر، وممّا ذكرنا تسقط بقية الأوهام أيضاً.

وقال المحدّث المجلسي قدّس سره (١) : وأحد الآخرين - علّية الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث - هو الظاهر من أكثر الأخبار.

أقول: نحن وإن لم نلاحظ تلك الأخبار بتمامها، إلاّ أنّا لا نقبل منه هذا الاستظهار، وأنّ الروايات لا تثبت ذلك كما ظهر لنا من ملاحظة بعضها فلاحظ.

وأمّا قول بعض أتباع ماركس فحاصله: أنّه لا وجود متحرّر من الحاجة أصلاً، مستنداً في ذلك إلى التجارب التي حُقّقت في مختلف ميادين الكون، على أنّ الوجود بشتى ألوانه التي كشفت عنها التجربة، لا يتجرّد عن سببه، ولا يستغني عن العلة، واستنتجوا منه إنكار الواجب الوجود، فإنّه وجود لا علّة له، وقالوا: إنّ القول به قول بالصدفة!

أقول: وفيه أَوّلاً: إنّ الوجود ليس علّةً للافتقار، والتجربة لا تقدر أن تثبت مثل هذه المسألة العقلية، فإنّ المحسوس هو احتياج الموجود إلى العلّة، أمّا أنّ مِلاكه هل هو الوجود أو الحدوث أو الإمكان فلا، بل العلّة هي الإمكان كما عرفت.

وثانياً: إنّ التجربة إنّما تحكم على ما هو في سلطانها من المادّيات المحسوسة، ولا نفوذ لها إلى مطلق الوجودات، وهذا ظاهر، إلاّ أن تغلب الغباوة على الشخص!

الخاصية الثالثة: حاجة الممكن بقاءً

حينما انقدح سببية الإمكان للحاجة، فقد لاح أنّ الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر يحتاج في بقائه أيضاً إليه، فإنّ الإمكان ممتنع الانفكاك عن المهية الممكنة، وإلاّ لانقلب الممكن واجباً أو ممتنعاً، وهو ضروري الاستحالة، وعليه فالافتقار ضروري الثبوت بداهة عدم إمكان تخلّف المعلول عن العلة، كل ذلك ظاهر.

____________________

(١) بحار الأنوار ١٤ / ٥٢.

٧٨

تحليل وتسجيل

الماهية قبل انتسابها وارتباطها بجاعلها لا شيء محض، وإنّما تتحقّق بجعل الجاعل، فهذا التحقّق والتكوّن والتبرّز - وما شئت فسمِّه - أمر خارج عن نفسها، مترشّح من فاعلها وخالقها، فالماهية كما تحتاج في حدوثها إلى المؤثّر المكوّن المحقّق كذلك في بقائها، فإنّ التكوّن الجائي من قبل الجاعل لا يصير ذاتياً لها بعد الحدوث حتى ينقطع حاجتها إليه.

ومنه يبطل السؤال المشهور عن التأثير، وأنّه أمّا في الوجود الحاصل فهو تحصيل الحاصل المحال، وأمّا في الوجود الجديد فيكون التأثير في أمر جديد، فلم يثبت التأثير في الباقي.

وجه البطلان: أنّ التأثير في بقاء ذلك الوجود السابق وأثر الجعل هو البقاء، فإنّ الماهية المتحقّقة لا اقتضاء لها لتحقّقها في الآن الثاني، فتفتقر فيه إلى مؤثّر يبقي تحقّقها الأَوّل بحاله.

ولعلّ ما قيل: من اختيار الشق الأَوّل من السؤال، وأنّ التأثير في الوجود الأَوّل لكن في الزمان الثاني، وهذا تحصيل للحاصل في الزمان الأَوّل، في الزمان الثاني يرجع إلى ما قرّرنا.

ثمّ لا ينبغي للباحث أن يتوهّم (١) - كما توهّم - أنّ استمرار الوجود الأَوّل إمّا حاصل قبل هذه الحالة، وإمّا ليس بحاصل، فعلى الأَوّل يلزم تحصيل الحاصل، وعلى الثاني يلزم التأثير في الأمر الجديد؛ ضرورة أنّ إبقاء الوجود الأَوّل لا يعدّ من التأثير في الجديد.

هذا وإن شئت وضوح ما قلنا فاعتبر كيفية الصور المرتسمة في ذهنك، فإنّها كما يستحيل حدوثها من غير الالتفات والتوجّه، كذلك يمتنع بقاؤها مع الغفلة والذهول.

ويمكن أن نختار الشق الثاني ونقول: إنّ أثر التأثير هو الوجود الثاني على سبيل الاتّصال بالوجود الأَوّل من غير انقطاع، وهذا يسمّى عند العرف بالاستمرار، فليس فيه خلاف الفرض؛ لأنّه ليس بأمر جديد، وإنّما يلزم خلاف الفرض لو كان الوجود الثاني منفصلاً عن الوجود الأَوّل، ولك أن تقيس المقام بضياء الكهرباء، حيث يتولّد من الطاقة الكهربائية في كلّ آن ضوءاً جديداً ونوراً ثانياً، ومع ذلك كان الوجودات المتلاحقة عندهم استمراراً وبقاءً كما لا يخفى.

تكميل وتطبيق

هذا كلّه حسب كون الإمكان هو العلّة للافتقار، وأمّا بناءً على سببية الحدوث، أو شطريته أو شرطيته فيلزم كون الممكن بعد حين الحدوث مستغنياً عن المؤثّر؛ إذ لا حدوث بعد الحدوث الأَوّل حتى يفتقر، وقد التزمه جماعة من القائلين بها، وقالوا: إنّه لو جاز العدم على الواجب الوجود لبقي العالم بحاله، ومثّلوا ببقاء البناء بعد فناء البنّاء.

____________________

(١) درر الفوائد / ١٣٦.

٧٩

أقول: بناءً على اختيار الشق الثاني المتقدّم، يجب القول بافتقار الممكن بعد الحدوث الأَوّل أيضاً؛ إذ في كلّ آن حدوث وحدوث، فاستغناء الممكن لا يكون مترتّباً على القول بتأثير الحدوث في الحاجة مطلقاً، بل مختصّ بما إذا تعيّن الشق الأَوّل؛ ولذا لم يلتزم به كلّ مَن قال بعلّية الحدوث بل بعضهم.

وأمّا ما مثّلوا من البناء الباقي بعد البنّاء ففيه: أنّ البنّاء علّة محدِثة فقط وليس بمبقية أيضاً، بل العلّة المبقية هي جاذبية الأرض أو غيرها، كالفدى الكائنة في مواد البناء، والله من ورائها محيط.

هداية

إمكان الماهية يغاير إمكان الوجود، فإنّ الأَوّل بمعنى عدم التماس الوجود أو العدم كما مرّ، والثاني بمعنى الفقر؛ ضرورة بطلان عدم اقتضاء الوجود نفسه ونقيضه، بل الوجود وجود بالضرورة وليس بعدم بالضرورة؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عن نفسه ممتنع، فتفسير الإمكان الوجودي بما فسّر به الإمكان الماهوي غير معقول، نعم ضرورة الوجود ضرورة ذاتية لا أزلية، فهو ما دام موجوداً ضروري، فيفتقر إلى موجده حدوثاً وبقاءً كالماهية.

ومنه ينقدح بطلان أَولويته؛ إذ هو قبل إيجاده لا شيء محض، وبعده ضروري الثبوت كما عرفت، فينتزع الماهية عنه قهراً، فلا معنىً لأولوية الوجود بالماهية، وحيث إنّ الماهية في رتبة متأخّرة عن الوجود - لمكان انتزاعها منه - لم يكن أَولويتها به قبله بمعقول، كما أنّها بناءً على أصالتها لا تكون أولى بالوجود الاعتباري المنتزع عنها بعد تعلّق الجعل بها؛ إذ لا يتصوّر أولويّتها به قبل الجعل، ومنه يبان عدم أَولوية الوجود بها أيضاً، فإنّه - على أصالتها - أمر اعتبار متأخّر عن تحقّق الماهية، فلا معنىً لأولويّته بها قبل تبرّزها.

نكتة

بقي شيء هو أنّ علّة الممكنات المحدثة هل هي بعينها العلّة المبقية أم لا؟ صريح السبزواري هو الثاني حيث قال: اعلم أنّ من المعلولات ما يكون علّة حدوثه غير علّة بقائه كالبناء، فإنّ علّة حدوثه البنّاء وعلّة بقائه يبس العنصر، ومنها ما يكون علّة حدوثه هي علّة بقائه، كالقالب المشكّل للماء، والعالم بالنسبة إلى الواجب تعالى من قبيل الثاني؛ لكونه واجب الوجود بالذات، وواجب الوجود من جميع الجهات... إلخ (١) .

أقول: علّة العالم الإمكاني هي إرادة الله تعالى، وسيأتي في صفاته الثبوتية أنّها بمعنى

____________________

(١) الأسفار (الحاشية) ١ / ٢٢٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

للأغراض الزائدة على ذات الواجب، كما عن الإمامية والمعتزلة، والحكماء ينكرونه جداً ويقولون: إنّ الغرض من فعله، نفس ذاته المقدّسة. والأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى، ولكنّهم يجعلون صفاته زائدةً على ذاته، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم.

ومسألة تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة، مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جداً، ومع ذلك أُهملت في الكتب الكلامية، ولكنّنا سنستوفي بحثها في المقصد الخامس إن شاء الله تعالى، وسنبرهن من العقل والقرآن على صحته، لكنّ الشأن في الابتناء المذكور، فإنّ الفعل - بناءً على زيادة الداعي على الذات - وإن كان ممكناً بالنسبة إلى الذات المذكورة، من حيث الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار، وهو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات، لكنّه لا يثبت مذهب المتكلّمين، ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور، فإنّا لو فرضنا أنّ الداعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه - صدور المعلول عن علّته التامة - أيضاً غير مقدور، فأين الاختيار؟

وقد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة والمصلحة، ولعلّه المشهور بين العدلية، ومن الواضح أنّ العلم - سواء كان عين ذاته، أو زائداً عليها وقائماً بها من الأزل - غير مقدور للواجب.

وخلاصة المقال: أنّ مجرّد إمكان الفعل صدوراً وتركاً، بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي، لا يفي بإثبات اختيار الواجب، الذي يصرّ عليه المتكلّمون، فإنّه بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي، وأمّا ما ادّعاه شركاء الفن وغيرهم، من الضرورة على أنّ الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم، فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي - وهو علمه بما في الفعل من المصلحة - والقول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية، فإنّ الله قديم الذات وقديم العلم، فهو عالم أزلاً بأنّ الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلاً، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قِدم المعلول. نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي، فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله، كما يرومه الكلاميون، اعتماداً على ما سيجيء من دلائلهم في هذه المسألة ومسألة حدوث العالم، كما ستعلم وجهه في الدليل الثاني من أدلّة الحكماء.

السادس: الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سره، أنّ وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار، لكنّه غير مدلّل، بل الملاك هو إمكانه إمكاناً وقوعياً، وأمّا نفس التخلّف خارجاً فهو غير معتبر، نعم هنا شيء آخر وهو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قِدمه أو لا؟ وسيأتي بحثه

١٢١

في مسألة حدوث العالم، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار؛ إذ استحالة قِدم الممكن في نفسه شيء، ومنافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر، ولا ربط بينهما أصلاً.

هذا ما يتعلّق بجهات البحث وتصوير المدّعى، ولنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول: استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه، وإليك بيانها وتوضيحها:

الأَوّل: إنّ الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته، فهو واجب في ذاته وصفاته، وحيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى، فلا يعقل تفسيرها بالإمكان والصحّة.

أقول: هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة، القائمة بذاته تعالى، الزائدة عليها، وعدم وجوبها، فهذا الوجه لا يهمّه كما هو واضح، إلاّ أنّ الكلام في صحّة هذا الاعتذار، وستعلم أنّ لبّ القول بإمكان الصفات، ليس إلاّ التزاماً بمذهب الماديين، وأمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة، بما يقول في غير هذا المقام، أو يُنسب إليه من إنكار الصفات رأساً، ونيابة الذات منابها في آثارها، فمعنى كونه تعالى قادراً، أنّ ذاته تفعل وتترك بلا إيجاب ذاتي.

أقول: ويرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين، كما ستقف عليه في المقصد الرابع إن شاء الله، فالشبهة باقية على حالها، ولا وزن لهذين الجوابين المذكورين، فلابدّ الالتزام إمّا بإيجابه ونفي الإمكان عن قدرته، أو بعدم وجوب قدرته. والفلسفي يستريح بقبول الشقّ الأَوّل، كما أنّ الأشعري والاعتزالي يبنيان على الثاني؛ وحيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معاً، فيحتاج إلى طريق ثالث، لكنّني لم أرَ ذكراً له في كتبهم الموجودة عندي، بل هذه الشبهة قد أُهملت في الكتب الكلامية رأساً، مع أنّها ذات أهمّية جداً، ومغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين، لا يجامع القول بعينية الصفات، كما عليها الإمامية والحكماء. والتحقيق في الجواب: أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور واللاصدور كما في الحيوان، فإنّ القدرة فيه من الكيفيات النفسانية؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس، فكذا في الواجب؛ وحيث إنّ كنه الواجب وذاته يمتنع الاكتناه والإحاطة بها، استحال معرفة قدرته أيضاً، لكن يلزمها صحّة الفعل والترك، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة، لا في المخلوق ولا في الخالق، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة (1) .

فنقول: إنّ الله تعالى قادر لِما استخدمناه من الدلائل، وستدري أنّ قدرته عين ذاته؛ وحيث

____________________

(1) نقل العلاّمة قدّس سره في شرح قواعد العقائد / 40: أنّ القادر عند أوائل المعتزلة مَن كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل. ونفاة الأحوال قالوا: هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل.

أقول: الثاني باطل كما عرفت، والأَوّل صحيح لكنّ الصفة نفس ذاته.

١٢٢

اتّفق الباحثون من المتكلّمين والحكماء - كاتّفاق العقل والنقل - على امتناع إدراك حقيقته وعرفان ذاته، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته، لكن نعلم أنّ الصحّة المذكورة من لوازم قدرته وشؤون سلطانه، فإذن لا منافاة بين القول باختياره والقول بعينية صفاته، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها. هذا، وللمتكلم أن يرجع ويقول على سبيل النقض: إنّ تفسير القدرة بأن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة؛ إذ مرجعها حينئذٍ إلى ضرورة المشيّة واللامشيّة، وليست المشيّة عندهم إلاّ العلم بالعناية، ولا نتعقّل من مفهوم العلم إلاّ الانكشاف والإراءة، ولا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة، وأنّ حقيقة الواجب هو الكشف! فلابدّ أن يقولوا: إنّ الكشف لازم علمه تعالى.

الثاني: إنّ إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضاً واجبة، وعليه فالفعل أيضاً واجب بالنسبة إلى ذاته، ولا يمكن التخلّف أصلاً؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة، يظهر ذلك من الأسفار وحواشيها للسبزواري.

أقول: المنقول من معظم متكلّمي الإمامية ورؤساء المعتزلة، أنّ إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة والمنفعة، ويعبّرون عنه بالداعي، وعليه فيتوجّه عليهم أنّ علمه عين ذاته تعالى، وتعلّقه بالأشياء ضروري، فيكون تحقّق الفعل أيضاً ضرورياً؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وهذا هو الإيجاب الذي يدّعيه الفلاسفة، وأمّا الأشاعرة فهم وإن يروا زيادة إرادته على ذاته، لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضاً، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب، وهي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل، وهذا عين الإيجاب، وما أجاب في المواقف (1) بأنّ الوجوب بالاختيار، لا ينافي الاختيار، فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك.

والإنصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى، يصام اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة.

ثمّ إنّ عينية الإرادة مع الذات وإن توجب ضرورة الفعل وبطلان الصحّة المذكورة، إلاّ أنّها لا تثبت قِدم العالم؛ لأنّها ليست هي العلم فقط، بل العلم بالمصلحة، ولعلّها غير متحقّقة في الأزل، أو إنّ قِدم الممكن غير ممكن، فإثبات قِدم العالَم موقوف على إمكان قِدم الممكن وتحقّق المصلحة، كما لا يخفى.

لكن الذي يبطل هذا الوجه، هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى، وعدم

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 69.

١٢٣

قِدمها، ووجوبها، وعينيتها، مع الذات الأحدية الواجبة، فهذه العويصة المهمّة منحلة على أُصولنا بلا تكلف.

الثالث: إنّ الواجب الوجود واجب من جميع جهاته، فكيف يعقل الصحّة في حقه؟ ذكره صاحب الأسفار والسبزواري وغيرهما ممّن تقدّمهما.

أقول: إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى، وعدم إمكان انفكاكها عن الذات، فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد، حتى من الأشعري القائل بإمكان صفاته، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى، وإن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها وأنّها واجبة، فهذا وإن كان حقاً متيناً وبه اعتقد الإمامية، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفي بإثبات ذلك، كما يظهر لمَن لاحظها، وإن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى، وأنّها تصدر عنه تعالى ضرورةً ووجوباً، ولا يعقل الإمكان في حقه مطلقاً سواء في أفعاله وأوصافه، فهذا وإن كان هو مفاد القاعدة، لكنّنا نردّه بأنّ القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبداً، كما سلف بحثها مفصّلاً.

الرابع: ما سلف في عبارة الأسفار وإليك بيانه الآخر، قال: ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد - سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى - هو ما أشرنا إليه، فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه، لم تكن صالحةً لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر، وإذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً يتحقّق عند الله... إلخ.

أقول: هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية، كما نقله هو في بعض فصول بحث إرادة الله تعالى، واللاهيجي أيضاً في مبحث إرادته تعالى من شوارقه، وجوابه: أنّ الوجوب الناشئ من قِبل الإرادة والاختيار، لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، وهذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين، وأمّا وجوب الإرادة نفسها فقد أشرنا إلى أنّ إرادته تعالى كإرادة بقية الفاعلين حادثة، كما سيأتي بحثهما.

الخامس: ما ذكره أيضاً صاحب الأسفار بقوله: وممّا يدلّ على ما ذكرنا - من أنّه ليس مَن شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل - أنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً، وذلك محال، والمؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب... مع أنّ الله مريد وقادر عليه.

أقول: وهذا التلفيق من مثله عجيب جداً، أَلم يعلم أنّ هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه، لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان وغيره؟ فيبطل الاختيار رأساً، ولا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور واللاصدور حتى في القادر، الذي يفعل بداع زائد على ذاته، وقدرة زائدة على ذاته، مع

١٢٤

أنّه صرّح - في غير مورد - بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب.

وحلّ هذه الشبهة، أنّ الله كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره، كذلك يعلم بصدوره عنه اختياراً، وأنّ تركه ممكن له ذاتاً ووقوعاً، فلو فرضا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى وهو محال، والمستلزم للمحال محال.

ثمّ إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قِبال العدلية، وسنرجع إليها في مباحث المقصد الخامس إن شاء الله.

السادس: ما ذكره هو أيضاً، من أنّ الفاعل قادراً، إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه، وفي تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل... إلخ.

أقول: وهذا منه غريب وخبط عظيم، فقد خُلط عليه محلّ البحث؛ ولذا أصرّ على أنّ هذا الوجه يثبت مرامه، ولا يدري أنّ الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختياراً، غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل، كيف والأَوّل عامّ يشمل جميع الفاعلين، والثاني خاصّ بمَن كان فعله لا لصفة زائدة ولا لداعٍ زائد، كما صرّح به مراراً؟ وإنْ كان اكتفى في بعض كلماته، بصدور الفعل عن علم وإرادة في صدق المختار، ولو في غير الله تعالى، بل ادّعى أنّه لا يقال مثل هذا الفاعل في العرف العامّي ولا الخاصّي: إنّه فاعل غير مختار.

أقول: بطلانه واضح؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي، والعرف لا يقول له المختار قطعاً، كما اعترف به ابن سينا وغيره أيضاً.

السابع: قد ثبت قِدم العالَم في طبيعيات الفلسفة، وهو لا يمكن إلاّ عن مُفيض تام الفاعلية. نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّاً على الرازي.

أقول: هذا الوجه باطل صغرى وكبرى. أمّا الصغرى؛ فلِما يأتي من حدوث العالم بشراشره، وأمّا الكبرى؛ فلِما تقدّم من أنّ المعتبر في مفهوم المختار، هو إمكان تخلّف فعله عنه، لا وقوعه خلافاً لشركاء الفن أو معظمهم، فقِدم العالَم لا يكشف عن صحّة مقصودهم، كما أنّ حدوثه على نحو مطلق لا يدلّ على اختياره، كما يأتي إن شاء الله.

الثامن: الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون، يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده ولا يفعل بعدمه، وليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور واللاصدور، وهي - أي زيادة الداعي على ذاته - تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى. يستفاد من الأسفار والشوارق.

أقول: استلزام الاستكمال باطل جداً، كما ستعرفه في المقصد الخامس إن شاء الله.

وأعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار: عند المعتزلة أنّ الاختيار يكون

١٢٥

بداعٍ أو بسبب، والاختيار بالداعي يكون اضطراراً، واختيار الباري وفعله ليس بداعٍ، انتهى. وقَبِله صاحب الأسفار أيضاً فكرّره في كتابه.

أقول: وهذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّاً ولا جواباً؛ لأنّه مثل أن يقال: إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود!

التاسع: إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع؛ لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذٍ على عدمه، وأيضاً يلزم قِدم الأثر؛ لأنّ الواجب وقدرته وتعلّقها أزلي مع أنّ أثر المختار حادث، وإمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي، ولا يجب الفعل مع ذلك المرجّح وإلاّ لزم الإيجاب، بل كان جائزاً هو وضدّه، فيحتاج إلى مرجّح آخر ويلزم التسلسل في المرجّحات.

العاشر: إنّ إرادة الله وقدرته، متعلقتان من الأزل إلى الأبد، بترجّح الحادث المعين، وإيجاده في وقت معيّن، والتغيّر في صفاته محال، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. نقلهما بعضهم عن الفلاسفة (1) .

الحادي عشر: إنّ ما لم يجب لم يوجد، فلابدّ من أن يكون الله تعالى موجباً - بكسر الجيم - فإنّه موجِد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - كما زعم المتكلمون وينسبونه إلى الحكماء. يظهر ذلك من كلام السبزواري المتقدّم.

أقول: أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل، ولكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه كما مرّ غير مرّة؛ ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين، بخلاف الثاني، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان.

وبالجملة: الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوباً ذاتياً، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته، وإن كانت غير ذاته بل كانت ممكنةً أو حادثة، وهذا ظاهر لا ستر عليه. وأجاب الناقل ومَن تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة، ولا يليق بنا أن نتعرّض له، ومنه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضاً، وأنّ الله تعالى على مذهبهم فاعل موجَب - بفتح الجيم - ولا يُستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلاً ولا عرفاً، فإصرار السبزواري وغيره على أنّه موجِب - بالكسر - لا موجَب - بالفتح - واستيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه وعدم اختياره، شيء عجيب جداً، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام؟

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 44، 46.

١٢٦

هذا كلّه بناءً على تمامية القاعدة القائلة: إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، وأمّا بناءً على عدم تماميتها فالأمر واضح، وأمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات، فليس إلاّ دليلاً آخر على تلك القاعدة ونفي الأولوية، وسنرجع إليها في المقصد الخامس.

وأمّا الوجه العاشر فجوابه: أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك والأضداد، فليس الترجّح مستند إليها، وإلاّ لزم التناقض والجمع بين الضدين، بل هو مستند إلى إرادته، التي ليست هي إلاّ إحداثه، وتعلّق الإرادة بهذا المعنى من الأزل محال، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع، وتعلّق الإرادة حادث وموجب للوقوع لكنّها قابلة للتغيّر، فافهم جيداً.

ويناسب المقام مباحث أُخر، سنتعرض لها إن شاء الله في مباحث الإرادة، وحدوث العالم، وتعلّل أفعال الله بالأغراض؛ إذ هذه المباحث لها اشتراك وارتباط شديد كما يعرفه الراسخون.

هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم، ولم ندع شيئاً منه مهملاً، وقد دريتَ أنّ الإنصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم، بل وبعضها خارج عن محلّ النزاع رأساً، فحينئذٍ إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لَما كان بأساً ومانعاً من الالتزام به، وكذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي ولا محذور فيه أصلاً، فإنّ الاختيار وهو كيفية القدرة، ممّا لا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور ونحوه، فالآن نرجع إلى أدلّتهم، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه:

الأَوّل: لو لم يكن مختاراً للزم إمّا قِدم العالَم أو حدوث القديم، وكلا الأمرين محال، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي. بيان الملازمة: أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه، فهو وأثره مقارنان في الخارج، فإذا لم يكن الواجب مختاراً جاز تأخّر فعله عنه، ولوجب تحقّقهما - أي الله والعالَم - إمّا في الأزل أو في الحدوث، وأمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح، كما أنّ حدوث العالم مبيّن كما يأتي في محلّه. وبالجملة: أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه.

الثاني: إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص؛ لعدم تمكّنه حينئذٍ من الترك أو الفعل، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه، والنقص عليه محال اتّفاقاً وعقلاً، كما يأتي بحثه إن شاء الله في المقصد الآتي.

الثالث: إنّه لو لم يكن مختاراً للزم أحد الأمور الأربعة: إمّا نفي الحادث بالكلّية، أو عدم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التام، وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم. بيان الملازمة: أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد، فإن لم يوجد فهو الأمر الأَوّل، وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند، فإن لم يستند فهو الثاني، وإن استند فإمّا أن لا

١٢٧

ينتهي إلى قديم أو ينتهي، فإن لم ينتهِ فهو الثالث أي التسلسل؛ وذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم ولا منتهٍ إليه، فلابدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبةً مجتمعة، وهو تسلسل محال اتّفاقاً؛ وإن انتهى فلابدّ قديم يوجب حادثاً بلا واسطة من الحوادث؛ دفعاً للتسلسل فيها، سواء كانت مجتمعةً أو متعاقبة، فيلزم الرابع.

الرابع: إنّه تعالى لو لم يكن مختاراً لاستحال تغيّر الموجودات، وتبدّل الكائنات بالمرة، فإنّه يتبع تغيّر العلّة وتبدّلها، وهو في حقّ الواجب مستحيل، فثبت أنّه مختار.

الخامس: إنّه لو كان موجِباً لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة، في درجة واحدة، بلا تقدّم وتأخر بينها، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة، أعني بها ذاته المقدسة، والتخصيص الواقع يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل ترجّحاً من دون مرجّح.

السادس: الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مثل قوله تعالى: ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) ، وقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) ، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (3) ، وقوله: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (4) وأمثالها من الآيات الصريحة في المدعى.

السابع: الأخبار المتواترة عن النبي الأعظم وآله الكرام (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، مثل ما ورد في أنّه يمحو ويثبت، ويقدّم ويؤخّر وله البداء، ونحو ذلك.

الثامن: الضرورة الدينية على اختياره، بل تقدّم عن العلاّمة الحلي قدّس سره أنّه الفارق بين الإسلام والفلسفة، بل ادّعى الجرجاني والقوشجي والأصبهاني اتّفاق المليّين قاطبةً على ذلك كما مرّ.

هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة على اختياره تعالى.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل، فهو موقوف على ثبوت أمرين، الأَوّل: حدوث العالم كما هو ظاهر، الثاني: إمكان أزلية الممكن؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل، وتحتّم مسبوقية الممكن بالعدم، لَما كشف حدوث العالم عن الاختيار.

وبالجملة: حدوث العالم بمجرّده، وإن كان يبطل قول الفلاسفة بقِدمه، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته، حتى يكون عدم تحقّقه مستنداً إلى إرادة الفاعل دون المانع

____________________

(1) إبراهيم 14 / 19.

(2) النحل 16 / 40.

(3) الحج 22 / 14.

(4) الرعد 13 / 39.

١٢٨

في نفس المفعول، وستعرف إن شاء الله في محلّه امتناع أزليته، فهذا الدليل - بما له من الاشتهار - غير تام، وأنّ الحدوث لا يثبت الاختيار، كما أنّ الاختيار أيضاً لا يدلّ على الحدوث، خلافاً لِما توهّمه الرازي في محكي شرح الإشارات، فإنّا قد ذكرنا إمكان مقارنة فعله معه من حيث هو مختار.

وأمّا الوجه الثاني، فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع، وأنّ صدور الفعل مع العلم والإرادة ليس بإيجاب، وإن لم يكن هناك التمكّن من تركه، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار وأفضل أنحاء الصنع، بل لا اختيار إلاّ لمَن يفعل لذاته بذاته، وأمّا مَن يفعل لداعٍ زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار، فالواجب - عزّ مجده - موجب بكسر الجيم لا بفتحه.

أقول: إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحت وتهافت واضح، ومهما قالوا في توجيهه وتصحيحه، فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال، ولا يكون الواجب على مذهبهم، إلاّ موجَباً بفتح الجيم لا بكسره، وتحريف الكلم عن مواضعه غير نافع، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل، وأنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص، بل هو ممّا أثبته الأدلة العقلية المتقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث، فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره، وإلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث، وهو معلول الواجب الموجب، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة.

وبالجملة: هذا الوجه راجع إلى الوجه الأَوّل ولا مزية له غير الزيادة في العبارة.

وأمّا الوجه الرابع والخامس، فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة، في ارتباط الحادث بالقديم؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما، على أنّ القابل في نفسه أيضاً قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة.

وأمّا الوجه السادس، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته، وهذا ممّا لا خلاف فيه لأحد، وإنّما الكلام في تحديد إرادته وأنّها واجبة أو لا، وهل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن - بظواهره لا بنصوصه - يدلّ على اختياره تعالى، فإنّ مَن أُلقي عليهم خطابات القرآن - وهم عامّة الناس - لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة وأمثاله إلاّ التمكّن المذكور، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة.

وأمّا الثامن فالإنصاف أنّه غير بعيد، فإنّ اختياره تعالى - بنحو يدعيه المتكلّمون - ممّا ارتكز في أذهان المسلمين، رجالهم ونسائهم، جاهلهم وعالمهم، صغيرهم وكبيرهم، وهذا الارتكاز لا يكون مستنداً إلاّ إلى الدين وطريقة الشارع، فالثابت من الدين هو ذلك، وقد عرفت

١٢٩

أنّ ما قيل في امتناعه وبطلانه كان مزيّفاً ضعيفاً، فإذن يتعيّن تعييناً تعبّدياً لا عقلياً التديّن والاعتقاد بهذا المسلك؛ لِما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم.

خلاصة المقال في تنقيح المقام

قد استبان ممّا ذُكر أنّ النظرية الفلسفة المذكورة لا تتمّ إلاّ بأُمور:

1 - كون إرادته عين ذاته، وإلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور واللاصدور.

2 - كون الغرض من فعله نفس ذاته، وإلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته.

3 - قِدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن.

فإذا لم يثبت واحد من هذه الأُمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه، ولكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين، كما يظهر من مراجعة ما سبق، نعم إذا ثبت حدوث العالم وأزلية الممكن، ثبت اختياره تعالى؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذٍ إلى إرادته تعالى، فيكون الواجب متمكّناً من الفعل والترك، فتأمل.

فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل وعدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى، وإلى داعيه، وعدم كون الإرادة واجبة، نعم الوجوب الناشئ من الإرادة - المسمّى بالوجوب السابق - لا ينافي الاختيار، فإذن اختياره تعالى وإن كان ثابتاً من جهة الشرع كما مرّ، إلاّ أنّه غير ثابت من جهة العقل؛ لِما عرفت من عدم تمامية أدلّة أرباب الكلام.

هذا، والذي يدلّ على حقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة المتقدّمة، فإنّ القدرة الواجبة - التي تستلزم التمكّن وصحّة الصدور واللاصدور - ممكنة الثبوت للواجب؛ لِما عرفت من بطلان دلائل الفلاسفة، فهي إذن ثابتة له، فهو قادر مختار أي له أن يفعل وله أن لا يفعل.

ويمكن أن يستدلّ أيضاً، بأنّ الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك، وأنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له، وحيث إنّه جامع لجميع الكمالات، بل لا كمال إلاّ وهو معطيه ولا سبيل للنقص إليه، فهو مختار بالمعنى الذي أثبته الكلاميون لا غير، والله الهادي.

تنبيه

اختياره بهذا المعنى وإن ادّعاه المتكلّمين بأجمعهم، بل مرّ أنّه ضروري من دين الإسلام، لكنّه لم يتديّن به - حقّ التديّن - إلاّ الطائفة الإمامية، الذين أخذوا أُصولهم وفروعهم من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، فإنّ الاعتزاليين قالوا بالثابتات الأزلية، والأشعريين بالقدماء

١٣٠

الثمانية، ولا شك أنّ الواجب بالنسبة إليها موجَب، كما صرّح به أنفسهم، فتأمل.

فأعظم الله جزاء الإمام الصادق من أئمة أهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أدّب أتباعه على سلوك صراط الحق ونهج الصدق.

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

المدّعى: أنّ الواجب الوجود قادر على كلّ ممكن (1) تحقّق في الخارج أم لا، والدليل على ذلك وجوه:

1 - إنّ الممكن - كما علمت ممّا مضى - لا يقتضي الوجود ولا العدم ولو بنحو الأولوية، بل هما متساويان إليه، يوجد لوجود المرجّح ويعدم بعدم المرجّح، فإذن هو محتاج إلى غيره في الوجود والعدم، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أنّ الممكن لا يعقل أن يبقى على حالة الاستواء في الخارج؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، وإنّما هي بلحاظ نفسه، وعليه فكل ممكن إمّا موجود وإمّا معدوم، وقد قرّرنا أنّ كل موجود محتاج إلى وجود المرجّح، وكلّ معدوم مفتقر إلى عدمه، وليس هذا المرجّح إلاّ إرادة الواجب عزّ اسمه؛ لانتهاء سلسلة الموجودات إليها، فيستنتج من هذه المسائل، أنّ الممكنات بأسرها محتاجة إلى الله تعالى أزلاً وأبداً، وأنّ الله هو المفيض القابض، وحيث تقدّم أنّ فاعليته تعالى بنحو الاختيار والتمكّن دون الجبر والإيجاب، فقد اتّضح أنّه قادر على كلّ ممكن، وكلّ ممكن مقدور له، وهذا دليل إنّي متين قوي على المطلوب.

2 - إنّ القدرة ثابتة له في الجملة على ما مرّ، وبما أنّها عين ذاته المقدّسة، فهي غير محدودة، فإنّ التناهي من خصائص الإمكان ونواقض الوجوب، كما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله، وعليه فقد ثبت عدم تناهي قوته وقدرته، وهذا هو معنى عمومها وتعلّقها بكل ممكن، فتدبّر.

3 - القدرة العميمة ممكنة الثبوت له تعالى، وما أمكن في حقّه وجب كما سلف.

4 - العجز - ولو في بعض الموارد - نقص، وهو ممتنع عليه. ذكره بعضهم.

5 - لو لم يكن قادراً على الإطلاق لكان محتاجاً - ولو في مورد - إلى غيره، فهو إن كان ممكناً لزم الدور، فإنّ الممكن في حدوثه وبقائه، وفي وجوده وأفعاله، محتاج إلى الواجب، وإن

____________________

(1) قال مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشر / 81: إنّ الله قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنّهم قالوا: إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد.

أقول: النسبة كاذبة، كما تعرف من مراجعة الصفحة الآتية، في الوجه التاسع، وقد ذكرنا في المطلب الثالث من عنوان تنوير عقلي:: 36 مراد العلَمينِ: الشيخ الطوسي والسيد المرتضى قدّس سرهما.

١٣١

كان واجباً فأدلة التوحيد تنفيه.

أقول: هذا الوجه ينفي المحتاج إليه دون الحاجة، ولا ملازمة بينهما قطعاً.

6 - إنّ علم الواجب فعلي، فإنّه عين ذاته، التي هي عين حيثية العلّية لكلّ شيء، وعلمه تعلّق بكلّ شيء، فقدرته تعلّقت بكلّ شيء. ذكره السبزواري في شرح المنظومة، وكذا الوجه الآتي.

وفيه: ما يأتي من أنّ إرادته زائدة على ذاته.

ويرد أيضاً على قوله: (وعلمه تعلّق بكل شيء) أنّه مصادرة محضة، فإنّ تعلّق علمه الفعلي، الذي هو إرادته بشيء فرع مقدوريته، وكون الواجب قادراً عليه وهو أَوّل الكلام، وإن شئت فقل: إنّه مستلزم للدور؛ بداهة توقّف الإرادة على شمول القدرة، فلو عُكس لدار، فافهم.

7 - إنّ الإيجاد فرع الوجود، وإذ لا وجود حقيقي للممكنات في ذواتها؛ إذ الممكن من ذاته أن يكون ليس، وله من علّته أن يكون أَيس، فلا إيجاد حقيقي لها، فإذن كما لا وجود إلاّ وهو ترشّح من لديه، كذلك لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

أقول: هذا بيان متين، لكن مع أنّه أخص من المدّعى - حيث لا يجري في الممكن غير الموجود - راجع إلى الوجه الأَوّل.

8 - ما قيل إنّه المشهور، من أنّ المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية، وإذا ثبت قدرته على بعضها تثبت على كلها.

ويُزيّف بأنّ مجرّد كون الإمكان مصحّحاً لا علّة موجبة، غير كافٍ لإثبات المقدورية؛ لاحتمال توقّفها على شرط مفقود، وإن أُريد من المصحّح العلية، فيفسده أنّ الإمكان علّة للاحتياج دون المقدورية، وإلاّ كانت العلل الموجبة مؤثّرات بالاختيار.

9 - الضرورة المذهبية والإجماع والكتاب والسنّة بأجمعها تدل على ذلك، ذكره بعض المتكلّمين من أصحابنا.

أقول: الاستدلال بالنقل لا محذور فيه في المقام كما يظهر بالتدبّر، غير أنّ الإجماع التعبّدي غير متحقّق قطعاً، كما يظهر وجهه ممّا سبق، وأمّا الكتاب فيحتمل أن قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) ونحوه ناظر إلى كلّ شيء موجود، فيكون أخص من المدّعى، نعم قوله تعالى: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ

____________________

(1) فاطر 35 / 1.

١٣٢

الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) يمكن أن يكون شاملاً للمقام، لكنّه ظهور غير قطعي. وأمّا الضرورة فهي غير بعيدة، فتأمل.

مطالب مهمّة

المطلب الأَوّل:

قد نسبوا الخلاف في هذه المسألة إلى طوائف من الناس، وأنّهم ينكرون عموم قدرة الله تعالى على كل ممكن.

أقول: الظاهر أنّه لا مخالف في المقام أصلاً، وأنّ الكلّ متّفقون على الكلّية المذكورة، وإنّما نزاعهم في امتناع بعض الأشياء وعدمه، فالبحث صغروي، وبعبارة واضحة: أنّ قدرته تعالى لا تتعلّق بالواجب والممتنع، فإنّ ضرورة الوجود أو العدم يبطل تعلّق القدرة، التي هي ما تلزمه صحة الصدور واللاصدور، فمتعلّقها هو الممكن لا غير، فيقال: هذا ممكن، وكل ممكن مقدور لله تعالى، والكبرى كما أنّها قطيعة عقلاً وفاقية قولاً، والصغرى مختلف فيها، وهذا الخلاف ليس بعزيز، بل هو منتشر في كثير من المسائل العلمية، إذا تقرّر ذلك فإليك بيان تلك الموارد، التي وقع الخلاف في إمكانها وامتناعها:

المورد الأَوّل: عدم صدور الكثير من الواحد الحقيقي، فلا يمكن أن يصدر عن الواجب البسيط أكثر من شيء واحد بلا توسّط أمر آخر، ادّعاه الحكماء وأصرّوا عليه، وأنكره أرباب الكلام وشدّدوا عليهم النكير، وإليك بيان هذه القاعدة المشهورة بـ (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد) من كتاب الأسفار: قال مؤلّفها (2) :

البسيط إذا كان ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علّةً لشيء، كانت ذاته محض علّة ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات وعلّة؛ لتكون علّيتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة، أو شرط، أو غاية، أو وقت، أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطاً بل مركّباً، فالمراد من المبدأ البسيط، أنّ حقيقته التي بها يتجوهر ذاته هي بعينها كونه مبدأً لغيره، وليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته، وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أنّ لنا شيئين نتجوهر بأحدهما، وهو النطق ونكتب بالآخر هو صفة الكتابة، فإذا كان كذلك صدر عنه أكثر من واحد، ولا شك أنّ معنى مصدر كذا غير معنى مصدر غير كذا - فتقوّم ذاته من معنيين مختلفين، هو خلاف المفروض، فافهم هذا ودع عنك الإطنابات التي ليس فيها كثير فائدة، وإيّاك أن تفهم من لفظ

____________________

(1) يس 36 / 81.

(2) الأسفار 2 / 214.

١٣٣

الصدور وأمثاله الأمر الإضافي، الذي لا يتحقّق إلاّ بعد شيئين؛ لظهور أنّ الكلام ليس فيها، بل كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول، فإنّه لابدّ أن تكون للعلّة خصوصية، بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن دون غيره، وتلك الخصوصية هي المصدر في الحقيقة، وهي التي يعبّر عنها بالصدور، ومرّة بالمصدرية، وطوراً بكون العلّة بحيث يجب عنها المعلول؛ وذلك لضيق الكلام عمّا هو المرام، حتى أنّ الخصوصية أيضاً لا يراد بها المفهوم الإضافي، بل أمر مخصوص له ارتباط وتعلّق بالمعلول المخصوص، ولا شك في كونه موجوداً ومتقدّماً على المعلول المتقدّم على الإضافة العارضة لهما، وذلك قد يكون نفس العلّة إذا كانت العلّة علّةً لذاتها، وقد يكون زائداً عليها، فإذا فرض العلّة بما هي به علّةً بسيطاً حقيقياً، يكون معلوله أيضاً بسيطاً حقيقياً، وبعكس النقيض، كلّ ما كان معلوله فوق واحد ليس بعضها بتوسّط بعض، فهو منقسم الحقيقة إمّا في ماهية أو في وجود، انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر ردّاً على الرازي: إنّ المصدرية بالمعنى المذكور نفس ماهية العلة البسيطة، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، فإذا كان البسيط الحقيقي مصدراً لـ «1» مثلاً، ولِما ليس «1» مثلاً، كانت مصدريته لِما ليس «1» غير مصدريته لـ «1» التي هي نفس ذاته، فتكون ذاته غير ذاته وهذا هو التناقض.

قال تلميذه في شوارقه (1) : إنّ الفاعل المستقل إذا كان واحداً من جميع الجهات، بحيث لا يكون فيه كثرة الأجزاء، ولا كثرة الوجود والمهية، ولا يكون متّصفاً بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو اعتبارية زائدة في العقل، ولا يتوقّف فعله على شرط وآلة وقابل، فلا يمكن أن يصدر عنه في مرتبة واحدة إلاّ معلول واحد، سواء كان الفاعل موجباً أو مختاراً اختياره وإرادته نفس ذاته، والحكماء يسمّون مثل هذا المختار الفاعل بالرضاء، وأمّا إذا كان إرادته واختياره زائدةً على ذاته، وهو الذي يسمّونه الفاعل بالقصد فهو خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ فيه اثنينية بالفعل، سواء تعدّد إرادته أو تعلّقها أو لا، فلا يكون واحداً من جميع الجهات.

أقول: لو سلّمنا هذه القاعدة، وفرضنا صحّة دليلها كما هو الصحيح، لم يصحّ إجراؤها في المقام؛ لأنّ فاعليته تعالى - كما سيأتي في محلّه - بالعلل الغائية الزائدة على ذاته، وإن شئت فقل: الممكن لابدّ من مسبوقية وجوده بعدمه، ولا ربط ولا سنخية بين الوجود البحت والعدم المحض، وإنّما يوجِد الواجب ما يوجده بلا ربط واقتضاء ذاتي، بل من أجل المصالح والغايات، فحينئذٍ الواجب الوجود عزّ اسمه غير مشمول لهذه القاعدة باعتراف الفلاسفة، فتدبّر جيداً.

هذا، وقد مرّ أنّ الفلاسفة لم يقدروا على إثبات أنّ ماهيته إنيّته، فمن هذه الجهة أيضاً لا

____________________

(1) الشوارق 1 / 191.

١٣٤

يمكن إجراء القاعدة على الواجب، هذا كله بناءً على مسلك العدلية أو معظمهم، وأمّا بناءً على مسلك الأشاعرة القائلة بزيادة الصفات فالأمر أوضح، لكن الالتزام بمقالة الحكماء أسهل وأهون من الميل إلى هذه النظرية الرديئة الباطلة، بمراتب بالقياس إلى النواميس العقلية.

وأمّا ما قيل، من أنّ في القرآن ألف آية أو قريب منه تدل على بطلان المقالة المزبورة، فهو ممنوع، فتدبّر جيداً.

المورد الثاني: القبائح فإنّها غير مقدورة لله تعالى؛ إذ إتيانها مع العلم بقبحها سفه، وبدونه جهل، وكلاهما محال على الله سبحانه، نسبوه إلى النظام وأتباعه.

أقول: وكان هذا المسكين لم يعلم أنّ مفاد هذا البيان أنّها لا تصدر عنه لحكمته، لا أنّها غير مقدورة، فالقبيح مقدور له تعالى، فيمكنه إدخال الأنبياء في النار مثلاً، لكنّه لا يفعل لمخالفته لحكمته البالغة.

وأمّا ما أجاب به الأشعريون من أنّه لا قبح بالنسبة إليه، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء، فهو في سخافته كأصل الشبهة، كما ستعرفه في محله إن شاء الله.

المورد الثالث: الإتيان بمثل أفعالنا فإنّها إمّا طاعة أو معصية أو سفه، والكل محال.

أقول: إذ لا آمر له تعالى ليصدق الطاعة والمعصية في حقّه، وهو عالم فلا يتصوّر السفاهة فيه، نقل هذا عن البلخي ومَن تبعه، وفيه: أنّ المحال هو صدق هذه العناوين أي الطاعة والمعصية لا نفس الأفعال، نعم لابدّ من اشتمالها على مصلحة، ولكن المصلحة لا تستلزم عنوان الطاعة بلا إشكال، وإنّما هو في أفعالنا بلحاظها إلى أمر الله تعالى، نعم لا يمكن له أن يفعل مثل جملة من أفعالنا المحتاجة إلى الجسم كالتكلّم، والتفكّر، والتحرّك، والركوع، والسجود ونحوها، وذلك واضح ولعلّهم أيضاً أرادوا ذلك.

المورد الرابع: الإتيان بعين مقدورنا ومفعولنا، بعين دليل التمانع المذكور في مبحث التوحيد. نسب ذلك الجبائيينِ وأتباعهما. ويزيّف بأنّ التأثير في فرض مزاحمة قدرة العبد وربّه، مستند إلى إرادة الله تعالى فإنّها أقوى، وهذا واضح بل مشاهد في تزاحم إرادتي الممكنينِ، فإذا حرّك أحد جسماً إلى جانب، والآخر حرّكه إلى جانب آخر، يكون الترجيح مع الأقوى، نعم هاهنا شيء آخر وهو أنّ الله تعالى لا يمكنه الإتيان بعين أفعالنا، وإلاّ لم تكن الأفعال أفعالنا بل هي أفعاله، وهذا مثل عدم قدرته على إيجاد ابن زيد من غير زيد، أو إيجاد العرض بغير معروضه، وهكذا، فمعنى أنّه قادر على جميع الأشياء، أنّه قادر عليها إمّا بلا واسطة أو بواسطة، وهذا بيّن جداً.

المورد الخامس: ما علم الله عدم وقوعه لاستحالة وقوعه، وكذا ما علم أنّه يقع لوجوبه.

١٣٥

نقله في الشوارق، وقد تقدّم جوابه في بحث اختياره. قال شيخنا المفيد قدّس سره (1) : إنّه سبحانه قادر على ما علم أنّه لا يكون ممّا لا يستحيل كاجتماع الأضداد، ونحو ذلك من المحال، وعلى هذا إجماع أهل التوحيد إلاّ النظام وشذاذ من أصحاب المخلوق. انتهى.

المورد السادس: الشرور بحجّة أنّ الواحد لا يكون خيّراً وشرّيراً، فلو كان الله قادراً على الشرّ - كما هو قادر على الخير - لكان خيّراً وشرّيراً، والقائل به المجوس.

أقول: مع أنّه لا دليل على بطلان التالي في الفاعل المختار نمنع الملازمة؛ إذ مجرّد تعلّق القدرة على الشرّ لا يوجب كون القادر شرّيراً، وإنّما الشرّير مَن يفعل الشرّ لا مَن يقدر عليه، ولعلّ هذا ضروري، فالواجب الحكيم قادر على الخير والشر بقدرة تامّة، لكنّه لا يريد الشرور ولا يفعلها البتة.

تنوير عقلي

حديث الشرور ذو إعضال شديد، قد تحيّرت فيه الأنظار والآراء، ومجمله أنّ الشرور متحقّقة في الكون تحقّقاً محسوساً لكل أحد، فوقع البحث في استنادها وتعيين منبعها، وللناس فيه مذاهب ومسالك:

فمنهم مَن أنكروا وجود الواجب الصانع؛ بدعوى أنّ فاعل العالَم لو كان مدبّراً حكيماً لَما صدر عنه هذه الشرور، فأسندوا العالَم إلى المادة، وهم الماديون.

ومنهم مَن أثبتوا مع الله خالقاً آخر، فأسندوا الخيرات إلى الله والشرور إلى ذلك الآخر، وهم الثنوية، فقال المجوس منهم: (2) إنّ فاعل الخير يزدان، أي الله، وفاعل الشر أهرمن، أي الشيطان.

وقالت الديصانية والمانوية منهم: إنّ فاعل الخير هو النور، وفاعل الشر هو الظلمة، ولعلّ حجّتهم في ذلك ما نقلناه عن الماديين.

ومنهم مَن أسندوا الشرور كلّها إلى الله الحكيم كاستناد الخيرات إليه فقالوا: إنّه تعالى خالق الجميع؛ ولذا أجابوا عن شبهة المجوس بالتزام التالي، وأنّه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها، وإنّما لا يطلق لفظ الشرّير عليه، كما لا يُطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقاً لهما؛ وذلك لأحد الأمرين: إمّا لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله توقيفية، وإمّا لأنّه يوهم أن يكون الشر غالباً في فعله كما يقال: فلان شرّير، أي ذلك مقتضى طبعه (3) .

____________________

(1) أوائل المقالات / 23.

(2) ظاهر بعضهم كصريح آخر: أنّ الثنوية تشمل المجوس والمانوي والديصانية، لكنّ المذكور في تبصرة العوام أنّ الديصانية والمانوية من أقسام المجوس، وأنّ الثنوية غير المجوس فلاحظ. وأمّا تفصيل عقائدهم فلا ربط له بالمقام.

(3) شرح المواقف 3 / 51.

١٣٦

انتهى، وهم الأشاعرة.

وهذه الطوائف الثلاث بأسرها قد ضلّوا ضلالاً مبيناً، وخسروا خسراناً كبيراً، أمّا شبهة الماديين فسيأتي وجه حلها، وأمّا أهرمن المجوس وظلمة المانوية والديصانية، فإن كانتا ممكنتين فلابدّ من استنادهما واستناد أفعالهما إلى الله تعالى، وإن كانتا واجبتين، فأدلة التوحيد تدفعهما، وأمّا توهّم الأشعريين فهو سخيف جداً؛ لِما سيأتي من أنّ الله تعالى لا يفعل القبائح العقلية، فإنّها لا تليق بالحكيم، ولعمري إنّ هذا - أي عدم صدور الشر من الله الحكيم - ممّا أودعه الله في الفطرة البشرية؛ فلذا لم ينكره أحد غير هؤلاء المخالفين للنواميس العقلية.

ولذا أشرك المجوس، وكفر الماديون، ولم ينكروا حكمة الخالق القديم، واستحيوا من استناد الشرور إليه.

فإن قلت: لا موجود إمكاني إلاّ وهو معلول له تعالى، إمّا بلا واسطة أو بواسطة، والكلّ من عند الله وهو خالق كلّ شيء، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم، فما تقول أنت في إسناد الشرور؟ وهل يمكن إسنادها إلى غير الواجب؟ فإن أجبت بالنفي فهو مذهب الأشعري، وإلاّ فهو مذهب المجوس أو المادي.

قلت: قد أجابوا عن هذا بوجهين:

الأَوّل: ما نقل عن أفلاطون من أنّ الشرّ عدمي، والعدم لا يحتاج إلى علّة: فالشرور الواقعة في العالم لا تقتضي فاعلاً حتى يتكلّم فيه، فبهذا يُدفع جميع ما لزم الماديين والثنوية والأشعرية.

أقول: أمّا الصغرى فقد اعتنى بها الفلاسفة جداً، وأوضحوها بذكر أمثلة (1) ومن جملتها القتل، فإنّه شرّ عند العقلاء، فقالوا: إنّ شريّته ليست من جهة قدرة القاتل عليه، ولا من جهة حركات أعضائه فإنّهما كمال له، ولا من جهة قطع الآلة فإنّه أيضاً كمال لها، ولا من حيث قبول العضو المقطوع للتقطيع لأنّه أيضاً كمال له، بل هي من جهة إزالة الحياة، وهي عدمية. نعم كل واحد من هذه المذكورات شرّ بالعرض لا بالذات؛ لِما عرفت من أنّه خير كذلك، وهكذا النار فإنّها خير بالذات شرّ بالعرض، فالشر بالذات لا يكون إلاّ عدمياً.

وقد ادّعى عليها - أي على عدمية الشرّ - الضرورة بعضهم، ولشارح حكمة الإشراق عليها برهان ذكره صاحب الأسفار معتمداً عليه، والظاهر أنّ اهتمام الفلاسفة بذلك؛ إنّما هو لأجل اعتبار السنخية في العلّة والمعلول عندهم؛ إذ لو كان الشر وجودياً لامتنع استناده إلى الخير

____________________

(1) وللمحقّق الطوسي كلام في توضيح ذلك نقله اللاهيجي في شوارقه 1 / 48 عن شرح الإشارات، ولصاحب الأسفار أيضاً كلام مفصّل في ذلك.

١٣٧

المحض، وهو الله الواجب، وإذا قيل لهم: إنّ العدم لا أثر له والشر مؤثّر، يقولون: إنّه ليس عدماً صرفاً بل عدم ملكة وله تأثير كالعمى ونحوها.

الثاني: ما نقل عن أرسطو - وقيل: إنّه تفاخر به - من أنّ الأشياء على خمسة احتمالات: ما لا خير فيه، وما لا شرّ فيه، وما يتساويان فيه، وما خيره غالب، وما شره غالب، وذات الواجب بالذات لمّا لم يمكن أن تصير مبدأ للشر، وجب أن لا يصدر عنها إلاّ قسمان من هذه الأقسام، أي ما لا شريّة فيه، وما خيريته غالبة، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل فبعد تسليم الصغرى وعدم المناقشة فيه، فيرد عليه: أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى إرادة الواجب، كذلك في عدمه إلى عدمها، فعدم الممكن مستند إلى عدم إرادته، فيعود الإشكال وأنّه تعالى لِمَ ما أراد كذا حتى لا يتحقّق الشر؟ فإرجاع الشرّ إلى العدم لا يجدي عن دفع الإشكال.

وأمّا الوجه الثاني فهو بمجرّده غير مفيد؛ لأنّه لم يخرج عن حدّ المدّعى بعد فهو مصادرة. هذا، والظاهر من جماعة من الفلاسفة جعل الوجهين وجهاً واحداً، فالشر عدم محض وليس بأمر وجودي حتى لا يصحّ صدوره من الواجب من أجل عدم السنخية. وأمّا الشرور بالعرض فهي وإن كانت أُموراً وجودية، لكن غير صادرة عنه تعالى بالقصد الأَوّل بل بالعرض،فإنّها غالبة الخيرية وإيجادها لأجل غلبة خيرها على شرها، وأمّا الشرور بالذات فهي مستندة إلى عدم إرادته، والواقع منها القسمان المتقدّمان لا غير، فإنّ الشرور التي تلحق الأشياء هي في أنفسها خيرات، وبالقياس إلى بعض الأشياء شرور، كوجود النار والماء، والسيف والسنان، والسبع والحية، وغيرها من الذوات، وكوجود الغضب والشهوة، والجُربزة والشيطنة، وغيرها من الصفات، وكوجود الضرب والطعن والقتل وغير ذلك من الأفعال.

أقول: لا شكّ في أنّ جملةً كثيرة من الموجودات - التي توجب الشر لبعض الأشياء الأُخر - خيرات في نفسها، وبها ينتفع غيرها انتفاعاً أكثر ممّا يترتّب عليها من الشر المذكور، إلاّ أنّ الإشكال لا يُدفع بهذا المقدار، فإنّه يقال: إنّ إحراق النار لثوب الفقير ممكن والله سبحانه قادر على منع تأثيرها، فلِمَ لم يمنعه؟ وكذا وقوع الطفل في النار، أو غرق شاب في الماء مثلاً، فإنّ إيجاد النار أو الماء مثلاً لأجل المنافع الكثيرة، لا يوجب استحالة منع تأثيرهما في توليد الشر في بعض الموارد، وهذا ما يقال: من أنّ الذي يغلب خيره على شره، لِمَ لم يوجد عن الباري على وجه لا يعتريه شرّ أصلاً؛ حتى يكون الموجودات كلها خيرات محضة؟

وأمّا ما أُجيب عنه وارتضاه صاحب الأسفار (1) - من أنّه لو كان كذلك لكان الشيء غير

____________________

(1) الأسفار، المجلد الثاني، الموقف الثامن، الفصل السادس.

١٣٨

نفسه؛ إذ كان هذا القسم غير ممكن في هذا القسم من الوجود... إلى أن قال: فإذا قلت: لِمَ لا يوجِد النار التي هي أحد أنواع هذا القسم على وجه لا يلزمها شر، فكأنّك قلت: لِمَ لم يجعل النار غير النار؟ ومن المستحيل أن يجعل النار غير النار، ومن المستحيل أن يكون النار ناراً، وتمس ثوب ناسك، ولا مانع من الحريق، ولا تحرقه. انتهى - فهو قعقعة، ويظهر فساده ممّا أشرنا إليه آنفاً فلاحظ.

وقال في مورد آخر من هذا الفصل: وأكثر مَن يطوّل حديث الخير والشر، ويستشكل الأمر يظن أنّ الأُمور العظمية الإلهية، من الأفلاك وما فيها، إنّما خُلقت لأجل الإنسان، وأنّ الأفعال الإلهية منشؤها إرادة قُصدت بها أشياء وأغراض، على نحو إرادتنا وأغراضنا في الأفعال الصادرة عنّا بالاختيار، ولو تأمّل هذا الجاهل المحجوب عن شهود العارفين أدنى تأمّل، لدرى أنّ الأمر لو كان كما توهّمه، ولم يكن هناك أحكام مضبوطة، وعلوم حقّة إلهية، وضوابط ضرورية أزلاً وأبداً، ما كان أحوال أولياء الله في الدنيا على هذا الوجه من المحن الشديدة... إلى آخر ما لفّقه ممّا لا فائدة في نقله.

وقد دريت أنّ الله تعالى فاعل مختار، وسيأتي أنّ أفعاله تابعة للأغراض على ما يقتضيه البرهان، فلا ضرورة له في إيجاد شيء أبداً، فإذن بقي الأشكال على حاله، وملخّصه أنّ المصلحة النوعية لشيء، لا تجوّز وقوع الشرّ منه من حيث الحكمة، ما دام تأثير الشيء موقوفاً على إذنه تعالى.

فالصحيح أن يقال: إنّ كلّ شرّ يستند إلى الله تعالى، له مصلحة زائدة على أصل المصلحة النوعية في نفس الموجود المسمّى بالشر بالعرض، مثلاً أنّ للنار مصلحةً هامّة نوعية، وفي إحراقها ثوب أحد، أو ولد آخر، مصلحة أُخرى للمتضرّر والمغموم أو لطف لأجنبي، لكن مع العِوض للمالك أو الوالد، وهكذا.

وهذا العِوض أكثر فائدة للمتضرّر من ضرره، وهذا الكلام ممّا لابدّ منه لوجوه:

الأَوّل: إنّ صدور الشرّ منه تعالى - ولو في مورد مع الاختيار والقدرة على دفعه - قبيح، والقبح غير جائز عليه.

الثاني: إنّ أفعاله معلّلة بالأغراض الراجعة إلى نفع غيره، فلابدّ من عائدة في الشرّ المذكورة راجعة إلى مَن ابتُلي بالشر المذكور، كما سيأتي تفصيله في بحث الأعراض من المقصد الخامس إن شاء الله.

الثالث: إنّ صدور الشر عنه ترجيح المرجوح على الراجح، أو ترجيح بلا مرجّح وهو باطل، فتلخّص أنّ الموجود في العالم هو ما لا شرّ فيه، أو ما فيه شرّ أقلّ من خيره، وهذا الشر

١٣٩

أيضاً لابدّ له من مصلحة شخصية، ويمكن أن يقال: إنّ الشرور الواقعة من سوء أفعال العباد الاختيارية لا مصلحة شخصية فيها، أو لا ملزم لها ولو دائماً سوى المصلحة العامّة في جعل الإنسان مختاراً؛ لكي لا تبطل التكاليف والتشريعات، فإنّ المضطرّ لا يجوز تكليفه، فتأمّل.

ثم إنّه بعد ما ثبت لزوم المصلحة في أفراد الشرور، لا مانع من إمكان موجود كان شره أكثر من خيره، كما لا يخفى وجهه على المتأمل، فتدبّر جيداً.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا واضح بحمد الله، فشبهة الشرور مندفعة، غير أنّ مسألة خلود الكافرين في العقاب أمر مشكل، كما سيأتي توضيحه في بحث تعلّل أفعاله بالأغراض، وما أُجيب عنه (1) من تجسّم الأعمال باطل.

المطلب الثاني:

قد دريت أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن وحده دون الواجب والممتنع، فإنّ الشيء إذا كان ضروري الوجود أو العدم ولا يمكن تغيّره، استحال أن يتعلّق به القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل والترك؛ بداهة تصادم الصحّة والضرورة، فذات واجب الوجود وصفاته الذاتية خارجة عن دائرة قدرته، بل لا قدرة على مطلق الذاتيات، فلا يكون زوجية الأربعة، وإمكان الماهيات، وفقر الموجودات الممكنة، وأمثالها بمقدورة أصلاً، وكذا شريك الباري واجتماع النقيضين ونحوهما.

كلّ ذلك ظاهر، وأمّا قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) إمّا منصرف إلى الشيء الممكن من الأَوّل بحيث لا يشمل لفظ الشيء الضروريات، أو هو مخصّص به على تقدير الشمول اللفظي، ولا فرق في ذلك التخصّص والتخصيص بين أن يعبّر بعدم القدرة، وبين أن يعبّر بعدم قابلية المحل، فإنّ الضروري ممّا لا يتعلّق به قدرة القادر، سواء كان عدم التعلّق من جهة العجز أو من نقص القابل، فإنكار التخصيص على الثاني كما توهّمه صاحب الأسفار (3) لا وجه له.

وممّا ذكرنا كلّه ظهر أنّ إدخال العالم كلّه في بيضة، مع عدم تصغير العالم ولا تكبير البيضة، محال غير قابل لتعلّق القدرة الأزلية به، وقد دلّ عليه مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه‌السلام (4) قال: إنّ إبليس قال لعيسى ابن مريم عليه‌السلام : أَيقدر ربّك على أن يدخل الأرض

____________________

(1) المجيب صاحب الأسفار ناسباً جوابه إلى الفلاسفة، وسيأتي وجه بطلانه في مسألة بطلان الجبر والتفويض.

(2) النور 24 / 45.

(3) الأسفار، مباحث الشرور.

(4) البحار 4 / 142.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296