صراط الحق الجزء ١

صراط الحق13%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

الجزء ١
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132068 / تحميل: 7357
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء ١

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإحداث، فإذن يمكن أن يقال بأنّ الإرادة المتعلّقة بالبقاء غير المتعلّقة بالحدوث؛ لأنّ الإحداث فعل لا دوام له، وأيضاً التأثير - بناءً على اختيار الشق الثاني من السؤال المتقدّم - لا يعقل إلاّ بتجدّد الإرادات، وأمّا بناءً على الوجه الأَوّل ففيه الوجهان.

مسألة

قالوا: إنّ الممكن القديم - أعني به المسبوق بالغير فقط لا بالعدم - لا يحتاج إلى المؤثّر، بناءً على مدخلية الحدوث في الحاجة؛ ضرورة فقدان مناط الحاجة حينئذٍ في القديم.

أقول: وفيه تفصيل، وأمّا بناءً على سببية الإمكان للفقر دون اشتراك الحدوث، فلا شكّ في أنّه محتاج إلى المؤثّر في بقائه بداهة ترتّب المعلول على علّته، وإنّما الكلام في أنّه هل يستند إلى المختار أو الموجب؟ والظاهر من أرباب الكلام هو الثاني، فإنّ فعل المختار مسبوق بالقصد، والقصد إلى الإيجاد متقدّم عليه، مقارن لعدم ما قصد إيجاده؛ لأنّ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهةً.

وعن شارح المقاصد (١) أنّ هذا متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين والنزاع فيه مكابرة، وقال اللاهيجي في شوارقه: التحقيق أنّ استناد القديم الممكن إلى المختار بالاختيار الزائد على الذات محال بدليل مرّ نقله، سواء كان الاختيار الزائد تامّاً كاختيار الواجب عند المتكلّمين، أو ناقصاً كاختيارنا، وذلك ضروري... والحكماء ينفون القصد عن الواجب؛ لأنّهم يجعلون القصد بالاختيار الزائد على الذات ويقولون: إنّ القصد لا يمكن إلاّ.. ولا ينفون الاختيار مطلقاً؛ لأنّهم مصرّحون بكونه تعالى فاعلاً بالاختيار الذي هو عين ذاته تعالى، ويعبّرون عنه بالرضاء (٢) ... إلخ.

والتحقيق: أنّ القصد - بمعنى الصفة النفسانية - لا يتعلّق بالموجود بالضرورة، فلا يمكن استناد القديم إلى المختار بهذا المعنى، لكن القصد بهذا المفهوم ممتنع على الواجب كما يأتي في محلّه، والمراد من القصد المستعمل في حقّه هو تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة على ذاته.

وعليه فعدم استناد القديم إليه ليس بضروري بل سيأتي إن شاء الله - في مبحث قدرته واختياره - جواز استناد الممكن القديم إلى الواجب الوجود، فهذا الذي نقل اتّفاق المتكلّمين والفلاسفة عليه، ليس بشيء.

____________________

(١) الشوارق ١ / ١٣١.

(٢) المصدر نفسه.

٨١

وأمّا ما ذكره الفيّاض من أنّ الحكماء ينفون القصد دون الاختيار فسوف نتعرّض له تحليلاً ونقداً.

ثمّ إنّ الرازي (١) منع استناد الممكن القديم إلى الموجب أيضاً، متمسّكاً بأنّ تأثيره فيه إمّا حال بقائه فيلزم إيجاد الموجود، وإمّا حال عدمه أو حدوثه فيلزم كونه حادثاً، وقد فرضناه قديماً.

أقول: ما احتج به مدخول بعين ما أجبنا السؤال المتقدّم المشهور، فإنّه هو هو بعينه، وأمّا نفس المدّعى فهو لا يخلو عن وجه سندرسه في مسألة حدوث العالم.

ولكن لابدّ أن يلتفت الرازي أنّ هذه الدعوى تهدم ما بنى عليه هو وأشياخه الأشعريون وغيرهم، من زيادة الصفات الممكنة القديمة القائمة بالواجب الصادرة عنه بالإيجاب والجبر، وهذه زلّة وذلة وضلة عظيمة منهم في أعظم مباحث التوحيد، عصمنا الله من التخلّف عن السفينة المنجية المحمدية.

الخاصّة الرابعة: أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية

قال صاحب الأسفار: كما أنّ الضرورة الأزلية مساوقة للبساطة والأَحدية، وملازمة للفردية والوترية، فكذلك الإمكان الذاتي، رفيق التركيب والازدواج، فكل ممكن زوج تركيبي؛ إذ الماهية الإمكانية لا قِوام لها إلاّ بالوجود، والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول ينشأ منها الماهية، ويُنتزع بحسبها المعاني الإمكانية ويترتّب عليها الآثار المختصة...

فإذن، كلّ هوية إمكانية ينتظم من مادة وصورة عقليتين هما المسمّاتين بالماهية والوجود، وكلّ منهما مضمّن فيه الآخر وإن كانت من الفصول الأخيرة والأجناس القاصية (٢) انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر منها: زيادة وجود الممكن على ماهيته، ليس معناه المباينة بينهما بحسب الحقيقية، كيف وحقيقة كلّ شيء نحو وجود الخاص به؟ ولا كونه عرضاً قائماً بها قيام الأعراض لموضوعاتها، حتى يلزم للماهية سوى وجودها وجود آخر، بل بمعنى كون الوجود الإمكاني، لقصوره وفقره، مشتملاً على معنىً آخر غير حقيقة الوجود، منتزعاً منه، محمولاً عليه، منبعثاً عن إمكانه ونقصه، كالمشبّكات التي يتراءى من مراتب نقصانات الضوء والظلال، الحاصلة من تصوّرات النور (٣) انتهى.

____________________

(١) لاحظ شرح المواقف، وشرح التجريد للقوشجي / ٧٧.

(٢) الأسفار ١ / ١٨٦.

(٣) الأسفار ١ / ٢٤٣.

٨٢

الفائدة الحادية عشرة

في امتناع الدور والتسلسل

أمّا الدور فهو في اللغة - كما في بعض كتبها - التقلّب والحركة إلى ما كان عليه، وفي الاصطلاح هو توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه (١) ، وإن شئت فقل: إنّه تعاكس الشيئين في السببية والمسببية، فإن توسّط بينهما واسطة أو وسائط أخرى يسمّى مضمراً، وإلاّ فمصرّح، فتوقّف الشيء على نفسه لا يسمّى دوراً بل هو نتيجته.

ثمّ إنّه ربّما يطلق الدور على شيئين لهما معيّة، ويقال له الدور المعي، وهو ليس بمحال، وهو أن يكون شيئان موجودان، يتوقّف كلّ منهما على الآخر في صفة من الصفات، بمعنى أن تتوقّف الصفة في كلّ منهما على ذات الآخر، سواء كانت تلك الصفة فيهما من نوع واحد، كالأُخوة في أخوين والمعية في شيئين، أو من نوعين كالفوقية والتحتية في الفوق والتحت، والتقدّم والتأخر بحسب المكان في جسمين، وهذا الدور جارٍ في كلّ متضايفين كما قيل.

ثمّ إنّ الدليل على استحالة الدور - بمعنييه المتقدّمين - أنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول تقدّماً عليّاً وتقدّماً بالذات، فإذا كانت العلّة معلولة لمعلولها، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين، وكذلك تقدّمه، وهو - أي تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها - ضروري الاستحالة، مع أنّه قد يستدلّ عليه، بأنّه يستلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه، وهو واضح الاستحالة، وبأنّ التقدّم نسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

فإنّ توهّم أحد أنّ المراد بالتقدّم هنا إمّا التقدّم الزماني وهو غير لازم في العلة، أو العليّ وهو مصادرة؛ لأنّ معنى قولنا: إنّ الشيء لا يتقدّم على نفسه، أنّ الشيء لا يكون علّةً لنفسه.

يقال له: إنّ معنى تقدّم العلّة على معلولها هو صحّة مثل قولنا: تحركت اليد فتحرّك الخاتم، طلعت الشمس فوُجد النهار، وبطلان عكسه أي قولنا، تحرك الخاتم فتحركت اليد، وهذا الاعتبار الذي ممّا لا يشك فيه عاقل، بديهي البطلان بالنظر إلى الشيء ونفسه.

____________________

(١) الفرق بين تقدّم الشيء على نفسه، وتوقف الشيء على نفسه اعتباري، فإنّ الأَوّل باعتبار علّية كلّ منهما للآخر، والثاني باعتبار معلولية كلّ منهما للآخر.

٨٣

فإن قلت: إنّ الفرق بين الأجزاء التي هي العلة والمركّب الذي هو المعلول، إنّما هو باعتبار بشرط الشيء واللابشرط أو بشرط اللا، وقد ذكروا من جملة العلل الأربع المادة والصورة مع أنّهما عين المعلول، فكيف المخلص؟

قلت: الأجزاء بالنسبة إلى المركّب الذي ليس إلاّ نفسها ليست إلاّ نفسه، لا علية ولا معلولية بينهما، وإنّما يطلقون عليها العلية؛ لأنّ بها قِوام المركّب، فهي علل القِوام لا علل الوجود، والتأثير في الثانية لا في الأُولى، فافهم.

وأمّا تقدّم الأجزاء على المركّب ففيه بحث طويل، قد تعرّض له صاحب الأسفار مجملاً، وصاحب الشوارق مفصّلاً فراجع.

ثم إنّ معنى الدور - بتعبير واضح - هو كون الشيء علّةً وفاعلاً لوجود نفسه، وهذا ضروري الاستحالة، بديهي البطلان، يكذّبه العقل بأَوّل تصويره، فلا معنى لإطالة الكلام حوله وقد نقل العلاّمة قدّس سره (١) ، أنّ أكثر العقلاء على ضرورة استحالته.

وأمّا التسلسل فهو عند المتكلّمين (٢) عبارة عن مطلق الأُمور غير المتناهية إذا ضبطها الوجود، سواء كانت مجتمعةً أم لا، مترتّبةً أم لا، ودليلهم على ذلك برهان التطبيق، فإنّهم يجرونه في الأُمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية، وفي الأُمور المجتمعة، سواء كان بينها ترتّب طبيعي كالعلل والمعلولات، أو وضعي كالأبعاد، أو لا يكون هناك ترتّب أصلاً كالنفوس الناطقة المفارقة (٣) .

وعند الحكماء يفسّر بالأُمور غير المتناهية المجتمعة في الوجود مع ترتّبٍ وضعاً أو طبعاً؛ ولذا قال صاحب الأسفار: وعليه (أي برهان التطبيق) التعويل في كلّ عدد ذي ترتيب موجود، سواء كان من قبيل العلل والمعلولات، أو من قبيل المقادير والأبعاد، أو الأعداد الوضعية (٤) ... إلخ.

ثمّ إنّ الأدلة على امتناع التسلسل في الجملة كثيرة جداً، لكنّها بمجموعها غير مسلّمة عندهم، فلهم ردود ودفوع ونقوض ونقود، والبحث حولها طويل الذيل لا يسعه هذا المختصر، لكنّنا نستخدم لك منها حجّةً قويمة، قليلة المؤونة، وكثيرة المعونة، وهي ما اخترعه سلطان المحقّقين العلاّمة الطوسي (٥) ، وأشار إليه في تجريده وإليك تقريره بعبارة

____________________

(١) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد / ٣٠.

(٢) الشوارق ١ / ٢٠٠، وكشف الفوائد / ٣٠.

(٣) شرح المواقف ١ / ٥٤١.

(٤) الأسفار ٢ / ١٤٥.

(٥) كما ذكره صاحب الشوارق، ونُقل عن المحقّق الدواني أيضاً، لكن قيل: إنّ السيد الداماد رحمه‌الله ادّعى وجدان هذا الدليل في كتاب بهمنيار.

٨٤

المحقّق اللاهيجي (١) :

إنّ الممكن لا يجب لذاته، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود، وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنةً لَما كان في الوجود موجود، فلابدّ من واجب لذاته، فقد ثبت واجب الوجود وانقطعت السلسلة أيضاً.

ثمّ تعريضاً على الشارح العلاّمة قدّس سره حيث تنظّر فيها، والشارح القوشجي حيث حسبها مصادرةً، قال: وهذه الطريقة حسنة حقّة... إلخ، والأمر كما أفاد.

تتميم وتقسيم

ما لا يتناهى على ستة أقسام:

الأَوّل: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب العليّ.

الثاني: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب الوضعي كالأبعاد.

الثالث: المجتمع في الوجود بلا ترتيب، كالنفوس الناطقة على رأي الحكماء.

الرابع: المتعاقب في الوجود من قبل الماضي، مثل الصور الطارئة على المادة على سبيل المحو والإثبات.

الخامس: المتعاقب في الوجود في طرف المستقبل.

السادس: العدد.

أقول: أمّا الأَوّل فهو محال بلا خلاف بين الباحثين، بل لم أفز على مخالف ولو من الدهريين والماديين، فكأنّ هذا الاحتمال مصادم ما أودعه الله في كينونة البشر، فما يلتزم به فرد من هذا النوع الإنساني؛ ولذا ترى عبّاد الطبيعة متحيرين في تعيين المبدأ الأَوّل، فالتسلسل المذكور احتمال بدوي لم يتجاوز عن المسفورات العلمية إلى الخارج، وما نقلناه آنفاً من البرهان وغيره حجّة واضحة على إبطاله.

وأمّا الثاني فامتناعه موضع وِفاق بين المتكلّمين والحكماء، واستدلّوا عليه بأدلة منها برهان التطبيق، الذي هو عندي محلّ إشكال.

وأمّا الثالث والرابع فهما ممكنان، بل واقعان على زعم أصحاب الفلسفة؛ ولذا يدينون بقِدم العالم زماناً، لكنّ المتكلّمين يرونهما ممتنعين أيضاً، والحق معهم لِما سنبرهن على حدوث العالم في هذا الجزء إن شاء الله.

وأمّا الخامس فإمكانه متّفق عليه بينهم، فإنّ الوجود لم يضبطه، وهذا ما لا شك فيه، كيف

____________________

(١) الشوارق ١ / ١٩٩.

٨٥

وخلود المكلّفين في الجنة والنار، وبقاء ما يرتبط بهم من الضروريات الإسلامية؟

وأمّا السادس فهو مثل الخامس في اتّفاقهم على إمكانه، فإنّه إمّا غير موجود كما عن المتكلمين، وإمّا لا ترتّب بينها في غير الواحد كما عن الفلاسفة، فلم يتحقّق فيه مناط الاستحالة (١) .

وممّا ينبغي أن نختم به الكلام هنا، أنّ إبطال الدور والتسلسل إنّما يتوقف عليه إثبات الصانع؛ ضرورة أنّ إمكان أحدهما لا يدع مجالاً لإثباته، وأمّا إثبات الواجب الوجود، فهو غير موقوف عليه لِما ستعرفه إن شاء الله من الدليل على وجوده، سواء كان الممكن موجوداً خارجاً أم لا، أمكن الدور والتسلسل أم لا، وبعبارة أُخرى: إمكان الدور والتسلسل يبطل الأدلة الإنيّة، ولا ربط له بالبراهين اللميّة أو الشبيهة باللم.

هذا تمام كلامنا في المقدّمات، ثمّ بعد ذلك نرجع إلى بيان المقاصد، وإليك بيانها إجمالاً:

المقصد الأَوّل: في بيان الطريق إلى معرفة الواجب.

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية ذاتيةً كانت أو فعليةً.

المقصد الثالث: في صفاته السلبية.

المقصد الرابع: في التوحيد، أفردناه من سابقه اهتماماً بشأنه.

المقصد الخامس: في العدل.

المقصد السادس: في النبوّة.

المقصد السابع: في الإمامة.

المقصد الثامن: في المعاد.

____________________

(١) ولصاحب الأسفار هاهنا احتمال، وللسبزواري عليه كلام، لا يخلو مراجعتهما عن الفائدة، الأسفار ٢ / ١٥٢.

٨٦

مقاصد الكتاب

المقصد الأَوّل: في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية

المقصد الثالث: في صفاته السلبية

المقصد الرابع: في التوحيد

المقصد الخامس: في العدل

المقصد السادس: في النبوّة

المقصد السابع: في الإمامة

المقصد الثامن: في المعاد

٨٧

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

البراهين والصُرط

مَن هم المخالفون في هذا المقصد؟

وما هو اعتقادهم؟

النظام الكامل يقضي على علّية المادة

ما يقول الماديون عن هذا النظام الأجمل؟

خاتمة

٨٨

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة

الواجب لذاته

وهو من أشرف المقاصد وأعظمها وأجلّها وأهمها، بل لا تكتسب مسألة علمية شرفاً وفضلاً ما لم تخدم هذا المقصد، فهو آخر ما تُناخ به الرواحل العقلية في سفر السعادة والفضيلة. ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) .

وصُرط التصديق الحقّة المستقيمة، إلى الواجب القديم القدوس الأقدس - جلّت كبريائه وعَظُم سلطانه - متعدّدة، وإليك منها ما يناسب هذه الرسالة:

الصراط الأَوّل: إنّ العقل لا يرى الموجود الواجب لذاته مستحيلاً، بل يحكم بإمكانه إمكاناً عامّاً، ولا سيما قد شاهد الواجب الذاتي بنحو مفاد كان الناقصة، مثل زوجية الأربعة، ورطوبة الماء، ودسومة الدهن ونحوها، فإذا أمكن، وُجد وثبت من دون شرط وسبب، على ما أسلفنا برهانه.

وهذا الصراط أشرف الصُرط المذكورة في هذا المقصد، ليس له زيادة مؤونة، ولا توقّف له على استحالة الدور والتسلسل، بلا ولا على وجود ممكن، كل ذلك ظاهر جداً.

ولزيادة التأكيد لحكم العقل بعدم امتناع الواجب نقول: إنّ العقلاء - مليين كانوا أو ماديين (١) - اتفقوا في كلّ زمان ومكان، على الإذعان بوجود المبدأ الأَوّل في الخارج، وهذا ممّا يؤيّد استقلال العقل بعدم امتناع مثل هذا الوجود، والعجب من ذهول الباحثين عن هذا البرهان؛ حيث لم يذكروه في هذا المقام (٢) .

الصراط الثاني: إنّ الأحاسيس قد قضت على أنّ في الخارج موجوداً ما، فهو إن كان واجباً لذاته فقد حصل الغرض، وإن كان ممكناً فهو يستلزم المقصود؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهذه الحجّة غير قائمة بوجود الممكن كما هو ظاهر.

____________________

(١) غير مَن قال منهم بجواز الترجّح بلا مرجّح (إن كان).

(٢) وبه يمكن أن يفسّر ما أُثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا مَن دلّ على ذاته بذاته)، وما عن السجّاد عليه‌السلام : (بك عرفتك وأنت دللتني عليك).

٨٩

ثمّ إنّ هذين الوجهين المذكورين، ليسا من الأدلة الإنيّة، ولا من البراهين اللميّة؛ لعدم انتقال فيهما من العلّة إلى المعلول، ولا من المعلول إلى علّته، بل هما من شبه اللم، كما يظهر من كلمات عدّة من أكابر الحكماء.

الصراط الثالث: ما نقلناه سابقاً من المحقّق الطوسي قدّس سره في إبطال التسلسل، فإنّه يفضي إلى معرفة الواجب الوجود، ويجوز أن نعبّر عنه بألفاظ أُخرى فنقول: لا يمكن أن يكون ممكن ما من الممكنات منشأ لوجوب الممكنات، ولا لامتناع طريان العدم علّيها بالكلية، فلابدّ من واجب. وبوجه آخر: إنّ الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده وهو ظاهر، ولا في إيجاده لغيره؛ لأنّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود، فإنّ الشيء ما لم يُوجَد لم يُوجِد، فلو انحصر الموجود في الممكن، لزم أن لا يوجد شيء أصلاً؛ لأنّ الممكن وإن كان متعدّداً، لا يستقلّ بوجود ولا إيجاد، وإذ لا وجود ولا إيجاد، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره، إلى غير ذلك من التقارير والتعابير.

الصراط الرابع: الممكن موجود بلا ريب، فإنّ الأجسام مركّبة، وكلّ مركّب ممكن، والأعراض لمكان حاجتها إلى موضوعاتها ممكنة، بل حدوث بعض الأشياء وفقدانها وفناؤها محسوس فهو ممكن، ومهما يكن من شيء فالممكن موجود قطعاً بل ضرورةً، فيكون الواجب موجوداً بالضرورة؛ لِما مرّ من احتياج الممكن إلى الواجب، ومن بطلان الدور والتسلسل، ولعلّ قوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (١) يشير إلى ذلك، فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون خالق نفسه؛ لما عرفت في بطلان الدور، ولا يمكن أن يوجد بلا خالق فإنّه ترجّح بلا مرجّح، ويمكن إدراج نفي التسلسل أيضاً في هذا الفرض كما يظهر بالتأمل.

ثمّ إنّ هذا الدليل الإنّي أساس لعدّة من الدلائل الأُخرى.

الصراط الخامس: ما سلكه المتكلّمون فقالوا: إنّ العالم حادث، وكلّ حادث له محدَث كما تشهد به بديهة العقل؛ ولذا مَن رأى بناءً حادثاً حكم حكماً بتياً جزمياً، بأنّ له بانياً، وعن أكثر مشايخ الاعتزال أنّ هذه المسألة - أي الكبرى - استدلالية، وقد استدلّوا عليه بوجهين (٢) ، لكنّ ذلك خطأ وما استدلوا به غلط.

ثمّ إنّ هذا المحدث الصانع إن كان حادثاً احتاج إلى مؤثّر آخر، فيلزم الدور أو التسلسل وهما محالان، وإن كان قديماً أو منتهياً إلى القديم فقد ثبت المطلوب.

هذا، ولكن جملة من الفلاسفة لم يرتضوا بسلوك هذا الصراط لوجوه ثلاثة:

الأَوّل: تفنيد حدوث العالم بشراشره، بل منه ما هو قديم، ومنه ما هو حادث.

____________________

(١) الطور ٥٢ / ٣٥.                                   (٢) شرح المواقف ٣ / ٣.

٩٠

الثاني: قصور هذا الدليل عن إثبات الواجب لذاته؛ لجواز أن يكون ذلك المحدِث غير الحادث ممكناً قديماً، فلا يفتقر إلى علة، فتنقطع السلسلة بلا إثبات الواجب، كما ذكره الحكيم اللاهيجي في شوارقه (١) .

الثالث: خروجه عن منهج الصدق؛ لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث ولو شرطاً، ذكره الحكيم السبزواري (٢) ، وقبله عنه غيره أيضاً.

أقول: هذه الوجوه ساقطة، ولا يمكن سد هذا الصراط المستقيم بها، أمّا الأَوّل، فلِما سيمرّ بك في محلّه، من حدوث تمام ما سوى الله وبطلان قِدم شيءٍ منه.

وأمّا الثاني، فينبثق بطلانه من بطلان الأَوّل؛ فإنّ القديم حينئذٍ لا يكون ممكناً، فهو واجب لعدم واسطة بينهما بالضرورة، فالقديم والواجب لذاته مترادفان عند المتكلّمين.

وأمّا الثالث ففيه، أنّ معنى علّية الإمكان للحاجة، هو سببيته للحاجة في وجوده، أو عدمه إلى المرجّح الخارجي، فحدوث الوجود، معلول عن هذا المرجّح المحدِث الخارجي، وكاشف عنه كشف كلّ معلول عن علّته، ويعبّر عنه في عرفهم بدليل الإن، فهذا لا ربط له ببطلان علّية الحدوث للحاجة، والإنصاف أنّ دلالة الحدوث على المحدِث ضرورية، وإنكارها عن هذا الرجل الفيلسوف بعيد جداً.

فاتّضح أنّ الدليل تام في نفسه، من غير أن يُبنى على الحركة الجوهرية كما تبرّع به بعضهم، لكن الذي يوجب صعوبة سلوك هذا الطريق في الجملة، هو أنّ إثبات المدّعى أسهل من تثبيت مقدّمتها الأُولى، أعني بها حدوث العالم بأجمعه، فإنّه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ المدّعى أظهر منه، وإن أخذنا حدوث بعض العالم في المقدّمة حتى تكون ضروريةً، فلا يستنتج منها المطلوب، كما ذكره صاحب الشوارق من جواز كون القديم ممكناً.

ولا دافع له حينئذٍ أصلاً إلاّ أن يقال: بأنّ هذا القديم لا يكون إلاّ واجباً، فإنّ الممكن يستلزمه دفعاً للدور والتسلسل، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون بلحاظ الحدوث فقط، بل مع انضمام لحاظ الإمكان.

فالتحقيق أن يقال: إنّ جملةً من هذه الموجودات حادثة حسّاً، والحادث يقتضي محدِثاً بالضرورة، وهذا المحدِث إن لم يكن له سبب وعلّة فهو المراد؛ إذ لا نعني بالقديم أو الواجب إلاّ المحدِث الذي لا سبب له، وإن كان له سبب فلابدّ من الانتهاء إلى محدِث كذلك، أي بلا سبب وعلة دفعاً للدور والتسلسل، فافهم.

____________________

(١) الشوارق ٢ / ٢٠٤.

(٢) شرح المنظومة / ١٤٣.

٩١

الصراط السادس: ما سلكه الحكماء الطبيعيون، وهو الاستدلال بالحركات، فإنّ المتحرّك لا يوجب حركةً بل يحتاج إلى محرِّك غيره، والمحرِّكات لا محالة تنتهي إلى محرِّك غير متحرك دفعاً للدور والتسلسل، فإن كان واجباً فهو وإلاّ استلزمه لِما مرّ.

الصراط السابع: إذا كانت الموجودات منحصرةً في الممكنات لزم الدور، إذ تحقّق موجود ما يتوقّف - على هذا التقدير - على إيجاد ما؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقق بالإيجاد، وتحقّق إيجاد ما يتوقّف أيضاً على تحقّق موجود ما؛ لأنّ الشيء ما لم يوجَد لم يُوجِد.

لكن الإنصاف، أنّ هذا التوقّف من قبيل توقّف النطفة على الحيوان، وتوقف الحيوان على النطفة، وتوقف البيض على الدجاج، وتوقف الدجاج على البيض، وهذا ليس بدور محال؛ لأنّ الدور هو الذي يكون طرفاه واحداً بالعدد، لا ما يتقدّم فيه طبيعة مرسلة على طبيعة مرسلة أُخرى، وهي تتقدّم أيضاً عليها في صورة التسلسل، فالمغالطة نشأت هاهنا، من أخذ الكلّي مكان الجزئي، والوحدة النوعية مكان الوحدة الشخصية، فتتميم هذا البرهان لا يمكن إلاّ بالتسلسل كما في الأسفار، وما رامه اللاهيجي من إصلاح الدليل، وإتمامه بالدور فقط غير تام، ومنه يظهر الحال في الصراط الآتي بكلا طريقيه.

الصراط الثامن: إنّه ليس للموجود المطلق من حيث هو موجود مبدأ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه، وبذلك ثبت وجود واجب الوجود بالذات، وبعبارة أُخرى: مجموع الموجودات من حيث هو موجود ليس له مبدأ بالذات، فثبت بذلك وجود الواجب لذاته.

الصراط التاسع: مجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، ومجموع الممكنات ليس يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، فيثبت به الواجب لذاته.

وفيه: أنّ حيثية الإمكان وإن كانت مخالفةً لحيثية الوجود؛ لأنّ الموجود بما هو موجود يستحيل أن يصير معدوماً: لأنّ فيه ضرورة بشرط المحمول، بخلاف الموجود بما هو ممكن، فإنّ عدمه غير ممنوع، لكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في الموضوع، كما أفاده صاحب الأسفار أيضاً.

الصراط العاشر: ما ذكره صاحب الأسفار ومَن تبعه وقال: إنّه سبيل الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحق، ووصفه بأنّه أسدّ البراهين وأشرفها، وإليك تقريره بعبارة السبزواري (١) مع تغيير ما: حقيقة الوجود الذي ثبتت أصالته، إن كانت واجبةً فهو المراد، وإن كانت ممكنةً - بمعنى الفقر والتعلّق بالغير، لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروري، ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم؛ لأنّ نسبة الشيء إلى نفسه

____________________

(١) شرح المنظومة / ١٤١.

٩٢

ليست كنسبة نقيضه إليه؛ لأنّ الأُولى مكيّفة بالوجوب والثانية بالامتناع - فقد استلزمت الواجب على سبيل الخلف؛ لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلّق به وتفتقر إليه، بل كلّما فرضته ثانياً فهو هي لا غيرها، والعدم والماهية حالهما معلومة؛ أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة، فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعاً للدور والتسلسل، والأَوّل أوثق وأشرف وأخصر.

أقول: هذا الوجه مبني على مقدّمات، هي أغمض تصديقاً من أصل الدعوى بمراتب، فلابدّ أن يُرجع إلى الصراط الثاني.

الصراط الحادي عشر: اتّفاق الأنبياء والأولياء والعقلاء على ذلك، فإنّهم أخبروا عن وجود الواجب الصانع، وهذا الاتّفاق أقوى من التواتر، ولا شيء من المتواترات مساوٍ له في القوّة وإفادة اليقين، ذكره بعض المؤلّفين (١) ، وببالي أنّ هذا الوجه نُسب إلى جماعة من المتكلّمين.

لكن الاستدلال المذكور هيّن جداً، فإنّ العقلاء في ذلك مختلفون، وأمّا الأنبياء فهم كغيرهم، ما لم تثبت نبوّتهم المتوقّفة على وجود الواجب وصفاته، بل لا سبيل لنا إلى إحراز وجودهم - سوى خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله - من غير جهة إخباره تعالى.

هذا، مع أنّ التواتر في الحدسيات غير حجّة؛ فإنّه لا يفيد اليقين، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المقدّمات، نعم يمكن الاستدلال بمعجزات خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، على المطلوب، ولا محذور فيه أصلاً.

الصراط الثاني عشر: لو انحصرت الموجودات في الممكن لاحتاج الكلّ إلى موجِد مستقل - بأن لا يستند وجود شيء منها إلاّ إليه ولو بالواسطة - يكون ارتفاع الكلّ بالكلية - بأن لا يوجد الكلّ ولا واحد من أجزائه - ممتنعاً بالنظر إلى وجوده؛ لأنّ ما لم يجب لم يوجد، ويلزم من ذلك امتناع عدم المعلول من أجل العلة، والشيء الذي إذا فُرض عدم جميع أجزائه، كان ذلك العدم ممتنعاً نظراً إلى وجوده، يكون خارجاً عن المجموع، لا نفسه ولا داخلاً فيه؛ لأنّ عدم شيء منهما ليس ممتنعاً نظراً إلى ذاته، فيكون واجباً لذاته؛ إذ لا واسطة في الخارج بين الممكن والواجب، فتدبّر فيه.

هذه هي الصُرط القويمة، الحقّة المستقيمة، الموصلة إلى معرفة الواجب القديم، والصانع الحكيم (٢)، وأنّ للعالم مبدأً تنتهي سلسلة الموجودات إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

____________________

(١) كفاية الموحّدين ١ / ٢٦.

(٢) سوى بعضها، الذي ناقشنا فيه.

٩٣

مَن هم المخالفون

في هذا المقصد؟ وما هو اعتقادهم؟

نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها، وأنّها غير متناهية بالعدد، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل، وبأشكالها تختلف، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء، فيتفق أن يتصادم منها جملة، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية - مثل الحيوانات والنباتات - كائنة لا بحسب الاتّفاق، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية، وفرقة أخرى منهم - كانباذقلس ومَن يجري مجراه - لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (١) .

أقول: هل ذميقراطيس (٤٦٠ ق م) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً. وقد ذكر بانگون (٢) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (٣) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة، والجهالة المبطلة حد الإنسانية، حدثت منذ زمن غير قريب، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد، فمنهم مَن هو قاصر، ومنهم مَن هو متوسط، ومنهم مَن هو عالٍ، ولكلّ منها درجات.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية، والميولات الغريزية، والمخلص من هذا التضاد، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير. قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة

____________________

(١) نقله في الشوارق ١ /١٢٦ من كتاب الشفاء لابن سينا.

(٢) على أطلال المذهب المادي / ١٥.

(٣) الأسفار ١ / ٢١٠.

٩٤

الإنسان، هي في اضطراب دائم؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (١) ... فهذان السببان - أي القصور الفكري والشهوة - هما أحدثا هذه البلية الفاجعة.

وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام بستة قرون أو سبعة قرون، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين، فسرت منهم إلى الشرقيين، ثمّ ضعفت في القرن العشرين؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى.

وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (٢) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة. كما قيل:

١ - لا موجود في العالم غير المادة وآثارها.

٢ - العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية.

٣ - الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها - يعني المادة - أمر أزلي.

٤ - إنّ الكائنات - بشموسها، وكواكبها، وأقمارها، وأراضيها، وسمواتها، وجميع جزئياتها - معلولة التصادف والاتّفاق، لا بمعنى أن لا علّة لها، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة، ولا صانع مختار لها أبداً، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.

والحاصل: أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته.

تفتيش وتفنيد

أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان: الأَوّل: في بيان المادة. والثاني: في بيان انحصار الموجودات بها.

أمّا البحث الأَوّل: فالمعروف عن ديمقراط (٣) أنّ المادة هي الجواهر الفردة، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ (الأتُم)، وليس لها إلاّ أشكال هندسية، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة، وحركة اصطدام مستقيمة (٤) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل

____________________

(١) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / ٢٩٢.

(٢) يس ٣٦ / ٣٠.

(٣) وقيل: إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط.

(٤) الرحلة المدرسية / ٢٩٨.

٩٥

بينها فراغ، خلافاً لأرسطو وأتباعه، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (١) . ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها، وأحجامها، وأمكنتها، ونظامها، وأوضاعها، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ، رفضوا شكلها وقالوا: إنّها غير مشكّلة؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر: إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (٢) .

أقول: وهو كذلك قطعاً، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام ١٩١٩م، من قِبل العالِم روترفورد، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها: بروتون ونوترون والكترون.

وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل، وعن أبيقورس: أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له، بانحراف بعضها على موازاة بعض، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة. وقال بخنر: أمّا حركة الجواهر عندنا، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (٣).

هذا، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة، أو غاز (٤) أخف من الهواء، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات، وهذه الجواهر في الرأي القديم، هي أزلية أبدية، لم تحدث بعد العدم، ولا تتلاشى ولا تنعدم، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي - غوستاف لبون - الرأي المبني على المشاهدة والاختبار، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا - هو أنّ المادة قوّة متكاثفة، وأنّ المادة ليست أبديةً، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير، كما أنّ المادة ليست أزليةً، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة - بسبب لا نعلمه - فصار مادّةً (٥) .

وأمّا البحث الثاني - وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة، وعدم الحاجة إلى علّة

____________________

(١) فلسفتنا / ٣١٨.

(٢) الرحلة المدرسية / ٢٧٤.

(٣) الرحلة المدرسية / ٢٩٨.

(٤) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال.

(٥) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / ٢٧٥.

٩٦

فاعلية غير مادية - فقد ذكروا لإثباته وجوهاً: الأَوّل: وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها: إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به.

الثاني: إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب، كما أثبتته التجربة العلمية، فالوجود الغني عن السب غير معقول. ذكره بعض الفلاسفة الماركسية على ما تقدّم.

الثالث: إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها، فيكون مخلوقاً من العدم، وهذا غير معقول، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه.

الرابع: إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما.

الخامس: إنّ حدوث المادة غير محسوس، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة، فإذن هي قديمة.

السادس: إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً، لكان له غرض من خلقته لا محالة، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء.

السابع: إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي، معلّل بسبب مادّي آخر، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة.

الثامن: المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار، وإمّا العلل الطبيعية - على سبيل منع الجمع والخلو - فإنّ تأثير المريد المختار، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور.

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان، والفطرة، والبرهان، والفلسفة، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن، وإن كان جاهلاً به رأساً:

قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً

حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ

وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً، آكلاً شارباً، متصارعاً، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين، والجناية حينئذٍ على عاتق

٩٧

القسّيسين والأحبار وكتّابهم.

وعلى الجملة: أنّ الموجودات - بكراتها السامية العظيمة، وميكروباتها الصغيرة - دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية، وعلى سبيل التوضيح - وإن كان توضيحاً للواضحات - ننبّه على فساد كلّ واحد واحد:

فنقول: أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً، وسوفسطائياً، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما.

ونزيد هنا فنقول: ماذا يريدون بقولهم هذا؟

فإن أرادوا الإحساس المباشري، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه - بأحد الأحاسيس - لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات؟ أَليس الأتُم موجوداً؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض، وثقل الهواء، ووجود الأثير، والذرة، والجاذبية، فيجوز إنكارها بتاتاً؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها، كلا، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً.

وإن أرادوا الأعم من ذلك، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره - كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة - فهذا بعينه يجري في المقام، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار.

وأمّا الشبهة الثانية، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا: إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي، ونزيدك هنا ونقول: لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية، لابدّ له من سبب بحكم التجربة، فهذا - مع كونه من التسلسل المحال - يبطل قولكم أيضاً.

وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من

٩٨

الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم؟ فما هو جوابكم في إصلاحها؟ هو الجواب في حدوث المادة. وحلّ المطلب: أنّ معنى قولنا: يوجد من العدم، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به.

وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها: أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً، وسيأتي تحقيقه في المقصد الثالث إن شاء الله.

وأمّا الخامسة فهي مضحكة، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر، وهذا شيء عجيب؟ وسيأتي في آخر هذا الجزء أنّ العقل قاضٍ بحدوث جميع الموجودات الممكنة.

وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء - مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها - لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً، وأن لا نعلمه تفصيلاً؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك.

وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل، فهي إمّا الأثير، وإمّا المادة، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها، وإلاّ جاء الدور والتسلسل، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية، وهي الواجب الوجود، ولِما ستعرف من أنّ المادة - بأي شيء فسّرت - لا تصلح للمبدئية.

وبالجملة: لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً كما مرّ.

وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي، حتى يستكشف النظام عن عدمه؟ بل نقول: إنّ

٩٩

نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو - لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه - لا يريد إلاّ الأصلح، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل، كما سيأتي توضيحه فيما بعد، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم، لا في عَرضها، فلا تنافي بينهما، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين.

چشم باز وگوش باز واين عمى

حيرتم از چشم بندى خدا

فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية، ولا يرتبط بالنواميس العقلية، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) (١) .

هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً، فيبقى الأصل الرابع، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها. وخلاصة القول: أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة، موقوفة على وجوبها الذاتي، وعدم توقّفها على سبب آخر، كما هو ظاهر، وكونها واجبة الوجود، وأزلية الثبوت، متفرّع على بساطتها، وعدم تركّبها اتفاقاً - ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية كما مرّ - وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها، وكِلا الأمرين باطل قطعاً، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة.

ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (٢) أو أكثر منها، ولسنا نحن بصدده، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها:

١ - كلّ موجود مادّي له جهات ستّ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة - مهما فُرض صغرها - مركبة من أجزاء ستّة، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج.

____________________

(١) الحج ٢٢ / ٣.

(٢) وهي الماء والتراب والهواء والنار، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى: الكبريت والزئبق والملح، وعدّها الباحثون الغربيون إلى ١٠٤ عناصر.

١٠٠

2 - إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين، وعليه فيكون لها سطحان؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة.

وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة. فإذن، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار - سواء في ذلك ذرات ذيمقراط، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها كما تقدّم - مركّبة، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب، وهو الله الواحد القهّار.

وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة، بل هو من غيرها - وهو الله تعالى - فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ.

هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية، يلزم تركّب الأجزاء، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية، وجهة مميّزة؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة، وهكذا الكلام، في قول بخنز: فإنّ محلّ الدفع غير الجذب، فيتركّب الجزء، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب. وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها.

أضف إلى ذلك أنّ المادة - كما نادوا بأعلى أصواتهم - حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة، فكيف يسوغ لهم، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة؟ فإن صحّ ذلك، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً: إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً؛ اعتماداً في الكلية المذكورة، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية (1) .

____________________

(1) الزمر 39 / 62.

١٠١

النظام الكامل

يقتضي على علّية المادة

ولئن أغمضنا النظر عن جميع ما تقدّم، من تزييف مبدئية المادة للعالم، لكان نظام الخِلقة، وإتقان الطبيعة، أحسن شاهد وأقوى كاشف، عن وجود المبدأ العليم المريد الحكيم، وقد ظلت العلوم الطبيعية تكشف لنا أسرار الكون، وعجائب الخِلقة، ودقائق الصنع، بما يندهش منه العقول، أَفليس هذا العالم البديع المنظّم - بكراته السامية، وشموسه المضيئة، وميكروباته الصغيرة، وموجوداته الحية، ونباتاته النامية، وجماداته المتنوّعة، وما أُودع في كلّ منها من الحكمة والدقّة - دليلاً على وجود المعبود الواجب القديم المجرّد؟ أَليست قبة واحدة تحكي عن بنّاء عالم بقانون العمارة والبناء؟ أيمكن أن يقال: إنّ طائرة واحدة طارت إلى السماء بلا سائق أو مدبّر؟ وهكذا، فإذا دلّت ماكنة صغيرة على فاعلها الشاعر، فكيف لا يدلّ هذا النظام البهي الجميل على علم فاعله؟!

وهذه الدلالة ضرورية بديهية لا يمكن لذي شعور إنكارها، فكما لا يمكن أن يصير الجاهل البدوي، مدرّساً في العلوم المختلفة بلا تعلّم، فكذا المادة لا تكون خلاّقة لهذا النظام الكامل التام، بل هو يكشف عن وجود مدبّر عالم حكيم وهو الله تعالى. وهذا - لمكان بداهته، وشدّة جلائه، وارتكازه في النفوس الإنسانية - لا يحتاج إلى زيادة بيان، وكثرة إيضاح، فضلاً عن توسيط برهان حسب الاحتمالات، الذي ابتكره بلز پاسكال عام 1654م وقَبله عنه غيره، هذا مع أنّه غير تام عندي في نفسه.

وعلى الجملة: مَن شك في هذا الدليل، فقد خرج عن الفطرة السليمة الإنسانية، والقرآن الحكيم في جملة من آياته المباركة قد نبّه الإنسان من هذا الطريق على معرفة ربّه فقال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ) (1) وقال: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً

____________________

(1) الفرقان 25 / 59 - 62.

١٠٢

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاّ كُفُوراً ) (1) وقال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وأمّا السنة فهي مشحونة بأمثالها.

____________________

(1) الفرقان 25 / 47 - 50.

(2) المؤمنون 23 / 12 - 14.

١٠٣

ما يقول المادّيون

عن هذا النظام الأجمل؟

حينما تستنطق الماديين في انبثاق هذا النظام الأكمل عن الطبيعة الجامدة العمياء يجيبونك بوجهين:

الأَوّل: إنّه اتّفاق وتصادف، فهذه الأناظيم حصلت اتّفاقاً وصدفةً، من حركات الأجزاء غير المتجزّئة! وقد أشرنا إلى أنّ هذا الكلام لا ينافي ناموس العلم فقط، بل يصادم الإنسانية في فطرتها المودعة فيها فلا جواب له، ولو تمّ التصادف، بطل قانون العلية، وببطلانه تنهدم العلوم من أساسها.

الثاني: إنّه نتيجة الانتخاب الطبيعي والتنازع - التناحر - في البقاء. توضيح ذلك على سبيل الاختصار: إنّ شارلز روبرت داروين الانجليزي (1809 - 1882م)، دوّن فرضية رجوع الأنواع إلى أصل واحد أو أصول محدودة، وبعبارة أُخرى: أنّ هذه الفرضية تقول: إنّ هذه الأنواع الموجودة من الحيوانات، لم تكن كذلك في أصلها، بل أصلها إمّا نوع واحد أو أنواع محدودة، وجعل لتركيزها نواميس أربعة:

1 - التنازع في البقاء: فكلّ حي ينازع في حفظ كيانه وتثبيت بقائه، وان كان ذلك مستلزماً للتجاوز على الآخرين.

2 - الانتخاب الطبيعي: يعني أنّ نتيجة التنازع المذكور، بقاء الأصلح وفساد غير الأصلح أو ضعفه جداً.

3 - قانون المطابقة: وهو تأثير الأمكنة، والأغذية، والملابسات الواقعة في الحياة، في اختلاف الأفراد والأنواع، فقوة أظفار الأسد وحدته لافتراسه، فلو وقع في محلّ لا يمكنه الصيد، واضطر إلى أكل الحشائش - كالدواب مثلاً - تبطل خاصية أظفاره، بل تقوى أنيابه وهكذا.

4 - قانون الوارثة: وهو أنّ الصفات العارضة والأطوار الاتّفاقية، التي طرأت على الحيوانات من جهة اختلاف الأحوال تنتقل إلى أولادها، فتوجب اختلاف أشكالها، بحيث ينجرّ إلى تخيّل اختلاف أنواعها في الأصل، مع أنّ الاختلاف المذكور نتيجة التوارث بتمادي الزمان، وعليه يترتّب رجوع الأنواع إلى نوع واحد، أو أنواع محدودة.

١٠٤

ولما انتشرت هذه الفرضية فرح المادّيون بها، وحسبوا أنّها كافية لأن يُعلّل بها النظام المحكم الساري في أجزاء العالم، ومعها لا موجب للتشبّث بالصدفة والاتّفاق، الذي يرفضه أوائل العقول الساذجة، وينافره شرف العلم والإنسانية، فقالوا: إنّ الطبيعة وإن كانت غير شاعرة، إلاّ أنّ هذا النظام متولّد من انتخابها بعد التنازع في البقاء، بضميمة المطابقة والوراثة، فارتقاء الموجودات إلى هذه الدرجة من التكامل، معلول لهذه النواميس دون المادة نفسها.

أقول: البحث حول هذه الفرضية عن ناحيتين: الناحية الأُولى في صحّتها في نفسها، والناحية الثانية في استنتاج ما تخيّله الماديون منها.

أمّا الناحية الأُولى وصحّتها في نفسها فلا دليل عليها، غير بعض التخمينات والتخرّصات التي لم يقرّ بها العلم ولا الفلسفة، بل البرهان على خلافها، بل الإنصاف أنّها مخالفة للحسّ والوجدان والأخلاق، كما فصّلنا القول فيها في مجموعتنا المسماة بـ (كشكول محسني)، وقد دلّل على بطلانها غير واحد من باحثي الغرب، حتى أخرجها بعضهم من المسائل العلمية، وجعلها آخر منافيةً للتمدّن الغربي وموجبةً لتأخّره، وحسبها الثالث من الأقاصيص التي تحكيها الأُمهات لأولادها الصغار، بل نسبها بعضهم إلى الجنون... إلى غير ذلك من الكلمات الحادّة التي نقدوا بها هذه النظرية (1) .

وأمّا الناحية الثانية فنقول: إذا سلّمنا هذه الفرضية بتمامها وحسبناها قطعيةً، فلا يمكن استفادة مرام الماديين منها، كما لا يمكن استفادة الحرارة من الثلج!

نقول: مَن الذي أوجد هذه الموجودات؟ مَن الذي خلق هذه الذرّات المركّبة؟ مَن الذي أعطى الطبيعة انتخابها؟ مَن الذي أودع التنازع في كيان الأشياء؟ وهكذا فلابدّ إمّا من الرجوع إلى الصدفة والاتفاق، أو إلى الإيمان بخالق الإنس والجان، وهذا الذي ذكرنا لم يخفَ على داروين نفسه؛ ولذا لم يجعلها دليلاً على إنكار الصانع، بل قيل: إنّه كان عاملاً ومقيّداً بجميع ما جاء في مذهب الپرتستان أرتدوكس (2) ، من دين المسيح عليه‌السلام ، بل صرّح بأنّ عقائده لا تنافي المذاهب (3) .

وإليك ملخّص ما كتبه هو إلى بعض الألمانيين عام 1873: يستحيل على العقل الرشيد أن تمرّ به خلجة من الشك، في أنّ هذا العالم الفسيح، بما فيه من الآيات البالغة، وتلك الأنفس الناطقة

____________________

(1) الجينات الوراثية أثبتت اليوم خِلقة الإنسان الابتدائية، وأبطلت تحوّل الإنسان من الحيوان، وتدلّ هي على صدق القرآن على أخباره، أنّ الإنسان خُلق كذلك ابتداءً.

(2) فيلسوف نماها / 226.

(3) المصدر نفسه/ 225.

١٠٥

المفكّرة، قد صدر عن مصادفة عمياء؛ لأنّ الأعمى لا يخلق نظاماً ولا يبدع حكمةً، ذلك أكبر برهان يقوم عندي على وجود الله.

ثمّ يقول: ولقد قامت عندي شكوك كثيرة لأَوّل عهدي بالبحث، فسألت: من أين جاءت العلّة الأُولى؟ وهل لها نشأة ومعاد؟ غير أنّي لم ألبث حتى استبان لي، أنّ هذا الشك نفسه قد يخطر للإنسان، إذا فكّر في نشأة المادّة المحسوسة ذاتها، فمن أين جاءت المادة القديمة؟ وهل لها أَوّل؟ أم هي أزلية؟ فإذا كانت أزليةً - وغالبة الظن على ذلك - فمن أين أتت؟ تلك الحدود التي يقف عندها الفكر الإنساني معترفاً بالعجز (1) ، لكنّ الماديين أكثروا السرعة من مقلّدهم - بالفتح - ولم يدروا أنّ هذه التلفيقات على فرضِ صحّتها، لا ترتبط بهوَساتهم أصلاً.

ثمّ إنّ شارلز داروين ليس مؤسّساً لهذه النظرية، بل ذكرها غير واحد ممّن سبقه، كما ذكره فريد وجدي في دائرة المعارف، بل يوجد ذلك في كلمات العرب - إخوان الصفا وغيرهم أيضاً - كما نقلها إسماعيل مظهر في مقدّمة ترجمة أصل الأنواع (2) ، مع أنّهم من المسلمين، فاتضح من جميع ذلك أنّ هذه النظرية لا تشفي داء الماديين، فإنّ صحّتها لا تصادم وجود الله تعالى، بل ولا غيره من الأصول الدينية، نعم هي غير صحيحة عند القرآن، فإنّه يبيّن خِلقة الإنسان بدواً وينفي - بالدلالة الالتزامية - تكوّنه من القرود وغيرها، فهي تخالف الإسلام في مسألة فرعية جزئية، وقد عرفت أنّ البرهان والحسّ والأخلاق ترجّح جانب القرآن.

ولهم جواب ثالث معروف بالفلسفة الدياليكتيكية، وقد بُنيت على أُصول أربعة:

التغيّر والتحوّل الباطني (في مقابل التغيّر الحاصل من خارج الشيء المسمّى بالميكانيك)، صحّة التناقض والتضاد، بل ضرورة وقوعهما في كلّ شيء، تأثير التقابل وهو ارتباط الأشياء بعضها ببعض، بلا انفصال لشيء منها من هذه السلسلة المرتبطة، تبديل الكمّية إلى الكيفية دفعة واحدة؛ وعليها بنوا إنكار الواجب الوجود والأديان، بل وجميع الأحكام العقلية؛ إذ لا شيء ثابت عندهم أصلاً، بل كلّ شيء له أَوّل ونهاية، وبها علّلوا نظام العالم المتقن! لكن هذه الفرضية واضحة البطلان؛ لأنّ الأصل الأَوّل يشمل نفس هذه الفرضية أيضاً، فلا قيمة لها، فإنّها محكومة بالزوال والاضمحلال.

وحلّه: أنّ التغيّر غير جارٍ في العلوم غير المادية، أَليست نتيجة ضرب الاثنين في الاثنين هي الأربعة، وهل يحتمل أحد أن تكون النتيجة خمسة أو ثلاثة في زمان من الأزمنة؟ لكنّهم لا يفرّقون بين العلوم الطبيعية والعقلية، فيطبّقون أحكام الأُولى على الثانية.

____________________

(1) مقدّمة ترجمة أصل الأنواع بالعربية تأليف إسماعيل مظهر / 26.

(2) أصل الأنواع / 29 - 41.

١٠٦

وأمّا صحّة التناقض والتضاد والحكم بوقوعهما، بل بضرورة وقوعهما فضلاً عن إمكانه، فهو مخالف للفطرة الإنسانية والضرورة الأَوّلية، فإنّ امتناعهما ضروري عند كل أحد حتى الصبيان، لكن الأمر اشتبه على الماديين الدياليكتيكيين، ولم يقدروا على ضبط الوحدات المعتبرة في التناقض، وحيث أتوا بأمثلة جزئية دالة على وقوعه، لم يلتفتوا إلى فقدان وحدة أو وحدات منها، فحسبوا أنّهم فازوا بمرادهم! وقد مرّ الكلام فيه (1) .

وأمّا الثالث فلا كلّية وتعميم فيه ولا دليل على ذلك، وأمّا الرابع فهو باطل وما قيل في وجهه مضحك جداً، ولا ينبغي أن نضيّع الوقت بإطالة الكلام معهم إثباتاً ونفياً، ولعمرك إنّ وضوح فساد كلام المادّيين وشدّة اختلاله، دليل آخر على وجود الواجب الوجود، وضرورة إثبات الصانع المختار العليم ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

وعلى الجملة: أنّ جميع فرضيات الماديين حول مبدأ العالم، وتلفيقاتهم حول نظام العالم البديع، ترجع إلى صدفة عمياء لا غير، وهي تناقض مبدأ العليّة العامّة الشاملة غير القابلة للاستثناء، فلا تغرنّكم كثرة تعابيرهم وفرضياتهم، فدقّق النظر تجد صدق قولنا، وبعد ثبوت تركّب الذرّة وتجزئتها، فقد سقط معبود الماديين إلى اليوم وإلى الأبد.

____________________

(1) وخلاصة الكلام أنّ الماديين اشتبهوا في مبدأ التناقض، أَوّلا باشتباه التضاد الفلسفي بالتضاد العلمي، وثانياً بعدم الفرق بين التناقض والتضاد الفلسفيين، وثالثاً بإمكان الأخيرين وضرورة وقوعهما! غافلين عن أنّ التناقض الفلسفي لو كان ممكناً، لكان إنكارهم على مخالفيهم باطلاً؛ لصحّة ووقوع التناقض وعدمه!

١٠٧

خاتمة

اعلم أنّ معرفته تعالى على درجات: الدرجة الأُولى: ما يحصل من الدلائل الإنيّة. الدرجة الثانية: ما يثبت بالبراهين الشبيهة باللم. الدرجة الثالثة: ما يستقرّ بالمشاهدة القلبية، ولها عرض عريض رزقنا الله إيّاها، ففي رواية أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أرَه. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (1) .

وفي دعاء يوم عرفة المنسوب إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : (إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهِر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ عَميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً... منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك... أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدّوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك... إلخ) هذا، وكل ميسّر لِما خلق لأجله.

واعلم أنّ معرفة معظم المؤمنين الباحثين - فضلاً عن العوام - بالله تعالى إنّما هي بمفاهيم كلية يضم بعضها مع بعض، تنطبق على الموجود الواحد المخصوص وهو الله تعالى، كمفهوم الواجب الوجود غير المركّب والمتعدّد، وكمفهوم الصانع والخالق الحكيم المدبّر، وكمفهوم القديم الأزلي الأبدي الباقي ونحوها، وهي معرفة علمية يكتسبها أهل المعقول من المباحث الفلسفة والكلامية.

وأمّا المعرفة القلبية الإشراقية الإلهامية - وما شئت فسمِّها به - فهي تحصل من العبودية، والإخلاص، والخضوع مع صفاء الروح، والمؤلّف الفقير الناقص حيث لم يذق حلاوة الإيمان في باطنه، يعلم أنّ إيمانه بالله تعالى، ومعرفته علمية لا معرفته قلبية. فـ ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (2) .

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 98.

(2) الحجر 15 / 99.

١٠٨

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية

الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية

١٠٩

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

كل ما أوجب اتّصاف الواجب به كمالاً وبهاءً بلا استتباع نقص، فهو صفة ثبوتية، وما لم يكن كذلك فهو صفة سلبية؛ لِما سيمرّ عيك في محلّه - إن شاء الله - من أنّه كامل في غاية الكمال، كيف وهو مصدر كلّ كمال فلا سبيل للنقص إليه أبداً؟.

وأمّا ما ذكره بعض المتكلّمين، وشاع في الألسن، من حصر الصفات الثبوتية في الثمانية، (1) والسلبية في السبعة، (2) فخطأ محض، ولعلّه؛ للاهتمام بها، أو لوقوع الاختلاف فيها، أو لاحتياجها إلى الاستدلال، وغير ذلك من الاعتبارات، وإلاّ فلا حدّ لحميد صفاته وجميل أفعاله.

وقد ورد في الشرع له تعالى أوصاف كثيرة جمّة، كما يظهر لمَن راجع الأخبار ولا سيما الأدعية.

ثمّ إنّ مصادر هذه النعوت - كالعلم والقدرة والرحمة مثلاً - تسمّى في اصطلاحهم بـ (صفات الله)، ومشتقاتها - مثل العالم والقادر والرحيم - بـ (أسماء الله).

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ جميع صفاته تعالى:

إمّا حقيقة محضة، وهي ما لا يعتبر في ثبوته له تعالى لحاظ شيء آخر، مثل الحياة، والوجوب، والحقية، مثلاً، فهو حيّ واجب حق بلا لحاظ أمر آخر يتوقّف عليه صدق هذه الصفات وأمثالها.

إمّا إضافيّة محضة، وهي ما لا تحقّق له إلاّ بعد وجد شيء آخر، كالرزق والخلق والرحمة وغيرها، فإنّها لا تثبت إلاّ إذا كان هناك موجود مرزوق مخلوق مرحوم.

وإمّا حقيقية ذات إضافة، وهي ما لا يتوقف مفهومه على شيء آخر، وليس الإضافة مأخوذةً في واقعها، إلاّ أنّها تعرض له، وان شئت فقل: إنّ تحقّق هذا القسم من الصفات غير موقوف على

____________________

(1) كما قال شاعرهم:

عالم وقادر وحى است مريد ومدرك

هم قديم وابدى دان متكلم صادق

(2) كما قيل:

نه مركّب بود ونه جسم مرئى نه محل

لا شريك است ومعانى تو غنى دان خالق

١١٠

أمر ثانٍ، لكن ترتّب أثرها لا يكون إلاّ بإضافتها إلى شيء مقدور، كالقدرة مثلاً، فإنّ أصل تحقّقها له تعالى لا يحتاج إلى شيء آخر، فليست الإضافة معتبرةً في مفهومها، لكن أثر القدرة لا يتنجّز إلاّ بوجود مقدور.

وإمّا سلبية، وهي ما يُعتبر في مفهومها السلب، كالبساطة والتجرّد والوحدة والغنى وأشباهها؛ إذ الأَوّل سلب التركيب، والثاني سلب المادة وعوارضها، والثالث سلب الشركة، والرابع سلب الفقر وهكذا، فهذا القسم وإن كان على صورة الثبوت لكنّها من النفي حقيقة، على حدّ سلب الجسمية والمعاني والرؤية والحلول والاتحاد، وغيرها من الصفات السلبية ظاهراً وواقعاً.

ثمّ يقال للقسم الأَوّل والثالث: الصفات الذاتية، والصفات الكمالية، ويعبّر عن القسم الثاني بالصفات الفعلية، والصفات الإضافية، والصفات الجمالية، وهنا قسم آخر لم يذكروه وسمّيناه بالصفات المدحية، وسيأتي بحثها في هذا المقصد إن شاء الله، ويسمّى الجميع بالصفات الثبوتية، وأمّا القسم الرابع فيقال له - بكلا نوعيه - الصفات السلبية، والصفات الجلالية، والصفات التقديسية، والذي يهم في المقام بيانه هو فرق الذاتية والفعلية، وأنّه كيف نعرف أنّ هذه الصفة الثبوتية فعلية وهي حادثة، وتلك ذاتية وهي قديمة؟

وإليك ذكر ما يفرّق بينها من الموازين.

1 - كلّ صفة أمكن نفيها عن الواجب القديم، وصحّ إثبات نقيضها له، فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية؛ وذلك لأنّ الصفة الذاتية إمّا واجبة بل عين ذاته كما هو الحق، وإمّا واجبة الثبوت للذات فلا يمكن انفكاكها عنها (1) .

2 - كلّ صفة كان لها ضدّ وجودي فهي فعلية؛ إذ الذاتية عين الذات، وستعرف في محله أن لا ضدّ للذات الواجبة، وأمّا إذا لم يكن لها ضدّ فلا يجب أن تكون ذاتيةً، فالملازمة من أحد الطرفين كما لا يخفى.

3 - كلّ صفة اعتبرت في مفهومها الإضافة فهي فعلية؛ لاحتياجها إلى غير الواجب، فلا يعقل كونها ذاتيةً، وهذا واضح، وكلّ صفة لم تكن إضافية محضة فهي ذاتية؛ إذ لا واسطة بين الفعلية والذاتية؛ فحيث إنّ الصفة غير الإضافية المحضة لا تكون فعليةً؛ للزوم الإضافة في قوام الفعل، فهي ذاتية لا محالة.

4 - كلّ ما وقع تحت قدرته فهو من الصفات الفعلية، وما لم يقع فهو من الصفات الذاتية؛

____________________

(1) وأمّا الصدق والعدل، وأن لا يجوز سلبهما عن الله تعالى في شيء من الأوقات عند الناس، إلاّ أنّ سلبهما بسلب منشائهما، فيقال: إنّه لم يكن متكلّماً ومعاملاً أزلاً فلا يكون صادقاً وعادلاً.

١١١

والسر في ذلك واضح، فإنّ الخارج عن القدرة ليس إلاّ الواجب.

5 - كلّ صفة أمكنة وقوعها تحت الإرادة فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية، ويظهر وجهه ممّا سبق.

وأمّا قوله تعالى: ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (1) ، وقوله عليه‌السلام : (شاء - أي الله - أن لا يكون شيء في ملكه إلاّ بعلمه) حيث تعلّق المشية بالقدرة وبكون الشيء معلوماً له تعالى، مع أنّ القدرة والعلم من الصفات الذاتية، فلابدّ من توجيههما بوجه مقبول.

6 - كلّ صفة وقعت في حيّز ألفاظ دالّة على الحدوث والإمكان فهي فعلية لا محالة، ومن الألفاظ المذكور: سوف، سين الاستقبال، جملة من حروف الجر، عسى، ونظائرها، الفاء العاطفة الدالة على الترتيب، ثمّ، إذا، إن، لو، وغير ذلك.

قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) (2) ، ( سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (3) ، ( لِيُضِلَّ قَوْماً ) (4) ، ( عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (5) ، ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) (6) ، ( إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ ) (7) ، ( فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) ، ( وَلَوْ شِئْنَا ) (8) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ ) (9) ، وقوله: ( إِلاّ لِنَعْلَمَ ) (10) وأمثاله فسيأتي ما يتعلّق به في مبحث علمه إن شاء الله.

ثمّ إنّ هذا الميزان الأخير السادس - لمكان اتخاذه من ظواهر الألفاظ - ظني غير قطعي، إذا تقرّر ذلك فلنبحث في هذا المقصد عن المواقف الثلاثة: الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية، والموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية التي لم يذكرها العلماء، والموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية.

____________________

(1) الشورى 42 / 29.

(2) المائدة 5 / 54.

(3) التوبة 9 / 71.

(4) التوبة 9 / 109.

(5) التوبة 9 / 102.

(6) المؤمنون 23 / 45.

(7) النحل 16 / 40.

(8) الأعراف 7 / 176.

(9) الأنفال 8 / 23.

(10) البقرة 2 / 143.

١١٢

الموقف الأَوّل

في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الفصل الأَوّل: في قدرته

الفصل الثاني: في علمه

الفصل الثالث: سمعه وبصره

الفصل الرابع: في حياته

١١٣

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

الناحية الأُولى: في إثبات أصل القدرة

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

مطالب مهمّة

١١٤

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

والكلام فيه من نواحٍ ثلاث:

الناحية الأُولى:

في إثبات أصل القدرة

فنقول: إنّ ما يدل على ذلك وجوه:

الأَوّل: إنّ القدرة الواجبة لا تستحيل على الذات الواجبة الوجود قطعاً، فهي إذن ثابتة له؛ لِما مرّ من قاعدة الملازمة.

الثاني: إنّ هذه الكائنات المشهودة، تدل على أنّ الله الذي أوجدها قادر بأتم قدرة، أمّا الصغرى - وهي كون الواجب خالقاً لها - فقد مرّ إثباتها في المقصد الأَوّل بأكمل بيان، وقد عرفت في المدخل أيضاً، أنّ الكائنات الممكنة محتاجة إلى فيضه حدوثاً وبقاءً، وأمّا الكبرى فهي من الأوّليات البديهية، وهذه الحجة أقوى الحجج وأتمّها وأظهرها بلا ريب.

الثالث: القدرة الممكنة متحقّقة في الخارج حسّاً ووجداناً، وهي تقتضي القدرة الواجبة؛ إذ كلّ ما بالغير لابدّ وأن ينتهي إلى ما به الغير دفعاً للدور أو التسلسل، ولا تُعقل القدرة الواجبة إلاّ للذات الواجبة، ثمّ إنّ اختلاف ما بالغير عمّا به الغير سنخاً ونوعاً، وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ ما به القدرة لا يكون إلاّ قدرة، كما يظهر وجهه للمتأمّل.

الرابع: العجز نقص، والنقص عليه محال، فهو قادر؛ لعدم واسطة بين القدرة والعجز، إلاّ أنّ المدّعى أظهر من الكبرى بمراتب.

الخامس: اتّفاق الملل والنحل، وإجماع الأنبياء، والآيات القرآنية، والروايات المتواترة، تدل على أنّ الله قادر. ذكره بعض المتكلمين.

أقول: اتّفاقهم وإجماعهم من جهة الأدلة العقلية المتقدّمة لا أنّه تعبّدي، على أنّ المطلوب ليس أمراً محسوساً يصحّ فيه التواتر، وحجّية قول النبي بل نبوّته، وحجية القرآن وصدقه، موقوفة على قدرته تعالى، كما سيأتي في محلّه، فلو توقّف إثبات القدرة عليها للزم الدور.

السادس: ما في المنظومة وشرحها للسبزواري من قوله: (وكونه تعالى نوراً على القدرة

١١٥

دلّ؛ لأنّ الفياضيّة لازم النور، وهذا النور عين المشيّة والشعور) (1) .

أقول: وسيأتي أنّ المشيّة ليست عين وجوده، على أنّ الاستدلال أيضاً غير واضح، فهذا الوجه أيضاً غير تام عندنا.

لا يقال: القادر على الفعل قادر على الترك، وإلاّ كان موجباً؛ ضرورة تساوي القدرة إلى الطرفين، لكن العدم غير مقدور؛ لأنّه أزلي، ولأنّه نفي محض لا يصلح لأن يكون أثراً.

فإنّه يقال: القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، لا أن يفعل العدم، وأمّا أزلية العدم فهي لا تنافي القدرة؛ لأنّ استمراره بيد القادر، والشبهة سخيفة جداً؛ لأنّها تبطل القدرة مطلقاً، مع أنّها وجدانية ومحسوسة في الحيوان.

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

وهذه مسألة هامّة جداً، وقد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية والأنظار الكلامية، والتضارب فيها شديد جداً بحيث نسبت طائفة إلى الجهل والضلال، وابتليت فرقة بالتكفير والتفسيق.

وتصوير النزاع في هذه المسألة:

أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا؟ وإن شئت فقل: إنّ ما يصدر عنه هل هو واجب منه أم لا؟ بل يمكنه الترك والفعل معاً، فلا وجوب للفعل منه، وإنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وبكلمة أوضح بياناً: لا شك عند الموحّدين أنّ الله مختار في خلقه وفعله، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان، الذي هو بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، أم لا بل هو من سنخ آخر؟

المتكلّمون على الأَوّل، والفلاسفة على الثاني، وحيث إنّ البحث عنه مهم جداً، نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها؛ حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها، ولنكن حين الاستدلال والاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا.

فنقول: قال الفيلسوف الشهير في أسفاره (2): إنّ للقدرة تعرفينِ مشهورين:

أحدهما: صحّة الفعل ومقابله أعني الترك.

وثانيهما: كون الفاعل في ذاته، بحيث إنّ شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

والتفسير الأَوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة، ومن المتأخّرين من ذهب إلى أنّ المعنيين

____________________

(1) منظومة السبزواري / 172.

(2) الأسفار، المجلد الثاني، الفصل الأَوّل من الموقف الرابع، (الطبعة القديمة).

١١٦

متلازمان بحسب المفهوم والتحقّق، وأنّ مَن أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأَوّل قطعاً؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، كان لا محالة من حيث ذاته - مع عزل النظر عن المشيّة واللامشيّة - يصح منه الفعل والترك، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية، والترك إذا وجب اللامشيّة، فلزوم الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشية ووجوبها، لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشيّة، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

أقول: ما ذكره غلط وخبط، فإنّ الصحة والجواز في الفعل ومقابله، مرجعهما الإمكان الذاتي، وتحقّقه مستحيل فيه تعالى؛ فإنّه وجوب بلا إمكان، وإنّما يجوز تلك النقائص عند مَن يجعل صفاته زائدةً على ذاته كالأشاعرة، أو يجعل الداعي على صنعه وإيجاده أمراً مبايناً، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد؛ صفةً كانت أو داعياً، جائز المشيئة واللامشيئة صحيح الفاعلية واللافاعلية، وأمّا عند مَن وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والإمكان، فالمشية المتعلّقة بالجود والإفاضة عين ذاته بذاته، بلا تغاير بين الذات والمشيئة خارجاً وذهناً، بلا اختلاف حيثية تقييدية وتعليلية، فصدق القضية الشرطية القائلة: إن شاء فعل، لا ينافي وجوب المقدّم، وضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة، وكذا الشرطية القائلة: إن لم يشأ لم يفعل، لا ينافي استحالة المقدّم امتناعاً ذاتياً، وضرورة نقيضه ضرورة أزلية، فعلم أنّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأَوّل، ولا تلازم بينهما إلاّ في القادر الذي يكون إرادته زائدةً على ذاته، وأمّا الواجب فلكونه فوق التمام، وبذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل، لا بمشيئة زائدة، ولا بهمة عارضة، لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته وعلمه ورضائه وحكمته، التي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام، وهذا أتم أنحاء القدرة، وأفضل ضروب الصنع، ولا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده... إلخ انتهى كلامه مع تغيير ما.

وقال الحكيم السبزواري: لا يلزمنها - أي القدرة - حدوث ما انفعل، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر، خلافاً للمتكلّمين، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتاً ما عن الذات - (وبعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكاناً ذاتياً، وبعضهم إمكانه إمكاناً وقوعياً، والإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال، والحال أنّ فيه محالاً كلّ المحال؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته، كعدم العقل الأَوّل أو عدم الفعل مطلقاً؛ وبعضهم اعتبروا الوقوع في الترك، وفيه: أنّه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة) (1) - وقد عرّفوا قدرته بصحّة الفعل والترك، وهو باطل؛ إذ الصحّة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل... فالحق تعالى

____________________

(1) هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة، ونحن أدرجناها في المتن، بين قوسين.

١١٧

موجِب - بسكر الجيم - أي فاعل يجب فعله بقدرته وأخياره، وهذا على مذهب الحكيم حيث يقول: الشيء ما لم يجب لم يوجد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - أي فاعلاً يجب فعله لا بقدرته واختياره كالمضطر، تعريض إلى مَن نسب إلى الحكماء إطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى، بأنّه حرّف الكلمة عن موضعها (1) ... إلخ.

وقال المحقّق الطوسي قدّس سره في قواعد العقائد: والقادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل ولا يجب، وإذا فعل فعلاً باعتبار (اختيار ظ) وإرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل، ويقابله الموجب، وهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل ويجب أن يقارنه فعله؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لَما كان صدور الفعل عنه واجباً؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور. والمتكلّمون يقولون بأنّ الباري تعالى قادر، إذا كان فعله حادثاً غير صادر عنه في الأزل، ويلزم القائل بالقِدم كون فاعله موجباً.

والحكماء يقولون: كل فاعل فَعل بإرادةٍ مختارٌ، سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه، وموضع الخلاف في الداعي، فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده، بعد الداعي بالزمان، أو تقدير الزمان، ويقولون: إنّ هذا الحكم ضروري والحكماء ينكرونه (2) انتهى.

قال الحكيم اللاهيجي في شوارقه: إنّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل والترك، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين والحكماء، وأمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين... إلى أن قال: فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة، الذي هو المفهوم الشرطي، بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم وعدم وجوبه (3) .

قال العلاّمة الحلي قدّس سره في ضمن كلام له: لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح؛ إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة (4) !

قال في شرح المواقف: أي يصح منه إيجاد العالم وتركه، فليس شيء منهما لازماً لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه، وإلى هذا ذهب الملّيون كلّهم، وأمّا الفلاسفة فإنّهم قالوا: إيجاده

____________________

(1) شرح المنظومة / 172.

(2) شرح قواعد العقائد / 39.

(3) الشوارق 2 / 210 - 211.

(4) إحقاق الحق 2 / 116.

١١٨

للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته، فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور... وأمّا كونه تعالى قادراً بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فهو متّفق عليه بين الفريقين... (1) إلخ.

قال القوشجي في شرح التجريد: ذهب الملّيون قاطبةً إلى أنّ تأثير الواجب في العالم بالقدرة والاختيار، على معنى أنّه يصح منه فعل العالم وتركه، وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره فيه بالإيجاب (2) انتهى.

وكذا الإصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار.

وقال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة: وقيل: هو (أي القادر) كون ذاته بذاته في الأزل، بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وِفق علمه بها، وهي عين ذاته، وقيل: هي - القدرة - علمه بالنظام الأكمل من حيث أنّه يصحّ صدور الفعل عنه، وقيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، وقيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته، وهي العناية الأزلية (3) انتهى.

تعقيب تحصيلي

هذه نبذة من كلماتهم في المسألة، وهي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالةً واضحة، ولمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير، وهو أُمور:

الأَوّل: إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم، ولا ملازمة بين القولين أصلاً كما زعم، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة، والفلاسفة ينكرونها أشدّ الإنكار.

فالتعريف الأَوّل - وهو صحّة الفعل والترك - صحيح عند أصحاب الكلام، وباطل بزعم أرباب الفلسفة، وأمّا التعريف الثاني - وهو إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل - فهو ينطبق على كلا المسلكين، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم وامتناع التالي ولا إمكانهما، فالمتكلّم على الثاني والفلسفي على الأوّل.

الثاني: اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين، في الذي كان إرادته زائدةً على ذاته، وكان داعيه أمراً مبايناً، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور والترك، والخلاف فيمَن كان إرادته وداعيه عين ذاته بلا فرق أبداً.

الثالث: ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته، وعدم إمكان تخلّفه عنها -

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 41.

(2) شرح التجريد / 348.

(3) منهاج البراعة 1 / 309.

١١٩

سواء كان إمكاناً ذاتياً أو وقوعياً- فضلاً عن وقوع الترك، كما ظهر من كلام الأسفار وشرح المنظومة، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة، بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالَم وتركه بالنظر إلى ذاته، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين، ساقط جداً فإنّ فعل العالَم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء، فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما على نحو ما عرفت.

الرابع: معنى اختيار الواجب عند الحكماء، هو صدور الفعل عنه مقارناً للعلم والرضاء فقط، ولا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكاناً ذاتياً، بل يرون امتناعه كما مرّ، وهذا بخلاف المتكلّمين، فإنّهم يرون وقوع التخلّف شرطاً في مفهوم الاختيار، كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي، أو إمكان التخلّف إمّا ذاتياً أو وقوعياً، كما نقله السبزواري عن بعضهم.

أقول: فالإيجاب عند الأَوّلين هو صدور الفعل من غير العلم والرضاء به، وعند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه، فالحكيم إذا ادّعى أنّ الواجب القديم مختار يعني به: أنّه عالم بصدور فعله عنه، وليس كالشمس في إشراقها والنار في إحراقها. قال خاتم الفلاسفة في أسفاره: فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار: أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وألاّ يفعل، والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل، كلام باطل؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متى كانت متساويةً لم تكن جازمةً، وهناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند مَن نفى العلّية والمعلولية بين الأشياء كالأشاعرة، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبةً للفعل، ولا يبقى حينئذٍ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرنا، من أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه، وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه -كالقوى الطبيعية- وإن كان الشعور حاصلاً، لكن الفعل لا يكون ملائماً، بل منافراً، مثل الـمُلجَأ على الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له... إلخ.

الخامس: محور النزاع ومناط البحث في المقام هو الداعي، فإنّه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين؛ إذ الفعل حينئذٍ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار وهو واضح، أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة، كما نقله العلاّمة الطوسي عن المتكلّمين، بل تقدّم عن التفتازاني (1) أنّه متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين، وعليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدّم - حيث قال: والحكماء ينكرونه - راجع إلى الداعي نفسه، لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المراد بالداعي - كما يظهر من مسفوراتهم - هو إرادته التابعة

____________________

(1) تقدّم في الصفحة 81 من هذا الجزء.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296