زيارة وتوسّل

زيارة وتوسّل25%

زيارة وتوسّل مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 155

زيارة وتوسّل
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51981 / تحميل: 7490
الحجم الحجم الحجم
زيارة وتوسّل

زيارة وتوسّل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الأولىٰ: ان لابن بَطّة كتابه المعروف بـ ( الإبانة الكبرىٰ ) وقد أثبت فيه خلاف ما نقله عنه ابن تيمية في حق قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نقله عنه السبكي (١) .

والثانية: إن ابن بَطّة وإن كان قد وصفوه بالصلاح غير أنّهم وصفوه أيضاً بالضعف والاضطراب الكثير. قال الذهبي: لابن بَطّة مع فضله أوهام وغلط.. وقال: قال عبيدالله الأزهري: ابن بطة ضعيف، وعندي عنه ( معجم البغوي ) ولا أُخرج عنه في الصحيح شيئاً.

ونقل الخطيب البغدادي عن الأزهري قوله في ابن بطة: ضعيف، ضعيف، ضعيف، ليس بحجة (٢) .

ثمَّ ان ابن تيمية لم يذكر أحداً من الذين قال عنهم أنهم « قالوا » غير ابن بطة هذا!!

ومن ناحية أُخرىٰ فقد بقي لابن تيمية والقائلين بقوله في الموضوع حجتان:

الأولىٰ في غاية الطرافة؛ إذ يقول: إنّ النبي ليلة الإسراء لم يذهب لزيارة قبر إبراهيم الخليل!!

فهل في هذا ما يحتجّ به علىٰ نفي مشروعية الزيارة؟ وهل كل شيء لم يفعله النبي في رحلة الاسراء لم يعد مشروعاً؟ فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلته تلك لم يدعُ أحداً إلىٰ عبادة الله تعالى! ولا كسر صنماً! ولا وصل رحماً، ولا عاد مريضاً، ولا دخل مسجداً!! فعل يحتج بذلك ذو منطق؟ لقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شغله، في ما هو فوق ذلك كلّه، في رحلة قاده فيها جبرئيل إلىٰ حيث قاده، ثمَّ عاد به إلىٰ مضجعه ولمّا يبرد بعد.

_________________________________

(١) شفاء السقام: ١٤٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٦: ٥٢٩ - ٥٣٣، تاريخ بغداد ١٠: ٣٧١ - ٣٧٥.

١٠١

انّها واحدة من أساليب التهويل والاستحواذ علىٰ السامع والقارئ من المقلّدين خاصّة.

والثانية داحضة هي الأخرىٰ؛ وهي تمسكه بالحديث « لا تجعلوا قبري عيداً » وقد اعتمد فيه الرواية المنسوبة إلىٰ الحسن بن الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقد رأىٰ رجلاً عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو له ويصلّي عليه، فقال له: لا تفعل فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم فإنّ صلاتكم تبلغني » .

وعن هذا الخبر قال الذهبي: مرسل (١) .

وتقدّم مثله عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وفي إسناده رجل مجهول، وقد تقدم الحديث فيه.

وحديث « لا تجعلوا قبري عيداً » أخرجه أبو داود في سننه (٢) ، وفي إسناده عبدالله بن نافع الصائغ المخزومي، قدح فيه غير واحد من أهل الجرح والتعديل:

قال فيه أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفاً فيه، ولم يكن في الحديث بذاك.

وقال البخاري: في حفظه شيء، وقال أيضاً: يُعرف حفظه ويُنكر. ومثله قال أبو حاتم الرازي، وزاد: هو ليّن، ليس بالحافظ.

ووثقه يحيىٰ بن معين.. وقال أبو زرعة: لا بأس به.. ومثله قال النسائي.

وقال ابن عدي: روىٰ عن مالك غرائب. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان

_________________________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤: ٤٨٤ ترجمة الحسن بن الحسن السبط عليه‌السلام .

(٢) سنن أبي داود ١: ٤٥٣ / ٢٠٤٢.

١٠٢

صحيح الكتاب، وإذا حدّث من حفظه ربّما أخطأ.. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم.. (١) وهكذا اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، يظهر منه أن الغالب عليه الضعف والخطأ في الحفظ، لكنه لم يتهم بوضع وكذب.

والنتيجة أنّ هذا الحديث لم يرد بطريق صحيح، فلا معنىٰ لاحتجاج ابن تيمية به وهو يرد أحاديث الزيارة بدعوىٰ أنها لم ترد بطرق صحيحة.

وعند قبول الحديث لكون رواته غير متهمين بالوضع، مع أنه ورد في أكثر من طريق وان اختلف اللفظ يسيراً، فلا يصح تفسيره منفرداً عن الأحاديث الأخرى المتعلقة بموضوع زيارة قبره الشريف وزيارة سائر القبور، فالإجتزاء سيؤدي إلىٰ تشويه الحقيقة، وظهورها بمظاهر متعددة، والحكم الموضوعي يقتضي النظر والتدبر في ما يتعلق بموضوع البحث من حديث وأثر للخروج بالتصور الجامع للموضوع وأبعاده، عندئذٍ لا يصح تفسير « العيد » هنا بمطلق الوفود او اجتماع الناس عند القبر لقصدهم زيارته، مع وجود الأحاديث التي تحث علىٰ الزيارة، وتأييد ذلك بالأثر الثابت.. وقد تقدم الجمع بين بعض هذه الأحاديث والآثار عند مناقشة الخبر الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام بهذا الشأن.

ولهذا أيضاً أورد بعض العلماء تفاسير أُخرىٰ للمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجعلوا قبري عيداً » ..

- أن يكون المراد الحث علىٰ كثرة زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يهمل حتىٰ لا يزار إلّا في بعض الأوقات، كالعيد الذي لا يأتي في العام إلّا مرّتين.. ويؤيده ما جاء في الحديث نفسه: « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم

_________________________________

(١) تهذيب التهذيب ٦: ٤٦ - ٤٨ / ٩٩.

١٠٣

حتىٰ تجعلوها كالقبور التي لا يصلّىٰ فيها.

- أو أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلّا فيه، كما هو الحال في بعض المشاهد التي جعل الناس يوماً معيناً لزيارتها، وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس فيها يوم بعينه، بل أي يوم كان.

- أو أن يكون المراد أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه والاجتماع وغير ذلك مما يُعمل في الأعياد، بل لا يؤتىٰ إلّا للزيارة والسلام والدعاء ثمَّ ينصرف عنه (١) .

- أو أن الحديث في غير ذلك، إذ إنّ الذي جاء في حديث الحسن المثنّىٰ: « لا تجعلوا بيتي عيداً » ولم يذكر القبر، والقرينة علىٰ ذلك ما جاء بعده « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » (٢) .

ولأجل التناقض بين ما يفهم من حديث الحسن المثنىٰ وهو الفهم الذي اعتمده المنكرون للزيارة، وبين ما ورد في الزيارة من الحديث والأثر، علّق الذهبي علىٰ حديث الحسن السابق الذكر قائلاً:

ما استدلّ حَسَنٌ في فتواه بطائل من الدلالة، فمن وقف عند الجمرة المقدّسة ذليلاً، مُسَلِّماً مصلياً علىٰ نبيه، فيا طوبىٰ له، فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلّل والحب، وقد أتىٰ بعبادة زائدة علىٰ من صلّىٰ عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلّي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلّىٰ عليه واحدة صلىٰ الله عليه عشراً، ولكنّ من زاره - صلوات الله عليه

_________________________________

(١) راجع شفاء السقام: ٨٠.

(٢) هامش المحقق في / شفاء السقام: ١٨٧ - الطبعة المحققة.

١٠٤

- وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يُشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيُعَلَّم برفق، والله غفور رحيم.

فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلّا وهو محب لله ولرسوله، فحبّه المعيار الفارق بين أهل الجنّة وأهل النار.

فزيارة قبره من أفضل القُرَب، وشدّ الرحال إلىٰ قبور الأنبياء والاَولياء، لئن سلّمنا أنّه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: « لا تُشد الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » فشدّ الرحال إلىٰ نبيّنا مستلزم لشدّ الرحل إلىٰ مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلىٰ حجرته إلّا بعد الدخول إلىٰ مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثمَّ بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله ذلك وإيّاكم، آمين (١) .

الشبهة الثالثة: إنّ الزيارة تفضي إلىٰ الشرك

قد يجاوز بعض الجهلاء الحد حين يغلبه الوجد، ولا فقه له ولا علم، فيسجد للقبر، وهذا أمر منكر لا يقرّه أحد بأي عذر، والواجب تعليم الجاهل وزجره عن هذا ونظائره من الأفعال التي لا تستقيم مع الشرع، ولا مع أدب الزيارة، ولهذا ونظائره أوجب الله تعالىٰ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب علىٰ العالم أن يظهر علمه، وإلّا لعنه الله وأبعده عن ساحة رضاه.

أما ابن تيمية فقد جعل هذا ذريعة إلىٰ تحريم الذهاب إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقصد الزيارة حتىٰ من قرب، قائلاً: إن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالىٰ: ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا

_________________________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤: ٤٨٤ - ٤٨٥ ترجمة الحسن المثنىٰ.

١٠٥

سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) قالوا: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا عكفوا علىٰ قبورهم ثمَّ صوّروا علىٰ صورهم تماثيل، ثمَّ طال عليهم الأمد فعبدوها... قال: وقد ثبت عنه في الصحيح أنّه قال: « إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك » . واحتجّ أيضاً بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لعن الله اليهود والنصارىٰ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .

وعلىٰ هذا قال: كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر (١) .

وهذا ممّا لا يحتجُّ به ذو معرفة، فهل كان علىٰ الله تعالىٰ أن لا يبعث نبياً، سدّاً للذرائع، إذا كانت أمة سالفة قد عبدت نبيّها وألَّهته؟! أم عليه تعالىٰ إذا بعث نبيّاً ألّا يُميته؟! وإذا أماته أن يرفعه إلىٰ السماء لئلّا يُدفن بين أمّته فيتخذون قبره مسجداً؟!

لقد بيّنت الشريعة التوحيد وحدوده، والشرك وحدوده، وحتىٰ الشرك الأصغر، ليجتنبه الناس ولا يخلطون بعباداتهم، وطاعاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم شيئاً ممّا يدخل تحت عنوان الشرك، ليبقىٰ الواجب واجباً، والمندوب مندوباً، والمباح مباحاً، كلٌّ علىٰ صورته المشروعة، وما يظهر من بدع في طريق الناس وأساليبهم يردّ عليهم، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« مَن أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ » .

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمنين بزيارة قبور إخوانهم، فهل يعني أنه أباح لهم إقامة الأوثان عليها والسجود لها؟

_________________________________

(١) مجموع فتاوىٰ ابن تيمية ٢٧: ١٨٤ - ١٩٢، ونحوه في / زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: ٢٩ - ٣٠.

١٠٦

لقد أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بعد أن علَّمهم آدابها وسننها، ونهاهم عن المحرم فيها، وهذا هو الأصل في الزيارة في غيرها.

ولقد كان النصارىٰ حتىٰ قبل ظهور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشركون بالله في صلواتهم فيجعلونه ثالث ثلاثة، تعالىٰ الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل من واجب الموحِّد فيهم أن ينهاهم عن الصلاة لما خالطها من شرك!! أم الواجب عليه تبيين حدودها وآدابها ونفي كل ما خالطها من بدع وضلالات؟ أم كان علىٰ خاتم الأنبياء أن يحرِّم الصلاة سدّاً للذرائع؟!

هذا مما لا يقوله عاقل.. غير أن عادة ابن تيمية التهويل في الأمور، وإغراء الناس بالإيهام والمغالطة والتلبيس، وقد يسوق هذا إلىٰ الكذب والافتراء، وكثيراً ما وقع فيهما!! وها هو الآن يرتكبهما في قوله: ( كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر ). وافترىٰ علىٰ مالك بن أنس وكذّب فيه المالكية كلّهم، ومذهبم قائم علىٰ هذا، وقد نقلوه عن إمامهم مالك بأسانيدهم العالية عن أوثق أصحابه وأكثرهم معرفة به.. وحتىٰ لو صح مدّعاه، ولا يصح، فإنّما هو عليه، لا له، ففيه شهادة بزيارتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعاء عنده، ولا يضرّ في ذلك استقبال القبر عند الدعاء او استدباره واستقبال القبلة. وقد قدمنا علىٰ الهيئتين كثيراً من أثر السلف.

ويغض ابن تيمية الطرف عن كل ما لا يوافق هواه من أثر السلف.. وحين يختلف من السلف اثنان يتمسك هو بمذهب المروانية منهم ويهجر من خالفه، ولو كان من أشرف الصحابة، وأكثرهم علماً..

فلقد وقع النزاع في شيء من هذا عند القبر الشريف بين مروان بن الحكم وبين

١٠٧

أبي أيوب الأنصاري:

أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته، ثمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟

فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، فقال: نعم، إنّي لم آتِ الحَجَر، إنّما جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمَّ قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: « لا تبكوا علىٰ الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا علىٰ الدين إذا وليه غير أهله » !

أخرجه أحمد في مسنده، وصحَّحه الحاكم والذهبي (١) .

نعم، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لا تبكوا علىٰ الدين إذا وليه أهله..

ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله..

     

ومن غريب اختلاقات ابن تيمية هنا قوله: فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء، لئلّا يصلّي أحد عند قبره ويتخذه مسجداً، فيُتَّخذ قبره وثناً!

وهذا تهويل وافتراء، فما كان شيء من هذا يدور في خلد أحدهم وإنَّما دفنوه هناك لقولهم إن الأنبياء يُدفنون حيث قبضوا، بل رفعوا القول إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه؛ قال المؤرخون: لمّا توفِّي النبيُّ اختلفوا في موضع دفنه؛ فقال قائل: في البقيع، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر الاستغفار لهم.. وقال قائل: عند منبره.. وقال قائل: في مصلّاه.. فجاء أبو بكر فقال: إنّ عندي من هذا خبراً وعلماً، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_________________________________

(١) مسند أحمد ٥: ٤٢٣، والمستدرك ٤: ٥٦٠ / ٨٥٧١.

١٠٨

يقول: « ما قُبض نبيٌّ إلّا دُفِن حيث تُوفِّي » (١) .

هذه رواية ابن إسحاق والواقدي، أمّا في رواية أبان بن عثمان الأحمر فإنّ قائل ذلك هو عليٌّ عليه‌السلام ؛ قال أبان: وخاض المسلمون في موضع دفنه، فقال عليٌّ عليه‌السلام : « إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلّا وارتضاه لرمسه فيه، وإنّي دافنه في حجرته التي قُبض فيها » فرضي المسلمون بذلك (٢) .

وأياً كان القائل، فإنّ ما ذكره ابن تيمية لم يكن ليخطر ببال أحدهم علىٰ الاطلاق، ناهيك عمّا تنطوي عليه كلمته من تصوّر الإجماع أو ما هو قريب به!!

تلك هي شبهاتهم، لا تقوم إلّا علىٰ الذوق الخاص الذي لا يستقيم مع منطقٍ متجرِّدٍ، ولا يسنده دليل..

_________________________________

(١) انظر: السيرة النبوية / ابن هشام ٤: ٢٥٦، السيرة النبوية / الذهبي ٢: ٤٨١، والنص منه.

(٢) إعلام الورىٰ / الطبرسي ١: ٢٧.

١٠٩

١١٠

١١١

١١٢

مدخل:

التوسُّل لغةً واصطلاحاً

توسَّل إلىٰ الله بوسيلةٍ: إذا تقرّب إليه بعمل.

ووَسَّل فلانٌ إلىٰ الله وسيلةً: إذا عمل عملاً تقرّب به إليه.

وتوسّل إليه بكذا: تقرّب إليه بحرمةِ آصرةٍ تُعطفه عليه.

والوسيلة: القُربة.. والدرجة.. والمنزلة عند الملك.

وفي حديث الآذان: « اللهم آتِ محمداً الوسيلة » هي في الأصل ما يُتَوصَّلُ به إلىٰ الشيء ويُتَقَرّب به، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالىٰ، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة. وقيل: هي منزلة من منازل الجنّة. هكذا قال ابن منظور (١) .

وقال الراغب: الوسيلة: التوصّل إلىٰ الشيء برغبة، وهي أخصّ من الوصيلة بتضمّنها لمعنىٰ الرغبة، قال تعالىٰ: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

وحقيقة الوسيلة إلىٰ الله تعالىٰ - كما قال الراغب - مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرّي مكارم الشريعة، وهي كالقربة (٢) .

وقد ورد لفظ « الوسيلة » في القرآن الكريم في موضعين:

الأول: في قوله تعالىٰ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣) .

_________________________________

(١) لسان العرب ( وسل ).

(٢) معجم مفردات ألفاظ القرآن ( وسل ): ٥٦٠ - ٥٦١.

(٣) سورة المائدة: ٥ / ٣٥.

١١٣

قال أهل التفسير: أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات، فكأنّه قال: تقرّبوا إليه بما يرضيه من الطاعات (١) .

قال الرازي: الوسيلة، فعيلة، من وَسَل إليه إذا تقّرب إليه. قال لبيد الشاعر:

أرىٰ الناسَ لا يدرون ما قدَّ أمرهم

ألا كل ذي لبٍّ إلىٰ الله واسِلُ

أي متوسل. فالوسيلة هي التي يُتَوسَّل بها إلىٰ المقصود (٢) .

واستنتج السيد الطباطبائي ممّا تقدَّم في معنىٰ الوسيلة أنّها ليست إلّا توصلاً واتصالاً معنوياً بما يوصل بين العبد وربّه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربّه إلّا ذلّة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلىٰ جنابه تعالىٰ، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأمّا العلم والعمل فإنّما هما من لوزامها وأدواتها كما هو ظاهر، إلّا أن يطلق العلم والعمل علىٰ نفس هذه الحالة.

وفي الترابط بين المفردات الثلاثة:« تقوىٰ الله » و« ابتغاء الوسيلة » و« الجهاد في سبيله » الواردة في الآية عرض السيد الطباطبائي صورةً رائعة متماسكة، خلاصتها أنّ الأمر بابتغاء الوسيلة بعد الأمر بالتقوىٰ، ثمَّ الأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة، هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بشأنه (٣) .

فابتغاء الوسيلة إذن وهو التماس ما يقرّب العبد إلىٰ ربّه، أخص من التقوىٰ العامة في اجتناب المعاصي والعمل بالطاعات.

_________________________________

(١) مجمع البيان ٣: ٢٩٣.

(٢) تفسير الرازي ٦: ٢٢٥ - ٢٢٦.

(٣) الميزان ٥: ٣٢٨.

١١٤

والموضع الثاني: في قوله تعالىٰ: ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) (١) .

والآية هنا في معرض الردِّ علىٰ أقوام يعبدون الملائكة، أو يؤلهون المسيح وعزيراً عليهما‌السلام ، فقالت الآية انّ أولئك الذين تدعونهم من ملائكة وأنبياء إنّما هم في أنفسهم يبتغون إلىٰ ربِّهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه (٢) .

والوسيلة هنا لم تخرج عن معناها الأول، فهي التوصل والتقرّب. وربّما استعملت بمعنىٰ ما به التوصّل والتقرّب، ولعلّه الأنسب بالسياق (٣) .

ومن كل ما تقدّم يُعلَم أنّ التوسُّل إنّما هو اتخاذ الوسيلة المقصود، ومعه يكون الأنسب في معنى الوسيلة أنّها ما يتم به التوصّل والتقرّب.

هذا هو التوسُّل في معناه اللغوي الجامع.

أمّا التوسُّل إلىٰ الله تعالىٰ في معناه الاصطلاحي، فهو أن يتقرّب العبد إلىٰ الله تعالىٰ بشيء يكون وسيلة لاستجابة الدعاء ونيل المطلوب (٤) . وهو ما جاء به قوله تعالىٰ: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) فهم بعد استغفارهم يتّخذون من استغفار الرسول لهم وسيلة لنيل توبة الله عليهم ورحمته إيّاهم. وهذا توسُّل بدعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته.

_________________________________

(١) سورة الإسراء: ١٧ / ٥٧.

(٢) انظر تفسير الرازي ١٠: ٢٣٣ - ٢٣٤، والميزان ١٣: ١٢٨.

(٣) الميزان ١٣: ١٣٠.

(٤) انظر: التوسل / جعفر السبحاني: ١٨، معاونية التعليم والبحوث الإسلامية، بدون تاريخ ورقم طبعة.

١١٥

ولم ينحصر أُسلوب التوسُّل المأمور به شرعاً، أو الآخر الذي أباحته الشريعة، بهذا اللون بل تعدَّدت أساليبه بتعدُّد الوسائل المعتمدة فيه، كما سيأتي في مبحث أقسام التوسُّل.

ومن هنا يمكن ملاحظة أكثر من مصطلح آخر قد يكون مرادفاً للتوسُّل بهذا المعنىٰ، منها:

١ - الاستشفاع: أو التشفّع، وهو اتخاذ الشفيع إلىٰ الله تعالىٰ لاستجابة الدعاء ونيل القرب والرضا.

وقد كان الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدعائه في حياته ثابت في سلوك المسلمين وثقافتهم، كما هو ثابت أيضاً بعد وفاته، والإجماع قائم علىٰ تحقّق شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته يوم القيامة.

والشفيع بمثابة الوسيلة في الدعاء وطلب القربىٰ.

٢ - الاستغاثة: وهي طلب الاِغاثة من المستغاث به، إلىٰ المستغاث والمغيث وهو الله تعالىٰ.

٣ - التوجّه: وهو التوجّه إلىٰ الله تعالىٰ بما له وجه عنده.

٤ - التجوّه: وهو مثل التوجّه، فهو سؤال الله تعالىٰ بما له وجاهةٌ عنده.

فالوسيلة في التوسُّل، هو الشفيع في الاستشفاع، وهو المستغاث به في الاستغاثة، وهو المتوجَّهُ به في التوجّه، والمتجوّه به في التجوّه. ولا عبرة في اختلاف الألفاظ أو الاختلاف فيها، ما دام المعنىٰ واحداً، وهو سؤال الله تعالىٰ بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بغيره ممّا له عند الله تعالىٰ منزلة مقطوع بها.

١١٦

  الفصل الأول

أقسام التوسُّل

التوسُّل في معناه واحد، لا يمكن تقسيمه من هذا الوجه، غير أنّه من حيث تعيين المتوسَّل به - أي الوسيلة - يتعدّد بتعدّد الوسائل، فليس كل شيء يصلُح أن يكون وسيلةً إلىٰ الله تعالىٰ، وإنّما هناك وسائل أمر الشارع ببعضها وشرّع البعض الآخر علىٰ نحو الإباحة أو الاستحباب.

وأقسام التوسُّل بهذا الاعتبار هي:

١) التوسُّل بالله تعالىٰ:

الله تبارك وتعالى أقرب إلىٰ المرء من نفسه، وأعلم به من نفسه، وأرحم به من كل شيء، فهو (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) وهو ( أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فجاز التوسُّل به تعالىٰ إليه لنيل رضاه، وهو في نهاية اليقين به تعالىٰ والوثوق به والاعتماد عليه.

وقد جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند النوم: « اللّهم إنّي أعوذ برضاك من

١١٧

سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك » (١) .

وفي هذا الباب يدخل كل دعاء يكون الله جلَّ جلاله هو المخاطب فيه، فقولك: « اللهم اغفر لي ذنبي » ، « اللهم ارحمني » ، « اللهم انّي أسألك رضاك » وغير ذلك إنّما هو توسُّل بالله تعالىٰ لنيل المغفرة، والرحمة، والرضوان.

ومن مفاتح هذا الباب: قوله تعالىٰ: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٢) .

وقوله تعالىٰ: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (٣) .

- وممّا يظهر فيه معنىٰ التوسُّل من هذا القسم، الدعاء المأثور: « اللهم إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجأة عقوبتك، ومن جميع سخطك » (٤) .

- وكم هي جلية عظمة هذا القسم من التوسُّل، لما يتميّز به من درجات اليقين بالله والإحساس الأكبر بالقرب منه، كما نلمسه في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمِنني عليك، ولا حصنٌ يحجبني عنك، ولا ملاذ ألجأ إليه منك.. ولا أستشهد علىٰ صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً... ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من

_________________________________

(١) خرّجه الحافظ العراقي في ذيل ( إحياء علوم الدين ) عن النسائي في « اليوم والليلة » / ١٤٤٤ من حديث علي (ع) - الغزالي / إحياء علوم الدين ١: ٥٥٤.

(٢) سورة غافر: ٤٠ / ٦٠.

(٣) سورة البقرة: ٢ / ١٨٦.

(٤) صحيح مسلم / ٢٧٣٩ من حديث ابن عمر. كذا خرّجه العراقي في ذيل ( إحياء علوم الدين ) ١: ٥٤٦.

١١٨

وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك » (١) .

فهو عليه‌السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه، وينحّي كل وسيلة، رغم إمكان الاستشفاع والتوسل، كما هو واضح في قوله: « ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من وظائف فروضك » فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدّم طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرّط في أداء شيء من وظائف الفروض.

إنّه يجعل الله تعالىٰ هو شفيعه وهو وسيلته إلىٰ القرب منه ونيل رضاه.

- ومن دعائه عليه‌السلام : « وأشبه الأشياء بمشيّتك، وأولىٰ الأمور بك في عظمتك، رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك » (٢) .

- وله عليه‌السلام أيضاً: « وياغوثَ كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد » (٣) .

- وقوله عليه‌السلام أيضاً: « وبك استغاثتي إن كَرِثْتُ » (٤) .

- وقوله عليه‌السلام : « واستجير بك اليوم من سخطك، فصلِّ علىٰ محمّدٍ وآله وأجرني » (٥) .

- وقوله الذي يحقّق هذه المعاني كلها: « فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، عالماً أنّه لا يُضطَهَدُ من آوى إلىٰ ظلِّ كنفِك، ولا يفزع من لجأ إلىٰ معقِل انتصارك » (٦) .

_________________________________

(١) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٣٢.

(٢) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٠.

(٣) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٦.

(٤) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٢٠.

(٥) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٨.

(٦) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٩.

١١٩

٢) التوسُّل بأسماء الله الحسنىٰ وصفاته جلّ جلاله

قال تعالىٰ: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (١) .

وهو أمر صريح بدعاء الله تعالىٰ بأسمائه الحسنىٰ، وغالباً ما يأتي الدعاء بالأسماء الحسنىٰ علىٰ صيغة التوسُّل والاستغاثة، وهو إذ يؤكّد أنّ الدعاء هو توسُّل واستغاثة بالله تعالىٰ إليه ولنيل المطلوب لديه، يضيف أُسلوباً جديداً من أساليب التوسُّل والاستغاثة.. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لله تسعة وتسعون اسماً، من دعا الله بها استجيب له » (٢) .

- وقد جاء في دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث » .

- وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم ابنته فاطمة عليها‌السلام أن تقول: « يا حي يا قيّوم، يا بديع السماوات والاَرض، لا إله إلّا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين، ولا إلىٰ أحدٍ من خلقك » (٣) .

- ومن حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أصاب عبداً قطّ همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همّي وغمّي؛ إلّا أذهب الله

_________________________________

(١) سورة الأعراف: ٧ / ١٨٠.

(٢) الشيخ الصدوق / التوحيد: ١٩٥ / ٩.

(٣) أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: ٤٧ - ٤٨.

١٢٠

همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحاً ».

قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلّمها؟ يريدون هذه الكلمات.

قال: « ينبغي لمن سمعها أن يتعلّمها » (1) .

- وأخرج الترمذي من حديث بريدة: أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع رجلاً يقول: ( اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلّا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطىٰ » (2) .

- وأخرج الترمذي أيضاً من حديث أنس بن مالك أنّه كان جالساً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجل يصلّي، فدعا الرجل: ( اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنّان، بديع السماوات والاَرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيّ يا قيّوم ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدرون بمَ دعا الله؟ دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطىٰ » (3) .

- ومن حديث محجم بن الادرع، أخرجه الحاكم: دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد، فإذا هو برجل قد صلّىٰ صلاته وهو يتشهَّد ويقول: اللَّهم إنِّي أسألك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنَّك أنت الغفور الرحيم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد غُفر له، قد غُفر، قد غُفر له » قال الحاكم: صحيح علىٰ شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (4) .

_________________________________

(1) مسند أحمد 1 / 391، وابن تيمية / المصدر السابق: 48 - 49.

(2) الجامع الصحيح للترمذي 5: 515 / 3475.

(3) المصدر السابق / 3544.

(4) المستدرك 1: 400 / 985.

١٢١

والحديث في مثل هذا وأشباهه كثير جداً.

وفي الدعاء النبوي الشريف: « اللَّهم إنِّي أسألك باسمك الأعظم » (1) ، « اللَّهم إنِّي أسألك باسمك المخزون المكنون » (2) ، « اللَّهم إنِّي أسألك بأسمائك الحسنىٰ » (3) .

- وفي دعاء الإمام السجّاد عليه‌السلام : « فأسألك اللَّهم بالمخزون من أسمائك » (4) .

- وفي دعاء الإمام الباقر عليه‌السلام : « اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم، الأعزّ الأجل الأكرم، الذي إذا دُعيت به علىٰ مغاليق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت، وإذا دُعيت به علىٰ مضايق أبواب الاَرض للفرج انفرجت... » الدعاء (5) .

والتوسُّل بأسماء الله الحسنىٰ كثير جدّاً في الدعاء المأثور، وعليه إجماع المسلمين، لا يخالف فيه أحد.

- ومن صريح التوسُّل بصفاته: دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون » (6) .

- ودعاؤه أيضاً: « اللهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وآله، وشفّع في خطاياي كرمك.. اللهم ولا شفيع لي إليك فليشفع لي فضلك » (7) .

_________________________________

(1) كنز العمال / 3217 و 3877.

(2) الدر المنثور 4: 9.

(3) كنز العمال / 3782.

(4) الصحيفة السجّادية / الدعاء 50.

(5) مصباح المتهجّد / للشيخ الطوسي: 374.

(6) الصحيفة السجّادية / الدعاء 16.

(7) الصحيفة السجّادية / الدعاء 31.

١٢٢

- وفي الدعاء النبوي الشريف: « اللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك » (1) .

« اللهم إنّي أعوذ بنور وجهك الكريم وكلماتك التامّة » (2) .

3) التوسُّل بالثناء علىٰ الله والصلاة علىٰ النبيِّ وآله:

وهو أن يستفتح الداعي دعاءه بحمد الله تعالىٰ بما هو أهل له من الحمد، والثناء عليه، وأن يصلّي علىٰ النبي محمّدٍ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ذلك أقرب في استجابة الدعاء ونيل المطلوب.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربِّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتىٰ يبدأ بالثناء علىٰ الله عزّ وجلّ والمدح له، والصلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ يسأل الله حاجته » (3) .

وقال: « إنّ العبد لتكون له الحاجة إلىٰ الله تعالىٰ فيبدأ بالثناء علىٰ الله والصلاة علىٰ محمّد وآله حتىٰ ينسىٰ حاجته، فيقضيها من غير أن يسأله إيّاها » (4) .

وفي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: « لا يزال الدعاء محجوباً حتىٰ يُصلّىٰ عليَّ وعلىٰ أهل بيتي » (5) .

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام : « كلُّ دعاءٍ محجوب حتىٰ يُصلّىٰ علىٰ محمد وآل

_________________________________

(1) مسند أحمد 1: 96، 6: 201.

(2) سنن أبي داود / 5052.

(3) الكافي 2: 351 / 1.

(4) بحار الأنوار 93: 312.

(5) كفاية الأثر: 29.

١٢٣

محمّد » (1) .

من هنا تجد الحمد لله والثناء عليه والصلاة علىٰ النبي وآله تتصدّر الكثير من الأدعية المأثورة، ولعلّ أوضح ما تكتشف فيه هذه الظاهرة هي أدعية الإمام السجّاد عليه‌السلام في الصحيفة السجّادية التي تكاد كلّها تستهل بالحمد والصلاة، بل إنّ الصلاة علىٰ النبي وآله تتصدّر الغالبية العظمىٰ في فقراتها.

ومن صريح دعائه متوسّلا بالصلاة، قوله عليه‌السلام : « وصلِّ علىٰ محمّدٍ وآله صلاةً دائمةً ناميةً، لا انقطاع لأبدها، ولا منتهىٰ لأمدها، واجعل ذلك عوناً لي، وسبباً لنجاح طلبتي، إنّك واسع كريم » (2) .

4) التوسُّل بالقرآن الكريم

كما ورد سؤال الله تعالىٰ بأسمائه وصفاته وأفعاله، ورد أيضاً سؤاله جلّ شأنه بالقرآن الكريم، وهو كتابه المنزل وكلامه المحكم.

عن عمران بن الحصين: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: « اقرأوا القرآن، واسألوا الله تبارك وتعالىٰ به، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس » (3) .

فكما يفيده عموم اللفظ من إرادة القربة ونيل الثواب والمنزلة بقراءة القرآن، فإنّه يفيد أيضاً جواز سؤال الله تعالىٰ به، وتقديمه بين يدي الدعاء.

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام ما يبيِّن ذلك، قال عليه‌السلام : « واعلموا أنّ هذا القرآن هو

_________________________________

(1) مجمع الزوائد 10: 160 وقال: رواه الطبراني في ( الأوسط ) ورجاله ثقات.

(2) الصحيفة السجّادية / الدعاء 13.

(3) مسند أحمد 4: 445.

١٢٤

الناصح الذي لا يغشّ... فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبِّه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد إلىٰ الله تعالىٰ بمثله » (1) .

وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « واجعل القرآن وسيلةً لنا أشرف منازل الكرامة...

« اللهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وآل محمّدٍ واحطط بالقرآن عنّا ثقل الأوزار...

« وهوّن بالقرآن عند الموت علىٰ أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين.. » (2) .

وفي حديث أهل البيت عليهم‌السلام : « اللهم إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنىٰ، وما يخاف ويرجىٰ، أن تجعلني من عتقائك من النار » (3) .

وممّا لا نزاع فيه أنّ القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تعلّموا القرآن فإنّه شافع يوم القيامة » (4) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة » (5) .

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام في القرآن، وقد تقدّم طرف منه، يقول: « واعلموا أنّه شافعٌ مشفَّع، وقائلٌ مصدَّق، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه » (6) .

_________________________________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 176، ص260 - تحقيق صبحي الصالح.

(2) الصحيفة السجّادية / الدعاء 42.

(3) الإقبال / لابن طاووس: 41.

(4) مسند أحمد / 22219.

(5) مسند أحمد / 6637.

(6) نهج البلاغة / الخطبة 176.

١٢٥

5 ) التوسُّل بالأيّام المباركة

الأيام التي جعل الله تعالىٰ لها شأناً خاصّاً هي الأُخرىٰ باب من أبواب التوسُّل والاستشفاع.

فقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام في شهر رمضان المبارك: « اللهم إنّي أسألك بحقِّ هذا الشهر » (1) .

6) التوسُّل بالأعمال الصالحة

إذا كان المراد بقوله تعالىٰ: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) هو إتيان الطاعات المقرِّبة إلىٰ الله تعالىٰ، كما تقدّم عن المفسّرين، فالطاعات إذن هي الوسيلة إليه تعالىٰ هنا، وبها يتوسَّل العبد لنيل القربة والمنزلة عند بارئه.

ولم يقتصر التوسُّل بالأعمال الصالحة علىٰ أدائها فقط، بل تضمّن أيضاً التوسُّل بها إلىٰ الله تعالىٰ بالدعاء رجاءً لنيل المطلوب، من كشف الغم والهم، أو رفع الدرجة، ونيل الرضوان.

وهذا المعنىٰ منطوٍ في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام بعد أن بنيا البيت العتيق، إذ قدَّما عملهما المبارك بين يدي الدعاءِ، قال تعالىٰ: ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (2) .

_________________________________

(1) الصحيفة السجّادية / الدعاء 44، وله تتمة تأتي في محلِّها.

(2) سورة البقرة: 2 / 127 - 128.

١٢٦

وروىٰ البخاري وغيره حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصُّ علىٰ أصحابه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسّلوا بأعمالهم الصالحات ففرج عنهم، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم المطر، فآووا إلىٰ غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلّا الصدق، فليدعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنّه صدق فيه.

فقال واحد منهم: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي علىٰ فِرْقٍ (1) من أرز، فذهب وتركه، وإنّي عمدتُ إلىٰ ذلك الفِرْق فزرعته، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلىٰ تلك البقر فَسُقها، فقال لي: إنّما لي عندك فِرْق من أرُز! فقلت له: اعمد إلىٰ تلك البقر، فإنّها من ذلك الفِرْق.. فساقها.. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا... فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلَّ ليلةٍ بلبن غنم لي، فأبطأتُ عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون (2) من الجوع فكنت لا أسقيهم حتىٰ يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فلم أزل أنتظر حتىٰ طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا.. فانساحت عنهم الصخرة حتىٰ نظروا إلىٰ السماء.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبِّ الناس إليَّ،

_________________________________

(1) الفِرْق: القسم من الشيء إذا انفصل عنه.

(2) أي يتصايحون من الجوع.

١٢٧

وأنّي راودتها عن نفسها، فأبت، إلّا أن آتيها بمئة دينار، فطلبتها حتىٰ قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعت بين رجليها قالت: اتقِ الله، ولا تفضّ الخاتم إلّا بحقِّه! فقمت وتركت المئة دينار.. فإن كنت تعلم انّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنّا... ففرّج الله عنهم فخرجوا » (1) .

ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بهذا الحديث أن يمتّع أصحابه بقصةٍ من قصص الغابرين، إنّما كان يريد ما فيها من دروس وعبر، فهي بعد ما تتركه من أثر وثيق في شحذ الأرواح وزيادة اليقين، تؤدّي دور التعليم لواحد من سبل الخلاص من الشدائد، ألا وهو التوسُّل بالأعمال الصالحات.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد بأصحاب الرقيم في قوله تعالىٰ: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) (2) هم هؤلاء النفر الثلاثة.

قال الطبرسي، في ذكر الوجوه الواردة في معنىٰ الرقيم: وقيل أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار، فانسدّ عليهم، فقالوا: ليدعُ الله تعالىٰ كل واحد منّا بعمله حتىٰ يفرّج الله عنّا، ففعلوا، فنجّاهم الله. قال: رواء النعمان بن بشير، مرفوعاً (3) .

- وفي هذا الباب أيضاً التوسُّل بالكشف عن الاعتقاد المرضي عند الله جلّ شأنه، كالذي يستفاد من قوله تعالىٰ: ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (4) . فقدّموا الإيمان وسيلةً بين يدي دعائهم.

_________________________________

(1) صحيح البخاري 4: 173 - كتاب الأنبياء، الباب 53.

(2) سورة الكهف: 18 / 9.

(3) مجمع البيان 6: 697 - 698.

(4) سورة آل عمران: 3 / 16.

١٢٨

وفي ذلك من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام شيء كثير:

- ففي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: « اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الأحد.. » (1) .

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهم أنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك الله لا إله إلّا أنت » (2) .

- وفي دعاء الإمام زين العابدين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ووسيلتي إليك التوحيد، وذريعتي أنّي لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذ معك إلهاً » (3) .

7) التوسُّل بدعاء الغير

للمؤمن عند الله تعالىٰ كرامة.. من هنا جعل الله للمؤمن شفاعةً في إخوانه وذويه من المؤمنين يوم القيامة، بل في الدنيا أيضاً، ففي الحديث الشريف: « قد أَجَرْنا مَنْ أجَرْتِ أُمَّ هانئ » (4) لمّا استجار بها قوم من المشركين يوم الفتح، والجوار معروف في الإسلام ومحفوظ.

ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن في الغيب من الدعوات المجابة، ومن الدعوات التي يستحب للمؤمن فعلها.

ففي الحديث الشريف: « إنّ دعوة المسلم مستجابة لاَخيه بظهر الغيب » (5) .

_________________________________

(1) سنن الترمذي / 3475.

(2) الترغيب والترهيب / للمنذري 2: 485.

(3) الصحيفة السجّادية / الدعاء 49.

(4) أخرجه مالك في ( الموطأ ) والبخاري ومسلم في الصحيحين، أنظر: سير أعلام النبلاء 2: 313، 4: 420.

(5) مسند أحمد 5: 195.

١٢٩

بل قد جاء في الحديث الشريف الحثُّ علىٰ التوسُّل بدعاء بعض المؤمنين بأعيانهم، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ رجلاً من أهل اليمن يقدم عليكم.. يقال له أُوَيس، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم » (1) .

وقصة عمر بن الخطاب في طلب أُوَيس القرني والتماس دعوته مشهورة (2) .

في ترجمة أُوَيس، قال الذهبي بعد أن ذكر عدّة أحاديث في التماس عمر دعاءه، قال: نادىٰ عمر بمنىً علىٰ المنبر: يا أهل قَرَن.. فقام مشايخ، فقال لهم عمر: أفيكم من اسمه أُوَيس؟

فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار، لا يألَف، ولا يؤلَف.

قال: ذاك الذي أعنيه، فإذا عدتم فاطلبوه، وبلّغوه سلامي وسلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: فقال أُوَيس - لمّا بلغه ذلك -: عَرَّفني، وشهَّر باسمي؟! اللّهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وعلىٰ آله، السلام علىٰ رسول الله، ثم هام علىٰ وجهه، فلم يُوقَف له بعد ذلك علىٰ أثر دهراً، ثمَّ عاد في أيّام علي عليه‌السلام ، فاستشهد معه بصفّين، فنظروا فإذا عليه نيّف وأربعون جراحة (3) .

وكل هذا صريح في التوسُّل بدعاء المؤمن، فهو مرتبة من مراتب التوسُّل.

وأشرف المؤمنين علىٰ الإطلاق هو سيد البشر أجمعين محمّد المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمر الله تعالىٰ بالتماس دعوته وإتيانه لطلب دعائه

_________________________________

(1) صحيح مسلم / 2542.

(2) انظر: سير أعلام النبلاء 4: 20 - 32.

(3) سير أعلام النبلاء 4: 32، تاريخ الإسلام 2: 174، 175.

١٣٠

واستغفاره.

قال تعالىٰ: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (1) .

وقال تعالىٰ: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (2) .

والتوسُّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهور بين الصحابة.

قال ابن تيمية: وذلك التوسُّل به أنّهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسّلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله لنا أن يُمسكها عنّا.

فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه، ثمَّ قال: « اللّهم حوالينا ولا علينا، اللّهم علىٰ الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر » ، قال، وأقلعت، فخرجنا نمشي في الشمس (3) .

ذلك كان بعد أن سألوه الاستسقاء، فاستسقىٰ لهم، فسقاهم الله مطراً غزيراً.. روىٰ البخاري ومسلم: أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال

_________________________________

(1) سورة النساء: 4 / 64.

(2) سورة المنافقون: 63 / 5.

(3) زيارة القبور: 41 - 42.

١٣١

وانقطعت السبل، فادعُ لنا الله تعالىٰ يغيثنا، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه ثمَّ قال: « اللّهم أغثنا، اللّهم أغثنا » ، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلمّا توسّطت السماء انتشرت، ثمَّ أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً (1) . أي أسبوعاً كاملاً.

وفي سنن أبي داود، عن جبير بن مطعم، قال: أتىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق لنا، فإنّا نستشفع بك علىٰ الله، ونستشفع بالله عليك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ويحك، أتدري ما تقول؟! إنّه لا يُستشفع بالله علىٰ أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك » (2) .

فقد أنكر عليه قوله « نستشفع بالله عليك » ولم ينكر عليه قوله « نستشفع بك علىٰ الله ».

وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أنس بن مالك: جاء أعرابي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح، ولا بعير ينطّ، وأنشد:

أتـيتك والعــذراء تدمي لبانـها

وقد شُغـلِت أمُّ الصبيِّ عن الطفلِ

وألقـى بكفّيه الفـتىٰ لاستــكانةٍ

من الجوع هوناً ما يمرُّ ولا يحـلي

ولا شيء مـمّا يأكل الناس عندنا

سوىٰ الحنظل العامي والعَلْهَز الفسلِ

ولـيــس لنـا إلّا إليـك فرارنا

وأين فرار الناس إلّا إلىٰ الرســلِ

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجرُّ رداءه حتىٰ صعد المنبر، فرفع يديه، ثمَّ قال: « اللّهم

_________________________________

(1) صحيح البخاري / كتاب الإستسقاء، باب 643، صحيح مسلم / كتاب صلاة الإستسقاء.

(2) سنن أبي داود 4: 232 - كتاب السنّة.

١٣٢

اسقنا.. » وذكر الدعاء، ثمَّ قال فما ردَّ النبي يده حتىٰ ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يضجّون: الغرق الغرق! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حوالينا ولا علينا » فانجاب السحاب عن المدينة حتىٰ أحدق بها كالأكليل، وضحك النبي حتىٰ بدت نواجذه، ثمَّ قال: « لله درُّ أبي طالب، لو كان حيّاً قرَّت عيناه، مَن يُنشِدنا قوله؟ » فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « يا رسول الله كأنّك تريد قوله:

وأبيضُ يُستسقىٰ الغَمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ

يطوف به الهُلّاك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

كذبتم وبيت الله نُبزىٰ محمّداً

ولمّـا نُـطاعِن دونه ونُناضِلِ

ونُسْلِمَهُ حتىٰ نُـصرَّع دونه

ونـذهل عـن أبـنائنا والحلائلِ

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أجل » فقام رجل من كنانة، رضي الله تعالىٰ عنه، فقال:

لك الحمد والحمد ممّن شكر

سقينا بوجه النبيِّ المطر

إلى قوله:

فكان كما قال عمُّه

أبو طالبٍ أبيض ذو غرر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن يك شاعرٌ أحسن فقد أحسنت » (1) .

وقال ابن تيمية: وفي الصحيح أنّ عبدالله بن عمر قال: إنّي لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول:

وأبيض يُستسقىٰ الغمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ (2)

_________________________________

(1) دلائل النبوة 6: 140 - 142، شفاء السقام: 170 - 171.

(2) زيارة القبور: 42.

١٣٣

وهذا ممّا لا خلاف فيه.

8) التوسُّل بالأنبياء والصالحين

وفي هذا القسم من التوسُّل أقسام، هي:

أ - التوسُّل بدعائهم في حياتهم؛ وقد تقدّم في الفقرة السابقة.

ب - التوسُّل بهم في حياتهم.

ج - التوسُّل بهم وبدعائهم بعد موتهم.

والقسمان الأخيران ( ب، ج ) ممّا وقع فيه الكلام الذي يستدعي مزيداً من النقد والمطارحة، لذا فقد أفردنا له الفصل الآتي، مستوعبين خلاله الشبهات المثارة حول هذين القسمين من التوسُّل وردودها.

١٣٤

الفصل الثاني

التوسُّل بالأنبياء والصالحين

تقدّم أنّ هذا القسم من التوسُّل ينقسم إلىٰ ثلاثة أقسام، كما تقدّم بحث القسم الأول منه وهو التوسُّل بدعائهم في حياتهم،ويتكفّل هذا الفصل بحث القسمين الآخرين:

القسم الأول: التوسُّل بالأنبياء والصالحين في حياتهم

المراد هنا التوسُّل بالأنبياء والصالحين بأنفسهم وذواتهم، لما لهم عند الله من شأن ومنزلة، وأمثلته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته كثيرة.

- فقد تقدّم قول الأعرابي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله، ونستشفع بالله عليك ) وردَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه قوله الأخير ( نستشفع بالله عليك ) مقرّاً قوله الأول ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ). وهو صريح في جواز الاستشفاع بالنبي نفسه إلىٰ الله تعالىٰ، لمنزلته الشريفة عنده ومقامه المحمود لديه.

- كما تقدّم ذكر أبيات أبي طالب في الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه، وليس

١٣٥

بدعائه وحسب، وإقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الاَبيات واستبشاره بها.

- وفي الصحيح الثابت أيضاً توسُّل الأعمى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعاء علَّمه إيّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه..

عن عثمان بن حنيف: إنّ رجلاً ضريراً أتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرتَ، وهو خير لك » .

قال: فادعه.

إلىٰ هنا يظهر من الحديث أنّ الرجل كان يتوسَّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له، غير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سينقله إلىٰ أُسلوب آخر من أساليب التوسُّل، فبدلاً من أن يدعو له بالشفاء، علَّمه دعاءً يدعو به صاحب الحاجة نفسه..

يقول الحديث: فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتِ الميضأة فتوضَّأ، ثمَّ صلِّ ركعتين، ثمّ قل: اللّهم إنّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد، إنّي أتوجَّه بك إلىٰ ربِّي فيجلِّي لي عن بصري، اللّهم فشفِّعه فيَّ » .

قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرَّقنا، وما طال بنا الحديث حتىٰ دخل علينا الرجل كأنَّه لم يكن به ضرٌّ قط (1) .

ابن تيمية روىٰ هذا الخبر عن البيهقي، ثمَّ قال:

( قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه، بطوله. ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمِّه عثمان بن

_________________________________

(1) مسند أحمد 4: 138. الجامع الصحيح للترمذي ح / 3578 - كتاب الدعوات، سنن ابن ماجة ح / 1385.

١٣٦

حنيف ). ثمَّ واصل ابن تيمية قائلاً: ( قلتُ: وقد رواه ابن السُنّي في كتاب عمل اليوم والليلة، من طريقين، وشبيب هذا صدوق روىٰ له البخاري ) (1) .

وقال أيضاً: ( وقد روىٰ الطبراني هذا الحديث في المعجم ) ثمَّ ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر إلىٰ أن قال: ( قال الطبراني: روىٰ هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر - واسمه عُمير بن يزيد - وهو ثقة، تفرَّد به عثمان بن عمير عن شعبة، قال أبو عبدالله المقدسي: والحديث صحيح ). قال: ( قلتُ: والطبراني ذكر تفرُّده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبيِّن أنّه لم ينفرد به عثمان بن عمير ) (2) .

لكنّه مع هذا كلّه، ومع وضوح النص النبوي، يقول: فهذا طلبَ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجّهه بنبيِّه إلىٰ الله، وهو كتوسُّل غيره من الصحابة به إلىٰ الله، فإنّ هذا التوجّه والتوسُّل هو توجّه وتوسُّل بدعائه وشفاعته! (3) .

ويستنتج من ذلك وأمثاله ممّا تقدّم ذكره أنّ الصحابة كانوا يطلبون من النبي الدعاء، وهذا مشروع في الحيّ (4) .

وفي هذا مصادرة علىٰ الحقيقة غير خافية، ففرق كبير بين أن يطلب أحد الدعاء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيدعو له، وبين أن يطلب منه الدعاء، فيعلّمه أن يدعوا بنفسه ويتوسَّل في دعائه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيلةً وشفيعاً. ففي الأول يتولَّىٰ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_________________________________

(1) التوسُّل والوسيلة: 101، 102، 103.

(2) التوسُّل والوسيلة: 105 - 106.

(3) التوسُّل والوسيلة: 92، وكتاب الزيارة / لابن تيمية أيضاً: 47 - المسألة الرابعة.

(4) التوسُّل والوسيلة: 20، كتاب الزيارة: 86 - المسألة السابعة.

١٣٧

الدعاء للسائل الذي توسَّل بدعائه له، وهو مرتبة من مراتب التوسُّل، وفي الثاني يتولَّىٰ المرء نفسه الدعاء متوسِّلاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

والأمر واضح، لاسيما وفي الحديث عبارة صريحة تقول: « يا محمّد يا رسول الله، إنّي أتوجّه بك إلىٰ ربِّي في حاجتي » .

فهو توجّه صريح بمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه، وتوسل به نفسه إلىٰ الله تعالىٰ، ولا يؤثر علىٰ هذا المعنى ما جاء بعده من قوله « اللّهم فشفّعه فيَّ » لأنّ هذه هي غاية التوسُّل والتوجُّه والاستشفاع، سواء كان توسُّلاً بالدعاء، أو كان توسُّلاً بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما أنّ قول الأعرابي المتقدّم الذكر ( ادعُ لنا ) الذي يفيد التوسُّل بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلغي دلالة قوله: ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ) بعد إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا القول الذي هو صريح بالتوسُّل بذاته الشريفة.

ومثله في صراحة التوسُّل بذاته الشريفة قول أبي طالب الذي استبشر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وأبيض يستسقىٰ الغمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ

ومثل هذا في الدعاء كثير، نكتفي منه بما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ذكر في دعاء الخارج للصلاة، أن يقول: « اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشاي هذا، فإنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت » .

ثمّ نقل بعض أهل العلم أنّهم قالوا: ففي هذا الحديث أنّه سأل بحقِّ السائلين عليه

١٣٨

وبحقِّ ممشاه إلىٰ الصلاة، والله تعالىٰ قد جعل علىٰ نفسه حقّاً، قال الله تعالىٰ: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ونحو قوله: ( كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا ) (2) .

وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: « يا معاذ أتدري ما حقُّ الله علىٰ العباد؟ » .

قال: الله ورسوله أعلم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حقُّ الله علىٰ العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حقُّ العباد علىٰ الله إذا فعلوا ذلك؟ فإنّ حقَّهم عليه أن لا يعذّبهم » .

وقد جاء في غير حديث: « كان حقّاً علىٰ الله كذا وكذا » كقوله: « من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها - في الثالثة أو الرابعة - كان حقّاً علىٰ الله أن يسقيه من طينة الخبال » .

قيل: وما طينة الخبال؟

قال: « عصارة أهل النار » (3) .

وكل هذا دليل علىٰ صحة التوسُّل بالصالحين أنفسهم، وليس بدعائهم وحسب.

بل في هذا الحديث دلالة واضحة علىٰ جواز التوسُّل بهم بعد موتهم، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بحقِّ السائلين » لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم عليه‌السلام إلىٰ يوم السائل هذا، بل يستوعب الملائكة ومؤمني الجن أيضاً، ولا يمكن حصره

_________________________________

(1) سورة الروم: 30 / 47.

(2) سورة الفرقان: 25 / 16.

(3) زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 39 - 40.

١٣٩

بالسائلين هذا اليوم أو من الأحياء، إذ لا دليل علىٰ هذا يحمله الحديث، ولا مخصص له من خارجه أيضاً، وسيأتي الكلام في هذا في الفقرة اللاحقة.

كما أنّ في الحديث شاهد آخر علىٰ التوسُّل بالأعمال الصالحة: « بحقِّ ممشاي هذا... » .

القسم الثاني: التوسُّل بالأنبياء والصالحين بعد موتهم

وهذا هو أكثر ما وقع فيه الخلاف، لاسيما من قبل ابن تيمية ومقلِّديه من سلفية ووهابية، والتحقيق يثبت أنّهم ليسوا علىٰ شيء في ما ذهبوا إليه، وليس لهم إلّا الرأي الذي لا يشفع له دليل، بل الدليل الذي لا يستطيعون إنكاره قائم علىٰ خلاف ما يقولون، وسنرىٰ هنا كيف يجادل ابن تيمية في أدلة هذا القسم بعد أن يثبت صحة كل واحد منها، دون أن يستند علىٰ شيء البتة..

وبعد أن قدّمنا الكلام في دلالة الحديث السابق « بحقِّ السائلين عليك » علىٰ التوسُّل بالموتىٰ، إذ ليس في الحديث ولا خارجه ما يفيد حصره بالأحياء، نشرع باختصار كلام ابن تيمية في هذا الموضوع، والردِّ عليه، مقدِّمين في الردِّ ما أثبت صحته بنفسه.

يقسِّم ابن تيمية التوسُّل بالاَنبياء والصالحين إلىٰ ثلاث درجات، ويقطع بحرمتها جميعاً، وهي:

الدرجة الأولىٰ:

أن يسأل الميتَ حاجتَه، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دَينه، أو ينتقم له من عدوِّه، ونحو ذلك، ممّا لا يقدر عليه إلّا الله عزَّ وجلَّ.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155