ثمرات الأعواد الجزء ١

ثمرات الأعواد0%

ثمرات الأعواد مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 284

ثمرات الأعواد

مؤلف: علي بن الحسين الهاشمي الخطيب
تصنيف:

الصفحات: 284
المشاهدات: 62489
تحميل: 5688


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 284 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62489 / تحميل: 5688
الحجم الحجم الحجم
ثمرات الأعواد

ثمرات الأعواد الجزء 1

مؤلف:
العربية

المطلب الرابع عشر

في زيارة الحسينعليه‌السلامقبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمووداعه

ذكر صاحب مدينة المعاجز وغيره:

لمّا همّ الحسين عليه‌السلام على الخروج من المدينة إلى مكة أقبل في نصف الليل إلى قبر جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف باكياً، وقال: «السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفتني من اُمّتك، فاشهد عليهم يا رسول الله أنّهم قد خذلوني، وضيّعوني، ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك». ثم قام عليه‌السلام وصف قدميه، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً.

وأرسل الوليد إلى منزله رسولاً لينظر أخرج الحسين عليه‌السلام من المدينة أم لا، فجاء الرسول فلم يصبه في منزله، ورجع وأخبر الوليد بذلك فقال: الحمد لله الذي اخرجه ولم يبتلني بدمه.

قال الراوي: وعند الصباح رجع الحسين عليه‌السلام الى منزله، وفي الليلة الثانية خرج الى القبر ايضاً، فصلى عنده ركعات، ولمّا فرغ من صلاته جعل يقول: (اللّهمّ ان هذا قبر نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأنا اسألك ياذاالجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه، إلّا اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك صلاح». ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريباً من الصباح وضع رأسه على القبر فأغفى،

٨١

فإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل في ركباً من الملائكة ورعيل (1) من الأنبياء، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه، وبين يديه، حتى ضمّ الحسين إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، وقال: (حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب مزملاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء، في عصابة من أُمّتي، وأنت مع ذلك عطشاناً لا تسقى، وظمئاناً لا تروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، حبيبي يا حسين إنّ أباك وعمّك وأخاك قدموا عليَّ، وهم مشتاقون اليك، وإنّ لك في الجنان درجات لن تنالها إلّا بالشهادة».

قال الراوي: فجعل الحسين عليه‌السلام يبكي، ويقول: يا جداه لا حاجة لي بالرجوع إلى الدنيا، خذني إليك وأدخلني معك في قبرك:

ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح

علي يا جد من بلوى زماني أستريح

ضاق بي يا جد من فرط الاسى كل فسيح

فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين

جدُ صفو العيش من بعدك بالأكدار شيب

وأشاب الهم رأسي قبل أبان المشيب

فعلى من داخل القبر بكاء ونحيب

ونداء بافتجاع يا حبيبي يا حسين

أنت يا ريحانة القلب حقيق بالبلا

إنما الدنيا أعدت لبلاء النبلا

لكن الماضي قليل بالذي قد أقبلا

فاتخذ درعين من حزم وعزم سابغين

ستذوق الموت ظلماً ظاميا في كربلاء

وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا

وكأن بلئيم الأصل شمر قد علا

صدرك الطاهر بالسيف يحز الوجدين

وكأني بالأيامي من بناتي تستغيث

لغباً تستعطف القوم وقد عز المغيث (2)

قد برى اجسامهن الضرب والسير الحثيث

بينها السجاد في الأصفاد مغلول اليدين (3)

__________________

(1) الرعيل: اسم كل قطعة متقدمة من خيل أو رجال أو طير، جمعه: رعال. انظر: القاموس المحيط.

(2) لغب: «وتلغّب السيرُ فلاناً» أتعبه أشد التعب. انظر: مجمع البحرين.

(3) للدمستاني رحمه الله، انظر: ديوان الدمستاني.

٨٢

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب الجزيل والثناء الجميل، حبيبي يا حسين فإنّك وأباك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلون الجنة.

قال الراوي: فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه فزعاً مرعوباً، ورجع إلى منزله وقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب أهل بيت أشد غمّاً من آل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أكثر باك وباكية، لأنهم يريدون أن يفارقوا سيدهم وزعيمهم، وهم مع ذلك يعلمون أن ذاك أمر من الله ومن رسوله، إذ يقول له جدّه في منامه: يا بني لابد لك من الرجوع الى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب الجزيل والثناء الجميل. فكأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له، أي بني إنّ حياة هذه الأُمّة بشهادتك.

في الحقيقة إنّ الحسين عليه‌السلام صار هو المعلم الروحاني لأُمّة جده، فأخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية بقتله كما تشير بذلك الزيارة:

«أخرج عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة، والذي جرى عليه عليه‌السلام نزلت به صحف مكرمة وذلك عند موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

يروى أنّه استدعى علياً، وأعطاه اثنى عشر صحيفة، وقال: «يا علي هذه الصحف مختومة من رب العزة لك وللأئمّة من ذريّتك، فانظر أنت ما في صحيفتك واعمل بها». فكان أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظر في صحيفته ويعمل على ما فيها.

ولمّا حضرته الوفاة استدعى ولده الحسن عليه‌السلام ، وأعطاه أحد عشر صحيفة وأخبره بذلك، ولمّا أخذ الحسن عليه‌السلام صحيفته عمل على ما فيها وبما أُمر به إلى أن حضرته الوفاة استدعى الحسين عليه‌السلام وأعطاه عشرة صحائف وأخبره بذلك، فعمل الحسين على ما فيها وبما اُمر به، حتى إذا جاء كربلاء وقتلت إخوته واولاده وأنصاره وبقي وحيداً فريداً، ناداه منادي: «يا حسين أين المهد بع نفسك وأنا

٨٣

المشتري». فقام عليه‌السلام في ذلك المقام الرهيب ووقف تجاه أعدائه وهم يريدون قتله، ولمّا حمل عليهم ونازلهم، وقاتلهم مقاتلة الأبطال حتى دمّر فيهم وأزالهم عن مواقفهم، فقلب القلب على الجناحين، والظهير على الكمين، ولمّا نظر قائد الجيش إلى الشجاعة الحسينية قال لأصحابه وهو مشرف على الميدان ينظر إلى الحسين عليه‌السلام : والله لإن بقي الحسين على هذه الحالة إفنانا عن آخرنا، انظروا كيف الحيلة إلى قتله؟

فقال شبث بن ربيعي: يا أمير الحيلة أن تأمر الجيش فيفترق عليه أربعة فرق، فرقة بالسيوف، وفرقة بالرماح، وفرقة باسهام، وفرقة بالحجارة؛ فأنفذ ابن سعد ما أشار عليه شبث بن ربيعي، ونادا منادى العسكر: افترقوا عليه اربعة فرق، فرق بالسيوف والرماح والسهام والحجارة.

فوجّهوا نحوه في الحرب أربعة

والسيف والسهم والخطي والحجرا (1)

__________________

(1)

(نصاري)

دار العسكر على احسين يا حيف

ناس بالرماح وناس باليسف

يشبه دورها على الليث المخيف

بياض العين بصبيها ايتدور

تلگّه انبالها احسين ابوريده

نوب بالضلوع ونوب بيده

تلايم غيمها واثجل رعيده

او بالزانات فوگ احسين يمطر

ثگل ما يندره ابنشابها امنين

يجيه اوزانها يخطف على احسين

سهم بيده وسهم ابحاجب العين

يويلي وافغرت روحه امن الحر

(دكسن)

صار اشبيح بيه امن المنيّة

ألف نبله يويلي او تسع ميّه

وگف تبة نبل بالغاضريّة

اوزور ارماح شابچ عيب ينطر

* * *

وقف الطرف يستريح قليلاً

فرماه القضا بسهمٍ مُتاحِ

فهوى العرش للثرى وادلهمّت

برمادِ المصابِ منها النّواحي

٨٤

المطلب الخامس عشر

في وداع الحسينعليه‌السلامللهاشميين والهاشميات

وترجمة اُمّ سلمة

يا بنفسي مودّعين وفي العين

بكاها وفي القلوب لظاها

من بحور تضمّنتها قبور

وبدورِ قد غيّبتها رباها

ركبهم والقضا بأضغانهم يس

ري وحادي الردى أمام سراها

والمساعي من خلفهم نادبات

والمعالي مشغولة بشجاها

ساكبات الدموع لا تتلاقى

بين أجفانها وبين كراها

كان يوم خرج الحسين عليه‌السلام من مدينة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم يوم على الهاشميين والهاشميات، إذ إنّ الحسين كان سلوة لهم عن جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن أخيه الحسن عليه‌السلام ، فأقبلت الهاشميات نساء بني عبد المطلب إلى دار الحسين عليه‌السلام لوداعه والتزوّد به ووداع عيالاته وأطفاله، فجعلن يبكين ويندبن، فمشى فيهنّ الحسين عليه‌السلام ، وقال: انشدكن الله أن لا تبدين هذا الأمر، لأنّه معصية لله ولرسوله. فقلن: يا أبا عبد الله فعلا من نتبقى النياحة والبكاء بعدك؟ وهذا اليوم عندنا كيوم مات فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي وفاطمة والحسن عليهم‌السلام ، جعلنا الله فداك يا حبيب الأبرار.

٨٥

قال الراوي: وجاءت اُمّ سلمة (1) وقالت له: يا بني لا تحزن بخروجك إلى

__________________

(1) اُمّ سلمة:

اسمها: هند، وهي من اُمّهات المؤمنين، بنت أبي اُمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية واسم أبيها: حذيفة، وقيل: سيل، ويلقّب: زاد الراكب، لأنّه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه ومعه زاد بل يكفي رفقته من الزاد؛ واُمّها عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك الكنانية، من بني فراس، وكانت زوج ابن عمّها أبي سلمة، فمات عندها، وقد اسلمت قديماً هي وزوجها وهاجر إلى الحبشة فولدت له سلمة. ثم قدما مكة وهاجرا إلى المدينة فولدت له عمر، ودرة، وزينب؛ ولمّا أراد أن يهاجر بها زوجها إلى المدينة منعه رجال من بني المغيرة ونزعوا خطام البعير من يده، فنضب عند ذلك بنو عبد الأسد وهو والي سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به عبد الأسد وتركها زوجها حتى لحق إلى المدينة ففرّق بينها وبين زوجها وابنه فكانت تخرج الى الأبطح تبكي وتولول سبعة أيام، فقال لها قومها: إلحقي بزوجك. فقصدت المدينة، وكان زوجها نازلاً في قرية بني عمرو بن عوف بقباء، فقصدته وقيل: إنّها أوّل امرأه خرجت مهاجرة الى الحبشة، واوّل ضعينة دخلت المدينة.

وقال أرباب التاريخ: ولمّا توفي زوجه وانقضت عدتها خطبها أبو بكر فلم تتزوجه، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يخطبها، فقال للرسول: أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني امرإة غيري وإني امرإة مصيبة، وليس أحد من أوليائي شاهد. فقال: قل لها أما قولك إني امرأة غيري فساعدو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك إني امرأه مصيبة فسلي صبيانك، وأما قولك ليس أحد من أوليائك شاهد فليس أحد من أوليائك شاهد وغاب يكره ذلك، فقالت لإبنها عمر: قم فزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنتها سلمة.

وأخرج ابن سعد من طريق عروة عن عائشة، قالت: لمّا تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ام سلمة حزنت حزناً شديدا لما ذكر لنا من جمالها، فتلطفت حتى رأيتها، فرأيت والله أضعاف ما وصفت، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: وما هي كما يقال، قالت: فرأيتها بعد ذلك فكان ما قالت حفصة، ولكنّي كنت غيري، وكانت امّ سلمة موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ والرأي الصائب، وأشارتها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبة تدل على وفور عقلها وصواب

٨٦

العراق، فإني سمعت جدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: يقتل ولدي الحسين في العراق بأرض يقال لها كربلاء. فقال لها: يا اُمّاه والله إنّي أعلم ذلك وإني مقتول لا محالة وليس لي من هذا بد، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أدفن فيها، وأعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا اُمّاه اريك حفرتي ومضجعي، قال: ثم أشار بيده الشريفة إلى جهة كربلاء.

قال صاحب مدينة المعاجز وإثبات الوصية قال: «بسم الله الرحمن الرحيم» فانخفضت الأرض بإذن الله تعالى حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره. فعند ذلك بكت اُمّ سلمة وسلّمت أمرها إلى الله، فقال لها الحسين عليه‌السلام : يا اُمّاه قد شاء الله أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وحرمي ورهطي ونسائي مسبيين، وأطفالي مشردين.

فقالت ام سلمة: يا أبا عبد الله عندي تربة دفعها اليّ جدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قاروة، فقال عليه‌السلام : والله إني مقتول كذلك، وإن لم أخرج الى العراق يقتلوني.

ثم انه عليه‌السلام أخذ تربة وجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها، وقال لها: اجعليها مع قارورة جدّي رسول الله، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قتلت. فأخذتها اُمّ سلمة ووضعتها مع قارورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

ولمّا سار الحسين عليه‌السلام إلى العراق جعلت ام سلمة كل يوم تتعهّد

__________________

رأيها.

قال صاحب الاستيعاب: شهدت اُم سلمة غزوة خيبر فقالت: سمعت وقع السيف في أسنان مرحب (يعني سيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ) وهي آخر امهات المؤمنين موتاً. توفّيت سنة 63 من الهجرة. انظر: الإستيعاب بهامش الإصابة، وطبقات ابن سعد

(1) إثبات الوصية للمسعودي: 166، ومدينة المعاجز للبحراني:

٨٧

القارورتين حتى إذا كان يوم عاشوراء أقبلت على عادتها لتنظر إلى القارورتين فنظرتهما وإذا بهما دماً عبيطاً، صاحت وولوت وندبت الحسين، فاجتمعن عندها الهاشميات بخبرتهن بالخبر، ووقعت الصيحة بالمدينة، وصار كيوم مات فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصار الناس ينتظرون البريد حتى إذا وافى البريد بقتل الحسين جدّدوا العزاء والنياحة على الحسين عليه‌السلام ، وهكذا اتّصلت النياحة حتى يوم ورد السجاد وزين العابدين عليه‌السلام بعمّاته وبخواته من أسر يزيد (لعنه الله) فاتّصلت الصيحات والنياحات على الحسين، ولمّا دخلت الحوراء زينب الى المدينة صارت إلى قبر جدّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد حفّتها الهاشميّات مشقّقات الجيوب ينادين: وا حسينا. ودخلت زينب على قبر جدّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديه: يا جد إنّي ناعية إليك عزيزك الحسين.

قتلوه بعد علم منهم

أنّه خامس أصحاب الكسا (1)

__________________

(1) وزينب عليها‌السلام تخاطب جدّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسان الحال:

(نصاري)

يجدّي احسينكم رضّوا اضلوعة

او شاف الموت روعه بعد روعه

يصد لعياله او تسچت ادموعه

يخافنها عگب عينه تيسّر

يجدّي احسينكم ذبحوا انصاره

ابو فاضل تكوّر بالمعاره

وجّ ابگلب اخوه حسين ناره

دمع عينه على خدّه تخدّر

(دكسن)

جدّي گوم ذاك احسين مذبوح

على الشاطي وعلى التربان مطروح

يجدّي ما بگت له من الطعن روح

يجدّي گلب اخويه احسين فطّر

(تخميس)

ولو أن أحمد قد رآك على الثرى

لفرشن منه لجسمك الأحشاءُ

أو في الطفوف رأت ظماك سقتك

من ماء المدامع اُمّك الزهراءُ

٨٨

المطلب السادس عشر

في هيئة سفر الحسينعليه‌السلامإلى العراق

لا يعذر الله ابن أحمد أن يرى

عزّ الرشاد بذلة وخضوع

حتى يغض له الوجود مصائبا

تبكي السماء له بحمر دموع

قال أرباب التاريخ: لمّا اراد الحسين عليه‌السلام الخروج من المدينة جمع أولاده وإخوته، وأولاد أخيه وبنو عمومته، ومواليه وجواريه، ثم أمر بإحضار ماءتين وخمسين مركب من الخيل والجمال، لمّا أن احضرت أمر أن تحمل عليها الأثقال ما يحتاجه في الطريق ولوازم السفر، كالخيم والمراجل والأواني والقرب، وكل ما هيئه من الأمتعة، حتى الزعفران والورس، وكثير من الصناديق المملوءة من البرود اليمانية والحلل السندسية، عدا الصناديق التي مُلئت بالدنانير والدراهم، وأمر أيضاً بخمسين شقة من الهوادج حملت على النوق التى أعدها لحمل العائلة من النساء والأطفال والخدم والجواري، وأحضر كل من الهاشميين جواده ثم أمر بإحضار فرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يدعى «المرتجز» (1) فركبه

__________________

(1) المُرتجز: «اسم فرس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سمّي بذلك لجهارة صهيله وحسنه، وكان رسول

٨٩

هو عليه‌السلام ، والمرتجز هو الفرس الذي شهد به خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وكان صاحبه رجلاً من بني مُرّة (1) ، اشتراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه بالمدينة بعشرة أوراق، وقيل: اشتراه رسول الله بأربعة آلاف درهم، واُول غزوة غزا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزوة «اُحد»، وكان من جياد الخيل على ما رواه بن قتيبة في «المعارف» (2) .

ثم لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتقل هذه الجواد إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد ركبه يوم صفين على مارواه نصر بن مزاحم في «كتاب صفين» (3) .

ثم صار من بعده إلى ولده الحسين، فركبه «يوم الطف» ووقف قبالة القوم فخطبهم ووعظهم فلم يتّعضوا، وقال عليه‌السلام : «أنشدكم لله هل تعلمون ان هذه فرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا راكبه؟ قالوا: اللّهمَّ نعم». ولمّا صرع الحسين عليه‌السلام يوم الطف من على ظهره، جعل يحوم حول الحسين عليه‌السلام ، ثم مرّغ ناصيته بدم الحسين ونحا نحو خيم العيال يصهل ويحمحم معلناً بقتل الحسين عليه‌السلام .

قال الراوي: ثم أمر باحضار سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقلّد به، وكان اسمه البتّار، وقيل الرسوب، وقيل العضب، وقيل الحتف (4) ، وكان مكتوبا عليه هذا البيت:

__________________

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشتراه من الأعرابي، وشهد له خزيمة بن ثابت». انظر لسان العرب: 5 / 352 (مادة: رجز).

(1) انظر الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 214، واُسد الغابة للجزري: 1 / 30.

(2) المعارف لابن قتيبة: 149.

(3) وقعة صفين: 403.

(4) ذكر ابن الأثير في تأريخه «أنه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة سيوف، منها: البتّار والحتف والرسوب والعضب»، انظرالكامل في تاريخ ابن الاثير: 2 / 316، وانظر لسان العرب: 1 / 418 ( مادة: رسب )، وانظر اسد الغابة: 1 30.

٩٠

الجبن عار وفي الإقدام مكرمة

والمرء بالجبن لا ينجوا من القدر

وهو الذي أعطاه إلى علي عليه‌السلام «يوم اُحد» على ما ذكره السمعاني «في كتاب الفضائل» وحمله أمير المؤمنين عليه‌السلام في حروبه الثلاث، وقاتل به ثم انتقل بعده إلى ولده الحسين عليه‌السلام وكان يحارب به «يوم الطف»، ولقد استشهد الحسين عليه‌السلام على أهل الكوفة به في خطبته، إذ قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا متقلده؟ قالوا: اللَّهمّ نعم». ولمّا إن قتل عليه‌السلام تكاثرت القوم على سلبه، فأخذه جميع بن الخلق (لعنه الله).

ثم أمر بإحضار درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأفرغها على بدنه الشريف، وكان اسمها الصعديَّة، وقيل: فضة، وقيل: ذات الفضول، وقيل: ذات الوشاح (1) ، ولقد أعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي عليه‌السلام ، فأفرغها على بدنه الشريف أيضاً في حروبه الثلاث، البصرة وصفين والنهروان.

ثم من بعده انتقلت إلى ولده الحسين عليه‌السلام ، وقد لبسها «يوم الطف»، ولمّا أن وعظ القوم وقال لهم فيما قال: «انشدكم الله هل تعلمون أنّ هذا درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم». ولمّا قتل سلام الله عليه أخذها عمر بن سعد قائد الجيش ولبسها، ودخل على عيالات الحسين عليه‌السلام فتقدمت زينب عليها‌السلام وقالت: يا ابن سعد أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه؟!

__________________

(1) قال ابن الأثير في تأريخه: «إنّه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درعاً يقال له «الصعديّة»، واُخرى يقال لها «فضة»، واُخرى يقال لها «ذات الفضول» واخرى يقال لها «ذات الوشاح»، انظر الكامل في التاريخ: 2 / 316.

وفي اُسد الغابة أيضاً قال عز الدين الجزري: كان له (دروع) تسمى: ذات الفضول، وذات الوشاح، وغيرها، انظر اسد الغابة: 1 / 30.

٩١

ثم أمر باحضار عمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان اسمها «السحاب» (1) وكانت من الخزّ دكناء، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تعمم بها يوم «بدر» و «حنين»، ولمّا أن قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعمّم بها أمير المؤمنين عليه‌السلام «يوم صفين» على ما رواه نصر بن مزاحم في «كتاب صفين» (2) ، ولمّا ضربه ابن ملجم «لعنه الله» بسيفه وفضى نحبه ورثها ولده الحسن عليه‌السلام ، ثم انتقلت بعد الحسن عليه‌السلام الى الحسين فتعمم بها «يوم الطف»، ولمّا ناشد القوم في خطبته وقال فيما قال: «أيها الناس أنشدكم هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا لابسها؟ قالوا: اللّهمّ نعم».

ثم أمر باحضار حربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت حربة صغيرة تشبة العكازة يقال لها العنزة، وكانت تحمل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الاعياد، وتركز بين يديه فيصلّي بالناس صلاة العيد، وكان يصحبها في أسفاره، وذكرها عز الدين الجزري في «اُسد الغابة» (3) ، ثم لمّا توفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورثها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت معه «يوم صفين» يحملها كما ذكر ذلك «نصر بن مزاحم» (4) ، ثم لمّا استشهد عليه‌السلام انتقلت إلى الحسن عليه‌السلام ، ثم إلى الحسين عليه‌السلام ، وكانت معه «يوم الطف» وكان اذا حمل على جيش أهل الضلال ورجع من الحرب الى مركز يتكئ عليها وهو يقول: «لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم».

أقول: بهذه الهيئة وبهذه الصفة خرج ابن رسول الله من مدينة جدّه، وهو

__________________

(1) انظر اُسد الغابة: 1 / 30.

(2) وقعة صفين: 403.

(3) اُسد الغابة: 1 / 30.

(4) وقعة صفين.

٩٢

يقدم ضعينته والفتية من بني هاشم مجرّدين سيوفهم شاهرين ماحهم قد احدقوا بالمحامل.

كب حجازيون بين رحالهم

تسري المنايا انجدوا او اتهموا

يحدون في هزج التلاوة عيسهم

والكل في تسبيحه يترنّم

متقلّدين صوارما هندية

من عزمهم طبعت وليس تكهّم (1)

__________________

(1)

(بحراني)

طوح الحادي والضعن هاج ابحنينة

او زينب تنادي سفرة الگشرة علينه

صاحت ابكافلها شديد العزم والباس

شمر اردناك وانشر البيرق يا عباس

چنّي اعاينها مصيبة اتشيب الراس

ما ظنّتي نرجع ابدولتنا المدينة

گلها يزينت هاج عزمي لا تنخين

ما دام آنة موجود يختي ما تذلّين

لو تنجلب شاماتهم ويالعراگين

لطحن جماجمهم ونا حامي الظعينة

لا تهيجيني اولا يدش ابگلبچ الخوف

ميروعني الطعن والرماح او ضرب السيوف

بس طلبي امن الله يسلّم لي هالكفوف

لحمل على العسكر واذكّرهم ببونا

گالت اعرفك بالحرب يا خوية وافي

او قطع الزند هذا الذي منّه مخافي

اليوم المعزّه او بعدكم مدري شوافي

ياهو اليرد الخيل لو هجمت علينه

* * *

فاين تلك البدورُ التُمّ لا غربوا

وأين تلك البحور الفُعمُ لا نضبوا

٩٣

المطلب السابع عشر

في ترجمة اُمّ هاني ووداعها للحسينعليه‌السلام

لمّا بلغ خبر الحسين عليه‌السلام إلى الهاشميات ونساء بني عبد المطلب صرن يأتين إلى دار الحسين عليه‌السلام وينحن ويبكن، قتل [الراوي:]

وأقبلن عدّة من الهاشميات إلى عمّة الحسين «اُم هاني» (1) فأخبرنها الخبر، وكانت «أُم هاني» من النساء الجليلات القدر العظيمات الشأن، وكيف لا تكون كذلك وهي إبنة أبي طالب شيخ الاباطح، وأخت علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وشقيقته، وقد اختلف المؤرخين في إسمها فبعض يقول ان اسمها هند، وقال بعضهم: إنها فاطمة، وقال بعضهم: أنها فاختة وهو الأصح؛ واُمّها فاطمة بنت أسد اُم أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، وكان زوجها هبيرة المخزومي (2) ، وكان من المشركين ومن المبغضين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المؤلبين عليه والمساعدين على حربه، وما قامت راية لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا وهو في مقدمة من يحارب النبي فيها، وكان

__________________

(1) انظر ترجمة ام هاني في: اسد الغابة: 5 / 501، وكذلك في الإستيعاب: 4 / 517. هي اُم هاني بنت أبي طالب بن عبد الطلب بن هاشم اخت علي بن ابي طالب عليه‌السلام كانت تحت هبيرة بن أبي وهب بن أبي عمر بن عائذ بن عمران بن مخذم اسلمت عام الفتح ولدت ام هاني لهبيره عمر وبه كان يكنى وهانئاً ويوسف وجعدة.

(2) انظر ترجمة «هبيرة المخزومي».

٩٤

مع أبي سفيان حين تحزّبت الأحزاب على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو من جملة الذين عبروا الخندق مع عمرو بن عبد ود العامري، ولمّا قتل عمرو فرّ هُبيرة منهزماً، وفي ذلك يقول لزوجته ام هاني:

لَعمرُك ما وليتُ ظهري محمّداً

وأصحابه جُبناً ولا خيفةً القتلِ

ولكننّي قلَّبت ظهري فلم أجد

لسيفي غناء إنّ أن ضربتُ ولا نبلِ

وقفتُ فلمّا خِفتُ ضيعةَ وقفتي

رجعتُ لعودٍ كالهزيرِ أبا الشبل

ولمّا فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة وذعنت له قريش فرّ هبيرة منهزماً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى نجران ومات فيها كافراً وفي ذلك يقول:

الله يعلمُ ما تركتُ قِتالهم

حتى رَموا فَرَسي بأشقر مزَيَد

وكان الاسلامها «يوم الفتح» وقد استجار عندها جماعة من المشركين في ذلك اليوم لعلمهم بها إنّها تجيرهم، وكان من المستجيرين بها الحرث بن هشام، وقيس بن السائب، فجاء علي عليه‌السلام وهو مقنع بالحديد لا يُرى منه إلا حدقتا عينيه، فطرق الباب عليها، فخرجت اليه اُم هاني وقالت له: ما تريد يا عبد الله؟ قال: اخرجوا من آويتهم؛ فقالت: إنصرف يا عبد الله إني ابنة عمّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واخت علي عليه‌السلام ؛ فلم يلتفت إليها وقال أن لم تخرجيهم وإلا هجمتُ عليهم الدار. وقالت: والله لأشكونّك إلى رسول الله؛ فلمّا سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك ألقى المغفر من على رأسه فعرفته، فألقت بنفسها عليه وقالت له: أخي فدتك اُختك تريد أن تخفر جواري بين العرب؟ ثم قالت: أخي إنّي حلفت أن اشكوك عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها: إمضي فإنّه في الوادي، فأقبلت اُم هاني فلمّا رآها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبله قال لها: مرحباً بك يا ام هاني، جئتيني تشكين علياً عندي فإنّه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله، ثم نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انا قد أجرنا من أجارته اُم هاني.

نعم أسلمت اُم هاني في ذلك اليوم، ولمّا بلغ هبيرة زوجها خبر إسلامها

٩٥

اغتاظ غيظاً شديداً، وفي ذلك يقول معاتباً لها:

لئن كنت قد تابعتي دين محمّد

وقطعت الأرحام منك حبالها

فكوني على أعلى سحيق بهضبة

ممنعة لا يستطاع قلالها

فإنّي من قوم إذا جد جدّهم

على أي حال أصبح القوم حالها

وإني لأحمي من وراء عشيرتي

إذا كثرت تحت العوالي مجالها

وطارت بأيدي القوم بيض كأنّها

مخاريق ولدان تنوش ظلالها

وإن كلام المرء من غير كُنهِهِ

لنَبل تهوي ليس فيها نصالها (1)

وكانت قد ولدت له أربعة أولاد: أحدهم جعدة بن هبيرة، وولدت له ثانياً فكنيت به، وعمرو فكنى به أبوه، ويوسف (2) ، أمّا جعدة فإنّه ولد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليست له صحبة وقال العجلي، إنه تابعي، وقيل: بل هو من الصحابة. قال ابن أبي الحديد في «شرح النهج»: أدرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأسلم يوم الفتح مع اُمه «اُم هاني» (3) .

وشهد جعدة مع أمير المؤمنين عليه‌السلام صفين (4) ، وأبلى بلاءاً حسناً، ودعاه يومئذ عتبة فناداه: يا جعدة فاستأذن جعدة من أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخروج إليه، فأذن له. واجتمع الناس لكلامهما، فقال له عتبة: يا جعدة إنه والله ما اخرجك علينا إلا حبك لخالك وعمك ابن أبي سلمة عامل البحرين، وإنا والله ما نزعم أنّ معاوية احق بالخلافة من علي [ عليه‌السلام ]، ولو لا أمره في عثمان، ولكن معاوية احق بالشام لرضا أهلها به، فاعفوا لنا عنها، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلّا هو إجدّ من

__________________

(1) الإستيعاب (بهامش الإصابة).

(2) انظر شرح نهج البلاغة لابن الحديد: 10 / 79.

(3) انظر شرح نهج البلاغة لابن الحديد: 10 / 77.

(4) وقعة صفين للمنقري: 463 - 465.

٩٦

معاوية في القتال، ولا بالعراق من له مثل جدّ علي بن أبي طالب في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما اقبح بعليٍّ أن يكون في قلوب المسلين أولى الناس بالناس، حتى إذا أصاب سلطاناً أفنى العرب. فقال جعدة: أمّا حبّي لخالي فوالله لو كان لك خال مثله لنسيت أباك، وأما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد احبّ إليّ من العمل، وأمّا فضل علي على معاوية فهذا ممّا لا يختلف عليه اثنان، وأمّا رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل، وأمّا قولك إنّه ليس بالشام من رجل إلّا وهو أجدُّ من معاوية وليس بالعراق لرجل مثل جدّ علي عليه‌السلام فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعلي يقينه وقصر بمعاوية شكّه، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل، وأمّا قولك نحن اطوع لمعاوية منكم لعلي عليه‌السلام فوالله ما نسأله ان سكت ولا نرد عليه إن قال، وأمّا قتل العرب فإنّ الله كتب القتل والقتال فيمن قتله الحق فإلى الله، فغضب عتبة وفحش على جعدة، فلم يجبه جعدة وأعرض عنه وانصرفا جميعاً مغضبين، فلمّا انصرف عتبة جمع خيله فلم يستبق «منها» شيئاً، وجلّ اصحابة السّكون والصّدف والأزد، ويهيأ جعدة بما استطاع فالتقيا، وصبر القوم جميعاً، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة واسلم خيله وأسرع هارباً إلى معاوية، فقال له معاوية: فضحك جعدة وهزمتك، لا تغسل رأسك منها أبداً، فقال عتبة: لا والله، لا أعود إلى مثلها «أبداً»، ولقد أعذرت وما كان على أصحابي من عتب، ولكن أبى الله أن يديلنا منهم، فما أصنع وحضّي بها جعدة عند علي؛ فقال النجاشي فيما كان من شتم عتبة لجعدة وشعراً في ذلك اليوم:

إنّ شَتمَ الكَريم يا عُتبَ خَطبٌ

فاعلَمنهُ من الخطوب عظيمُ

اُمّه اُمّ هاني وأبوه

مِن معدّ ومِن لَؤَيٍّ صميمُ

ذاكَ منها هُبيرَةُ بن أبي وهب

أقرَّت بِفَضلِه مخزومُ

٩٧

كانَ في حَربِكُم يُعدُّ بألفٍ

حينَ تَلقى بها القُرُوم القُرُوم

وإبنهِ جُعدةَ والخليفة مِنهُ

هكذا يَخلُف الفروعَ الأرومُ

كُلُّ شيءٍ تُريدُه فهو فيهِ

حَسَبٌ ثاقبٌ ودينٌ قويمُ

وَخَطيبُ إذا تَمَعَّرت الأو

جُهُ يَشجى به الألدُّ الخصيمُ

وَحليم إذا الحبى حَلّها الجَهـ

لُ وخفّت من الرِّجال الحلومُ

وَشكيم الحُروب قد عَلِمَ النَّا

س إذا حُلَّ في الحروبِ الشَكيمُ

مَا عَسى أن تقولَ للذّهب الأحـ

مَرِ عَيباً هيهات مِنكَ النجومُ

وقال الشّنيُّ في ذلك لعتبة:

ما زلت في عطفيك أبهةً

لا يعرف الطَّرف مِنكَ التّية والصّلفُ

لا تَسحبُ القومَ إلا فقع قرقرةٍ

أو شحمة بزّها شاو لها نطفُ

حتّى لقيت ابن مخزوم وأيّ فتىً

أجيا مآثر آباء له سلفوا

إن كان رَهَط أبي وهب جحاجحةً

في الأوّلين فهذا منهم خلفُ

أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه

حامَوا عن الدين والدنيا فما وقفوا

حتّى رموك بخيل غير راجعةٍ

إلا وسمر العوالي منكم تكفُ

قد عاهدوا الله لن يثنوا أعنّتها

عند الطّعان ولا في قولهم خلفُ

لمّا رأيتهم صبحاً حسبتهم

أشد العرين حمى أشبالها الغرفُ

ناديت خيلك إذ عضّ الثّقاف بهم

خيلي إليَّ، فما عَاجوا ولا عطفوا

هلّا عطفت على قتلن مصرّعةٍ

منها السّكون ومنها الأزد والصّدفُ

قد كنت في منظر من ذا ومستمع

يا عُتبَ لو لا سفاه الرّأي والسّرفُ

فاليوم يُقرَع منكَ السّنُّ عن نَدَم

ما للمبارز إلا العجز والنصفُ

فهذان الشاعران مدحا جعدة بموقفه «يوم صفين» تجاه العدو، الموقف المشرف وحق لمثله أن يمدح تمثل هذا الشعر الرائق، وكان جعدة مازماً لخاله

٩٨

أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلازم بعده الحسن والحسين عليهم‌السلام إلى أن توفي أيام معاوية، وكان جعدة يفتخر - ويحق له الفخر - ويقول:

أبي من بني مَخزوم إن كُنتَ سائلاً

وَمِن هاشمٍ أُمّي لَخيرُ قَبيلِ

فَمن ذا الذي يبني عَليَّ بخالهِ

كخَالي علي ذي النّدى وعقيل (1)

«ولقد كاتب الحسين عليه‌السلام بعد وفاة أخيه الحسن عليه‌السلام :

أمّا بعد فإنّ الشيعة متطلّعة أنفسها إليك، لا يعدلون بك الى أحد وقد عرفوا رأي أخيك الحسن في دفع الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك والغلظة لأعدائك، فإن أحببت أن تطلب هذا الأمر لك فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك».

فأجابه الحسين عليه‌السلام غير أنّ جوابه يظهر كان لعموم الشيعة:

«أمّا بعد فإنّ أخي الحسن أرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده، فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي ذاك، فألصقوا بالأرض واحترسوا عن الظنّة والتهمة ما دام معاوية حيّاً، فإن حدث به حادث كتبت إليكم برأي والسلام».

فأُم هاني على ما ذكرت كانت جليلة القدر، عظيمة الشأن، روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث كثيرة ذكرت في الصحاح؛ ولعظم شأنها أنّ الهاشميات إذا أصابتهن مصيبة أو نزلت بهنّ نازلة فزعن إليها، لذا لمّا بلغهن خبر سفر الحسين عليه‌السلام الى العراق أقبلن إليها وقلن لها: يا اُم هاني أما علمت بما عزم عليه الحسين عليه‌السلام ، فإنّه عزم على المسير إلى العراق، فهل لك أن تمضن لنودّع النسوة ونتزوّد من الحسين؟ فقامت اُم هاني - وهي امرأة عجوز محدوبة الظهر - حتى أقبلت إلى دار الحسين عليه‌السلام ، وكان الحسين واقفاً على باب داره، فلمّا نظر أليها نظر إلى غلامة وقال له: من هذه المقبلة؟ فقال له: سيدي أظنّها عمّتك اُم هاني؛

__________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٩٩

فقال له: اضرب بيني وبينها ستراً، فوقف قبالة الحسين عليه‌السلام ودخلت ام هاني على النساء وهي تبكي، فدخل الحسين عليه‌السلام وقال لها: يا عمّة ما هذا البكاء؟ فقالت: عمّة عميت عين لا تبكي من بعدك. فقال لها الحسين عليه‌السلام : عمّه لا تتطري، فقالت: والله لست بمتطيّرة ولكن سمعت البارحة هاتفاً يقول:

وإنَّ قتيل الطفّ من آلِ هاشمٍ

أذلّ رقاباً مِن قريش فَذُلّت

فقال لها عليه‌السلام : عمّه لا تقولي من قريش ولكن قولي: «أذل رقابَ المسلمين فذلّت».

فقال الراوي: وعلا صراخ النساء وبكاؤهن، هذا والحسين نصب أعينهن. أقول: إذاً كيف حالهنّ لمّا دخل بشر بن حذلم المدينة ونادى:

يا أهل يثرب لا مقام لكم فيها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار (1)

__________________

(1)

(نصاري)

يولي اتقابلن للنوح والون

رباب اتعددّلهن وهن يبجن

ظلمه دورها او بالحزن يدون

وهن بالنوح دامن على الوقتين

گومن جاي نلطم على الشبّان

وسط الدور وا نغلّج البيبان

بعد احسين وحشه هاي الوطان

گومن جاي نتساعد على البنين

وزينب عليها‌السلام :

يدور أهلي أعاينچن اباعين

عگب عباس اخويه وعگب الحسين

نعب بيجن اغراب الحزن والبين

او عليچن يها الدور الحزن غيّم

(تخميس)

أنقيمُ في جور الزمان وذُلّهِ

يا منيةَ الباقي وكعبةَ نيله

كم غائب سرّ الإله بوصله

يا ليت غائبنا يعودُ لأهله

فنقول أهلاً بالحبيب ومرحبا

١٠٠