ثمرات الأعواد الجزء ٢

ثمرات الأعواد0%

ثمرات الأعواد مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 231

ثمرات الأعواد

مؤلف: علي بن الحسين الهاشمي الخطيب
تصنيف:

الصفحات: 231
المشاهدات: 59692
تحميل: 4761


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 231 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59692 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
ثمرات الأعواد

ثمرات الأعواد الجزء 2

مؤلف:
العربية

ومنهم من يقول: كيف صار يقرب أعداءه وقتلة آبائه.

قال أبو الحسن: فبينما السفاح ذات يوم جالس وحوله بنو أُمية عليهم الدروع المطرزة والعمائم الملوّنة، وقد تقلدوا بالسيوف المذهبة المحلّاة بالأحجار الكريمة إذ دخل عليه بعض حجابه وهو مذعور، فقال له: يا أمير المؤمنين إنّ على الباب رجل ذميم المنظر عظيم المخبر شاحب اللون رثّ الأطمار يريد الدخول عليك، فقلت له: امض واغسل بدنك وثيابك وتطيّب حتى أستأذن لك منه، فتدخّل عليه فنظر إلى شزراً، وقال: إني آليت أن لا أنزع ثوباً ولا أستعمل طيباً ولا ألذّ بعيش حتى أصل إلى أمير المؤمنين وها هو على الباب منتظر ردّ الجواب. قال: ولمّا سمع السفاح ذلك، قال: صاحبنا وعبدنا سديف (1) وربّ الكعبة أذنا له فليدخل.

قال الراوي: ولمّا دخل سديف وسلم على السفاح وأنشأ يقول:

أصبح الملك ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس

طلبوا وتر هاشم فشفوها

بعد ميل من الزمان وباس

__________________

(1) سديف كان عبداً لبني هاشم، وكان فصيح اللسان، قوي الجنان، وكان يخرج في موسم الحج الى بيت الله الحرام، ويصعد على ذروة من الأرض ينادي: أيها الناس، فيجتمع إليه الناس، ويبسط لسانه بمدح بني هاشم ويهجو بني اُمية ويصغر ملكهم ويحرّض الناس عليهم، ليخلعوا الخلافة منهم ويجعلوها في بني هاشم الذي جعلها الله فيهم، وهم آل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنّه جاء في موسم الحج وصعد زمزم وصاح برفيع صوته: يا أهل الأرض، ويا أهل الأبطح والصفا وباب مكة والكعبة العليا، فدونكم فاسمعوا، والله على ما أقول وكيل، فتكلّم في بني امية ما استطاع، فقام إليه جماعة من بني أمية، وضربوه ضرباً موجعا حتى غشي عليه حتى ظنوا انّه مات، قال الراوي: فجاءت امرأة فسقته شراباً بعد أن أفاق، وجعلت تمرضه حتى برئ وخرج من مكّة الى الشعاب ورؤوس الجبال مثله في بحار الأنوار جلد العاشر منه.

١٦١

قال أرباب السير: ويقال أنّ سديف لمّا دخل على السفاح وأنشأ يقول شعراً:

لا يغرنك ما ترى من رجال

إنّ بين الضلوع داءاً دويّا

فضع السيف وارفع الصوت حتى

لا ترى فوق ظهرها أمويّا

فقال له السفاح: يا سديف أهلاً بطلعتك ومرحباً برؤيتك، قدمت خير مقدم، وغنمت خير مغنم، فلك الإكرام والإنعام، وأمّا أنت ماله من الأعداء فالصفح أجمل، فإن أكرم الناس من عفا إذا قدر، وصفح إذا ظفر، ثم نادى: يا غلام عليَّ بتخت من الثياب وكيس من الورق (1) فأتاه بذلك، فقال الصفاح: يا سديف خذ هذه الثياب وغير ثيابك، واصلح بهذه الدنانير حالك، وعد إلينا في غد انشاءالله، فلك عندنا ما تحب وترضى.

قال الراوي: فعند ذلك خرج سديف من عند السفاح وأخذ بنو أُمية يحدّث بعضهم فالتفت إليهم السفاح، وقال لهم: يا بني امية لا يكبرن عليكم ما سمعتم من هذا العبد، وليس له رأي سديد ولا ينبغي أن نأخذ بأقواله، وإنّما قال لهم هذا ليرفع ما وقع في نفوسهم من الهلع والجزع.

قال الراوي: ولمّا كان غداة غد بكر إليه بنو أُمية على عادتهم فدخلوا وسلّموا عليه فردّ عليهم‌السلام ، وقرّب مراتبهم ورفع مجالسهم ففرحوا لذلك فرحاً شديداً وأخذ يحدّثهم ويلاطفهم، فبينا هو كذلك إذ دخل عليهم سديف، وقد غيّر ثيابه، فسلم على السفاح، فأشار السفاح إليه بيده وقال: نعم صباحك وبان فلاحك وظهر نجاحك، كشف الله بك رواكد الهموم وفداك أبي لأنّك آخذ بالثار وكاشف عن قومك وخيمة العار، وحاشاك أن تكون من الغافلين عن ثار قبيلتك فأغضب لعشيرتك يابن الرؤساء من هاشم، والسراة من بني عبد مناف.

__________________

(1) الورق الدراهم المضروبة جمعها أوراق ووراق.

١٦٢

قال الراوي: فلمّا سمع السفاح كلامه أطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفع رأسه وقال له: يا سديف أحلم الناس من صفح عمّن ثلمه، وصان عرضه عمّن ظلمه، فلك عندنا افضل الكرامة والجزاء، فانصرف يا سديف، ولا تعد الى مثلها أبداً، فخرج سديف من عنده، والتفت السفاح إلى بني اُمية، وقال لهم: إنّي اعلم أنّ كلام هذا العبد قد أرجفكم، وقد أثر في قلوبكم، فلا تعبئوا بكلامه فإنّي لكم كما تحبّون وفوق ما تأملون، وسأزيد لكم العطاء وأقرب لكم الجزاء، وأقدّمكم على غيركم، فخرجوا من عنده وقد سكن ما بهم واجتمعوا للمشورة فيما بينهم، قال قائل منهم: هلمّوا بنا حتى ندخل على السفاح ونسأله ان يسلّم إلينا هذا العبد فنقتله، وامتنع الآخرون من هذا القول.

ولمّا أن أمسى المساء أرسل السفاح خلف سديف فأحضره عنده، فلمّا دخل عليه سديف قال له: ويلك يا سديف إنّك لعجول في أمرك، مفش لسرّك، ألا تستعمل الكتمان. فقال سديف: الكتمان قد قتلني، والتحمّل قد أمرضني، والنظر الى هؤلاء الظلمة قد أسقمني، ولكن يخفى عليك أمري وما حل بي وبأهلك وعشيرتك من قتل الرجال وذبح الأطفال وهتك النسوان حمل حريم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأقتاب بغير غطاء ولا وطاء يطاف بهم البلدان، فأيّ عين ترقا مدامعها وأيّ قلب لا ينفجع عليهم، فاستوف لهم الدماء، واضرب بحسامك العدا، وخذ بالثار من الظلمة لأئمّة الهدى ومصابيح الدجى وسادة الأحرار، ثم أنشأ يقول:

رجالكم قتلوا من غير ذي سبب

واهلكم هتكوا جهراً على البدن

بلى والله لقد قتلوا أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحفاده وأسروا كرائمه على عجف النياق بلا غطاء ولا وطاء.

رجالهم صرعى وأسر نساؤهم

وأطفالهم في السبي تشكوا حبالها

١٦٣

المطلب الحادي والأربعون

في بقية قضية السفاح وما فعله ببني أمية

ذكر المؤرخون وأهل السير: أنّ السفاح لمّا أراد أن يطهّر الأرض من الأرجاس ويقضي على بني أُمية ويستأصل شأفتهم، دعا سديفاً ليلة من الليالي وقال له: يا سديف، قد بلغ الكتاب أجله، وقرب ما كنت تؤمله، نم ليلتك قرير العين، وآتني غداة غداً اعطيك أملك وأبلغك رجاءك.

قال الراوي: فبات سديف تلك الليلة يدعو ربه ويسأله إتمام ما وعده به السفاح، قال: وأصبح السفاح وكان ذلك اليوم يوم النيروز، أمر مناديه فنادى: أن أمير المؤمنين أباالعباس السفاح قد بسط الإنطاع وصبّ عليه خزائنه، وقال: اليوم يوم عطاء وجزاء وجوائز ومواهب وضربت الطبول ونشرت الرايات، وقد زيّن قصر الخليفة ونصب كرسي الخلافة في وسطه وأمر السفاح بالإنطلاع فبسطت بين يديه وصبّ عليها الدنانير والدراهم والأسورة ومناطق الذهب والفضة، ثم دعا بأربعمائة من غلمانه من أشدّهم وأشجعهم وأعطاهم السيوف المذهّبة وقال لهم: كونوا في الأخبيئة والمخادع واسلبوا عليكم الستور وكونوا على استعداد من أمركم، فإذا رأيتموني ضربت بقلنسوتي الأرض فاخرجوا من المخادع وضعوا السيوف في رقاب الحاضرين وكلّ من ترونه ولو كان من بني عمّي.

قال الراوي: ولما تعالى النهار وجلس السفاح على سرير الخلافة، أقبلت

١٦٤

إليه الناس في الزينة والبهجة الحسنة للسلام عليه والعطاء، وأقبل بنو أُمية يرفلون بالحلل السندسية يجرّون أرديتهم زرافات ووحدانا حتى تكاملوا سبعين ألفاً من أمية وآل أبي معيط ومن يمت بهم وحاشيتهم، قال: فعند ذلك صعد السفاح إلى أعلى محل في قصره وهو متقلد بسيفه، والتفت إلى بني أُمية وقال: هذا اليوم الذي كنت أعدكم فيه للجزاء والعطاء، فبمن يكون البداء بالعطاء للأمويين أم للهاشميين؟ فقال كلّهم: يا خليفة رسول الله إنّ بني هاشم هم سادات العرب، فلا يتقدّم عليهم أحد ولن يقدّم العبد على سيده.

قال: فصاح السفاح بعبد له كان عن يمينه وكان فصيح اللسان: نادي ببني هاشم واحداً بعد واحد حتى نجزل لهم العطاء ونحسن لهم الجوائز، فنادى الغلام برفيع صوته: أين عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم هلمّ إلينا واقبض عطاءك، فقام سديف قال: وأين عبيدة بن الحارث؟ قال: وما فعل به؟ قال: قتله شيخ من هؤلاء يقال له عتبة بن ربيعة. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه وإتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين أسد الله وأسد رسوله الحمزة بن عبدالمطلّب بن هاشم ابن عبد مناف، هلم علينا واقبض عطاءك. فقال سديف: وأين حمزة؟ قال: وما فعل به؟ قال: قتلته امرأة من هؤلاء القوم يقال لها هند بنت عتبة في احد وأقبلت بعد القتل ومثلث به فشقت جوفه وأخذت كبده لتأكلها فحوله الله حجراً في فمها فسمّيت آكلة الأكباد، ثم قطعت أصابعه وجعلتها قلادة في عنقها وجدعت أنفه وقطعت مذاكيره. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه، وائتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين أوّل الناس إسلاماً وأفضل الوصيين ويعسوب الدين وأمير المؤمنين أين علي بن أبي طالب هلمّ إلينا واقبض عطاءك. فقال سديف: يا مولاي وأين علي بن أبي طالب، لقد قتله المرادي عبدالرحمن بن ملجم لعنه الله

١٦٥

وزيّن معاوية بن أبي سفيان الشام فرحاً لقتله. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّد شباب أهل الجنّة الحسن ابن علي هلمّ إلينا واقبض عطاءك. وقال: يا مولاي وأين الحسن بن علي؟ قال السفاح: وما فعل به؟ قال: قتلته جعدة بنت الأشعث بسمّ دسّه معاوية إليه من الشام، فقال: يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين مسلم بن عقيل بن أبي طالب هلمّ إلينا واقبض عطاءك. فقال سديف: يا مولاي وأين مسلم بن عقيل؟ قال: وما فعل به؟ قال: قتله هؤلاء القوم فأخذه عبيدالله بن زياد لعنه الله فقتله ورمي بجسده من اعلى القصر إلى الأرض وربطوا الحبال في رجليه وجعلوا يسحبونه بالأسواق. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي بن أبي طالب، هلمّ إلينا واقبض عطاءك، فبكى سديف وصرخ: وا حسينا ونادى: يا مولاي وأين الحسين؟ فقال السفاح: وما فعل بولد رسول الله؟ قال: قتله أمير هؤلاء الذين هم جالسون حولك وهم على كرسي الذهب والفضّة، قتله بأرض كربلاء عطشاناً وأخذوا رأسه على رمح طويل من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام إلى يزيد بن معاوية. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره.

فنادى الغلام: وأين العباس بن علي هلمّ إلينا واقبض عطاءك. فقال سديف: يا أمير المؤمنين وأين العباس بن علي. قال: وما فعل به؟ قال: قتله هؤلاء في كربلاء بعد أن قطعوا يمينه وشماله وضربوا رأسه بعمود من حديد. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه واتنا بغيره.

١٦٦

فقال الغلام: أين زيد بن علي بن الحسين هلمّ إلينا واقبض عطاءك. فقال سديف: وأين زيد بن علي بن الحسين؟ فقال السفاح: وما فعل به؟ قال: قتله هشام بن عبدالملك وصلبه في كناسة الكوفة وبقي مصلوباً أربع سنين حتى عشعشت الفاختة في جوفه، ثم أنزلوه بعد ذلك وأحرقوه وسحقوا عظامه المحترقة وذروها في الهواء، ثم قتلوا ولده من بعده. فقال السفاح: يا غلام اضرب على اسمه وأتنا بغيره.

فنادى الغلام: أين إبراهيم بن علي بن عبدالله بن العباس هلمّ إلينا واقبض عطاءك، فسكت سديف، فقال السفاح: ويلك يا سديف سكَتّ عن الجواب؟ قال: يا أمير المؤمنين إني استحي أن اخبرك بما فعل هؤلاء القوم بأخيك. فقال السفاح: سألتك بالله اما أخبرتني ما فعل بأخي. فقال: يا أمير المؤمنين قبضه رجل من هؤلاء القوم يقال له مروان، وأدخل رأسه في جراب بقرة وركّب في أسفله كور الحدادين وأمر النافخ ينفخ والجلاد يجلد حتى ضربه عشرة آلاف سوط في ثلاثة أيام، فبكى وصاح صيحة واحدة وأخذ قلنسوته فضرب به الأرض ونادى: يا لثارات بني عبدالمطللب يا لثارات الحسين عليه‌السلام .

فخرج الغلمان من الأخبية والمخادع بأيديهم السيوف وجعلوا يضربون رقابهم، فكان بنو أمية كلّما انحازوا إلى جانب تلقتهم الغلمان من ذلك الجانب بضرب السيوف، فما كانت إلا ساعة حتى أتوا على آخرهم، وقد كان خدّامهم وعبيدهم حول القصر يحفضون لهم خيولهم وينتظرون خروجهم، وإذا هم يرون الدماء تسيل من كلّ ميزاب كأنّها السيل، فركب كلّ منهم جواد مولاه وهرب على وجهه.

قال الراوي: وأمر عند ذلك السفاح بالأشلاء فجمعت مثل المسبطة وفرشت فوقهم الأنطاع وجلس عليها السفاح وسديف وجماعة من بني هاشم،

١٦٧

ووجوه العباسيين، ثم أمر السفاح بالموائد فصبّت وقدموا الطعام، فأكل السفاح وقومه وسديف معهم.

قال: والتفت السفاح إلى سديف وقال له: يا سديف هل برد غليلك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أكلت أكلة أطيب من هذا اليوم ثم أنشأ سديف قائلاً:

الا مبلغ ساداة هاشم معشري

وجمع قريش والقبائل من فهري

وسادات مخزوم وأبناء غالب

قريباً من النور المغيب في القبر

ومن كان منهم في المدينة ثاوياً

وسكّان بيت الله والركن والحجر

ومن كان منهم في الغريين ثاوياً

وذلك علي صاحب النهي والأمر

ومن سكن الطف المعظم قدره

حسين الرضي المدفون بالبلد القفر

بأنّ سديفاً قد شفى الله قلبه

بسمر رماح ثم مرهفه بتر

وأنّ أبا العباس ثار لثارهم

فلم يبق موتوراً يطالب بالوتر (1)

وإنّ فعل أبوالعباس ما فعل ببني اُمية وقتل ما قتل منهم لم يبلغ معشار ما فعلوا بنو اُمية بأهل البيت فإنّهم:

أبادوهم قتلاً وسمّاً ومثلة

كأنّ رسول الله ليس لهم أب

كأنّ رسول الله من حكم شرعه

على آله أن يقتلوا أو يصلّبوا

__________________

(1) (فائدة): يروى مرسلاً أنّ السفاح قد فتك ببني أمية مرتين، ففي المرّة الاُولى كان على ما ذكرنا من قضيّة سديف، فبهذه الكيفية قتلهم، وأمّا المرّة الثانية فإنّه بنى لهم قصراً وجعل اُسس ذلك القصر من الملح، حتى إذا اكمل القصر دعاهم إليه فلما اجتمعوا فيه سلط عليهم الماء فأخذ جميع جهاته إلى أن ذاب الملح وانهدم عليهم القصر فهلكوا عن آخرهم.

١٦٨

المطلب الثاني والأربعون

في مقتل زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام

قال أبو الفرج الأصبهاني (1) : اشترى المختار بن أبي عبيدة الثقفي جارية بثلاثين ألف دينار، فقال لها: ادبري فأدبرت، ثم قال لها: اقبلي فأقبلت، فقال لها: والله ما أرى أحد احق بها من علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، فأرسها إليه وهي اُمّ زيد المصلوب.

وعن الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً للحسين: يخرج من يخرج من صلبك فتى يقال له زيد يتخطّا هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس ثم يدخلون الجنّة بغير حساب).

وقال علي بن الحسين عليه‌السلام لرجل من محبّيه: (بينا أنا ذات ليلة اُصلّي إذ ذهب بي النوم فرأيت نفسي كأنّي في الجنّة وكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قد زوجوني جارية من الحور العين، فواقعتها ثم اغتسلت عند سدرة المنتهى وإذا بهاتف يهتف بي: ليهنّك بزيد ليهنّك بزيد، قال: ثم استيقضت من منامي فقمت وصلّيت صلاة الفجر، فلمّا فرغت وإذا بالباب تطرق، ففتحتها، وإذا برجل ومعه جارية وهي متجلبة بجلبابها، فسلّم عَلَيَّ وقال لي: أنا رسول

__________________

(1) في ص 124 من كتابه مقاتل الطالبين.

١٦٩

المختار إليك وهو يقرؤك السلام ويقول: وقعت هذه الجارية عندنا فاشتريتها وأحببت أن أهديها لكم، ثم أمرت الجارية فدخلت إلى الحرم وجلست مع نسائنا وانصرف ذلك الرجل، فأقبل عليها الإمام وقال لها: ما اسمك؟ قالت: حوراء، فعقد عليها وتزوجها فأولدها زيداً).

وقال بن قولويه: روى بعض أصحابنا قال: كنت عند علي بن الحسين عليه‌السلام فكان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس، فجاءه ذات يوم مولود، فبشّروه به بعد صلاة الفجر، قال: فالتفت إلى أصحابه وقال: ما اُسمّي هذا المولود؟ قال الراوي: فقال كلّ منهم سمّه كذا وكذا، فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : عَلَيَّ بالمصحف، فأتوا به إليه فقبّله ووضعه في حجره ثم فتحه فنظر إلى اوّل السطر من الصفحة اليمنى، وإذا قوله تعالى: ( وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى‏ الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً ) (1) ثم طبقه وفتحه فنظر فيه فإذا في أوّل الصفحة قوله ( إِنّ اللّهَ اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) ، فقال عليه‌السلام ، (هو والله زيد فسمّي زيداً) (3) .

وقال خالد مولى الزبير: دخلت يوماً على علي بن الحسين عليه‌السلام فدعا بولده زيد فجاء إليه وكان يومئذ صبياً، فأقبل إليه يمشي فكبا لوجهه، فقام علي بن الحسين عليه‌السلام وأخذه ووضعه في حجره وجعل يمسح وجهه وهو يقول: (اُعيذك بالله يابني أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة، فمن نظر إلى عورته متعمّداً صلى الله وجهه النار).

__________________

(1) سورة النساء من الآية 95.

(2) سورة التوبة 111.

(3) ولد زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام بالمدينة بعد طلوع الفجر سنة ست وستّين أو سبع وستّين من الهجرة، المجدي لأبي الحسن العمري النسّابة.

١٧٠

قال الراوي: ودخل زيد يوماً على هشام بن عبدالمطلب، فقال له هشام: أنت المؤهل نفسك للخلافة؟ وما أنت وذاك؟ وإنّما أنت ابن أمة، فقال زيد: إنّي لأعلم أحداً أحبّه الله مثل إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن أُمة، وما تنكر من ابن امة وجدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوه أمير المؤمنين.

ويروي في مروج الذهب أن قال له: إنّ الامّهات لا يقعدون بالرجال عن الغايات وقد كانت اُم اسماعيل أمة لام إسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبيّاً وجعل للعرب أباً فأخرج من صلبه خير البشر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وأبن علي عليهم‌السلام وقام وهو يقول:

شرّده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجلاد

منخرق السربال يشكو الوجي

تنكبه أطراف سمر حداد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

أن يحدث الله له دولة

يترك آثار العدا كالرماد

ثم خرج من عنده وهو يقول: لم يكره قوم قط حرّ السيف إلا ذلّوا، فلما وصل إلى الكوفة اجتمع عليه أهلها فلم يزالوا به حتى بايعه مائة ألف سيف، فلمّا قام بالحرب ونادى بشعار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا منصور أمتك، نقضوا بيعته، فلمّا رأى ذلك قال: أين الذين بايعوني؟ فعلوها حسينية ثم أنشأ يقول:

أذلّ الحياة وعزّ الممات

وكلّاً أراه طعاماً وببلا

فإن كان لابدّ من واحد

فسيري إلى الموت سيراً جميلا

قال: واشتبك الحرب فاُصيب زيد بسهم في جانب جبهته اليسرى، فنزل إلى دماغه فأقبل إليه ورده يحيى فانكبّ عليه، وقال له: ابشر فإنّك ترد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، قال: قال: أجل أي بني وما تصنع من بعدي؟ قال: اقاتلهم. فقال زيد: افعل يا بني فإنّك على الحق وهم على الباطل، ثم إنّ يحيى نزع السهم من جبهة أبيه وخرج الدم كالميزاب، ثم خرجت

١٧١

روحه، فحملوه الى بستان فيه نهر ماء فقطعوا الماء الذي يجري فيه، وحفروا له حفيرة في وسط النهر فدفنوه وأجروا الماء عليه، وكان معهم سندي فذهب إلى يوسف بن عمرو الثقفي وأخبره، فجاء اللعين وأخرجه من قبره وصلبه في الكناسة بالكوفة، فمكث اربع سنين مصلوباً، حتى عشعشت الفاختة في جوفه، ونسج العنكبوت في جوفه على عورته.

ولمّا هلك هشام، كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف ابن عمرو، أما بعد: إذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى عجل أهل الكوفة فاحرقه وأنسفه في اليم نسفاً (1) ، فأنزله اللعين وأحرقه وذراه في الهواء.

قال حمزة بن عمران: دخلت على أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الكوفة، فبكى بكاء شديداً وجرت دموعه على لحيته حتى ابتلّت، فقلت له: ما يبكيك يابن رسول الله؟ قال: (ذكرت عمّي زيداً).

قلت: وما الذي أصاب جبهته، قال المرحوم الخطيب الشيخ يعقوب النجفي رحمه‌الله :

يبكي الإمام لزيد حين يذكره

وإنّ زيداً بسهم واحداً ضربا

فكيف حال عليّ بن الحسين وقد

رأى أباه لنبل القوم قد نصبا

وكان الصادق عليه‌السلام كلما ذكر السهم يبكي.

أقول: ما يصنع حين يذكر السهم الذي وقع في قلب جدّه الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء وكلّما عالج أراد أن ينتزعه من موضعه ما تمكّن، انحنى على قربوس سرج فرسه وقائلاً: «بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله» فاستخرج السهم من قفاه وسال الدم كالميزاب، خرّ صريعاً إلى الأرض:

سهم أصابك يابن بنت محمّد

قلباً أصاب لفاطم وفؤادا

__________________

(1) انظر مقاتل الطالبين: 139.

١٧٢

المطلب الثالث والأربعون

في بقية قضية زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام

ذكر صاحب المقاتل: أنّه لمّا قتل زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ودفنه ابنه يحيى في النهر، وأجرى عليه الماء، استخرجه يوسف بن عمرو بعد الدفن وقطع رأسه وبعث برأسه وبرؤوس أصحابه إلى هاشم بن عبدالملك مع زهير بن سليم، ودفع هشام لمن أتاه بالرأس عشرة دراهم ونصبه على باب دمشق.

ويروى أنه ألقى الرأس أمامه فأقبل الديك ينقر رأسه فقال بعض من حضر من الشاميين:

اطردوا الديك عن ذوابة زيد

فلقد كان لا يطاه الدجاج

قال الراوي: وبعث هشام بالرأس من الشام إلى مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنصب عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً وليلة، وكان العامل على المدينة محمد بن إبراهيم بن هشام المخزومي، فتكلم معه ناس من أهل المدينة أن ينزله، فأبى إلا ذلك، فضجت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم، وكان كيوم الحسين عليه‌السلام ، ونظر إلى الرأس كثير بن المطلّب السهمي فبكى وقال: نظّر الله وجهك أبا الحسين، وقتل قاتليك، وكان كثير يميل الى بني هاشم لأن اُمّ أبيه المطلّب أروى بنت عبدالمطلّب ابن هاشم بن عبد مناف، فقال له الوالي: بلغني عنك كذا وكذا؟ قال: هو كما بلغك، فحبسه، وكتب إلى هشام بن عبدالملك يخبره، فقال كثير وهو في الحبس:

١٧٣

إنّ امرءاً كانت مساويه

حبّ النبي لغير ذي ذنب

وكذا بني حسن والدهم

من طاب في الأرحام والصلب

ويرون ذنباً إن أحبّكم

بل حبّكم كفّارة الذنب

وحدّث عيسى بن سوادة قال: كنت بالمدينة لمّا جيء برأس زيد ونصب في مؤخّر المسجد على رأس رمح، وأمر الوالي فنودي في المدينة برأت الذمّة من رجل بلغ الحلم لم يحضر المسجد، فحضر الناس الغرباء وغيرهم ولبثوا سبعة أيام كلّ يوم يخرج الوالي فيقوم الخطباء من الرؤساء فيلعنون علياً والحسين وزيداً وأشياعهم، فإذا فرغوا قام القبائل عربيّهم وأعجميّهم، وكان بني عثمان أول من قام الى ذلك، حتى إذا صلى الظهر وانصرف وعاد بالغد مثلها سبعة أيام، وقام رجل من قريش يقال له: محمد بن صفوان الجمحي فأمره الوالي بالجلوس، ثم عاد من غير أن يدّعي فقال له الوالي: اقعد، فقال: إن هذا مقام يقدر عليه أحد، فإذن له الوالي بالكلام، فأخذ في خطبته فلعن علياً وأهل بيته والحسين وزيداً ومن يحبهم، فبينا هو كذلك إذ وضع يده على رأسه ووقع على الأرض، فظننّا أنّ خطبته انتقضت فتبينّاه وإذا به يصيح من رأسه، ولم يزل كذلك حتى ذهب بصره.

قال الراوي: ثم سير الرأس الشريف إلى مصر، فنصب بالجامع فسرقه أهل مصر ودفنوه في مسجد محرس، قال الكندي: قدموا بالرأس الى مصر سنة اثنتين وعشرين ومائة يوم الأحد لعشر خلون من جمادي الآخرة، واجتمع عليه الناس في المسجد، ودفن في مصر وهو مشهد صحيح لأنه طيف به بمصر ثم نصب على المنبر بالجامع سنة أثنتين وعشرين ومائة.

ويحدّث ابن عبد الظاهر أنّ الأفضل أمير الجيوش لمّا بلغته حكاية رأس زيد بن علي عليه‌السلام أمر بكشف المسجد، وكان وسط الأكوام ولم يبق من معالمه إلّا محرابه، فوجد هذا العضو الشريف.

١٧٤

وذكر خطيب مصر أبوالفتوح ناصر الزيدي وكان من جملة من حضر الكشف أنّه رأى في جبهة زيد أثراً في سعة الدرهم، قال: فضمخ وعطر وحمل الى داره حتى عمر هذا المشهد.

قال صاحب العدل الشاهد: يزار مشهد زيد بمصر يوم الأحد من كل اسبوع يقصده عامة الناس ليلاً ونهاراً، وله مولد في كل عام يحضره الناس والظاهر أنّما يزار في كل أحد لأنّه كان الكشف عليه يوم الأحد تاسع عشر من ربيع الأول سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وكان زيد عليه‌السلام من اُباة الضيم (1) ، قال الكواز رحمه‌الله :

وزيد قد كان الإباء سجيّة

لآبائه الغرّ الكرام الأطايب

__________________

(1) (فائدة) قال الراوي: وبينا زيد يقاتل أصحاب يوسف بن عمرة إذ انفصل رجل من كلب على فرس له رائع، وصار من قرب من زيد فشتم الزهراء فاطمة، فغضب يزيد، وبكى حتى ابتلّت لحيته، والتفت الى من معه، وقال: أما أحد يغضب لفاطمة؟ أما أحد يغضب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أما أحد يغضب لله؟ قال سعيد بن خيثم: أتيت إلى مولى لي كان معه مشمل (المشمل كمنبر سيف قصير يتغطى به تحت الثوب) فأخذته منه وتستّرت خلف النظارة والناس يومئذ فرقتين مقاتلة ونظارة ثم صرت وراء الكلبي وقد تحوّل من فرسه وركب بغلة فضربته في عنقه فرقع راسه بين يدي البغلة وشدّ أصحابه عَلَيَّ وكادوا يرهقوني، فلمّا رأى أصحابنا ذلك كبّروا وحملوا عليهم واستنقذوني، فركبت البغلة وأتيت زيداً فقبّل بين عيني، وقال: أدركت والله ثارنا، ادركت والله شرف الدنيا والآخرة وذخرهما، ثم أعطاني البغلة.

(فائدة): قال أرباب التاريخ: ولمّا جنّ الليل من ليلة الجمعة الثالثة من صفر سنة مائة وإحدى وعشرين، رمى زيد بسهم غرب أصاب جبهته ووصل إلى الدماغ، وكان الرامي له مملوك ليوسف بن عمرو اسمه راشد ويقال من أصحابه اسمه داود بن كيسان!

(فائدة): ولمّا اُصيب زيد عليه‌السلام بالسهم فجاء أصحابه إليه وأدخلوه بيت حرّان كريمة مولى بعض العرب في سكّة البريد في دور أرحب وشاكر وجاؤا إليه بطبيب يقال له شقير، وفي مقاتل الطالبيين اسمه سفيان، فقال له الطبيب: إن نزعته من رأسك مت، فقال: الموت أهون عَلَيَّ ممّا أنا فيه، فأخذ الكلبتين فانتزعه، وفي ذلك الحين مات رضوان الله عليه.

١٧٥

كأنّ عليه ألقى الشبح الذي

تشكّل فيه شبه عيسى لصالب

فقل للذي أخفى عن العين قبره

متى خفيت شمس الضحى بالغياهب

ولو لم تنمَّ القوم فيه إلى العدى

عليه لنمَّت عليه واضحات المناقب

كأنّ السما والأرض فيه تنافسا

فنال الفضا عفواً سنى الرغائب

عجبت وما إحدى العجائب فاجئت

بمقتل زيد بل جميع العجائب

وقال أحمد بك شوقي أمير الشعراء من مقصورة له:

وثار لثارات زيد بن علي

ابن الحسين بن الوصي المرتضى

يطلب بالحجة حقّ بيته

والحقّ لا يطلب إلّا بالقنا

فتى بلا رأي ولا تجربة

جرى عليه من هشام وما جرى

اتخذ الكوفة درعاً وقناً

والأعزل الأكشف من فيها احتمى

من تكفه الكوفة يعلم أنّها

لا نصر عند أهلها ولا غنى

سائل علياً فهو ذو علم بها

واستخبر الحسين تعلم النبا

فمات مقتولاً وطال صلبه

وأحرقت جثّته بعد البلا

* * *

أبادوهم قتلاً وسمّاً ومثله

كأنّ رسول الله ليس لهم أب

كأنّ رسول الله من حكم شرعه

على آله أن يقتلوا أو يصلبوا

* * *

فما بين مسموم ومشرد

وبين قتيل بالدماء مخلّق

فالقتيل الذي صار دماؤه خلوقا له بل غسلاً له هو سيد شباب أهل الجنة أبو عبدالله الحسين عليه‌السلام ، قال الشريف الرضي رحمه‌الله :

غسلته دماؤه قلّبته

أرجل الخيل كفنته الرمول

١٧٦

المطلب الرابع والأربعون

في واقعة الزاب بين الاُمويين والعباسيين

لمّا نزل مروان بن محمّد الحمار (1) بالزاب جرّد من رجاله من اختاره من أهل الشام والجزيرة وغيرهما مائة ألف فارس على مائة ألف قارح، وقال: إنّها عدّة ولا تنفع العدّة إذا انقضت المدّة، ولمّا أقبل عبدالله بن علي بن العباس يوم الزاب بالمسوّدة من قبل السفاح وفي أوّلهم البنود السود تحملها رجال على جمال البخت، وقد جعل لها عوض القتاد خشب الصفصاف والغرب، فقال مروان: أما ترون رماحهم كأنّها النخل غلظ؟ أو ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل كأنّها قطع الغمام السود؟

فبينا مروان ينظرها ويعجب إذ طارت قطعة من الغربان السود فوقعت على عسكر عبدالله، واتصل سوادها بسواد تلك الرايات والبنود، فقال لمن يقرب منه، أما ترون السواد قد اتّصل بالسواد حتى صار الكلّ كالسحب المتكاثفة؟ ثم التفت إلى رجل يقرب منه وقال له: ويلك ألا تخبرني من صاحب جيشهم؟ قال:

__________________

(1) آخر خلفاء بني أمية ولُقِّبَ بالحمار لأنّ العرب - وحسب ما جاء في ص 255 من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي - تُسمّي كلّ مائة سنة حماراً ولمّا قارب مُلك بني أُميّة مائة سنة لقّبوا مروان هذا بالحمار لذلك.

١٧٧

هو عبدالله بن علي، فقال مروان: من ولد العباس هو؟ قال: نعم، قال مروان: وددت أنّ علي بن أبي طالب مكانه في هذا اليوم.

فقال: يا أمير المؤمنين أتقول هذا في علي بن أبي طالب عليه‌السلام وشجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها؟ قال: نعم إنّ علياً مع شجاعته صاحب دين، وإنّ الدين غير الملك، وإنّا نروي عن قديمنا أن لا شيء لعلي ولولده في هذا الأمر - يعني الخلافة - ثم أرسل الى عبدالله سراً يقول له: يابن العم إنّ هذا الأمر صائر إليك، فاتق الله واحفظني في دمي وحرمي، فأرسل إليه عبدالله أنّ لنا الحق عليك في دمك، وأنّ لك الحق علينا في حرمك، ثمّ حرّك عبدالله أصحابه للقتال ونادى مروان في أهل الشام وأمر عبدالله أصحابه أن ينزلوا، ونادى: الأرض الأرض، فنزل الناس ورمت الرماة وأشرعت الرماح وجثوا على الركب.

فقال مروان لقضاعة: انزلوا، قال: ما ننزل حتى تنزل كندة، فقال لكندة: انزلوا، فقالوا: لا ننزل حتى تنزل سكاسك، فقال للسكاسك: انزلوا، فقال: لا ننزل حتى تنزل بنو سليم، فقال لبني سليم: انزلوا، فقالوا لا ننزل حتى تنزل بني عامر، فقال لعامر: انزلوا، فقالوا: لا ننزل حتى تنزل بني تميم، فقال لتميم: انزلوا، فقالوا: لا ننزل حتى تنزل بنو أسد، فقال لبني أسد: انزلوا، فقالوا لا ننزل حتى تنزل هوازن، فقال لهوازن: انزلوا، فقالوا: لا ننزل حتى تنزل غطفان، فقال لغطفان: انزلوا وقاتلوا، فقالوا: لا ننزل حتى تنزل الأزد، فقال للأزد: انزلوا: فقالوا لا ننزل حتى تنزل ربيعة، فقال لربيعة: انزلوا، فقالوا لا ننزل حتى تنزل بنو ليث، فقال لصاحب شرطته: ويلك احمل، قال: ما كنت لأجعل نفسي غرضاً للرماح، فقال مروان: أما والله لأسوءنّك اليوم. فقال: وددت أن الأمير يقدر على إساءتي في مثل هذا اليوم.

ثم إنّ عسكر عبدالله حمل على عسكر مروان وفّر عسكره، فلحقوا مروان

١٧٨

وقتلوه وقتلوا كلّمن كان معه من أهل بيته وبطانته وهجموا على الكنيسة التي فيها بنات مروان ونساءه فوجدوا خادماً وبيده سيفاً مشهوراً وهو يسابقهم الدخول على الكنيسة فقبضوه وسألوه من أمره، فقال: نعم إنّ أمير المؤمنين مروان أمرني إذا قتل هو أن أهجم على بناته وعياله وكلّ نساءه وأقتلهن قبل أن يصل إليهم العدو، وهذا على زعمه أنه غيرة منه على بناته وهو والله لا يعرف الغيرة فكيف حال علي بن الحسين... الخ (1) .

ولما قتل مروان ادخلت بناته ونساؤه على عمّ السفاح صالح بن علي، فتكلّمت ابنة مروان الكبرى وقالت: يا عمّ أمير المؤمنين حفظ الله من أمرك ما تحب حفظه، وأسعدك في أحوالك كلّها وعمّك بخواص نعمه، وشملك بالعافية في الدنيا والآخرة، نحن بناتك وبنات أخيك فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جروكم. فقال لها: أوّلاً لا نستبقي أحداً لأنّكم قتلتم زيد بن علي ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل وقتلتم خير أهل الأرض حسيناً وقتلتم إخوته وأولاده وسبيتم عياله على نياق عجّف. فقالت: يا عمّ أمير المؤمنين فليسعنا من عدلكم إذاً، قال: أما هذا فنعم وإذا أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح، فبكت وقالت: يا عم امير المؤمنين وأين ساعة عرس ترى ونحن بالحزن وبالكدر، بل تحملنا إلى حرّان، فحملهن إلى حرّان مكرّمات، وقيل: قدم النياق العجف، فقالت ابنة مروان

__________________

(1) (فائدة) قال الأندلسي في العقد الفريد أنّه: كان أشدّ الناس على بني أمية عبدالله بن علي، وأحناهم عليهم سليمان بن علي، وهو الذي كان يسميّه أبو مسلم كنف الأمان، وكان يجير كل من استجار به. قال: ومات سليمان بن علي وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية.

(فائدة): ولمّا أتى الكتاب للسفاح بالهزيمة صلّى ركعتين، وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة دينار، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين، وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

١٧٩

الكبرى: يا عمّ امير المؤمنين ما تريد أن تصنع؟ قال: كما صنعتم ببنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قالت: يا عمّ أمير المؤمنين أترى ذلك حسن أم قبيح؟ قال: بل قبيح، قالت: إذاً أنت لا ترتكب القبيح (1) .

قال: ودخلت إحدى نساء بني أُمية على سليمان بن علي وهو يومئذ بالبصرة يقتلهم ويصلبهم على جذوع النخل ويسقيهم الخل والصبر والرماد، فقال: أيها الأمير إنّ العدل ليمل من الإكثار والإصرار فيه، فكيف أنت لا تمل من الجور وقطيعة الرحم، فأجابها شعراً:

سننتم علينا القتل لا تنكرونه

فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر

ثم قال: يا أمة الله أنتم أول من سنّها بين الناس، ألم تحاربوا علياً وتدفعوه عن حقّه؟ ألم تسمّوا حسناً وتنقضوا شرطه، ألم تقتلوا حسيناً وتسيّروا رأسه؟ ألم تسبّوا علياً على منابركم؟ ثم قال لها: هل من حاجة فتقضى لك؟ قالت: نعم قبض

__________________

(1) (فائدة) قال ابن الأثير: وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد وكان قتله ببوصير، من أعمال مصر في كنيسة من كنائس النصارى وكان مختفيا بها لثلاث مضين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة وعمره تسعاً وستين سنة، قتل بعد أن نازل عسكرالعباسيين، قال الراوي: وكان قد حمل رجل على مروان فطعنه وهو لا يعرفه، وصاح صائح: صرح أمير المؤمنين فابتدروه، فسبق إليه رجل من الكوفة، كان يبيع الرمّان فاحتز رأسه وبعث به إلى صالح، فلمّا وصل إليه أمر أن يقص لسانه فقطع لسانه، وأخذه فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر، هذا لسان مروان قد أخذه هرّ، قال الشاعر:

قد فتح الله مصر عنوة لكم

وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما

فلاك مقوله هرّ يجزّره

وكان ربّك من ذي الكفر منتقما

قال الراوي: وأرسل الرأس إلى أبي العباس بالكوفة فلمّا رآه سجد ثم رفع رأسه وقال: الحمدلله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق لي ثاري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين ثم تمثّل:

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم

ولا دماؤهم للغيض ترويني

١٨٠