نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب

نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب0%

نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 312

نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد الرصافي المقداد
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 44149
تحميل: 6153

توضيحات:

نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 44149 / تحميل: 6153
الحجم الحجم الحجم
نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب

نعم لقد تشيّعت وهذا هو السبب

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحلقة الثالثة والعشرون

مناهضة الشيعة للظالمين على مرّ التاريخ هو الذي شيّعني

استهواه الأدب بشتّى أصنافه، وعلى وجه الخصوص الآداب العربيّة، والتاريخ الإسلامي، ودفعه شغفه بالشعر إلى توق التخصّص في الآداب العربيّة، فكان اختياره على كليّة الآداب والعلوم الإنسانية، ليواصل فيها دراسته العليا، إنّه نور الدين، الشابّ الذي عُرف بدماثة أخلاقه، ورفعة شخصيّته، منذ أنْ كان صبيّاً يافعاً، وتطلّع روحه إلى الخير شيمة درج عليها، حتّى استوى عوده، لم أجد فيه مذ عرفته سوء يعرفه به الناس، ولا وقفت له على غميزة يستحقّ بها التجنّب والمباعدة، فقلت في نفسي كما قالت ابنة شعيب لوالدها: ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) (1) . هذا خير عنصر استأمنه على ما يختلج في صدري، فيكون لما أبثّه له محلّ جدارة واستحقاق؛ لطيب عنصره؛ ولصفاء روحه؛ فلم أجد لديه ما يعكر حديثي؛ ولا ظهر لي من تقاسيم وجهه ما ينبىء بعدم تقبّل مقالتي، وأنا أدعوه إليها، وكان تجاوبه مع حديثي، وانسجامه مع كلامي، يدلّان على أنّ عامل الوراثة الذي اتّبعه أغلب المسلمين ليس له تأثير على ذوي الأنفس المطمئنة، ولا على ذوي العقول المنفتحة على هذا العالم الرحب بعلومه المتنوّعة، ممّا سيعطي للحقّ صولة تنكشف فيها أساسات الباطل فيُنسف نسفاً، ويعود دين خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله محمدي المولد، علوّي البناء، ومهدويّ الدولة والنظام الإسلاميّ المنشود.

دعوته إلى جلستنا ليقول كلمة حول الظروف التي أحاطت بانتقاله من

_________________

(1) القصص: 26.

٢٢١

المذهب الذي كان عليه، وهو المذهب السنّي المالكي، إلى إسلام أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

قبل أنْ ألتزم بالدين الإسلاميّ الحنيف، كنت متحمّساً للثورة على الظلم والظالمين، كارهاً لكلّ عناوين الاستعلاء التي تعتري الحكّام، فتنحرف بهم عن الجادّة، ويكونون عناصر ضيق وكبت واستنزاف باطل لقدرات شعوبهم، وقد ساعدني في ذلك نشوئي في وسط عائلي مستقيم، يعتمد على مبادىء رافضة لكافّة أشكال الظلم، ومعاصرتي لجيل كان يلتمس روح مناهضة الظالمين من مبادىء غريبة عنه، نظراً لحالة الغربة عن دينه الإسلاميّ التي كان يعيشها، والتي فرضت عليه اتّباع المنهج الثوريّ خارج الإطار الإسلاميّ، كأنما الإسلام لا يحتمل ذلك، أو أنّه خال منه تماماً، فكانت الماركسيّة هي الفكر الذي رأيت فيه الوسيلة الوحيدة التي تسمح بمناوءة الظلم، والوقوف في وجه الظالمين، أمام غياب البديل الإسلاميّ وخلوّ الساحة منه.

لم أكن أتصوّر في ذلك الوقت، أنّ الإسلام يحتوي بدائل ونماذج، يمكنها أنْ تكون خير مثال يؤخذ، في إطار الصراع بين الحقّ والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الخير والشر، وخطّ الرحمان وخطّ الشيطان.

بل لقد كنت معتقداً آنذاك من خلال ملاحظاتي الخاصّة، أنّ الدين يمثّل الرجعيّة والتواطىء والتبعيّة للظلم، بحسب ما هو واقع من تعاملات، أولئك الذين تجلببوا برداء الدين، وانخرطوا في مسار ولاء الطغاة، تطبيقاً لسياسة صنعها فقهاء البلاط، وأمرّوها إلى الأجيال الإسلاميّة، فسارت على هديها، وهي تعتقد أنّها أمر إلهي.

ولم يتغيّر موقفي من عمالة الدين وخدمته للظالمين، إلى محاربته لجميع أنواع الظلم، إلّا بعد أنْ انتصرت الثورة الإسلاميّة في إيران، والتقيت في تلك الفترة بهذا

٢٢٢

الأخ العزيز الذي دعاني إلى هذه الجلسة، لأروي لكم كيفيّة انتمائي لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام .

كانت دار الاتّحاد العام التونسي للشغل قريبة جداً من بيت العائلة، وكنت عند كلّ مناسبة أو تظاهرة أو اعتصام يقام هناك، متواجداً للاطّلاع عن مجريات العمل النقابي، والمستجدّات على الساحة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلاد، فدار الاتّحاد كالمختبر الذي تكتشف فيه أعراض السقم، وأعراض الصحّة في المجتمع والدولة والبلاد.

التقيت به في احتفال بعيد العمّال العالمي، دأب على تنظيمه الاتّحاد العام التونسي للشغل، شأنه في ذلك شأن كلّ اتّحادات العمّال في العالم، وكنت أعرفه من قبل، من خلال الجيرة الطويلة التي ربطت عائلتي بعائلته، قبل أنْ تُفرّق الظروف بيننا، سررت بلقائه من جديد بسبب موقفه منّي، فهو لم يقطعني لصلتي الوثيقة بالماركسيين، وتعاملي معهم على المستويين الفكري والتنظيمي، كان يعتبر ذلك من حقّي كفرد في أنْ أمارس بحريّة ما يقرّره عقلي، وتستخلصه قناعتي، ويعتقده ضميري من فكر.

كان يعرف جيّداً مدى تديّن عائلتي، وحرصها الشديد على تنشئة أبنائها وفق الدين الإسلامي اعتقاداً وسلوكاً، ولم يكن شذوذي عن تلك التربية، مروقا عن القيم والمقدّسات، لأنّني بقيت محتفظاً بتلك الأسس في أعماق نفسي، وإنّ الذي حاد بي عن طريق خالقي ليس إلّا اختلاقات البشر وتحريفاتهم، حتّى انجازات الثورة الإسلاميّة في إيران، لم تتمكن من الوصول إلى أدعياء الفكر التحديثي ( اليسار الماركسي والقومي ) إلّا مشوّشة ومشوّهة، بما كانت تلفّقه عنها قوى الاستكبار العالمي، ومثلّث الشرّ الحقيقي أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني.

رحبت برفيق صباي وشبابي، وبعد تبادل قبلات الودّ واستحضار بعض

٢٢٣

الذكريات، بادرني بالسؤال: أما زلت ماركسيّاً يا نور الدين ؟

فقلت له: نعم، لا زلت كذلك، إلّا أنّني بدأت أشكّ في مدى عمليّة هذا الفكر، وفاعليته، وجدواه، خاصّة ونحن على أبواب تحوّلات عميقة، بدأ فيها معتنقوه يسلكون طريق التخلّص منه، فالاتّحاد السوفيتي حاله اليوم يُنبىء بذلك، وغداً قد يأتي بما لم يكن في حسبان أحد.

فقال: إنّني لا ألومك على موقفك من الدين، فقد وجدت أمامك من يحول دونك وبلوغ مصافّه، لكنّني اليوم أعرض عليك هذا الإسلام الذي بقي غائبا علينا قرون عديدة..

فقاطعته قائلا: أتقصدُ الإسلام الشيعيّ الذي يعتنقه الإيرانيون وحزب الله ؟

قال: نعم، ذلك ما أقصده، وأنت تعرف جيّداً أنّني كنت تابعاً لمدرسة الخلافة، تلك المدرسة التي باعدت بينك وبين التديّن بفصل الدين عن السياسة والحياة، حسب معتقدات المذاهب التي تتسمّى بالسنيّة، وهي مذهب ابن حنبل والشافعي ومالك الذين اقرّوا جميعاً بوجوب الصبر عند جور الحاكم، وقد نقل ذلك الشيخ أبو زهرة المصري في كتابه المذاهب الإسلاميّة، استناداً إلى الأحاديث التي نسبت للنبيّ كذباً وافتراء عليه، منها ما أخرجه مسلم في صحيحه: «من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنّ يداً من طاعة» (1) .

وقد مثّلت مواقف عبد الله بن عمر بن الخطاب ( رمز التسنّن وراويتهم العدل ) عندما انتفضت المدينة، بعد أنْ تناهى إلى أهلها استشهاد الإمام الحسين وذريته وشيعته في كربلاء، وسبي بنات رسول الله على أيدي الطلقاء عليهم لعنة الله والملائكة والمؤمنين، قمّة الخضوع والخنوع، فوقف في وجه مواليه مهدّداً

_________________

(1) صحيح مسلم 6: 24.

٢٢٤

ومتوعّداً كلّ من يخلع بيعته يزيد، تقول الرواية التي أخرجها البخاري:

«لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إنّي سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإنّي لا أعلم غدراً أعظم من أنْ يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثمّ ينصب له القتال، وإنّي لا أعلم أحداً منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر، إلّا كانت الفيصل بيني وبينه» (1) .

وتحرّك مسرعاً في الموقف الثاني إلى والي المدينة، ليعلن براءته من ثورة أهل المدينة، وبقاءه على طاعة يزيد لعنه الله، تقول الرواية التي أخرجها مسلم:

«جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع [ وكان والياً ليزيد على المدينة ] حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة.

فقال: إنّي لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثاً سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوله، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» (2) .

أمّا الموقف الثالث فهو أفظع وأدهى، فقد جاء إلى الحجّاج مهرولاً بعد أنْ رأى ما صنع بعبد الله بن الزبير، وطلب تجديد البيعة فأراد الحجّاج الإمعان في إذلاله، فمدّ إليه رجله وقال: «بايع هذه فإنّ يدي مشغولة» (3) ، وبايع ابن عمر الحجاج من رجله.

وقد التصقت سمة الخنوع والخضوع والطاعة للظالمين، بحيث لم تفارق ذلك

_________________

(1) صحيح البخاري 8: 99.

(2) صحيح مسلم 6: 22.

(3) انظر الكنى والألقاب 1: 363.

٢٢٥

الخطّ أبداً إلّا في العصر الحديث، بسبب المؤثّرات الخارجة عن ذلك الخطّ، والتي منها انفتاح البعض على الآراء والأفكار الأخرى التي تنتمي أيضا للإسلام، وملاحظة نجاح التجربة الإسلامية للنهضة الإسلامية في إيران ثورة ودولة.

ومقابل خطّ العمالة والخضوع للظلم، بذل أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم المزيد من الأرواح، من أجل الإبقاء على الإسلام حيّاً ومعطاء وفاعلاً في الأمّة الإسلاميّة فقد سار أتباعهم على نهجهم البطولي وقدّموا الكثير من التضحيات، من أمثال رشيد الهجريّ وميثم التمار وعمرو بن الحمق الخزاعيّ وجويرية بن مسهر العبديّ، وسعيد ابن جبير، وحجر بن عدي الكنديّ، وغيرهم ممّا لا يسعني استحضارهم، وذكر أسمائهم، فهم يعدّون بالآلاف.

قلت له: وهل تشيّعت أنت ؟

قال: نعم، لقد تشيّعت عن دراسة معمّقة، خرجت على أثرها متيقناً أنّ الإسلام الأصيل هو الذي ذهب إليه المسلمون الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة، نسبة إلى أئمتهم الاثني عشر.

قلت له: فما الفارق بين الإسلامين ؟

قال: الجانب الثوري الذي كنت تفتقده في خطّ الإسلام السنّي، الذي والى أنظمة الظلم والجور، التي حكمت الشعوب الإسلاميّة، تطبيقاً لروايات موضوعة.

قلت: بيّن لي ذلك ؟

قال: منذ أنْ فارق النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الدنيا، وشيعة أهل البيت عليهم‌السلام في صراع مرير، من أجل غرس الفكر الذي ورثوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص الدين الإسلامي، ذلك العمل العظيم كان له دور أساسيّ في بقاء جوهر الإسلام المحمّدي، نقيّاً وصحيحاً بحيث لم يتطرّق إليه شي من اختلاقات البشر، فلم

٢٢٦

يفصلوا الدين عن السياسة، كما فصلها الخطّ السنّي، وهم يعتبرون استنادا إلى أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الصحيحة: أنّ الدين جاء من أجل صلاح الدنيا والآخرة، وقيادة البشرية جمعاء في مسيرتها إلى الله تعالى نحو نظام الحكم الإلهي والمجتمع المسلم المثالي، والبديل عن كافّة النظم الوضعية التي تفتقد روح التواصل المتين مع الله، والمصداقيّة بين البشر، ولو نظر الباحث المنصف في مجموع أحكام الإسلام لرآها تناولت جميع متعلّقات ومتطلّبات البشر، بدءاً من أبسط المسائل، كآداب التخلّي إلى أعقدها فيما يتعلّق بالمواريث والعقود والمعاملات، وهذه الأخيرة، مثّلت في حجمها أكثر التشريع الإسلاميّ. وباعتبار أنّ الأحكام المشار إليها تحتاج إلى أداة تسهر عليها وتنشرها بين الناس بأمانة، وتنفّذها تنفيذاً صحيحاً، تظهر ثماره على المجتمع ليتحقق العدل الإلهي فيما بين البشر ويأمن الناس تحت ظلّ تلك الحكومة الإلهية، جاء الأمر الإلهي للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتعيين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إماماً يهتدي المسلمون بتطبيقاته وعلومه، وحاكماً مؤهّلاً ليشغل الفراغ الذي سيخلفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

لكنّ التحريفيين كانت أطماعهم في السلطة غير خافية، بحيث دخل منهم إلى الدين من دخل وهو يرجو نيل مكان في أعلى قمّة التسيير، وتطاول منهم من تطاول على مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحيكت المؤامرات ضدّ أهل البيت وتمّ أمر الحكم للانقلابيين، وضيّق على عليّ عليه‌السلام وأهل بيته، ومع مرور الزمن تحوّلت أحقيّة أهل البيت عليهم‌السلام وقدسيّتهم إلى نكارة وجهالة، تعامل بها حيالهم أغلب الأمّة، نتيجة سياسات التجهيل والقمع التي مارسها المتسلّطون على الحكم والأمّة، وتحوّلت منزلة الطاهرين من ذلك المقام المرموق الذي كان على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى موضع التهمة ومبرّر التنكيل والقتل، وتحوّل نظام الحكم الذي سلط على رقاب المسلمين من تلك الحالة الانقلابيّة الشاذّة إلى ملك غاشم، لا يفرّق بين

٢٢٧

حقّ وباطل، وعوض الحكومة الإلهيّة الراشدة، مُني المسلمون بنظام حكم جاهلي، لم يراع أبسط الحقوق لأفراد المجتمع، فتحوّل أهل البيت عليهم‌السلام عندما رأوا أنّ الدين وتشريعاته أصبحا في خطر، إلى المعارضة الفاعلة في أوساط الأمّة، فخرج الإمام أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام في هجرته العظيمة من المدينة إلى مكّة، ثمّ بعد ذلك إلى الكوفة، ليعيد الحكومة الهادية بأمر ربّها إلى أصحابها الشرعيين، وليضرب للمسلمين وللناس جميعاً مثلاً في الفداء والتضحية من أجل المبدأ، وكانت مواجهته لقوى البغي والظلم من نتاج مؤامرة السقيفة، درساً لن ينسَ لكلّ الأحرار في العالم، في الثبات على الموقف والمبدأ؛ لأنّ الحياة إذا لم يكن فيها موقف ومبدأ، فهي إلى الحيوانيّة أقرب منها للإنسانيّة، وأسّس سيّد شباب أهل الجنّة عليه‌السلام مدرسة الشهادة، وجامعة الثورة في يوم عاشوراء، وكانت كربلاء موضع حجر الأساس لنهضات وثورات تتابعت تأسّياً بريحانة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان للائمّة من أولاده عليهم‌السلام الدور البارز في قيادة تلك الثورات، فعلّموا أتباعهم وشيعتهم أحكام الإسلام وعلومه الصحيحة، ونظّموا صفوف الطلائع المؤمنة، ونشروا روح خدمة الإسلام، وفداءه بكلّ غال ونفيس، فاندلعت ثورات عديدة، أسقطت طلقاء بني أميّة، وفرّقت جمعهم إلى غير رجعة، لكنّ الأمّة عادت فكرّرت نفس التقصير، وأخلّت بواجبها في التقيّد بالإسلام وموالاة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، فاستولى بنو العباس على الحكم، ولم تمرّ فترة وجيزة حتّى أعادوا الظلم إلى موقعه على صدر الأمّة الإسلاميّة، وبقي أهل البيت عليهم‌السلام في نفس موقع المعارضة، ونفس الدور في التعليم والإرشاد والدعم الروحي والمادّي وتنظيم كوادر العمل الإسلاميّ التي كانت تتخرج من مجالسهم، فتوالت الثورات ضدّ الظلم والظالمين، وكانت أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تحريم اتّباع الظالمين، أو إعانتهم، أدلّة مسجّلة في تراثهم الخالد، من ذلك قول الإمام

٢٢٨

عليّ عليه‌السلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1) . وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله» (2) . وغير ذلك من الروايات التي تحرّم طاعة الظالمين، وبناء على ذلك، أفتى علماء الشيعة بأنّ أيّ عمل يقوم به المكلّف وفيه شكل من أشكال المعونة للظالم فهو حرام، ويُعدّ كبيرة من الكبائر. وقصّة صفوان الجمال شاهد على ذلك، تقول الرواية إنّه كان في عهد الرشيد رجل من الشيعة يدعى صفوان، وكانت له جمال يكريها لهارون الرشيد حين يذهب إلى مكّة للحجّ، فدخل يوماً على الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فقال له: يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً.

قال: جعلت فداك أيّ شي ؟

قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون.

قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد ولا للهو، ولكن أكريته لطريق مكّة، ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث غلماني.

فقال: يا صفوان أيقع كراؤك عليهم ؟

قال: نعم جعلت فداك.

قال: أتحبّ بقاؤهم حتّى يخرج كراؤك ؟.

قال: نعم.

قال: فمن أحبّ بقاؤهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار. فذهب صفوان وباع جماله عن آخرها؛ فبلغ ذلك الرشيد، فدعاه وقال له: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك.

قال: نعم.

_________________

(1) نهج البلاغة 4: 41، الخصال: 139.

(2) الفصول المهمّة في أصول الأئمة: 228.

٢٢٩

قال: ولم ؟.

قال: أنا شيخ كبير والغلمان لا يفون بالأعمال.

قال: هيهات هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، موسى بن جعفر.

قال: مالي ولموسى بن جعفر ؟.

قال: دع هذا عنك فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك (1) .

ومن أجل إضفاء الشرعيّة على أنظمتهم، سعى ملوك بني العباس إلى استمالة أئمّة أهل البيت، بعد أنْ استطاعوا استمالة أغلب الفقهاء والرواة والحفّاظ، وكانت للمنصور الدوانيقي محاولة فاشلة مع الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، فقد وجّه إليه رسولاً ومعه رقعة كتب فيها: لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس ؟ فردّ عليه أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : «ليس لنا ما نخافك من أجله ولا عندك من امر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزيك بها فما نصنع عندك» فردّ عليه الدوانيقي: تصحبنا لتنصحنا. فردّ الإمام الصادق عليه‌السلام : «من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك» (2) .

وكلّفت كلّ تلك المواقف أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام مزيداً من التضييق والسجن والقتل ودسّ السمّ لهم، من طرف المتسلطين على الأمّة، فلم يمنعهم ذلك من المضيّ قدماً في مواقفهم، التي كانت تمثّل التطبيق الصحيح للدين، الذي جاء به جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وسمة الثورة والاستماتة على الحقّ، التي ميّزت هذا الخطّ، جعلت أعناق الأحرار والتوّاقين إلى العزّة تلتفت إليه وتتّجه نحوه.

وأنت ترى اليوم أنّ الفكر الماركسي، والثورة البلشفيّة التي تمخّضت عنه، لم

_________________

(1) اختيار معرفة الرجال 2: 740.

(2) كشف الغمّة 2: 427.

٢٣٠

تستطع أنْ تقدّم شيئاً يذكر من مساواة وعدل وأمن، لمعتنقي ذلك الفكر، فضلاً عن البشريّة جمعاء، إضافة إلى تعلّقها بكلّ ما هو مادّي ومحسوس، وإنكارها ما وراء ذلك، فهم لا يعترفون بوجود خالق هذا الكون، ولا بحياة ما بعد الموت، وهو في نظري فكر سطحيّ يائس، لا يستند على مقالة صحيحة في هذا الخصوص، وأنت تدرك أكثر منّي بأنّ المعلول لا بدّ له من علّة، والسبب من مسبّب... فقاطعته قائلا: أنا مؤمن بوجود خالق لهذا الكون، لقد دخلت مع الماركسيين لسبب واحد، وهو ثوريّة فكرهم، ووجاهة برنامجهم الاقتصادي في إرساء نظام عادل في توزيع للثروات، أنا لم ولن أتبنّى نظرياتهم الاجتماعيّة ولا رأيهم في الوجود ككل.

قال: إذاً، عليك أنْ تراجع حساباتك بخصوص الإسلام والتاريخ الإسلامي، لتتعرف على نقاط الخلل التي باعدت بينك وبين هذا الفكر العظيم، الذي طرحه أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام .

قلت له: فهل عندك ما يمكنني من ذلك ؟

قال: نعم، وسترافقني بعد مغادرتنا دار الاتّحاد إلى البيت، لتسلّم على العائلة، وأقدّم لك ما يمكن أنْ يفيدك فيما ذكرت لك.

بعد انتهاء الاحتفال، توجّهنا جميعا إلى بيت هذا الأخ الكريم، ورحّب بي أفراد عائلته، وسألوني عن عائلتي كيف حالهم والى أين صاروا، وبعد أداء واجب السلام، أخذني إلى مكتبته، واختار لي بعض الكتب التاريخيّة التي تناولت الحركات الثوريّة في العصرين الأمويّ والعباسيّ، مع كتاب الشهيد مرتضى مطهري «المجتمع والتاريخ»، و «دوافع نحو الماديّة»، و «كتاب الاستحمار» للشهيد علي شريعتي، فأخذتها منه، والتزمت بقراءتها سريعاً، وهو ما تمّ فعلاً، وعلى أثر ذلك اقتنعت بأنّ الماركسيّة لا تمثّل المنهج الثوريّ الصحيح، وهي في

٢٣١

أبعادها لا تتجاوز حركة عمر الإنسان ومسيرته في الحياة الدنيا، بينما يمثّل الإسلام الذي يرفض الظلم، ويعتبره خروجاً عن جوهر الدين، وإنّ مقارعة الظالمين عبادة كبرى كما هو عند أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، المنهج الثوري الصحيح الذي يساير حركة الإنسان في الدنيا والآخرة وهو الإسلام الصحيح الذي تبنّاه أهل البيت عليهم‌السلام وهو ما جاء به النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فغيّرت وجهتي إليه، واقتنعت به، وسلكت طريقه، وأعلنت ذلك لصديقي، فحمد الله على نعمة هدايتي، واستحثّني على مزيد البحث والمطالعة، حتّى تترسّخ الفكرة في عقلي، وتستوثق في وجداني، وبقي يُتابعني في تلك المرحلة، ولم يتركني إلّا بعد أنْ استوفيت حلّ كلّ الشبهات، التي ألقاها الظلمة على دوحة أهل البيت عليهم‌السلام ، ليشوّهوا مظهرها البديع.

٢٣٢

الحلقة الرابعة والعشرون

شيّعني الحسين عليه‌السلام

جاء مرافقاً لاحد الإخوة المستبصرين، لم أكن أعرفه من قبل، قال عنه مرافقه: إنّه قد استبصر حديثاً، وعرف حقيقة الإسلام المحمّدي الذي لم تخالطه شائبة من شوائب المستكبرين والمشركين، وكان ذلك من طريقه، ثمّ قدّمه: الأخ عماد، شاب من شباب الإسلام العظيم، تربّى في أسرة ملتزمة بدينها، في عصر قلّت فيه الأُسر الملتزمة، أخذ أبجديات العبادة عن والده ووالدته، قبل أنْ يبلغ سن التكليف، فزاده ذلك دفعاً نحو الالتزام الكامل، تعرف على إسلام أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبحث في خصوصيّاته وتفاصيله، فرآه أقرب إلى الوحي والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من غيره من المذاهب التي تسمّت بأسماء أصحابها، فالتزم به وباشر تطبيق شعائره وأحكامه، وأحلّها محلّ الشعائر والأحكام التي كان يطبّقها بطريق التقليد الوراثي، حدّثته عن فكرة الإدلاء بإفادات المستبصرين، فرغب في أن يكون ضمن مَنْ سيُدلي بدافع تشيّعه لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام .

فما كان منّي إلّا أنْ رحبّت بقدومه، وشكرت له سعيه من أجل إظهار الحقّ، ثمّ طلبت منه أنْ يدلي بإفادته فقال:

كم يشعر المرء بالغباء والغبن عندما يستفيق من غفوته، ويخرج من غفلته، وكم تكون ردّة الفعل سريعة، لطرد كلّ تلك الآثار التي علقت بنفسه، وأعاقتها ردحاً من الزمن.

فيما مضى من عمري، كنت من بين ملايين المسلمين الذين دخلوا الدين من بوّابة التقليد المجرّد من العلم والمعرفة، ومع أنّني انتهجت بعد نضجي وإدراكي

٢٣٣

لبعض التكاليف الواجبة عليّ، منهج الإسلام الشمولي الذي لا يفصل الدين عن الحياة، والذي يعتبر أنّ السياسة جزء أساسيّ لا يتجزّأ من الدين الحنيف، فقد بقيت سالكاً نفس النهج التقليدي للعبادة والفهم، ومتّبعاً أثر التديّن الذي اكتشفت فيما بعد أنّه من املاءات الأنظمة التي خضعت لها رقاب المسلمين بالجبر والإكراه قرون عديدة، دون أنْ ألتفت إلى مصدر هذا الفقه، ولا العصر الذي جاء منه، وطبيعيّ أن يكون نتاج الظلم تحريفاً لحقيقة الدين وسموّ معانيه، ووضوح أحكامه؛ لأنّ طبيعة الانحراف لا تولّد إلّا انحرافا مثله.

لم أسمع أو أقرأ عن المسلمين الشيعة إلّا كلّ منكر وسوء، فقد كان منطق التكفير هو السائد حيال تلك الفرقة، من جانب الخطّ الذي كنت منتسباً إليه، والمعروف بالخطّ السنّي، استناداً إلى جملة من التهم التي ألصقت بواجهة تلك الطائفة؛ لذلك لم أكلّف نفسي عناء البحث عنهم، ولا تبادر إلى ذهني، ولا خالطني شعور أو إحساس بالسؤال عنهم والاهتمام بهم، حتّى الثورة الإسلاميّة في إيران، لم تكن عندي بالمقدار والأهميّة التي كان يجب أن تكون عليه، وقد استغلّ الاستكبار العالمي هذه الفجوة ليعمّق الشرخ، ويباعد بين عموم المسلمين وبين تلك النهضة المباركة؛ تأصيلاً منه لروح العداء والضغينة التي أسّسها المتسلطون الأوائل على رقاب المسلمين، فالشيعة في محصّلة الفكر السنّى، كفار مارقون، وروافض حلّت دماؤهم وأموالهم وأعراضهم، واستمرّ اعتقادي في الشيعة بتلك القناعة، إلى أنْ جاء يوم شاهدت فيه بالصدفة مراسم عاشوراء التي دأبوا على إحيائها، من خلال قناة تلفزيونية فرنسيّة، فشكّلت مشاهدتي لتلك المظاهر صدمة نفسية، كان لها الأثر الكبير في تحوّلي من الخطّ الوراثي الذي كنت أسلكه، إلى الخط المعرفي الذي استبدلته به.

فنهضة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وثورته المباركة، وشهادته العظيمة، وتضحيته من

٢٣٤

أجل الإسلام، لم تكن تعني شيئاً عند أتباع خطّ الإسلام السنّي الأشعري، الذي اعتمده أغلب حكّام المسلمين، الذين لا يحبّذون الثورات والثوار بطبعهم، ويرون فيها وسائل لهدم أنظمتهم، وتقويض أسسها المبنيّة على الظلم والتعدّي والاستكبار. دفعتني صدمة تلك المشاهد إلى الاستغراب والسؤال: لقد تعوّد مجتمعنا على الاحتفال بيوم عاشوراء، على أساس أنّه يوم مبارك يفرح فيه المسلمون، ويطبخون فيه الحبوب، ويظهرون فيه الزينة، والتوسعة على العيال، ويصومون ذلك اليوم قربة إلى الله، فإنّهم قد بنوا صيامه على مقالة منسوبة لليهود تقول: إنّ عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى من فرعون، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: «أنتم أحقّ بموسى منهم، فصوموا» (1) ، ووجدت خبرين أخرين يقولان مع اختلاف في أسماء الأنبياء بينهما، بأنّه اليوم الذي أنجى فيه الله سبحانه وتعالى عشرة أنبياء (2) ، فلماذا يكون يوم العاشر من المحرّم عندنا يوم فرح وسرور، ويكون عند الشيعة يوم حزن وبكاء وسواد ؟ أين تكمن الحقيقة يا ترى ؟

هالني وأنا أتابع باهتمام كبير مراسم الحزن والعزاء التي يقيمها المسلمون الشيعة على الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء، ووجدت نفسي أتساءل عن معنى تلك المراسم وحقيقتها.

ورغم حصول تلك الرجّة، لم استطع أنْ أتبيّن حقيقة الإمام الحسين عليه‌السلام ويومه العظيم، إلّا بعد أنْ التقيت بأحد أفراد الشيعة في المدينة التي أعيش فيها، رأيت أنْ أسأله عن تلك المظاهر التي تراءت لي غريبة في بعض تفاصيلها.

قلت له: لماذا يفرح المسلمون السنّة يوم عاشوراء ويفرح اليهود فيه أيضاً، ومقابل ذلك نجد الشيعة يكثرون من مظاهر الحزن فيه ؟

_________________

(1) صحيح البخاري 5: 212.

(2) انظر على سبيل المثال تاريخ دمشق 62: 264، مواهب الجليل للحطّاب الرعيني 3: 314.

٢٣٥

فقال: إنّنا أمام خبرين أحدهما رواية والآخر دراية، فخبر أنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وأنّ اليهود يصومونه تبرّكاً به، ليس له أصل في الواقع؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له مصدر لاستقاء معلوماته غير الوحي فلم يؤثر عنه أنّه اتّبع يهوديّاً أو نصرانيّاً في مسألة من المسائل، ويكفي الرواية وهنا وبطلاناً أنّ اليهود لا يعتمدون التقويم القمري، ولو قدّر للرواية صحّة، ووافق ذلك اليوم يوم العاشر من المحرّم فانّه لا يتّفق قطعاً مع بقيّة الأعوام؛ لنقص تعداد السنة القمريّة عن السنة الشمسيّة، ومنه يتضح حال الخبر القائل بأنّه اليوم الذي أنجى الله فيه عشرة أنبياء منهم نوح وإبراهيم، النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ، أولى باللطف الإلهي والعناية الربانيّة، فإنّ خبر استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ، وخيرة أهل بيته عليهم‌السلام وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، يوم عاشوراء خبر دراية؛ لذلك اعتمد المسلمون الشيعة على الدراية، ورأوا التعامل مع ما هو قطعيّ الدلالة على اتّباع الظنّ، والتعبّد بالموضوعات التي اختلقها الطغاة، من أجل التغطية على جرائمهم.

قلت له: فلماذا كلّ هذا الحزن على الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه ؟ ألا يكفي ما أظهره عليه أهله وأتباعه عند موته ؟ ألا يعتبر ذلك من البدع المنسوبة للشيعة ؟

فقال لي: قد لا تختلف معي إذا قلت لك إن الإمام الحسين عليه‌السلام هو ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد لقبّه هو وأخوه الحسن بن علي عليهما‌السلام بسيدي شباب أهل الجنة (2) ، وهو خامس أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير التي تقول: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) وقد نسبه النبيّ

_________________

(1) صحيح البخاري 4: 217.

(2) سنن الترمذي 5: 321، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 2: 423، ح 796.

(3) الاحزاب: 33.

٢٣٦

إلى نفسه نسباً باطناً فوق نسبه الظاهر فقال: «حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسينا» (1) .

قلت له: كلّ ذلك واضح وصحيح ونعترف به، مع أنّنا لا نجد فيه مبرّراً لإقامة تلك المراسم.

فقال: ذلك ممّا لم تتبيّنه أنت ولا أتباع خطّك، من خلال رؤيتكم للأشياء بعين العصبية المذهبيّة، لذلك فإنّني أرجو أنْ لا تقاطعني حتّى أكمل كلامي في بيان حجّتي المتمثلة في الحزن على أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، في محنته ومصيبته يوم عاشوراء..

سكت قليلاً ثمّ قال: هل تعلم أنّ من بين التكاليف التي ألقيت على جميع المسلمين، مودّة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (2) وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ماهيّة القربى الذين أشارت إليهم الآية ؟ فقال: «علي وفاطمة وأبناهما». وقد أراد الله تعالى أنْ يكرم نبيه بأن ألزم المسلمين محبّة قرباه صلى‌الله‌عليه‌وآله واحترامهم، وتقديمهم، وتبجيلهم، وتوقيرهم، وجعل ذلك أجراً لرسالة الإسلام التي جاء بها إلى الأمّة، وذلك كلّه يندرج في معاني المودّة التي تضمنتها الآية الشريفة. ومودّة القربى تلك كماترى، أصبحت تكليفاً واجباً على كلّ جيل من أجيال المسلمين، ممّا يترتب عليه بالنسبة إلى تلك الأجيال أن تلتزم بإيفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّه في مودّة قرباه، طاعة لله تعالى وامتثالا لأمره. ومحنة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء هي محنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخروجه طلباً للإصلاح، هو طاعة لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

_________________

(1) سنن الترمذي 5: 324، مسند أحمد 4: 172.

(2) الشورى: 23.

٢٣٧

قلت له: لكنّنا نحن أهل السنة نحبّ أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحترمهم، لكنّنا لا نغالي في ذلك كما تفعل الشيعة.

قال: بيّن لي كيف تحبّون أهل البيت ؟ وكيف يمكنكم تجسيد ذلك وإظهاره ؟ وماذا قدّمتم للأطهار عليهم‌السلام حتّى توفون بواجبكم نحوهم، ويعتبركم أهل البيت عليهم‌السلام من محبيهم حقّا ؟ فللمودّة والحبّ تطبيقات، كما تظهر لهما من خلال ذلك علامات، لابدّ من تجليها على المحبّ، وإلّا لم يكن الأمر كذلك.

ونظرت بيني وبين نفسي، وغصت في أعماق مشاعري وأحاسيسي، باحثاً عن مظهر أو علامة استدلّ بها على حبّي، وحبّ أهل السنّة لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم أجد شيئا ألوذ به، فلم أجد له تجسيداً ولا عثرت على دليل يكون إلى جانبي..

خيّم عليّ صمت أشبه بالوجوم، فقال: لماذا سكتّ ؟ ألأنّك لم تجد ما يصدق دعواك في محبّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأضيف لك أنّ المحبّة اتّباع وتأس، وهو الركن المهم والمطلوب في هذه المودّة، قال تعالى: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (1) فهل اتّبعتم أهل البيت عليهم‌السلام في شيء من الأشياء، وهي كلّها سنن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تعلّموها وورثوها منه ؟ أنا لا أظنُّ ذلك، بل أجزم أنّكم لم تتّبعوهم في شي مطلقاً، ونفضتم أيديكم منهم، ووقفتم في صفّ المحاربين لهم بدءاً من السقيفة وانتهاءً ببقائكم على ولاية من ظهر عداءه للدين، من هؤلاء الفسقة والظالمين، الذين يجثمون على صدوركم، وتعتبرونهم أولياء أموركم.

قلت: على رسلك، فإنّ جانباً هامّاً من أهل السنّة، والمتمثّل في طلائعه المثقّفة لا تؤمن بولاية هؤلاء الأشرار من أتباع حزب النفاق، والحركات الإسلاميّة الحديثة قد خرجت من قمقم طاعة الظالمين، بعد أنْ جرّبته طويلا

_________________

(1) آل عمران: 31.

٢٣٨

ووقفت على بطلانه.

قال: وهل تعتقد أنّه خروج حقيقيّ، ألا ترى أنّها ما تزال مقيمة على تلك المذاهب التي أسّسها هؤلاء الظلمة، ألم يكن مالك على سبيل المثال صنيعة أبو جعفر المنصور العباسيّ، وذلك من أجل حمل الناس على ترك سادس أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، الذي كان وأبوه محمّد بن عليّ الملقب بالباقر وبقيّة الأئمّة عليهم‌السلام أساتذة كلّ هؤلاء الفقهاء.

قلت: هذا صحيح، إلّا أن ذلك مردّه قلّة الوثوق بالبديل الذي يستطيع تعويض منهجهم القديم.

قال: بل إنّي أراه نتاج ثقافة أسّست على الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحاكمية وقعت ضحيّة أناس ليسوا أهلا للقيام بها.

قلت: فإلى أيّ حدّ تذهبون بمودة قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: ليس للمحبّة حد يا صديقي، أحبب أهل البيت عليهم‌السلام ، وكلّ الذين وصلوا إلى مقام القرب الإلهي، بقدر ما تشاء وتريد، فقط لا تخرج بهم من دائرة المخلوقيّة، وافعل ما بدا لك؛ لأنّنا في هذه الشعيرة متنافسين من أجل تحصيل الأجر الأكبر، كما ترغّبنا فيه بقيّة الآية: ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) (1) ثمّ تعال لأقرّب لك فهم المودّة: لو أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان في زماننا وخرج من أجل أنْ يُصلح في أمّة جدّه، ماذا أنت فاعل ؟

قلت: أخرج معه قطعاً.

قال: لا تستعجل على نفسك هكذا، فلو كنت فاعلاً ذلك حقّاً، لما استكثرت عليه هذه الجموع المحيية لذكراه، والهاتفة باسمه.

قلت: ألا يكفي بكاء القرون الأولى، ألم يقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا عزاء بعد ثلاث ؟

_________________

(1) الشوري: 23.

٢٣٩

قال: لقد قلت لك إنّ كلّ جيل له تكليفه بخصوص المودّة، فنصرة الحسين عليه‌السلام واجبة على من سمع بخروجه، والبكاء عليه من الأمور المطلوبة والمحبّذة، حتّى لو كان ذلك بعد أربعة عشر قرناً، لأنّ الإمام الحسين رمز الإسلام، وبقيّة أصحاب الكساء، فالبكاء عليه في محنته أمر عبادي يراد به وجه الله تعالى؛ أحد أوليائه المقرّبين، وأحد القربى الذين فرض الباري محبّتهم، وفوق ذلك كلّه، فقد بكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولده الحسين عليه‌السلام .

قلت: وكيف بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على سيدنا الحسين رضي‌الله‌عنه وحادثة كربلاء لا تزال في رحم الغيب، وبينها وبين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من خمسين عاما ؟

قال: الروايات في ذلك عديدة متكاثرة وهي تنصّ وتصرّح بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بكى على ولده الحسين وأقام عليه العزّاء في أوقات عديدة لعلّ أوّلها في يوم ولادة الحسين عليه‌السلام . وها أنا أورد لك روايتين على سبيل المثال فقط:

الأُولى: أخرج الحاكم بسنده إلى أمّ الفضل بنت الحارث: «أنّها دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت: يا رسول الله، إنّي رأيتُ حلماً منكراً الليلة. قال: وما هو ؟ قالت: إنّه شديد. قال: وما هو ؟ قالت: رأيتُ كأنّ قطعة من جسدك قُطّعت، ووضعت في حجري. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت خيراً، تلد فاطمة إنْ شاء الله غلاماً فيكون في حجرك، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخلت يوماً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعته في حجره، ثمّ حانت منّي التفاتة، فإذا عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تهريقان من الدموع. قالت: فقلتُ: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي مالك ؟ قاله: أتاني جبريل عليه‌السلام فأخبرني أنّ أمتي ستقتل ابني هذا. فقلت: هذا. فقال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1) .

_________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 176، وانظر أيضاً تاريخ دمشق 14: 197.

٢٤٠