موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ١

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 232

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
المحقق: باقر شريف القرشي
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 232
المشاهدات: 109882
تحميل: 1589


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • المشاهدات: 109882 / تحميل: 1589
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

الإثم وأرغموا الإمام على قبول التحكيم ، ولو كان يروم السلطة لأجابهم إلى ذلك.

وعلى أي حال فقد صدرت منه مجموعة من الكلمات تدلّ ـ بوضوح ـ على عصمته ، كان منها ما يلي :

1 ـ قال عليه‌السلام :

« والله لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها ، على أن أعصي الله جلب شعيرة أسلبها من فم نملة ما فعلت ».

وهذه هي العصمة التي تقول بها الشيعة ، وتضفيها على أئمّتهم.

2 ـ قال عليه‌السلام :

« والله لأن أبيت على حسك السّعدان (1) مسهّدا ، أو أجرّ في الأغلال مصفّدا ، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد ، وغاصبا لشيء من الحطام » (2) .

أليست هذه هي العصمة؟

أليست هذه هي الطهارة من الرجس وآثام الحياة؟

أليست هذه هي ملكة العدالة التي تبلغ بالإنسان إلى قمّة الإيمان والتقوى؟

3 ـ قال عليه‌السلام :

« وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق (3) . ولو شئت لاهتديت الطّريق ، إلى مصفّى هذا

__________________

(1) الحسك : الشوك. السعدان : نبت له شوك ترعاه الإبل.

(2) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 3 : 80.

(3) المزلق : الصراط.

١٠١

العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ. ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ـ ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشّبع ـ أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! » (1) .

أليس هذا هو نكران الذات الذي هو عين العصمة من كلّ إثم من مآثم الحياة.

4 ـ قال عليه‌السلام :

« والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم ».

فإذا كانت الدنيا عنده بهذه الحقارة والضعة كيف يقترف الذنوب للظفر بملاذها وخيراتها.

5 ـ قال عليه‌السلام :

« وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيّي ، وإنّي لعلى الطّريق الواضح ألقطه لقطا ».

لقد كان على الطريق الواضح الذي لا التواء ولا منعطفات فيه ، وهو عين العصمة التي من ذاتيات الإمام عليه‌السلام .

6 ـ قال عليه‌السلام :

« ما كذبت ولا كذّبت ، ولا ضللت ولا ضلّ بي ».

__________________

(1) نهج البلاغة 3 : 3.

١٠٢

7 ـ قال عليه‌السلام :

« إنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قطّ ».

8 ـ قال عليه‌السلام :

« فو الّذي لا إله إلاّ هو إنّي لعلى جادّة الحقّ ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل ».

وتجسّدت العصمة بجميع صورها ومفاهيمها في أقوال الإمام وسلوكه ونزعاته.

زهده :

من ذاتيات إمام المتّقين ، ومن أبرز عناصره الزهد التامّ في الدنيا ، والرفض الكامل لجميع مباهجها وزينتها ، لقد سيطر على نفسه وعوّدها البؤس والحرمان ، وحمّلها من أمره رهقا ، فلم يستجب لأي متعة من متع الحياة ، ولم ينعم بأي نعمة من نعيمها ، فكان أزهد الناس كما يقول عمر بن عبد العزيز (1) .

ولمّا آلت إليه الخلافة وأشرقت الدنيا بحكومته التي هي امتداد لحكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، طلّق الدنيا ثلاثا وعاش في أرباض يثرب والكوفة عيشة البؤساء والفقراء ، فلم يبن له دارا ، ولم يلبس من أطائب الثياب وإنّما كان يلبس لباس الفقراء ، ويأكل أكلهم ، وقد قيل له في ذلك فأجاب : « لئلا يتبيّغ بالفقير فقره! » وهكذا انصرف عن الدنيا ، ولم يعد لملاذها ومنافعها أي ظلّ عليه.

صور مذهلة من زهده :

وذكر المؤرّخون والرواة صورا رائعة ومذهلة من زهد الإمام عليه‌السلام كان منها ما يلي :

__________________

(1) تاريخ دمشق 3 : 252. جواهر المطالب 1 : 276.

١٠٣
1 ـ لباسه :

ولم يعن الإمام عليه‌السلام بلباسه ، وإنّما كان يلبس أخشن الثياب ، وهذه بعض البوادر التي حكيت عنه :

أ ـ روى عمر بن قيس قال : رئي عليّ وعليه إزار مرقوع فعوتب عليه ، فقال :

« يقتدي به المؤمن ، ويخشع له القلب » (1) .

ب ـ روى أبو إسحاق السبيعي ، قال : كنت على عنق أبي وأمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب يخطب ، وهو يتروّح بكمّه ، فقلت : يا أبه ، أمير المؤمنين يجد الحرّ؟ فقال : لا يجد حرّا ولا بردا ، ولكنّه غسل قميصه وهو رطب ، ولا له غيره فهو يتروّح به » (2) .

ج ـ روى أبو حيّان التميمي عن أبيه ، قال : رأيت عليّا على المنبر يقول :

« من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته ».

فقام إليه رجل فقال له : أنا اسلفك ثمن إزار وعلّق على ذلك عبد الرزاق فقال : لقد فعل الإمام ذلك وكانت الدنيا إذ ذاك بيده إلاّ الشّام (3) .

د ـ روى عليّ بن الأقمر قال : رأيت عليّا وهو يبيع سيفا له في السوق ويقول :

« من يشتري منّي هذا السّيف ، فو الّذي فلق الحبّة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته » (4) .

__________________

(1) صفة الصفوة 1 : 168. المناقب 1 : 366 ، وفيه زيادة : « وتذلّ به النفس ».

(2) الغارات 1 : 99.

(3) الاستيعاب ( المطبوع على هامش الإصابة ) 2 : 49. جواهر المطالب : 284.

(4) صفة الصفوة 1 : 168.

١٠٤

هـ ـ ذكر الرواة : أنّه لم يكن للإمام إلاّ قميص واحد لا يجد غيره في وقت الغسل (1) .

و ـ أتى الإمام عليه‌السلام سوق البزّازين ليشتري ثوبا له فوقف على تاجر فعرفه ، فأراد مسامحته ليتقرّب إليه ، فانصرف عنه ولم يشتر منه ، ووقف على غلام لم يعرفه فاشترى منه ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم ، والآخر بدرهمين ، فقال لقنبر : « خذ الّذي بثلاثة دراهم ».

فقال له قنبر : أنت أولى به ، إنّك تصعد المنبر وتخطب الناس ، فردّ عليه الإمام وقال له :

« أنت شابّ ، ولك شرخ الشّباب ، وأنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك » (2) .

ز ـ اشترى الإمام عليه‌السلام قميصا بثلاثة دراهم ، وقال : « الحمد لله هذا من رياشه » ، أي من ستره (3) .

ح ـ روى هارون بن عنترة قال : دخلت على عليّ في الخورنق ، وهو يرعد من البرد ، وعليه سمل قطيفة ، فقلت :

يا أمير المؤمنين ، إنّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال ، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال :

« والله! ما أرزؤكم شيئا من مالكم ، وإنّها لقطيفتي الّتي خرجت بها من منزلي بالمدينة » (4) .

__________________

(1) المناقب 1 : 366.

(2) الغارات 1 : 106.

(3) أمالي المرتضى 1 : 353. النجوم الزاهرة 1 : 353.

(4) حلية الأولياء 3 : 236.

١٠٥

ط ـ اشترى الإمام عليه‌السلام ثوبا فأعجبه فكره أن يلبسه ، وبادر فتصدّق به (1) .

ي ـ خطب الإمام عليه‌السلام على أهل الكوفة ، فقال لهم : « دخلت بلادكم بإسمالي هذه وراحلتي هذه ، فإذا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فإنّي من الخائنين » (2) !

ك‍ ـ ذكر الرواة أنّ الإمام في أيام خلافته لم يكن عنده قيمة ثلاثة دراهم ليشتري بها إزارا أو ما يحتاج إليه ، ثمّ يدخل بيت المال فيقسّم كلّ ما فيه على الناس ، ثمّ يصلّي فيه ، ويقول : « الحمد لله الّذي أخرجني منه كما دخلته » (3) .

هذه بعض البوادر من زهده في لباسه ، وقد توفّي وليس عنده من الثياب غير الثوب الذي عليه ومن الجدير بالذكر أن نلقي نظرة على ما تركه ملوك بني العباس ، فقد توفّي هارون الرشيد وخلّف أربعة آلاف عمامة مطرّزة ما عدا الثياب التي خلّفها ، فضلا عن الأموال التي خلّفها في خزائنه ، وهكذا غيره من ملوك الأمويّين والعبّاسيّين ، الّذين لا يمثّلون إلاّ جانب الترف والنهب لأموال المسلمين ، ومن المؤكّد أنّهم لا علاقة لهم بالسياسة الاقتصادية التي تبنّاها الإسلام.

2 ـ طعامه :

وامتنع الإمام عليه‌السلام من تناول ألوان الأطعمة ، واقتصر على ما يسدّ الرمق من الأطعمة البسيطة كالخبز والملح ، وربّما تعدّاه إلى اللبن أو الخلّ ، وكان في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يربط الحجر على بطنه من الجوع (4) ، وكان قليل التناول للحم ، وقد قال : « لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات » ، ويقول ابن أبي الحديد : إنّه ما شبع

__________________

(1) المناقب 1 : 366.

(2) المصدر السابق : 367.

(3) المصدر السابق : 364.

(4) مسند أحمد 2 : 351 ، رقم الحديث 1367.

١٠٦

من طعام قطّ ، وقد اتي له بفالوذج (1) ، فلمّا وضع بين يديه ، قال : « إنّه طيّب الرّيح ، حسن اللّون ، طيّب الطّعم ، ولكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتد » (2) . وقد روى الإمام أبو جعفر عليه‌السلام قال : « أكل عليّ من تمر دقل (3) ثمّ شرب عليه الماء ، وضرب يده على بطنه وقال : من أدخله بطنه النار فأبعده الله » ، ثمّ تمثّل :

« فإنّك مهما تعط بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا » (4)

وروى عبد الملك بن عمير قال : حدّثني رجل من ثقيف أنّ عليّا عليه‌السلام استعمله على عكبرا ، قال : ولم يكن السواد يسكنه المصلّون ، وقال لي : « إذا كان عند الظّهر فرح إليّ » ، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبا يحبسني عنه دونه ، فوجدته جالسا وعنده قدح وكوز من ماء فدعا بظبية (5) فقلت في نفسي : لقد أمنني حتى يخرج إليّ جواهرا ـ ولا أدري ما فيها ـ فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم فإذا فيها سويق ، فأخرج منها فصبّ في القدح فصبّ عليه ماء فشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت :

يا أمير المؤمنين ، أتصنع هذا بالعراق ، وطعام العراق أكثر من ذلك؟

قال : « أما والله! ما أختم عليه بخلا ، ولكنّي ابتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره ، وإنّما حفظي لذلك ، وأكره أن ادخل بطني إلاّ طيّبا » (6) .

وهكذا كان رائد العدالة الإسلامية متحرّجا في طعامه كأشدّ ما يكون التحرّج ، وقد تحدّث الإمام عليه‌السلام عن زهده وإعراضه عن الدنيا بقوله :

__________________

(1) الفالوذج : حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل ، والكلمة فارسية.

(2) حلية الأولياء 1 : 81. كنز العمّال 15 : 164.

(3) الدقل : أردأ التمر.

(4) كنز العمّال 2 : 261.

(5) الظبية : جراب صغير.

(6) حلية الأولياء 1 : 82. الرياض النضرة 2 : 235.

١٠٧

« فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلاّ كقوت أتان دبرة ».

ومن المؤكّد أنّ الإمام عليه‌السلام لم ينل من أطائب الطعام حتى وافاه الأجل المحتوم ، فقد أفطر في آخر يوم من حياته في شهر رمضان على خبز وجريش ملح ، وأمر برفع اللبن الذي قدّمته له بنته الزكية أمّ كلثوم (1) ، وهو في نفس الوقت كان يدعو اليتامى فيطعمهم العسل حتى قال بعض أصحابه : وددت أنّي كنت يتيما (2) ، وروى عبد الله بن رزين قال : دخلت على عليّ بن أبي طالب يوم الأضحى فقرّب إلينا حريرة فقلت : أصلحك الله ، لو قرّبت إلينا من هذا البطّ ـ يعني الوزّ ـ فإنّ الله عزّ وجلّ قد أكثر الخير ، فقال :

« يا ابن رزين ، إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا يحلّ للخليفة من مال الله إلاّ قصعتان ، قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي النّاس » (3) . وقد سار على هذا المنهج المشرق لأنّه إمام المسلمين وله خطته الخاصّة في الزهد ، لا يشاركه فيها أحد من أبناء الشعب ، ومن أمثلة ذلك أنّه شكا إليه الربيع بن زياد الحارثي أخاه قائلا : اعدني على أخي عاصم.

« ما باله؟ ».

لبس العباءة يريد النسك فأمر الإمام بإحضاره ، فلمّا مثل بين يديه رآه الإمام مؤتزرا بعباءة مرتديا باخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس الإمام بوجهه وقال له بعنف :

« أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى أنّ الله أباح لك الطّيّبات ،

__________________

(1) منتهى الآمال 1 : 334.

(2) بحار الأنوار 41 : 29.

(3) مسند أحمد بن حنبل 1 : 78.

١٠٨

وهو يكره أن تنال منها شيئا ، بل أنت أهون على الله ، أما سمعت الله يقول في كتابه : ( وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ. فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (1) أفترى أنّ الله أباح هذه لعباده إلاّ ليبتذلوه ، ويحمدوا الله تعالى عليه فيثيبهم ، وإنّ ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالمقال ... ».

وبادر عاصم قائلا : فما بالك في خشونة مأكلك ، وخشونة ملبسك ، فإنّما تزيّنت بزينتك؟ فردّ عليه الإمام قائلا :

« ويحك إنّ الله فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة النّاس » (2) .

لقد زهد الإمام عليه‌السلام في الدنيا في جميع فترات حياته خصوصا لمّا تولّى السلطة العامّة للمسلمين ، فقد تجرّد تجرّدا تامّا من جميع رغباتها ، ومن أمثلة زهده ما رواه صالح بن الأسود قال : رأيت عليّا قد ركب حمارا وأدلى رجليه إلى موضع واحد ، وهو يقول : « أنا الّذي أهنت الدّنيا » (3) ، أجل والله يا رائد العدل لقد أهنت الدنيا ، واحتقرت جميع مباهجها وزينتها ، فقد أتتك الدنيا وتقلّدت أسمى مركز فيها ، فلم تحفل بها ، ولم تعر لسلطتها أي بال ، فسلام الله عليك يا إمام المتّقين.

بطولته النادرة :

من مظاهر شخصيّة الإمام عليه‌السلام بطولته النادرة التي استوعبت ـ بفخر وشرف ـ

__________________

(1) الرحمن : 10 ـ 22.

(2) ربيع الأبرار 4 : 85 ـ 86.

(3) تاريخ دمشق 3 : 236. جواهر المطالب : 276.

١٠٩

جميع لغات الأرض ، وصارت مضرب الأمثال وانشودة الأبطال في كلّ زمان ومكان ، فهو بطل الإسلام دون منازع ، لا يعرف المسلمون سيفا كسيف عليّ في إطاحته لرؤوس المشركين وأعلام الملحدين ، وهو الذي أذلّ طغاة القرشيّين ، وسحق كبرياءهم ، ودمّر غلواءهم ، ومواقفه المشرّفة في واقعة بدر واحد والأحزاب وغيرها تدلّل ـ بوضوح ـ على أنّ الإسلام قام بجهوده وجهاده ، ولو لا مواقفه الحاسمة لما أبقت القوى القرشية الضالّة أثرا للإسلام.

وعلى أي حال لقد كان الإمام حتف المشركين ، وعدوّهم الألدّ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا جهاده وقوّة بأسه وصلابة موقفه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع ، ولقضت عليه قريش في أوّل بزوغ نوره ، وقد شاعت في جميع الأوساط شجاعته ، وراح الناس يتحدّثون عنها بإعجاب ، وقد قيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ أفرس الناس عمرو بن معدي كرب ، فردّ عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أفرس النّاس عليّ بن أبي طالب » (1) .

وقد شبّه السيّد الحميري بطولة الإمام وشجاعته بالريح العاتية التي أخذت قوم عاد بقوله :

إذا أتى معشرا يوما أنامهم

إنامة الرّيح في تدميرها عادا (2)

يقول ابن أبي الحديد : وأمّا الشجاعة فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. وهو الشجاع الذي ما فرّ قطّ ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلاّ قتله ، ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الاولى إلى الثانية.

__________________

(1) رسائل الجاحظ 2 : 222.

(2) أعيان الشيعة 2 : 136.

١١٠

وفي الحديث : « كانت ضرباته وترا » (1) . ولمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ صحبتني إلاّ اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ، أراك طمعت في امارة الشام بعدي وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه عليه‌السلام قتلهم أظهر وأكثر.

قالت اخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

بكيته ما أقام الرّوح في جسدي

لكنّ قاتله من لا نظير له

وكان يدعى أبوه بيضة البلد (2)

وجملة الأمر أنّه احتلّ الصدارة في شجعان العالم ، وأنّ شجاعته النادرة كانت في نصرة الإسلام ، ونصرة المظلومين ، والمعذّبين في الأرض.

ومن مظاهر شجاعته أنّه كان يخرج في أيام صفّين وحده بغير حماية فقيل له : تقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ فقال عليه‌السلام : « بالموت تخوّفوني؟ فو الله ما ابالي سقطت على الموت أم سقط عليّ ! » (3) إنّه كان على بيّنة من دينه ، فقد سخر من الموت وهزأ بالحياة ؛ لأنّه عاش مجاهدا طيلة حياته.

قوّته الهائلة :

وهب الله تعالى للإمام عليه‌السلام قوّة هائلة ، وقوّة نفسية مذهلة ، استطاع بهما أن

__________________

(1) وفي المثل المعروف أنّ ضربة عليّ تفرد المثنى وتثنّى المفرد ، قال الشعبي : عليّ أشجع الناس تقرّ له بذلك العرب ، جاء ذلك في نور القبس المختصر من المقتبس للميرزباني : 245.

(2) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 20.

(3) العقد الفريد 1 : 102.

١١١

يلحق العار والهزيمة بالقرشيّين ، ويهزم اليهود الذين كانوا يمدّون القرشيّين بالمال والسلاح لإخماد نور الإسلام ، ومن قوّته أنّه إذا أمسك بذراع رجل كأنّما أمسك نفسه ، ولم يستطع أن يتنفّس (1) ، وكان في صباه يصارع كبار اخوته وصغارهم وكبار بني عمّه وصغارهم فيصرعهم ، وكان أبوه يقول : ظهر عليّ فسمّاه ظهيرا ، فلمّا ترعرع كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه ويعلو بالجبار بيده ويجذبه ويقتله ، وربّما قبض على مراق بطنه ورفعه في الهواء ، وربّما يلحق الحصان الجاري فيصدمه ويردّه على عقبيه (2) ، وهو الذي قلع باب خيبر وجعلها جسرا على الخندق فعبر عليها الجيش الإسلامي ، ثمّ رماها مسافة أذهلت العسكر وصارت احدوثة الناس في جميع مراحل تاريخهم ، وهي من الأسباب التي دعت أن يذهب فريق من محبّي الإمام عليه‌السلام إلى القول بإلهيّته.

حلمه :

كان الإمام عليه‌السلام من أحلم الناس ، ومن أكثرهم كظما لغيظه ، فلم يثأر من أي أحد اعتدى عليه أو أساءه ، وإنّما كان يقابلهم بالصفح والإحسان كشأن أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي قابل المعتدين عليه بالصفح ، وقد قال لأهل مكّة وهم من ألدّ أعدائه ، الذين ما تركوا لونا من ألوان الاعتداء إلاّ صبّوه عليه : « اذهبوا فقد عفوت عنكم فأنتم الطّلقاء » ، على هذا المنهج سار وصيّه وباب مدينة علمه ، فقابل أعداءه وخصومه بالصفح والإحسان الجميل.

بوادر من حلمه :

وهذه لمحات من بوادر حلمه تنمّ عن نفسه العظيمة التي خلقها الله لتكون

__________________

(1) بحار الأنوار 41 : 276.

(2) بحار الأنوار 41 : 275. مناقب آل أبي طالب 1 : 439.

١١٢

مشكاة نور لعباده تهديهم للتي هي أقوم ، وهي كما يلي :

1 ـ دعا الإمام عليه‌السلام غلاما له فلم يجبه ، ثمّ دعاه مرّة ثانية وثالثة فلم يجبه ، فقام إليه وقال له :

« ما حملك على ترك إجابتي؟ ».

فردّ عليه الغلام :

ـ كسلت عن إجابتك ، وأمنت عقوبتك ..

وامتلأ قلب الإمام سرورا ، وقال عليه‌السلام : « الحمد لله الّذي جعلني ممّن يأمنه خلقه ، امض فأنت حرّ لوجه الله تعالى » (1) .

2 ـ قصده أبو هريرة ، وكان معروفا بانحرافه عنه ، ومتجاهرا ببغضه ، فسأله حاجة فقضاها له ، فعاتبه بعض أصحابه على ذلك فقال عليه‌السلام :

« إنّي لأستحي أن يغلب جهله حلمي ، وذنبه عفوي ، ومسألته جودي » (2) .

3 ـ كان ابن الكوّاء الخارجي ، وهو من الممسوخين يجاهر بشتم الإمام ويعلن سبّه أمامه ، فلم يقابله بالمثل ، ولا تعرّض لنقمته ، وقد تلا عليه الآية أمام الناس :

( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (3) ، وأعاد عليه الآية ، فأجابه الإمام ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (4) ، ولم يتّخذ معه الإجراءات الصارمة فيوعز إلى الشرطة باعتقاله وتأديبه.

__________________

(1) المناقب 1 : 380. أمالي المرتضى 1 : 525.

(2) المناقب 6 : 380.

(3) الزمر : 65.

(4) الروم : 60.

١١٣

4 ـ وكان من عظيم حلمه أنّه ظفر بعائشة بعد فشلها في حرب الجمل ، وهي من ألدّ أعدائه ، ومعها مروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وغيرهما من الحاقدين عليه ، الذين أشعلوا نار الحرب ، وأعلنوا التمرّد والعصيان المسلّح على حكومته ، فعفا عنهم جميعا ، وسرّح عائشة سراحا جميلا ، وجهّزها جهازا حسنا. وهكذا كانت سيرته الصفح والإحسان ليقلع نزعات الحقد والشرّ من نفوسهم.

يقول ابن أبي الحديد عن حلم الإمام :

وأمّا الحلم والصفح فكان أحلم الناس عن مذنب ، وأصفحهم عن مسيء ، وقد ظهر حجّة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان من أعدى الناس ، وأشدّهم بغضا له ، فصفح عنه.

وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب ، وكان عليّ يقول :

« ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى شبّ عبد الله » ، فلمّا ظفر به يوم الجمل صفح عنه ، وقال له : « اذهب فلا أرينّك » ولم يزد على ذلك.

وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة ، وكان له عدوّا فأعرض عنه ، ولم يقل له شيئا (1) .

ومن عظيم حلمه وصفحه أنّ معاوية لمّا زحف لحرب الإمام واستولى على الماء اعتبر ذلك أوّل الظفر ، فلمّا جاء الإمام مع جيشه وجد حوض الفرات قد احتلّته جيوش معاوية ، فطلب منهم أن يسمحوا لجيشه بالتزوّد من الماء ، فقالوا له : لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان ، فلمّا رأى ذلك أمر جيشه باحتلال الفرات ، فاحتلّته قوّاته وملكوا الماء ، وسار أصحاب معاوية في البيداء

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 23.

١١٤

لا ماء لهم ، فقال أصحاب الإمام له : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة واحدة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالأيدي ، فلا حاجة لك في الحرب ، فقال :

« لا والله لا اكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن الشّريعة ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلك » (1) .

6 ـ ومن عظيم عفوه أنّه في يوم من أيام صفّين ظفر بأعدى أعدائه وهو عمرو ابن العاص العقل المدبّر في حكومة معاوية ، فلمّا رأى هذا الجبان الماكر أنّ الإمام قد أقبل عليه بسيفه أخرج عورته ، فخجل الإمام وأشاح بوجهه عنه ترفّعا.

صبره :

من أبرز صفات الإمام عليه‌السلام الخلود إلى الصبر ، وعدم الجزع على ما ألمّ به من محن الدنيا ، وكوارث الأيام ، وكان من أشدّها هولا ، وأعظمها محنة فقده لأخيه وابن عمّه الذي عاش في ذرى عطفه سيّد الكائنات الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد فقد بموته كلّ أمل له في الحياة ، وطافت به الأزمات يتبع بعضها بعضا ، وكان من أفجعها وأقساها وأشدّها بلاء هجوم القوم عليه في عقر داره ، وإخراجه ملبّبا بحمائل سيفه ليبايع أبا بكر ، وقوبل بمنتهى الصرامة والقسوة ، وتنكّر القوم لمركزه الرفيع ، وعظيم جهاده في الإسلام ، وأنّه أخو نبيّهم ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فأقصوه عن مقامه ، واستعملوا معه جميع ألوان الشدّة التي سنذكرها في فصول هذا الكتاب.

ومن المحن الشاقّة التي عاناها الإمام فقده لسيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 24.

١١٥

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم تمض أيام معدودة حتى فجع بفقدها ، وهي في فجر الصبا وروعة الشباب ، وقد التاع وحزن على فقدها كأشدّ ما يكون الحزن ، وبقي في أرباض بيته صابرا محتسبا يسامر الهموم والأحزان بمعزل تامّ عن الامّة سياسيا واجتماعيا ، قد خمدت طاقاته ومواهبه وحرمت الامّة من علومه ، لم يشارك الخلفاء في أي أمر من امور الدولة اللهمّ إلاّ إذا ألمّت بهم مسألة لا يهتدون لحلّها فزعوا إليه ليكشف لهم ما جهلوه ، حتى شاعت كلمة عمر : لو لا عليّ لهلك عمر.

ولمّا آلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان عميد الاسرة الاموية استبدّ بامور المسلمين ، وارتكب الأحداث الجسام لذا عمد المسلمون إلى قتله ، وهرعوا إلى الإمام عليه‌السلام ليتولّى قيادة الامّة ويعيد حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسياسته المشرقة بين المسلمين ، فامتنع الإمام من إجابتهم لعلمه بفساد الأوضاع الاجتماعية ، وما سيعانيه من الأزمات والمصاعب ، فأصرّوا عليه وهدّدوه إن لم يستجب لهم ، فأجابهم على كره ، فقام بالأمر باسطا للعدل ناشرا للحقّ ، وبايعته الجماهير ، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط إلاّ الاسر القرشيّة ، فقد فزعت كأشدّ ما يكون الفزع ، فقد خافت عل مصالحها ونفوذها الذي ظفرت به في أيام الخلفاء ، فهبّت للإطاحة بحكومة الإمام ، فكانت واقعة الجمل وصفّين ، ثمّ تتابعت عليه الرزايا والخطوب ، وهو صابر يحتسب حتى لاقى ربّه شهيدا محتسبا في بيت من بيوت الله ، فأي صبر وأي بلاء مثل هذا الصبر والبلاء؟

تواضعه :

من ذاتيات الإمام عليه‌السلام ونزعاته التواضع ، ولكن لا للأغنياء والمتكبّرين ، وإنّما للفقراء والمستضعفين ، فكان يخفض لهم جناح البرّ والمودّة ، وقد ضارع بذلك أخاه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد كان للمؤمنين أبا وللفقراء أخا ..

ونعرض فيما يلي لبعض ما اثر عن الإمام عليه‌السلام .

١١٦

شذرات من تواضعه :

وهذه شذرات معطّرة بهدي الإمام عليه‌السلام من تواضعه :

1 ـ وفد عليه رجل مع ابنه فرحّب بهما وأجلسهما في صدر المجلس ، ثمّ أمر لهما بطعام ، وبعد الفراغ منه بادر الإمام فأخذ الإبريق ليغسل يد الأب ففزع الرجل ، وقال :

كيف يراني الله وأنت تصبّ الماء على يدي؟

فأجابه الإمام عليه‌السلام برفق ولطف :

« إنّ الله يراني أخاك الّذي لا يتميّز منك ، ولا يتفضّل عنك ، ويزيدني بذلك منزلة في الجنّة ».

أيّ روح ملائكية هذه الروح؟ وأيّ سموّ في الذات هذا السموّ؟

وانصاع الرجل إلى كلام الإمام عليه‌السلام ، فصبّ الماء على يده ، ولمّا فرغ ناول الإبريق إلى ولده محمّد بن الحنفية ، وقال له :

« يا بنيّ ، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت الماء على يده ، ولكنّ الله يأبى أن يسوّي بين الابن وأبيه ».

وقام محمّد فغسل يد الولد (1) ، وهذه الأخلاق العلوية مقتبسة من أخلاق الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي امتاز على سائر النبيّين بمكارم أخلاقه.

2 ـ اجتاز الإمام في رجوعه من صفّين على دهّاقين الأنبار فقابلوه بمزيد من التعظيم والتكريم ، وصنعوا له كما يصنعون للملوك والامراء ، فأنكر الإمام عليهم

__________________

(1) المناقب 1 : 373.

١١٧

ذلك وقال لهم : « والله! ما ينتفع بهذا امراؤكم ، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم ، وتشقّون به على آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب ، وما أربح الرّاحة معها الأمان من النّار » (1) .

3 ـ من تواضعه أنّه خرج راكبا فسار معه أصحابه ، فالتفت إليهم :

« ألكم حاجة؟ ».

ـ لا ، ولكن نحبّ أن نمشي معك.

فنهاهم عن ذلك ، وأمرهم بالانصراف إلى منازلهم قائلا :

« ارجعوا النّعال خلف أعقاب الرّجال مفسدة لقلوب النّوكى (2) » (3) .

حقّا إنّ هذه الأخلاق أخلاق الأنبياء العظام وأوصياءهم ، وقد مثّلها بسيرته وسلوكه سيّد الأوصياء وإمام المتّقين والأخيار ، وذكر الرواة صورا مشرقة بالشرف والكرامة من تواضعه أيام خلافته نعرض لها عند البحث عن حكومته.

عيادته المرضى :

من معالي أخلاق الإمام عليه‌السلام عيادته للمرضى ، وكان يحفّز أصحابه على ذلك ، ويحثّهم على هذه الظاهرة ، فقد قال لهم : « من أتى أخاه المسلم يعوده مشى في خرافة الجنّة (4) ، فإذا جلس غمرته الرّحمة » (5) .

__________________

(1) المناقب 1 : 372.

(2) النوكى : الحمقى.

(3) ربيع الأبرار 4 : 131.

(4) خرافة الجنّة : ثمارها.

(5) ربيع الأبرار 4 : 127.

١١٨

وكان عليه‌السلام إذا علم أنّ أحدا من أصحابه مريض بادر لعيادته ، وهذه بعض زياراته لهم :

1 ـ عاد شخصا من أصحابه ، ولمّا استقرّ به المجلس قال له :

« جعل الله ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك ، فإنّ المرض لا أجر فيه ، ولكنّه يحطّ السّيّئات ، ويحتّها حتّ الأوراق. وإنّما الاجر في القول باللّسان ، والعمل بالأيدي والأقدام » (1) .

2 ـ عاد الإمام عليه‌السلام صاحبه وصديقه صعصعة بن صوحان ، فقال له الإمام :

« والله ما علمتك إلاّ خفيف المئونة ، حسن المعونة ».

فأجابه صعصعة :

ـ وأنت يا أمير المؤمنين ، إنّ الله في عينك لعظيم ، وإنّك بالمؤمنين لرحيم ، وإنّك بكتاب الله لعليم.

ولمّا أراد الإمام عليه‌السلام الخروج قال لصعصعة :

« يا صعصعة ، لا تجعل عيادتي فخرا على قومك ، فإنّ الله تعالى لا يحبّ كلّ مختال فخور » (2) .

إنّ جميع ألوان الفخر والمظاهر الزائفة التي يعنى بها الناس قد سحقها الإمام عليه‌السلام ولم يحفل بأي شيء منها.

كراهته للمدح :

كان الإمام عليه‌السلام يسأم المدح والإطراء ، وكان يقول لمن أطراه : « أنا دون ما تقول ، وفوق ما في نفسك » ، وإذا أطرى عليه رجل قال : « اللهمّ إنّك أعلم بي منه ،

__________________

(1) ربيع الأبرار 4 : 131.

(2) المصدر السابق : 132.

١١٩

وأنا أعلم منه بنفسي ، فاغفر لي ما لا يعلم » (1) .

إجابته لدعوة من دعاه لتناول الطعام :

ومن معالي أخلاق الإمام عليه‌السلام أنّه إذا دعي لتناول الطعام أجاب إلى ذلك خصوصا إذا دعاه فقير ، وقد دعاه شخص لذلك فقال له :

« نأتيك على أن لا تتكلّف لنا ما ليس عندك ، ولا تدّخر عنّا ما عندك » (2) .

وهذا من محاسن الآداب ، ومن أروع صور الشرف ، وسموّ الذات.

سخاؤه :

كان الإمام عليه‌السلام من أندى الناس كفّا ، ومن أكثرهم برّا وإحسانا إلى المحتاجين ، وكان لا يرى للمال قيمة سوى أن يردّ به جوع جائع أو يكسو به عريان ، وكان يؤثر الفقراء على نفسه ولو كانت به خصاصة وهو وأهل بيته الذين أطعموا المسكين واليتيم والأسير قوتهم ، وطووا ثلاثة أيام صياما لم يذوقوا سوى الماء القراح ، فأنزل الله تعالى فيهم سورة ( هل أتى ) فكانت وسام فخر وشرف لهم على امتداد التاريخ تشيد بفضلهم وسموّ مكانتهم عند الله تعالى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

والإمام عليه‌السلام هو الذي تصدّق بخاتمه على المسكين في أثناء صلاته فأنزل الله تعالى في حقّه الآية الكريمة : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (3) .

__________________

(1) أمالي المرتضى 1 : 274.

(2) البيان والتبيين 2 : 197.

(3) المائدة : 55.

١٢٠