موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ١

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 232

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
المحقق: باقر شريف القرشي
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 232
المشاهدات: 109898
تحميل: 1589


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 232 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • المشاهدات: 109898 / تحميل: 1589
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

شذرات من جوده :

هذه شذرات من برّ الإمام عليه‌السلام وجوده على الفقراء ، لم يبغ بما قدّمه لهم من إحسان إلاّ وجه الله تعالى والدار الآخرة :

1 ـ روى الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى الإمام فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ لي إليك حاجة قد رفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك ، فإن قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك ، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك.

فقال له الإمام عليه‌السلام : « اكتب حاجتك على الأرض ، فإنّي أكره أن أرى ذلّ السّؤال على وجهك ».

فكتب الرجل إنّي محتاج ، فأمر الإمام بإحضار حلّة فاتي بها إليه فأخذها الرجل فلبسها ، وقال :

كسوتني حلّة تبلى محاسنها

فسوف أكسوك من حسن الثّنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة

ولست تبغي بما قد قلته بدلا

إنّ الثّناء ليحيي ذكر صاحبه

كالغيث يحيي نداه السّهل والجبلا

لا تزهد الدّهر في خير تواقعه

فكلّ شخص سيجزى بالّذي عملا

وأمر الإمام بمائة دينار ، فلمّا حضرت دفعها له ، وبادر الأصبغ قائلا :

أمير المؤمنين ، ومائة دينار؟!

فأجابه الإمام :

« سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أنزلوا النّاس منازلهم ، وهذه منزلة الرّجل عندي » (1) .

__________________

(1) جواهر المطالب 2 : 129.

١٢١

2 ـ من بوادر جوده أنّه لمّا قسّم بيت مال البصرة على جيشه لحق كلّ واحد منهم خمسمائة درهم ، وأخذ هو مثل ذلك ، فجاءه شخص لم يحضر الواقعة فقال له :

كنت شاهدا معك بقلبي ، وإن غاب عنك جسمي ، فاعطني من الفيء شيئا؟

فدفع إليه ما أخذه لنفسه ، ورجع ولم يصب من الفيء شيئا (1) .

3 ـ روى المعلّى بن خنيس عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام أتى ظلّة بني ساعدة ، وكانت السماء قد أمطرت ، وهو يحمل جرابا فيه الخبز ، فمرّ على قوم نيام ـ وهم من الفقراء ـ فجعل يدسّ الرغيف والرغيفين تحت فراشهم ، حتى أتى على آخرهم ثمّ انصرف (2) .

4 ـ خرج الإمام عليه‌السلام وهو يحمل على ظهره قربة ، وفي يده صحفة ، وهو يقول : « اللهمّ وليّ المؤمنين ، وإله المؤمنين ، وجار المؤمنين ، اقبل قرباتي اللّيلة ، فما أمسيت أملك سوى ما في صحفتي وغير ما يواريني ، فإنّك تعلم أنّي منعته نفسي مع شدّة سغبي في طلب القربة إليك غنما ، اللهمّ فلا تخلق وجهي ، ولا تردّ دعوتي » ، واخذ يطعم الفقراء (3) .

5 ـ كان الإمام عليه‌السلام يملك أربعة دراهم تصدّق بواحد ليلا ، وبالثاني نهارا ، وبثالث سرّا وبالرابع علانية ، فنزلت فيه الآية الكريمة : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ ) (4) .

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 205.

(2) المناقب 4 : 349.

(3) بحار الأنوار 41 : 29.

(4) كشف الغمّة : 50. البقرة : 274.

١٢٢

6 ـ كان رجل مؤمن فقير في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساكنا في دار ضيّقة وبجوارها حديقة لشخص موسر وفيها نخل يتساقط تمرها على دار الفقير ، فيبادر من حرصه إلى أخذ التمر من أفواه الأطفال ، وشكا الفقير ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبادر إلى صاحب الحديقة وطلب منه أن يبيعها عليه ، ويأخذ مكانها بستانا في الفردوس الأعلى ، فأبى وقال : لا أبيعك عاجلا بآجل ، فانصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متأثّرا فرأى الإمام ، فأخبره بالأمر ، فتوجّه الإمام صوب ذلك الرجل وطلب منه أن يبيعه بستانه ، فقال له : أبيعك بحائطك الحسن ، فرضي الإمام ، وباعه عليه ، وسارع الإمام إلى الرجل الفقير فوهب له تلك البستان (1) .

هذه بعض البوادر من سخائه وجوده على الضعفاء والفقراء ، يقول الشعبي : كان عليّ أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبّه الله وهو السخاء والجود ، ما قال « لا » لسائل قطّ (2) .

وقد أجمع المؤرّخون والمترجمون له أنّه لم يكن يبغي فيما أنفقه أي غرض من أغراض الدنيا كالجاه والسمعة وذيوع الاسم ، فإنّ ذلك لم يفكّر به ، وإنّما كان يبغي وجه الله تعالى ، وما يقرّبه إليه زلفى.

الرأفة بالفقراء :

من عناصر الإمام عليه‌السلام وذاتياته الرأفة الكاملة بالفقراء ، فكان لهم أبا ، وعليهم عطوفا ، وقد واساهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش وخشونة اللباس ، وهو القائل أيام خلافته :

أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى؟ أو أكون كما قال القائل :

__________________

(1) تفسير فرات : 213. بحار الأنوار 41 : 37.

(2) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 22.

١٢٣

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

لقد كان أبو الحسن عليه‌السلام ملاذا للفقراء وصديقا حميما للبؤساء ، وقد تبنّى قضاياهم في جميع مراحل حياته خصوصا في أيام خلافته ، وقد ثارت عليه الرأسمالية القرشية التي ناهضت الإسلام ، وكفرت بقيمه ومبادئه ، وبجميع ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من هدى ورحمة إلى الناس.

إنّ من أوّليات المبادئ التي آمن بها واعتنقها هي القضاء على البؤس والحرمان ، وتوزيع خيرات الله تعالى على عباده ، فلا يختصّ بها فريق دون فريق ، ولا قوم دون آخرين ، وكانت مواساته للفقراء ومساواتهم للأغنياء من الأسباب الهامّة في بغض القرشيّين له ، واندفاعهم إلى مناجزته ، ووضعهم العراقيل والسدود أمام مخطّطاته ومتطلّباته الهادفة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض.

وعلى أي حال فالإمام أوّل حاكم في الشرق العربي واسى الفقراء في آلامهم ومكارههم ، ومن ذلك أنّه نظر إلى امرأة على كتفها قربة ماء ، وكانت مجهدة لا تقوى على حملها ، فبادر إليها الإمام فأخذ القربة منها ، وحملها إلى منزلها ، وسألها عن حالها ، فقالت له : إنّ عليّا بعث زوجي إلى بعض الثغور فاستشهد فيها ، وترك صبيانا يتامى ، وليس عندي شيء أقوتهم به ، فألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس ، فانصرف الإمام عنها وهو مثقل بالأحزان ، وبات ليلته قلقا مضطربا ، فلمّا أصبح حمل زنبيلا فيه طعام للأيتام ، فرآه بعض شيعته فطلب منه أن يساعده في حمل الزنبيل عنه ، فامتنع من إجابته ، وقال له :

« من يحمل عنّي وزري يوم القيامة »؟ ومضى نحو بيت اليتامى فقرع الباب ، فخرجت له المرأة فقالت له :

ـ من أنت؟

١٢٤

« أنا العبد الّذي حمل معك القربة ، افتحي الباب فإنّ معي شيئا للصّبيان ».

فدعت له المرأة وقالت له :

ـ رضي الله عنك ، وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب.

وأجابها الإمام :

« إنّي أحببت اكتساب الثّواب ، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي ، وبين أن تعلّلي الصّبيان وأنا أخبز ».

وأجابته المرأة :

ـ أنا بالخبز أبصر ، وعليه أقدر ، ولكن شأنك والصبيان ، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.

وعمدت المرأة إلى الدقيق فخبزته ، وانبرى الإمام إلى اللحم فطبخه ، وجعل يلقم الصبيان اللحم والتمر وغيره ، وكلّما ناول صبيّا من ذلك شيئا قال له :

« يا بنيّ ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا مرّ عليك ».

ولمّا اختمر العجين ، قالت المرأة له :

ـ قم يا عبد الله ، قم فاسجر التنّور ، فبادر الإمام لسجره ، ولفحت النار في وجهه ، فجعل يقول :

« يا عليّ ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى ».

ودخلت امرأة من الجيران على المرأة ، وكانت تعرف الإمام فصاحت بها :

ويحك هذا أمير المؤمنين ».

وذهلت المرأة وودّت أن تسيخ بها الأرض ، وقالت للإمام :

ـ واحيائي منك يا أمير المؤمنين!

١٢٥

وسارع الإمام قائلا :

« واحيائي منك يا أمّة الله فيما قصّرت من أمرك » (1) .

تدول الدول ، وتفنى الحضارات أو تبقى ، وهذا الشرف العلوي أحقّ بالبقاء من كلّ كائن حيّ.

عدله :

من عناصر الإمام الذاتية إقامة العدل ، وإيثاره على كلّ شيء ، خصوصا في أيام خلافته ، فقد تجرّد عن جميع المحسوبيات ، وآثر رضا الله تعالى ومصلحة الامّة على كلّ شيء ، فهو بحقّ صوت العدالة الإنسانية ، ورائد نهضتها الاصلاحية في جميع الأحقاب والآباد.

بوادر من عدله :

وروى المؤرّخون صورا رائعة من عدله تبهر العقول ، وتجعله طغراء شرف للعالم العربي والإسلامي ، وكان من ضروب عدله ما يلي :

1 ـ وفد عقيل على الإمام في الكوفة ، فرحّب به الإمام وقال لولده الإمام الحسن عليه‌السلام : « اكس عمّك » ، فكساه قميصا ورداء من ملكه ، ولمّا حضر العشاء قدّم له خبزا وملحا ، فأنكر عقيل ذلك وقال :

ـ ليس ما أرى؟

لقد أراد عقيل أن تقدّم له مائدة شهيّة حافلة بألوان الطعام ، فأجابه الإمام بلطف وهدوء :

« أوليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيرا ».

__________________

(1) المناقب 1 : 382.

١٢٦

وفقد عقيل إهابه ، وضاقت عليه الأرض ، فقال للإمام :

ـ اعطني ما أقضي به ديني ، وعجّل سراحي حتى أرحل عنك.

« كم دينك يا أبا يزيد؟ ».

ـ مائة ألف درهم.

« والله ما هي عندي ، ولا أملكها ، ولكن اصبر حتّى يخرج عطاي فاواسيكه ، ولو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه ».

وخاطب عقيل الإمام بعنف قائلا :

ـ بيت المال بيدك ، وأنت تسوّفني إلى عطائك ، وكم عطاؤك؟ وما عسى أن يكون؟ ولو أعطيتنيه كلّه.

وضاق الإمام ذرعا من عقيل ، فطرح أمامه حكم الإسلام قائلا :

« وما أنا وأنت فيه ـ أي في العطاء من بيت المال ـ إلاّ بمنزلة رجل من المسلمين ».

وكان الإمام مطلاّ على صناديق التجّار في السوق ، فقال لعقيل :

« إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصّناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه ».

وتوهّم عقيل أنّها من أموال الدولة ، فقال للإمام :

ـ ما في هذه الصناديق؟

« فيها أموال التّجار ».

فأنكر عقيل ، وراح يقول بألم ومرارة :

ـ أتأمرني أن أكسر صناديق قوم توكّلوا على الله وجعلوا فيها أموالهم؟

١٢٧

فردّ عليه الإمام قائلا :

« أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فاعطيك أموالهم ، وقد توكّلوا على الله ، وأقفلوا عليها ، وإن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة ، فإنّ فيها تجّارا مياسير ، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله ».

والتاع عقيل ، وراح يقول بألم :

ـ أوسارقا جئت؟

فأجابه رائد العدالة الإسلامية قائلا :

« تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا ».

ولم يجد عقيل منفذا يسلك فيه ، فقد سدّ عليه الإمام جميع النوافذ ، وصيّره أمام العدل الصارم ، الذي لا يستجيب لأي عاطفة ، ولا ينصاع إلاّ إلى الحقّ ، وراح عقيل يقول بحرارة اليأس :

ـ أتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟

« أذنت لك ».

ـ أعنّي على سفري.

فأمر الإمام ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام بإعطائه أربعمائة درهم نفقة له ، فخرج عقيل وهو يقول :

سيغنيني الّذي أغناك عنّي

ويقضي ديننا ربّ قريب (1)

لقد تجرّد الإمام من جميع المحسوبيات فلم يقم لها أي وزن وأخلص للحقّ والعدل كأعظم ما يكون الإخلاص ، فالقريب والبعيد سواء في ميزانه لقد احتاط

__________________

(1) المناقب 1 : 379 ، وقريب منه في الصواعق المحرقة : 79.

١٢٨

كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة ، فلم يؤثر بشيء منها نفسه وأهل بيته ، وحمّل نفسه رهقا وشدّة.

2 ـ ومن صنوف عدله الباهر أنّه نزل ضيف عند الإمام الحسن عليه‌السلام ، فاستقرض رطلا من العسل من قنبر خازن بيت المال ، فلمّا قام الإمام بتقسيم العسل على المسلمين وجد زقّا منها ناقصا ، فسأل قنبر عن ذلك ، فأخبره بالأمر ، فاستدعى ولده الإمام الحسن وقال له بنبرات تقطر غيظا :

« ما حملك على أن تأخذ منه قبل القسمة ؟ ».

« أليس لنا فيه حقّ ، فإذا أخذناه رددناه إليه ».

وسكن غضب الإمام ، فقال لولده الزكي بلطف :

« فداك أبوك ، وإن كان لك فيه حقّ ، فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم ».

ثمّ دفع إلى قنبر درهما ، وقال له : اشتر به أجود عسل تقدر عليه ، فاشترى قنبر العسل ، ووضعه الإمام في الزقّ وشدّه » (1) .

هذا هو العدل الذي جعله الإمام عليه‌السلام أساسا لدولته ليسير عليها حكّام المسلمين من بعده إلاّ أنّهم شذّوا وابتعدوا عن سيرته ، وناقضوه ، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملذّاتهم ، وأسرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد.

3 ـ جيء له بمال من أصفهان فقسّمه أسباعا على أهل الكوفة ، ووجد فيها رغيفا فكسره سبعة كسر ، وقسّمه على أهل الأسباع (2) .

__________________

(1) المناقب 2 : 107.

(2) بحار الأنوار 41 : 118.

١٢٩

إنّ العدل بجميع رحابه ومفاهيمه من العناصر الذاتية للإمام عليه‌السلام .

4 ـ روى هارون بن عنترة عن أبيه ، قال : رأيت عليّا في يوم مورود ـ أو نوروز ـ فجاء قنبر فأخذ بيده وقال : يا أمير المؤمنين ، إنّك رجل لا تبقي شيئا لنفسك ، ولا لأهل بيتك ، وإنّ لأهل بيتك في هذا المال نصيبا ، وقد خبّأت لك خبيئة. قال الإمام : « وما هي؟ » قال : انطلق وانظر ما هي؟ فأدخله بيتا مملوءا آنية من ذهب وفضّة مموّهة بالذهب ، فلمّا رآها تميّز غيظا وغضبا ، وقال بشدّة وصراحة لقنبر : « ثكلتك امّك ، لقد أردت أن تدخل بيتي نارا عظيمة » ، ثمّ جعل يزنها ويعطي كلّ عريف حصّته ، ثمّ قال :

هذا جناي وخياره فيه

و كلّ جان يده إلى فيه (1)

أرأيتم هذا العدل الذي مثّله الإمام في أيام خلافته؟

أرأيتم هذا التجرّد عن الدنيا والتنكّر لمنافعها؟

أرأيتم كيف احتاط إمام المتّقين بأموال الدولة ولم يستأثر بأيّ شيء منها؟

إنّ الإنسانية على ما جرّبت من تجارب في ميادين الحاكمين فإنّها لم تشاهد مثل الإمام عليه‌السلام في عدله ونكرانه للذات ، وتبنّيه للعدل بجميع رحابه ومفاهيمه.

سعة علومه :

وأجمع الرواة على اختلاف ميولهم وأهوائهم على أنّ الإمام عليه‌السلام أوسع المسلمين علما ، وأكثرهم فقها ، وأنّه لا يماثله أحد من الصحابة وغيرهم في قدراته العلمية ، فقد غذّاه سيّد الكائنات صلى‌الله‌عليه‌وآله بملكاته ومواهبه ، فهو باب مدينة علمه ،

__________________

(1) جواهر المطالب 1 : 273. كتاب الأموال : 344.

١٣٠

وقد تحدّث الإمام عليه‌السلام عن سعة علومه فقال :

1 ـ « بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية (1) في الطّويّ البعيدة (2) ! ».

2 ـ وقال عليه‌السلام : « سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ومن يموت منهم موتا » (3) .

3 ـ قال عليه‌السلام : « لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ».

وأعربت هذه الكلمات الثلاث عن طاقاته العلمية ، وما منحه الله تعالى من الفضل والعلم الأمر الذي جعله في قمّة العلم ، وقد تحدّثنا في بعض هذا الكتاب عن العلوم التي فتق أبوابها وأسّسها.

سرعة الجواب :

من خصائص الإمام عليه‌السلام أنّه كان سريع البديهة ، وقد عرضت عليه أهمّ المسائل المعقّدة في المواريث فأجاب عنها بالوقت ، حتى سمّيت بعضها بالمسائل المنبرية ، وروى الحارث الأعور الهمداني ـ وهو من خلّص أصحاب الإمام عليه‌السلام ـ أنّه سأل عن مسألة فبادر ودخل الدار ثمّ خرج في حذاء ورداء ، وهو متبسّم ، فبادر بعض الحاضرين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، كنت إذا سئلت عن

__________________

(1) الأرشية : الحبال.

(2) الطوى البعيدة : الآبار العميقة.

(3) شرح الأخبار 1 : 139.

١٣١

المسألة تكون فيها كالسّكّة المحمّاة ، فقال عليه‌السلام :

« كنت حاقنا (1) ولا رأي لحاقن » ، ثمّ أنشأ يقول :

إذا المشكلات تصدّين لي

كشفت حقائقها بالنّظر

وإن برقت في مخيل الصّوا

ب عمياء لا يجتليها البصر

مقنّعة بغيوب الامور

وضعت عليها صحيح الفكر

لسانا كشقشقة الأرحبيّ (2)

أو كالحسام اليماني الذّكر

وقلبا إذا استنطقته الفنون

أبرّ عليها بواه درر (3)

ولست بإمّعة (4) في الرجال

يسائل هذا وذا ما الخبر

ولكنّني مذرب الأصغرين (5)

أبيّن ممّا مضى ما غبر (6)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض صفاته وعناصره النفسية. ومن المؤكّد أنّه لا يضارعه أحد فيما وهبه الله تعالى من الكمالات ومعالي الآداب والأخلاق.

__________________

(1) الحاقن : الذي اجتمع بوله كثيرا.

(2) الأرحبي : نسبة إلى أرحب بطن من همدان ، تنسب لهم النجائب الأرحبيّة.

(3) أبر : زاد على ما استنطقه.

(4) الأمّعة : الأحمق الذي لا يثبت على رأي.

(5) المذرب : الحادّ. الأصغرين : القلب واللسان.

(6) الأمالي 2 : 101.

١٣٢

الإمام عليه‌السلام

في رحاب القرآن الكريم

١٣٣
١٣٤

أشاد القرآن الكريم في كثير من الآيات البيّنات بفضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإبرازه كأسمى شخصية إسلامية بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه له الأهمّية البالغة عند الله تعالى ، وقد أعلنت كثير من المصادر أنّه نزلت في حقّه ثلاثمائة آية (1) ، وهي تشيد بفضله وإيمانه.

ومن الجدير بالذكر أنّه لم ينزل مثل هذا العدد الضخم في حقّ أي أحد من أعلام الإسلام ، أمّا الآيات فهي طوائف ، وهي :

الطائفة الاولى : نزلت في حقّه خاصّة.

الطائفة الثانية : نزلت في حقّه وحقّ الممجّدين من أهل البيت عليهم‌السلام .

الطائفة الثالثة : نزلت في حقّه ، وحقّ جماعة من خيار الصحابة.

الطائفة الرابعة : نزلت في حقّه ، وذمّ خصومه ومناوئيه.

وفيما يلي بعض تلك الآيات :

الآيات النازلة في حقّه

أمّا الآيات النازلة في فضله ، وسموّ شأنه ، وعظيم منزلته فهذه بعضها :

__________________

(1) تاريخ بغداد 6 : 221. الصواعق المحرقة : 76. نور الأبصار : 76 ، وغيرها.

١٣٥

1 ـ قال تعالى :

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (1) .

روى الطبري بسنده عن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية وضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يده على صدره وقال : « أنا المنذر ، ولكلّ قوم هاد » وأومأ إلى منكب عليّ فقال :

« أنت الهادي ، بك يهتدي المهتدون بعدي » (2) .

2 ـ قال تعالى :

( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (3) .

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسير هذه الآية :

« قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سألت ربّي أن يجعلها اذنك يا عليّ ، فما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا فنسيته » (4) .

3 ـ قال تعالى :

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (5) .

كانت عند الإمام عليه‌السلام أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما ، وفي النهار درهما ، وفي السرّ درهما ، وفي العلانية درهما ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(1) الرعد : 7.

(2) تفسير الطبري : 13 : 72 ، وقريب منه في تفسير الرازي. كنز العمّال 6 : 157. تفسير الحقائق : 42. مستدرك الحاكم 3 : 129.

(3) الحاقّة : 12.

(4) كنز العمّال 6 : 108. أسباب النزول ـ الواحدي : 329. تفسير الطبري 29 : 35. تفسير الكشّاف 4 : 600. الدرّ المنثور 8 : 267.

(5) البقرة : 274.

١٣٦

« ما حملك على هذا؟ فقال : أستوجب على الله ما وعدني » فنزلت فيه هذه الآية (1) .

4 ـ قال تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (2) .

روى ابن عساكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال : كنّا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل عليّ عليه‌السلام فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ». ونزلت فيه الآية الكريمة ، فكان أصحاب النبيّ إذا أقبل عليّ قالوا : جاء خير البريّة (3) .

5 ـ قال تعالى :

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ) (4) .

روى الطبري بسنده عن جابر الجعفي قال : لمّا نزلت هذه الآية قال عليّ عليه‌السلام : « نحن أهل الذّكر » (5) .

6 ـ قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (6) .

قال السيوطي : أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ قول الله تعالى : ( وَكُونُوا

__________________

(1) اسد الغابة 4 : 25. الصواعق المحرقة : 78. أسباب النزول ـ الواحدي : 64.

(2) البيّنة : 7.

(3) الدرّ المنثور ( في تفسير هذه الآية ) 8 : 589. تفسير الطبري 30 : 17. الصواعق المحرقة : 96.

(4) النحل : 43.

(5) تفسير الطبري 8 : 145.

(6) التوبة : 119.

١٣٧

مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، أى مع عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومثل ذلك روي عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام (1) .

7 ـ قال تعالى :

( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (2) .

أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أنّ الذي جاء بالصدق هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي صدّق به هو عليّ بن أبي طالب (3) .

8 ـ قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (4) .

نزلت هذه الآية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خم لمّا قفل راجعا من حجّة الوداع ، وقد أمر فيها بنصب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة من بعده ، فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنصب الإمام خليفة وقائدا لامّته من بعده ، وقال مقالته المشهورة : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » ، فقام عمر وقال له : هنيئا لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (5) .

وقد انبرى الشعراء إلى نظم هذه الحادثة المشرقة التي توّج فيها رائد العدالة

__________________

(1) الدرّ المنثور 4 : 316.

(2) الزمر : 33.

(3) الدرّ المنثور 7 : 228.

(4) المائدة : 67.

(5) أسباب النزول : 150. تاريخ بغداد 8 : 290. تفسير الرازي 4 : 401. الدرّ المنثور 6 : 117.

١٣٨

الكبرى بالإمامة والخلافة يقول حسّان بن ثابت :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التّعاميا

إلهك مولانا وأنت نبيّنا

ولم تلق منّا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهمّ وال وليّه

وكن للّذي عادى عليّا معاديا (1)

ولمّا تليت هذه الأبيات على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لحسّان : « لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا أو نافحت عنّا بلسانك ».

وقال قيس بن سعد بن عبادة :

قلت لمّا بغى العدوّ علينا

حسبنا ربّنا ونعم الوكيل

حسبنا ربّنا الّذي فتح البص

رة بالأمس والحديث طويل

وعليّ إمامنا وإمام

لسوانا أتى به التّنزيل

يوم قال النّبيّ من كنت مولا

ه فهذا مولاه خطب جليل

إنّ ما قاله النّبيّ على الامّة

حتم ما فيه قال وقيل (2)

وقد تلا قيس هذه الأبيات على الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام .

وقال شاعر أهل البيت الكميت :

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو اطيعا

__________________

(1) دلائل الصدق 2 : 15 ـ 16 ، نقله عن تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي.

(2) الغدير 2 : 87.

١٣٩

ولكنّ الرّجال تبايعوها

فلم أر مثلها خطرا مبيعا (1)

وقد ألمّ المحقّق الكبير الشيخ الأميني نضّر الله مثواه بالغدير فبحث عنه بحثا موضوعيا في الكتاب والسنّة ، وصحب معه كوكبة من الشعراء من قدامى ومحدثين ، وهم ينشدون فضل الإمام ومناقبه وغديره.

9 ـ قال تعالى :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (2) .

نزلت الآية الكريمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة بعد ما نصب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام عليه‌السلام خليفة من بعده (3) ، وقال عليه‌السلام بعد نزول الآية عليه : « الله أكبر على إكمال الدّين ، وإتمام النّعمة ، ورضى الرّبّ برسالتي ، والولاية لعليّ بن أبي طالب » (4) .

10 ـ قال تعالى :

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (5) .

روى الصحابي الجليل أبو ذرّ قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ

__________________

(1) دلائل الصدق 2 : 16.

(2) المائدة : 3.

(3) تاريخ بغداد 8 : 19. الدرّ المنثور 6 : 19.

(4) دلائل الصدق 2 : 152.

(5) المائدة : 55.

١٤٠