موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام26%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147569 / تحميل: 5354
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ليس في دنيا الإسلام كارثة مدمّرة امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا كحادثة السقيفة ، فقد أولدت الأحقاد ، وأجّجت نار الفتن بين المسلمين ، وفتحت أبواب الطمع والتهالك على السلطة بين الزعماء.

إنّ جميع ما عاناه السادة المعظّمون من أهل البيت : يستند أوّلا وبالذات إلى مؤتمر السقيفة التي تعمّد أعضاؤها على الغضّ من شأنهم ، ومعاملتهم معاملة عادية تتّسم بالكراهة والحقد عليهم ، متناسين ما ألزمه الله تعالى بمودّتهم ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) ، وما حثّ عليه النبيّ ٦ في لزوم مودّتهم ، وتعظيم شأنهم ، فلم يرعوا لاهتمام النبي بهم ، فأقصوهم عن مركز الحكم وعن جميع ما يتعلّق بالدولة الإسلامية التي أنشأها جدّهم الرسول ، وقامت على أكتاف أخيه وباب مدينة علمه ، لقد آلت الخلافة الإسلامية ـ مع الأسى والأسف ـ إلى بني أميّة فأمعنوا في ظلم العترة الطاهرة وإبادتها ، وما كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان إلاّ من تبعات السقيفة ، ورحم الله الإمام كاشف الغطاء إذ يقول :

تالله ما كربلا لو لا سقيفتهم

ومثل هذا الفرع ذاك الأصل أنتجه

إنّ الأحداث الجسام التي فزع منها المسلمون كإباحة مدينة النبيّ ٦ ، وحرق الكعبة ، وتسلّط الأشرار المارقين عن الدين على رقاب المسلمين أمثال بسر بن أرطاة ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، وعبيد الله بن زياد وأمثالهم من الخونة

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

١٠١

المجرمين الذين أمعنوا في ظلم المسلمين ، وأغرقوهم في المآسي والخطوب كلّها قد نجمت من السقيفة ، وما يرتبط بها من أحداث.

ولسنا في البحث عن السقيفة خاضعين للمؤثّرات المذهبية ، نعوذ بالله أن نخضع لغير الحقّ ، وأن نكتب ما تمليه علينا العواطف التقليدية ، وإنّما نكتب هذه البحوث على ضوء الدراسة العلمية التي اقتبسناها من الوثائق التاريخية ، وحلّلنا أبعادها بأمانة وإخلاص ، وفيما اعتقد أنّ كلّ من يتأمّل في أحداث السقيفة يؤمن بأنّها غير طبيعة وأنّها دبّرت لصرف الخلافة عن أهل البيت.

وعلى أي حال فلا بدّ لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذا الحادث المروع الذي ابتلي فيه المسلمون كأشدّ وأقسى ما يكون الابتلاء ، وفيما يلي ذلك :

البواعث المؤتمر السقيفة

وعقد الأنصار في اليوم الذي توفّي فيه رسول الله ٦ مؤتمرا في سقيفة بني ساعدة ، ضمّ الجناحين منهم الأوس والخزرج ، تداولوا فيه شئون الخلافة ، وأن لا تخرج من حوزتهم ، ولا يكونوا تبعا لزعامة المهاجرين من قريش وتحت نفوذهم.

والشيء الذي يدعو إلى التساؤل لما ذا سارعوا إلى عقد مؤتمرهم بهذه السرعة الخاطفة ، والرسول لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وأكبر الظنّ أنّ أسباب ذلك تتلخّص بما يلي :

أوّلا : إنّ الأنصار قد استبان لهم بصورة مكشوفة لا خفاء فيها على تصميم المهاجرين من قريش للاستيلاء على الحكم بعد النبيّ ٦ وصرفه عن الإمام أمير المؤمنين ، ويدعم ذلك :

١ ـ إنّ المهاجرين من قريش أعلنوا رفضهم الكامل لبيعة الإمام يوم غدير خمّ ، فقد قالوا : لقد حسب محمّد أنّ هذا الأمر قد تمّ لابن عمّه وهيهات أن يتمّ ، وتناقلت

١٠٢

حديثهم معظم الأوساط في يثرب.

٢ ـ امتناع قادة المهاجرين من الالتحاق بجيش اسامة خوفا أن يتمّ الأمر للإمام بعد وفاة النبيّ ٦ ويفلت الزمام منهم ، ولم يكن يخفى على الأنصار ذلك.

٣ ـ قيام بعض المهاجرين بالحيلولة بين النبيّ وبين ما رآه من الكتابة التي تضمن لامّته السعادة في جميع الأحقاب والآباد ـ على حدّ تعبيره ـ فقد رموه بالهجر ، وهو طعن مؤسف في شخصية الرسول ٦ ، فامتنع بأبي وأمّي من الكتابة التي تهدف إلى النصّ الصريح على خلافة الإمام أمير المؤمنين ٧ .

ثانيا : إنّ الأنصار كانوا على يقين لا يخامره شكّ أنّ المهاجرين من قريش كانوا حاقدين على الإمام ؛ لأنّه قد وترهم ، وحصد رءوس أعلامهم ، وقد أعلن ذلك عثمان بن عفّان ، فقد قال للإمام :

ما أصنع إن كانت قريش لا تحبّكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين رجلا كأنّ وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم (١) .

أرأيتم كيف صوّر عثمان لوعة القرشيّين على فتيانهم وفرسانهم الذين أبادهم الإمام في يوم بدر وأبادتهم القوّات المسلّحة في الجيش الإسلامي وكانت قريش ترى أنّ الإمام ٧ هو الذي وترها ، فهي تطالبه بذحلها ويقول الكناني من شعراء قريش محرّضا لها على الوقيعة بالإمام :

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جذع أبرّ على المذاكي القرّح

لله درّكم ألما تذكروا

قد يذكر الحرّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة (٢) الذي أفناكم

ذبحا بقتلة بعضه لم يذبح

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ٢٢.

(٢) فاطمة بنت أسد أمّ الإمام أمير المؤمنين ٧ .

١٠٣

أين الكهول وأين كلّ دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح (١) ؟

وروى ابن طاوس عن أبيه أنّه قال للإمام زين العابدين :

ما بال قريش لا تحبّ عليّا؟

فأجابهم الإمام :

لأنّه أورد أوّلهم النار ، وألزم آخرهم العار (٢) .

لقد كان بغض القرشيّين للإمام ٧ مكشوفا وغير خفي على أحد ، وخاف الأنصار من استيلاء المهاجرين على دست الحكم فينزلون بهم الضربات القاصمة لولائهم للإمام ٧ ومودّتهم له.

ثالثا : إنّ الأنصار كانوا العمود الفقري للقوّات الإسلامية ، وقد أشاعوا الحزن والحداد في بيوت القرشيّين ، ومن المؤكّد أنّ القرشيّين كانوا يحقدون أشدّ الحقد على الأنصار ، وأنّهم لا يألون جهدا في الانتقام منهم ، فلذا سارعوا في عقد مؤتمرهم خشية من المهاجرين ، يقول الحبّاب بن المنذر وهو من مفكّري الأنصار :

لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم واخوانهم (٣) .

وتحقّق ما تنبأ به الحبّاب ، فإنّه لم يكد ينتهى حكم الخلفاء القصير الأمد حتى آل الحكم إلى الأمويّين فسعوا جاهدين في إذلالهم والتنكيل بهم. وقد أمعن معاوية في قهرهم وظلمهم ، ولمّا ولي الأمر بعده يزيد جهد على الوقيعة بهم فأباح دماءهم وأموالهم وأعراضهم في واقعة الحرّة المحزنة التي لم يشاهد التاريخ لها نظيرا في فظاعتها وقسوتها.

رابعا : إنّ النبيّ ٦ استشفّ من وراء الغيب ما تعانيه الأنصار من بعده من

__________________

(١) و (٣) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٢٣٥.

(٢) معجم الشيوخ ـ ابن الاعرابي ٤ : ١٦.

١٠٤

جهد وبلاء ، فقال لهم : « ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض » فخافوا كأشدّ ما يكون الخوف ، فلذا بادروا إلى عقد مؤتمرهم ليكونوا بمأمن من الاثرة والجهد.

وفيما أحسب أنّ هذه العوامل بعض الأسباب التي أدّت إلى عقد الأنصار مؤتمرهم في سقيفة بني ساعدة.

خطاب سعد :

ولمّا عقد الأنصار مؤتمرهم في السقيفة انبرى سعد بن عبادة زعيم الخزرج إلى افتتاح مؤتمرهم ، وكان مريضا لا يتمكّن أن يجهر بكلامه ، وإنّما كان يقول : فيبلغ بعض أقربائه مقالته ، وهذا نصّ كلامه :

يا معشر الأنصار ، لكم سابقة في الدين ، وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب ، إنّ محمّدا ٦ لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به إلاّ قليل ، ما كانوا يقدرون على منعه ، ولا على إعزاز دينه ، ولا على دفع ضيم حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، ورزقكم الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والاعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه ، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها ، وأعطى البعيد المقادة صاغرا ، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب ، وتوفّاه الله وهو عنكم راض ، وبكم قرير العين استبدّوا بهذا الأمر دون الناس فإنّه لكم دونهم (١) .

وحفل خطاب سعد بالاشادة بإيمان الأنصار وبسالتهم وحمايتهم للإسلام ، وأنّه قام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد بفضل جهادهم ونصرتهم له ، فهم

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢. تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٧.

١٠٥

الذين حموه أيام غربته ومحنته فإذن هم أولى بالنبيّ ، وأحقّ بمركزه ومقامه ، فإنّ من كان عليه العزم فهو أولى بالغنم.

وكان من بنود هذا الخطاب التنديد بالقرشيّين الذين ناهضوا النبيّ ٦ وناجزوه الحرب ، حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى يثرب ، وما آمن به من قومه إلاّ فئة قليلة لم تتمكّن من حمايته والذبّ عنه وبذلك فلا حقّ للقرشيّين في الخلافة ولا نصيب لهم بها.

المؤاخذة على سعد :

وتناسى سعد في خطابه المصيبة العظمى التي دهمت المسلمين وهي موت سيّد الكائنات ، فلم يشر إليها بقليل ولا بكثير ، ولم يعزّ الأنصار بهذا الخطب المروع ، كما تناسى في خطابه العترة الطاهرة التي هي وديعة النبيّ في امّته ، وعديلة القرآن الكريم ، ولم يتعرّض لسيّد المسلمين وإمام المتّقين الإمام أمير المؤمنين ٧ الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، فقد تجاهله سعد بالمرّة ، ونسى البيعة له يوم غدير خمّ ، فدعا لنفسه وقومه.

لقد أخطأ سعد إلى حدّ بعيد ، ولا مبرّر له في عقد مؤتمره ، فقد أخلد للامّة الفتن والمصاعب ، وألقاها في شرّ عظيم ، ومن ذلك اليوم عانت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من الكوارث والخطوب ، وآلت الخلافة إلى الطلقاء وأبنائهم فاتّخذوها مغنما ووسيلة لنيل شهواتهم ورغباتهم ، ولم يعد للامّة أي ظلّ لمصالحها طيلة الحكم الأموي والعباسي.

وعلى أي حال فقد لاقى سعد جزاء عمله ، فإنّه لم يكد يستقرّ الحكم القصير الأمد إلى أبي بكر حتى جهد في ملاحقته ، وفرض الرقابة عليه حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى الشام ، فتبعه خالد بن الوليد مع صاحب له ، فكمنا له ليلا وطعناه وألقياه في البئر ، وتحدّثوا أنّ الجنّ هي التي قتلته وأوردا على لسانها شعرا تفتخر فيه بقتله وهو :

١٠٦

نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

ومن الغريب أنّ دبلوماسية الحكم في ذلك العصر استخدمت الجنّ في أغراضها السياسية ، وقد آمن بذلك البسطاء والسذّخ من غير وعي للأهداف السياسية.

ضعف نفسية الأنصار :

ولم تكن للأنصار إرادة صلبة ولا عزم ثابت ، فقد منوا بالضعف والوهن والتخاذل ، فكانوا بعد خطاب زعيمهم سعد متخاذلين ، فقد أخذ بعضهم يقول لبعض : فإنّ أبى المهاجرون من قريش ، وقالوا : نحن المهاجرون وأصحابه الأوّلون وعشيرته وأولياؤه فعلام تنازعون هذا الأمر بعده ..

وانبرت طائفة منهم فقالوا :

فإنّا نقول : منّا أمير ومنكم أمير ، ولن نرضى بدون هذا أبدا ..

وأظهرت هذه المحاورة ضعفهم وانهيار عزائمهم وخوفهم من المهاجرين من قريش ، وثار سعد حينما رأى منهم هذه الروح الانهزامية فقال لهم :

هذا أوّل الوهن (١) .

أجل إنّ هذا أوّل الوهن وآخره ، فقد تنازلوا للقرشيّين وشاركوهم في الأمر في حين أنّ الساحة قد خلت من كلّ قرشي ، وقد دلّ هذا على عدم نضوجهم السياسي وعدم عمقهم ، فإنّهم قد أحاطوا مؤتمرهم بكثير من الكتمان ليسبقوا الأحداث ويظفروا بالحكم قبل أن يعلم المهاجرون من قريش ، فقد ظلّوا قابعين في هذا الصراع الفارغ فأضاعوا عليهم الفرصة ، فقد دهمهم المهاجرون وسيطروا على

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢.

١٠٧

الوضع ، واستلموا الحكم بمهارة فائقة كما سنبيّن ذلك.

اختلاف الأنصار :

وشيء بالغ الأهميّة في انهزام الأنصار وعدم سيطرتهم على الموقف هو ما منوا به من الصراع القبلي بين الأوس والخزرج ، فقد كانت بينهما أحقاد وضغائن منذ عهد بعيد ، وشاعت بينهما الفتن والحروب ، وكان آخر أيام حروبهم هو ( يوم بغاث ) وكان ذلك قبل أن يهاجر النبيّ ٦ إليهم ، ولمّا حلّ في ديارهم جهد على نشر المحبّة والوئام فيما بينهم ، ولكن لم تزل الأحقاد كامنة في نفوسهم ، وقد ظهرت بشكل سافر يوم السقيفة ، فإنّه حينما عزموا على مبايعة سعد حقد عليه خضير بن أسيد زعيم الأوس ، فقال لقومه :

لئن ولّيتموها ـ أي الخلافة ـ سعدا عليكم مرّة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر (١) .

وحكى ذلك مدى الحقد المستحكم في نفوس الأوس للخزرج ، فإنّ سعدا إذا ولي الحكم مرّة واحدة تكون له فضيلة على الأوس وتفوّق عليهم ، وفعلا فقد انبرى مع قومه فبايع أبا بكر ولولاه لما تمّ الأمر له.

ومضافا إلى الأحقاد بين الأوس والخزرج إنّ بعض أبناء الخزرج الذين هم من أسرة سعد كانوا يحقدون عليه ، فهذا بشير بن سعد الخزرجي انبرى فبايع أبا بكر.

فذلكة عمر :

وشيء خطير بالغ الأهمّية قام به عمر لتجميد الأوضاع وإيقاف أيّة عملية تؤدّي إلى انتخاب خليفة على المسلمين ، فإنّ صاحبه أبا بكر لم يكن في يثرب عند

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٤.

١٠٨

وفاة النبيّ ٦ وإنّما كان في السنح (١) ، فبعث خلفه من يأتي به على وجه السرعة ، وانطلق عمر وهو يجوب في شوارع المدينة ، وقد شهر السيف ويلوّح به وينادي بصوت عال :

إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله ٦ قد مات ، والله! ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران والله ليرجعنّ رسول الله ٦ فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممّن أرجفوا بموته ...

وجعل لا يمرّ بأحد يقول مات رسول الله إلاّ خبطه بسيفه وتهدّده وتوعّده (٢) .

وذهل الناس وساورتهم موجات من الشكوك والأوهام ، فلا يدرون أيصدّقون مزاعم عمر بحياة النبيّ وأنّه لم يمت وهي من أعزّ أمانيهم ، ومن أروع أحلامهم ، أم يصدّقون ما عاينوه من جثمان النبيّ ٦ وهو مسجّى بين أهله لا حراك فيه.

ويستمرّ عمر يجول في الأزقّة والشوارع وهو يبرق ويرعد حتى أزبد شدقاه ، وهو يتهدّد بقتل من أرجف بموت النبيّ وبقطع يده ، ولم يمض قليل من الوقت حتى أقبل أبو بكر فانطلق معه إلى بيت النبيّ فكشف الرداء عن وجهه فتحقّق من وفاته ، فخرج إلى الناس وأخذ يفنّد مزاعم عمر ، وخاطب الجماهير التي أخرسها الخطب وذهلها المصاب قائلا :

من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، وتلا قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ

__________________

(١) السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل : هو أحد عواليها ، ويبعد عنها بأربعة أميال.

(٢) حياة الإمام الحسين بن علي ٨ ١ : ٢٤١ ، نقلا عن شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد.

١٠٩

ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) وصدق عمر بسرعة مقالته ، وراح يقول : فو الله ما هو إلاّ إذا سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي ، وقد علمت أنّ رسول الله ٦ قد مات (٢) .

نظرة وتأمّل :

ولم تكن الحادثة بسيطة وساذجة ، فقد حفّت بالغموض ويواجهها عدّة من التساؤلات وهي :

١ ـ إنّ القرآن الكريم أعلن بصراحة ووضوح أنّ كلّ إنسان لا بدّ أن يسقى كأس المنية ، سواء أكان نبيّا أم غيره ، قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) (٣) ، وقال تعالى في خصوص نبيّه : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .

وهذه الآيات الكريمة تتلى في وضح النهار وفي غلس الليل ، فهل خفيت على أبي حفص ولم يسمعها ، وهو يصاحب رسول الله ٦ ويماسيه ، ويسمع منه ما يتلوه من كتاب الله.

٢ ـ إنّ عمر بالذات كان متفائلا بموت النبيّ ٦ ، فقد قال لاسامة بن زيد

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٢١٩.

(٣) العنكبوت : ٥٧.

١١٠

حينما ولاّه النبيّ على الجيش الذي فيه عمر وأبو بكر : مات رسول الله وأنت عليّ أمير ، وهذا يدلّ بوضوح على أنّه كان مطمئنّا بوفاته ، مضافا إلى أنّ النبيّ ٦ في أيامه الأخيرة قبل مرضه وبعده قد نعى نفسه إلى المسلمين.

٣ ـ إنّ عمر هو الذي حال بين النبيّ ٦ وبين ما رامه من الكتابة التي ضمن فيها أن لا تضلّ امّته في جميع الأحقاب والآباد ، فقال له : حسبنا كتاب الله ، وقال :

إنّ النبيّ يهجر ، ومن المؤكّد انّه إنّما قال ذلك بعد الاعتقاد بوفاته ، ولو كان يحتمل أنّ النبيّ لا يموت في مرضه لما قال ذلك.

٤ ـ إنّ سكوت عمر وهدوء ثورته الجامحة حينما جاء أبو بكر وأعلن وفاة النبيّ ، فصدّقه ولم يناقشه ، فإنّه يقضي على اتّفاق مسبق بينهما في ذلك.

٥ ـ إنّ حكم عمر بأنّ رسول الله ٦ سوف يرجع إلى الأرض ويقطع أيدي رجال وأرجلهم ممّن ارجفوا بموته لا يخلو من مناقشة ، فإنّ تقطيع الأيدي والأرجل والحكم بالاعدام إنّما هو على الذين يخرجون عن دين الله أو يسمعون في الأرض فسادا ، والذهاب إلى موت الرسول لا يوجب ذلك قطعا.

٦ ـ إنّ حكم أبي بكر بأنّ من كان يعبد محمّدا فإنّه قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت لا يخلو من النظر ؛ لأنّه لم يؤثر عن أي أحد من المسلمين أنّه كان يعبد محمّدا واتّخذه ربّا يعبده من دون الله ، وإنّما أجمع المسلمون على أنّه عبد الله ورسوله اختاره الله لوحيه ، واصطفاه لرسالته ..

هذه بعض الملاحظات التي تحوم حول هذه الحادثة ، وقد ذكرناها في كتابنا ( حياة الإمام الحسين ٧ ).

مداهمة الأنصار :

وبينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شئون

١١١

الخلافة ويحدّدون موقفهم من المهاجرين من قريش إذ خرج من مؤتمرهم ـ وهم لا يشعرون ـ عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر على عهد رسول الله ٦ ومن أعضاء حزبه ، كما كانا من ألدّ أعداء سعد ، فانطلقا مسرعين صوب أبي بكر ، وأحاطاه علما بما جرى ، وفزع أبو بكر وعمر وسارعا نحو السقيفة ، ومعهما أبو عبيدة بن الجرّاح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وجماعة من المهاجرين ، فكسبوا الأنصار في ندوتهم ، وذعر الأنصار وأسقط ما بأيديهم ، وغاض لون سعد وخاف من خروج الأمر منهم ، وذلك لعلمه بضعف الأنصار وتصدّع وحدتهم ، وفعلا فقد فشل سعد وانهارت جميع مخطّطاته.

خطاب أبي بكر :

وبعد أن داهم المهاجرون ندوة الأنصار أراد عمر أن يفتح الحديث معهم فنهره أبو بكر ، وذلك لعلمه بشدّته ، وهي لا تنجح في مثل هذا الموقف الملبّد بالضغائن والأحقاد ، الأمر الذي يستدعي الكلمات الناعمة لكسب الموقف ، فانبرى أبو بكر فخاطب الأنصار وقابلهم ببسمات فيّاضة بالبشر قائلا :

نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما ، وأكرمهم أحسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأمسّهم برسول الله ٦ .

وأنتم اخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيرا ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على اخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعنى عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجرّاح (١) ـ.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٦٢.

١١٢

دراسة وتحليل :

ومني خطاب أبي بكر بكثير من التساؤلات ، كان منها ما يلي :

١ ـ إنّه لم يعن بصورة مطلقة بوفاة النبيّ ٦ التي هي أعظم كارثة مدمّرة فجع بها المسلمون ، فكان الأجدر به ـ فيما يقول المحقّقون ـ أن يعزّي الحاضرين بوفاة المنقذ العظيم الذي برّ بدين العرب ودنياهم ، ويدعوهم إلى الالتفاف حول جثمانه حتى يواروه في مقرّه الأخير ، ويعودوا بعد ذلك إلى عقد مؤتمر عامّ يضمّ المسلمين لينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم من يرضونه خليفة لهم ـ على فرض أنّ رسول الله ٦ لم يعهد إلى الإمام ٧ بولاية العهد ـ.

٢ ـ إنّ هذا الخطاب قد حفل أوّلا وأخيرا بطلب الامرة والسلطان ، وقد عرض أبو بكر على الأنصار التنازل عن الخلافة ومنحها للمهاجرين ومنّاهم عوض ذلك أن تكون لهم الوزارة ، إلاّ أنّه من المؤسف لمّا تمّ له الأمر لم يقلّدهم أي منصب من مناصب الدولة وأقصاهم عن جميع مراتب الحكم.

٣ ـ وتجاهل خطاب أبي بكر بالمرّة حقّ الاسرة النبوية التي هي عديلة القرآن ، أو كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، حسبما تواترت الأخبار بذلك عن النبيّ ٦ .

وكان الأجدر بأبي بكر التريث بالأمر حتى يتمّ تجهيز النبيّ ٦ ، ويؤخذ رأي عترته الطاهرة في الخلافة حتى تحمل طابعا شرعيا ، ولا يحدث انقسام بين صفوف المسلمين ، ولا توصم بيعته بأنّها فلتة وقى الله المسلمين شرّها ـ كما يقول عمر ـ ، وعلّق الإمام شرف الدين على إهمال العترة الطاهرة وعدم أخذ رأيّها في بيعة أبي بكر بقوله :

لو فرض أنّ لا نصّ بالخلافة على أحد من آل محمّد ٦ ، وفرض كونهم غير

١١٣

مبرزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم وعمل أو ايمان أو إخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كلّ فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي أو عقلي أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول الله ٦ ، ولو بأن يوكل حفظ الأمن إلى القيادة العسكرية مؤقّتا حتى يستتبّ أمر الخلافة.

أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق بأولئك المفجوعين وهم وديعة النبيّ لديهم ، وبقيّته فيهم ، وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (١) ؟

أليس من حقّ هذا الرسول الذي يعزّ عليه عنت الامّة ، ويحرص على سعادتها وهو الرءوف بها الرحيم لها أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به ، والجرح لمّا يندمل والرسول لما يقبر (٢) .

٤ ـ إنّ الحجّة التي استند إليها أبو بكر في أحقّية المهاجرين للخلافة هي أنّهم أمسّ الناس رحما برسول الله ٦ ، وأقربهم إليه ، وبهذه الحجّة تغلّب على الأنصار ، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا الملاك متوفّر في أهل البيت فهم ألصق الناس به ، وأمسّهم رحما به ، و قد عرض لذلك الإمام أمير المؤمنين ٧ بقوله :

احتجّوا بالشّجرة ، وأضاعوا الثّمرة .

وأثر عنه أنّه خاطب أبا بكر بقوله :

فإن كنت بالشّورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبيّ وأقرب

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) النصّ والاجتهاد : ٧.

١١٤

وقال الإمام ٧ في حديث له :

« والله! إنّي لأخوه ـ أي أخو النبيّ ـ ، ووليّه ، وابن عمّه ، ووارث علمه ، فمن هو أحقّ به منّي ...؟ ».

والتفت المتكلّمون من الشيعة إلى هذه الجهة ، يقول الكميت في إحدى روائعه :

بحقّكم أمست قريش تقودنا

وبالقذّ منها والرديفين نركب

وقالوا ورثناها أبانا وأمّنا

وما ورثتهم ذاك أمّ ولا أب

يرون لهم فضلا على الناس واجبا

سفاها وحقّ الهاشميّين أوجب (١)

وعلى أي حال فقد أعرض القوم عن أهل البيت عامدين أو غير عامدين ، فواجهت الامّة منذ ذلك اليوم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها أعنف المشاكل وأقسى ألوان الخطوب.

٥ ـ إنّ أبا بكر في خطابه رشّح لقيادة الامّة عمر وأبا عبيدة بن الجراح ، وكان ذلك منه التفاتة بارعة ، فقد جرّد نفسه من الأطماع السياسية ، وغزا نفوس الأنصار ، وملك عواطفهم ومشاعرهم ، وقد أجابه عمر بلباقة :

لا يكون هذا وأنت حيّ ، ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله ٦ ...

وعلّق بعض المحقّقين على مقالة عمر بقوله : لا نعلم متى أقامه رسول الله ٦ ، أو دلّل عليه ، وقد كان مع بقيّة المهاجرين جنودا في سرية أسامة ، ولو كان قد رشّحه للخلافة لأقامه معه في يثرب ، وما أخرجه إلى ساحات الجهاد.

__________________

(١) الهاشميات : ٣١ ـ ٣٣.

١١٥

هذه بعض الملاحظات التي تواجه خطاب أبي بكر.

فوز أبي بكر بالحكم :

وكسب الموقف أبو بكر في خطابه السالف الذي أثنى فيه على الأنصار ، فقد منّاهم بالوزارة ، وأزال ما في نفوسهم ما كانوا يحذرونه من استبداد المهاجرين بالحكم ، إلاّ أنّ بعض الأنصار شجب البيعة لأبي بكر ، فردّ عليه عمر بعنف قائلا :

هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ، والله! لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم ، وولي امورهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجّة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمّد وامارته ونحن أولياؤه وعشيرته؟ إلاّ مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورّط في هلكة ..

وليس في هذا الكلام شيء جديد سوى أنّ المهاجرين من قريش أولى بالرسول لأنّهم من أسرته القرشية ، وإذا أخذوا الحكم بهذه الحجّة وسيطروا على الموقف بها فإنّ عليّا أولى لأنّه من صميم الاسرة النبوية بالاضافة إلى جهاده وجهوده في سبيل الإسلام ، يقول الأستاد محمّد الكيلاني :

إنّه احتجّ عليهم ـ أي على آل النبيّ ـ بقرابة المهاجرين للرسول ، ومع ذلك فقد كان واجب العدل يقضي بأن تكون الخلافة لعليّ بن أبي طالب ما دامت القرابة اتّخذت سندا بحيازة ميراث الرسول ، لقد كان العبّاس أقرب الناس إلى النبيّ ، وكان أحقّ الناس بالخلافة ، ولكنّه تنازل بحقّه هذا لعليّ ، فمن هنا صار لعليّ الحقّ وحده في هذا المنصب (١) .

وعلى أي حال فإنّ عمر لم ينته من كلامه حتى ردّ عليه الحبّاب بقوله :

__________________

(١) أثر التشيّع في الأدب العربيّ : ٥.

١١٦

يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولّوا عليهم هذه الامور ، فأنتم ـ والله! ـ أحقّ بهذا الأمر منهم ؛ فإنّه بأسيافكم ، دان الناس لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين ، أنا جذيلها المحك ، وعذيقها المرجب ، أنا شبل في عرينة الأسد والله! لو شئتم لنعيدنها جذعة ، والله! لا يرد أحد عليّ ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف ».

وحفل هذا الخطاب بالعنف والتهديد ، والدعوة إلى الحرب ، وإجلاء المهاجرين ـ الذين لا يتجاوز عددهم الأصابع ـ عن يثرب ، كما حفل بالاعتزاز بنفس المتكلّم والافتخار بشجاعته ، وردّ عليه عمر بغيظ قائلا :

إذا يقتلك الله ...

فردّ عليه الحبّاب :

بل إيّاك يقتل ..

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث فهدأ الموقف وبادر أعضاء حزبه بسرعة خاطفة فبايعوه ، وكان أوّل من بايعه عمر وبشير وأسيد بن خضير وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة ، وكان من أشدّهم حماسا واندفاعا لبيعته عمر وخالد بن الوليد ، واشتدّ هؤلاء في حمل الناس وإرغامهم على مبايعة أبي بكر ، وجعل عمر يجول ويصول ويدفع الناس دفعا إلى البيعة ، ومن أبى علاه بدرته ، وسمع الأنصار يقولون :

قتلتم سعدا ...

فاندفع يقول بعنف :

اقتلوه قتله الله ، فإنّه صاحب فتنة ..

١١٧

وكادوا يقتلون سعدا ، وهو مزمن وجع ، وحمل إلى داره وهو وجع قد انهارت آماله وتبدّدت أحلامه وضاعت أمانيه.

وانتهت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة ، فأقبل به حزبه يزفّونه إلى مسجد رسول الله ٦ زفاف العروس إلى بيت زوجها (١) ، وقد علا منهم التكبير والتهليل ، وكان النبيّ ٦ مسجّى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وقد انشغل الإمام أمير المؤمنين ٧ بتجهيزه ، ولمّا علم بيعة أبي بكر تمثّل بقول القائل :

وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا

ويطغون لما غال زبد غوائل (٢)

وعلى أي حال لقد تمّت البيعة لأبي بكر بهذه الكيفيّة التي اهمل فيها رأي الاسرة النبوية ورأي خيار الصحابة أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر وأبي ذرّ وسلمان الفارسي وغيرهم من أعلام الإسلام.

هزيمة الأنصار :

وأفل نجم الأنصار وانهارت قواهم ، وعراهم الذلّ والهوان ، وقد حكى حسّان ابن ثابت خيبة آمالهم بقوله :

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على وجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أبسار الجزور من الفضل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل (٣)

وتعرّضت الأنصار للمحن والخطوب في كثير من عهود الخلفاء والملوك ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٨.

(٢) المصدر السابق : ٥.

(٣) المصدر السابق ٦ : ١٠ ـ ١١.

١١٨

وكان ذلك جزاء ما اقترفوه في حقّ العترة الطاهرة ، فهم الذين فتحوا الباب لظلمهم والاعتداء عليهم.

ابتهاج القرشيّين :

وابتهجت الاسر القرشية بحكومة أبي بكر واعتبرته فوزا ساحقا لهم ، وقد عبّر عن مدى فرحها وسرورها أبو عبرة القرشي بقوله :

شكرا لمن هو للثّناء حقيق

ذهب اللجاج وبويع الصدّيق

من بعد ما زلّت بسعد نعله

ورجا رجاء دونه العيّوق

إنّ الخلافة في قريش ما لكم

فيها وربّ محمّد معروق (١)

وحكى هذا الشعر سرور القرشيّين البالغ بحرمان الأنصار من الخلافة ، كما أظهر عمرو بن العاص سروره وفرحه ببيعة أبي بكر ، ولم يكن في يثرب وإنّما كان في سفر له ، فلمّا قدم وسمع بالبيعة قال :

قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج (٢)

لقد عمّت الفرحة الكبرى جميع القرشيّين ببيعة أبي بكر ، فقد تخلّصوا من حكومة الأنصار وحكومة الاسرة النبوية.

موقف أبي سفيان :

وأعلن أبو سفيان معارضته لحكومة أبي بكر ، ومضى إلى الإمام ٧ يحفّزه على فتح باب الحرب على أبي بكر ، ويعده بنصره إن نهض لاسترداد حقّه يقول له :

__________________

(١) الموفّقيات : ٨٠. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.

١١٩

إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من اموركم. أين المستضعفان؟

أين الأذلاّن عليّ والعبّاس؟ ..

ما بال الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟ ثمّ قال للإمام :

ابسط يدك ابايعك ، فو الله! لئن شئت لأملأنّها عليه خيلا ورجالا ، وتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلاّ الأذلاّن عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يبكي له أحد

وقال أبو سفيان :

وأضحت قريش بعد عزّ ومنعة

خضوعا لتيم لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به

وما زال منها فائزا بالرغائب (١)

ولم يكن موقف أبي سفيان متّسما بالإخلاص والولاء للإمام ، فهو العدوّ الأوّل للإسلام وللمسلمين ، ولم تكن تخفى على الإمام دوافعه ، فلم يستجب له ونهره وأغلظ له في القول قائلا :

« والله! ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك والله! طالما بغيت للإسلام شرّا ، لا حاجة لنا في نصيحتك » (٢) .

وراح أبو سفيان يشتدّ لإثارة الفتنة بين المسلمين ، ويدعو الإمام إلى إعلان الثورة على حكومة أبي بكر ، وكان ينشد هذه الأبيات :

__________________

(١) الأغاني ٦ : ٣٥٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٠.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

[ وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر ؛ لأنّ المتعة هي التي وجبت بالطلاق ، والشقص عوض عنها(١) .

ولو أخذ من المكاتب شقصاً عوضاً عن النجوم ، فلا شفعة عندنا ](٢) .

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بمثل النجوم أو بقيمتها ؛ لأنّ النجوم هي التي قابلته(٣) .

ولو جعل الشقص اُجرة دار ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يؤخذ بقيمة المنفعة ، وهي اُجرة مثل الدار(٤) .

ولو صالح على الشقص عن دم ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بقيمة الدم ، وهي الدية(٥) . ويعود فيه مذهب مالك(٦) .

ولو استقرض شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وقال الشافعي : يأخذه الشفيع بقيمته وإن قلنا : إنّ المستقرض يردّ المثل ؛ لأنّ القرض مبنيّ على الإرفاق ، والشفعة ملحقة بالإتلاف(٧) (٨) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) بعض ما بين المعقوفين أضفناه من « العزيز شرح الوجيز » نصّاً ، ونحوه في « التهذيب » للبغوي ، و « روضة الطالبين ». وبعضه الآخَر من تصحيحنا لأجل السياق.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٤و٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة. وورد في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ - تتمّةً لقول الشافعي - : « ويقود منه الجريح ويذهب ملكه » بدل « ويعود فيه مذهب مالك ».

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « بالإتلاف ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٨) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦١

مسالة ٧٤٧ : لو كان الثمن مؤجَّلاً‌ ، مثلاً : اشترى الشقص بمائة مؤجَّلة إلى سنة ، فللشيخرحمه‌الله قولان :

أحدهما - وهو الأقوى عندي ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في القديم(١) - : أنّ للشفيع الأخذ كذلك بعد إقامة كفيل إذا لم يكن مليّاً ، وليس له الصبر والأخذ عند الأجل(٢) .

لنا : أنّ الأخذ إنّما يكون بالثمن ، ويجب أن يكون على الشفيع مثل الثمن قدراً ووصفاً ، والتأجيل وصف في الثمن. ولأنّ الشفعة على الفور ، وتأخير الطلب إلى الأجل مناف للفوريّة ، وأخذها بالثمن المعجّل إضرار بالشفيع بغير وجه ، فلم يبق إلّا ما قلنا توصّلاً إلى الجمع بين الحقوق كلّها.

وقال الشيخ أيضاً : يتخيّر الشفيع بين أن يأخذه ويعجّل الثمن ، وبين أن يصبر إلى أن يحلّ الأجل ثمّ يأخذه بالثمن(٣) - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد(٤) - لأنّ ذلك يؤدّي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمّة الشفيع ، والذمم لا تتماثل ، ولهذا إذا مات مَنْ عليه الدَّيْن المؤجَّل ، حلّ الأجل ، ولم ينتقل إلى ذمّة الورثة. وملاءة الأشخاص لا توجب تماثل الذمم ، فإنّها تختلف في كون بعضها أوفى وبعضها أسهل في المعاملة.

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧١٥ ، ذيل الحديث ٣ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٩ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٣ ، المحلّى ٩ : ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، وانظر : روضة الطالبين ٤ : ١٧١ - ١٧٢.

(٢) النهاية : ٤٢٥.

(٣) المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٢ ، الخلاف ٣ : ٤٣٣ ، المسألة ٩ من كتاب الشفعة.

(٤) بدائع الصنائع ٥ : ٢٧ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٣ / ١٩٥٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٥٦ ، الوسيط ٤ : ٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ - ١٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٣.

٢٦٢

ولأنّ في ذلك تغريراً بالمشتري ؛ لجواز أن يذهب مال الشفيع قبل حلول الأجل ، فيلزمه غرمه ، ولا يجوز أن يلزمه ذلك ، ولم يحصل له حظّ بهذا البيع.

وهو ممنوع ؛ لأنّا نلزم الشفيع بكفيل مليّ يرتضيه المشتري ، فاندفع المحذور.

وللشافعي قولٌ ثالث : إنّ الشفيع يأخذه بسلعة قيمتها الثمن إلى سنة ؛ لأنّه لم يأخذ السلعة بثمن مؤجّل على ما تقدّم ، وإن أخذها بثمنٍ حالّ في الحال أو بعد انقضاء الأجل ، فقد كلّفناه أكثر من الثمن ؛ لأنّ ما يباع بمائة إلى سنة لا يساويها حالّا ، ولئلّا يتأخّر الأخذ ولا يتضرّر الشفيع(١)

وعلى ما اخترناه فإنّما يأخذه بثمنٍ مؤجّل إذا كان مليّاً موثوقاً به أو(٢) إذا أعطى كفيلاً مليّاً ، وإلّا لم يأخذه ؛ لأنّه إضرار بالمشتري ، وهو أحد قولي الشافعي على تقدير قوله بما قلناه. والثاني له : أنّ له الأخذ على الإطلاق ، ولا ينظر إلى صفته ، ولو أخذه ثمّ مات ، حلّ عليه الأجل(٣) .

وعلى قول أبي حنيفة والشيخ والشافعي في الجديد لا يبطل حقّ الشفيع بالتأخير ؛ لأنّه تأخير بعذر ، ولكن هل يجب تنبيه المشتري على الطلب؟ فيه وجهان ، أحدهما : لا ؛ إذ لا فائدة فيه. والثاني : نعم ؛ لأنّه ميسور وإن كان الأخذ معسوراً(٤) .

ولو مات المشتري وحلّ عليه الثمن ، لم يتعجّل الأخذ على الشفيع ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « و» بدل « أو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

٢٦٣

بل هو على خيرته إن شاء أخذ في الحال ، وإن شاء صبر إلى مجي‌ء ذلك المحلّ.

ولو مات الشفيع ، فالخيرة التي كانت له تثبت لورثته.

ولو باع المشتري الشقص قبل أن يحلّ الأجل ، صحّ البيع ؛ لأنّ الثمن لو كان حالّاً فباع المشتري صحّ بيعه ، فإذا كان مؤجّلاً وتأخّر الأخذ ، كان جواز البيع أولى ، ويتخيّر الشفيع بين أن يجيز البيع الثاني ويأخذه بالثمن الثاني وبين أن يفسخه إمّا في الحال أو عند حلول الأجل ، ويأخذه بالثمن الأوّل ؛ لأنّ ذلك كان له ، ولا يسقط بتصرّف المشتري.

هذا إذا قلنا : إنّ للشفيع نقض تصرّف المشتري ، وهو الظاهر عندهم(١) ، وفيه خلاف ، وإن قلنا بالثالث ، فتعيين(٢) العرض إلى الشفيع وتعديل القيمة [ إلى ](٣) مَنْ يعرفها.

ولو لم يتّفق طلب الشفعة حتى حلّ الأجل ، وجب أن لا يطالب على هذا القول إلّا بالسلعة المعدلة ؛ لأنّ الاعتبار في قيمة عوض المبيع بحال البيع ، ألا ترى أنّه إذا باع بمتقوّم ، تعتبر قيمته يوم البيع. وعلى القولين الآخَرَيْن لو أخّر الشفعة ، بطل حقّه.

مسالة ٧٤٨ : لو ضمّ شقصاً مشفوعاً إلى ما لا شفعة فيه في البيع‌ ، مثل أن يبيع نصفَ دار وثوباً أو عبداً أو غيرهما صفقةً واحدة ، بسط الثمن عليهما باعتبار القيمتين ، وأخذ الشفيع الشقص بحصّته من الثمن ، عند علمائنا ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد(٤) ، ولا شفعة في المضموم ؛

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فيتعيّن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٢.

٢٦٤

لأنّ المضموم لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة ، فلا تثبت فيه الشفعة ، كما لو أفرده.

وقال مالك : تثبت الشفعة فيهما معاً. ويروى عنه أيضاً أنّه إن كان من مصالح الضيعة وتوابعها كالثيران وآلات الحرث والعبد العامل في البستان ، أخذه الشفيع مع الشقص. وإن كان غير ذلك ، لم يأخذه ؛ لأنّه لو أخذ الشقص وحده ، تبعّضت الصفقة على المشتري ، وفي ذلك ضرر ، ولا يزال الضرر عن الشفيع بإلحاق ضرر المشتري(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه أدخله على نفسه بجمعه في العقد بين ما ثبت فيه الشفعة وما لا تثبت.

ثمّ النظر إلى قيمتهما يوم البيع ؛ فإنّه وقت المقابلة.

قال الجويني : إذا قلنا : إنّ الملك ينتقل بانقطاع الخيار ؛ فيجوز أن يعتبر وقت انقطاع الخيار ، لأنّ انتقال الملك - الذي هو سبب الشفعة - حينئذٍ يحصل(٢) .

وهذا يتأتّى على قول الشيخ أيضاً.

وإذا أخذ الشفيع الشقص ، لم يثبت للمشتري الخيار وإن تفرّقت الصفقة عليه ، لدخوله فيها عالماً بالحال.

مسالة ٧٤٩ : إذا اشترى شقصاً من دار فاستهدمت إمّا بفعل المشتري أو بغير فعله ، فلها أحوال :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠ ، المغني ٥ : ٥٠٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٠.

٢٦٥

أ - أن تتعيّب من غير تلف شي‌ء منها ولا انفصال بعضها عن بعض بأن يتشقّق جدار أو تميل أسطوانة أو ينكسر جذع أو يضطرب سقف ، فالشفيع بالخيار بين الأخذ بكلّ الثمن ، وبين الترك ، ويكون تعيّبه في يد المشتري كتعيّب المبيع في يد البائع ، فإنّه يتخيّر المشتري بين الفسخ وبين الأخذ بجميع الثمن ، عند بعض(١) علمائنا ، وبه قال الشافعي(٢) .

وعند بعضهم(٣) يسقط(٤) الأرش ، فينبغي هنا أن يكون كذلك.

ب - أن يتلف بعضها ، فيُنظر إن تلف شي‌ء من العرصة بأن غشيها السيل فغرّقها ، أخذ الباقي بحصّته من الثمن.

وإن بقيت العرصة بتمامها وتلفت السقوف والجدران باحتراقٍ وغيره ، فإن قلنا : إنّ الأبنية كأحد العبدين المبيعين(٥) ، أخذ العرصة بحصّتها من‌

____________________

(١) كالشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ١٠٩ ، المسألة ١٧٨ ، والمبسوط ٢ : ١٢٧ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ٣٠٥.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٢ - ١٧٣.

(٣) اُنظر : نكت النهاية ( النهاية ونكتها ) ٢ : ١٦١ - ١٦٢.

(٤) كذا بصيغة الإثبات. وفي جواهر الكلام ١٦ : ٣٥٩ حيث نقل عبارة التذكرة قال : « لا يسقط الأرش ». وقال المحقّق الكركي في جامع المقاصد ٤ : ٤١٧ - ٤١٨ عند شرح قول المصنّف في القواعد : « ولو انهدم أو تعيّب بفعل المشتري قبل المطالبة » : فهاهنا أربع صور : الاولى : أن يكون ذلك بفعل المشتري قبل مطالبة الشفيع بالشفعة بأن ينقض البناء أو يشقّ الجدار أو يكسر الجذع إلى أن ساق الكلام إلى قوله : وقد سبق في كتاب البيع وجوب الأرش على البائع إذا تعيّب المبيع في يده فينبغي أن يكون هنا كذلك ، وقد نبّه كلام المصنّف في التذكرة على ذلك. انتهى ، فلاحظ قوله : « وجوب الأرش على البائع » حيث إنّه يخالف قول المصنّف : « يسقط الأرش » ويوافق ما في الجواهر من قوله : « لا يسقط ». وانظر أيضاً : الكافي في الفقه - للحلبي -: ٣٥٥.

(٥) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « المسمّيين » بدل « المبيعين ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٦

الثمن ، وهو الأصحّ ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد(١) .

وإن قلنا : إنّها كأطراف العبد وصفاته ، أخذها بكلّ الثمن على رأي - وبه قال الشافعي(٢) - وبما بعد الأرش على رأي.

وفرّق بعضهم بين أن يكون التلف بآفة سماويّة ، فيأخذها بجميع الثمن ، أو بإتلاف متلفٍ ، فيأخذها بالحصّة ؛ لأنّ المشتري يحصل له بدل التالف ، فلا يتضرّر ، وبه قال أبو حنيفة(٣) .

ج - أن لا يتلف شي‌ء منها ولكن ينفصل بعضها عن بعض بالانهدام وسقوط الجدران ، فإنّ الشفيع يأخذ الشقص مع الأبعاض - وهو أحد قولي الشافعي(٤) - لأنّها دخلت في البيع وكانت متّصلة به حالة البيع ممّا يدخل في الشفعة ، فكذا بعد النقض ، وكونه منقولا عرض بعد البيع وبعد تعلّق حقّ الشفيع به ، والاعتبار بحال جريان العقد ، ولهذا لو اشترى داراً فانهدمت ، يكون النقض والعرصة للمشتري وإن كان النقض لا يندرج في البيع لو وقع بعد الانهدام.

والثاني للشافعي : لا يأخذ الشفيع النقض ؛ لأنّه منقول كما لو كان في الابتداء كذلك وأدخل النقض في البيع ، لا يؤخذ بالشفعة(٥) .

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥١ / ١٩٧٢ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٤و٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

٢٦٧

فإن قلنا بالأوّل ، أخذه مع العرصة بجميع الثمن أو بما بعد الأرش على ما تقدّم ، أو يعرض عن الكلّ.

وإن قلنا : إنّه لا يأخذه - كما هو اختيار الشافعي في القول الثاني - فيبني على أنّ السقوف والجدران كأحد العبدين أو كطرف العبد؟ إن قلنا بالأوّل ، أخذ العرصة وما بقي من البناء بحصّتهما من الثمن.

وإن قلنا بالثاني ، فوجهان :

أحدهما : أنّه يأخذ بالحصّة ؛ لأنّ الأنقاض كانت من الدار المشتراة ، فيبعد أن تبقى للمشتري مجّاناً ويأخذ الشفيع ما سواه بتمام الثمن.

والثاني - وهو قياس الأصل المبنيّ عليه - : أن يأخذ بتمام الثمن ، كما في الحالة الاُولى. وعلى هذا فالأنقاض تشبه بالثمار والزوائد التي يفوز بها المشتري قبل قبض الشفيع(١) .

ومنهم مَنْ كان يطلق قولين - تفريعاً على أنّ النقض غير مأخوذ من غير البناء - على أنّ النقض كأحد العبدين أو كأطراف العبد؟(٢)

ووجه الأخذ بالكلّ : أنّه نَقْصٌ حصل عند المشتري ، فأشبه تشقّق الحائط ، والأخذِ بالحصّة : أنّ ما لا يؤخذ من المبيع بالشفعة تسقط حصّته من الثمن ، كما إذا اشترى شقصاً وسيفاً.

واعلم أنّ المزني نقل عن الشافعي أنّ الشفيع مخيّر بين أن يأخذه بجميع الثمن أو يردّ(٣) .

وقال في القديم ومواضع من الجديد : أنّه يأخذه بالحصّة(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ - ٥١٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٣) مختصر المزني : ١٢٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

٢٦٨

وقد ذكر بعض الشافعيّة فيه خمس طرق :

أ - منهم مَنْ قال : إنّ ما انهدم من الدار لا يدخل في الأخذ بالشفعة ، وإنّما يأخذ العرصة وما فيها من البناء ؛ لأنّ ذلك منفصل عنها ، كما لو باع داراً ، لم يدخل فيها ما كان منفصلاً عنها. وهل يأخذ العرصة والبناء الذي فيها بجميع الثمن أو بالحصّة؟ قولان.

ب - ما ذُكر في الطريقة الاُولى إلّا في أنّه يأخذ ذلك بحصّته من الثمن قولاً واحداً.

ج - إنّ ما انفصل من الدار يستحقّه الشفيع مع الدار ؛ لأنّ استحقاقه للشفعة إنّما كان حال عقد البيع وفي ذلك الحال كان متّصلاً.

د - المسألة على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال : يأخذها بالحصّة إذا ذهب بعض العرصة بغرقٍ أو غير ذلك ، والموضع الذي قال : يأخذها بجميع الثمن إذا كانت العرصة باقيةً وإنّما ذهب البناء.

ه- إنّ الموضع الذي قال : يأخذ بالحصّة إذا تلف بعض الأعيان بفعله أو فعل آدميّ ، والموضع الذي قال : يأخذه بجميع الثمن إذا حصل ذلك بأمر سماويّ(١) .

وبهذه(٢) الطريقة الأخيرة قال أبو حنيفة(٣) .

أقول : ما فعله المشتري مضمون ( وإن كان إذا )(٤) حصل بغير فعله لم يضمنه ، كما لو قلع عين المبيع ، كان تضمينها عليه ، ولو سقطت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٥ - ٢٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٢.

(٢) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « هذه ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٥١ / ١٩٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١١ ، المغني ٥ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٣.

(٤) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « وإذا كان ».

٢٦٩

لم يسقط شي‌ء من الثمن.

هذا كلّه إذا كان التعيّب لا بفعل المشتري أو بفعله قبل الطلب ، أمّا إذا كان بفعل المشتري بعد الطلب ، فهل يضمن المشتري؟ قولان لعلمائنا ، الأقرب : الضمان.

ولو تلف بعض المبيع ، أخذه بحصّته من الثمن.

مسالة ٧٥٠ : إذا بنى المشتري أو غرس قبل القسمة ، كان للشريك قلعه‌ ، لا من حيث الشفعة ، بل من حيث إنّ أحد الشريكين إذا بنى أو غرس في الأرض المشتركة ، كان للشريك الآخر قلعه وتخريب البناء مجّاناً ، وله الأخذ بالشفعة بعد القلع وقبله.

وإن كان المشتري قد قسّم - إمّا لغيبة الشريك ، أو لصغره - بإذن الحاكم ، أو لكذبه في الإخبار بالثمن فعفا ، أو في الاتّهاب فظهر(١) البيع ، أو قاسمه وكيله وأخفى(٢) عنه وجه الحظّ في الأخذ بالشفعة ثمّ يجي‌ء الموكّل فيظهر له الوجه ثمّ بنى أو غرس أو زرع بعد القسمة والتمييز ثمّ علم الشفيع ، فللمشتري قلع غرسه وبنائه ؛ لأنّه ملكه.

فإذا قلعه ، لم يكن عليه تسوية الحفر ؛ لأنّه غرس وبنى في ملكه ، وما حدث من النقص فإنّما حدث في ملكه ، وذلك ممّا لا يقابله الثمن ، وإنّما يقابل الثمن سهام الأرض من نصف وثلث وربع ، ولا يقابل التراب ، فيكون الشفيع بالخيار بين أن يأخذ الأرض بجميع الثمن أو يترك.

وإن لم يقلع المشتري الغراس ، تخيّر الشفيع بين ثلاثة أشياء : ترك الشفعة ، وأخذها ودفع قيمة البناء والغراس إن رضي الغارس والباني ،

____________________

(١) في « س ، ي » : « فيظهر ».

(٢) في « س ، ي » : « خفي ».

٢٧٠

ويصير الملك له ، وأن يُجبر المشتري على القلع ، ويضمن له ما نقص له بالقلع.

وقيل : رابعٌ : أن يُبقيه في الأرض باُجرة(١) .

فأمّا إذا طالبه بقلع ذلك من غير أن يضمن له النقص ، لم يلزمه قلعه ، قاله الشيخ(٢) رحمه‌الله ، والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والنخعي(٣) ؛ لأنّه بنى في ملكه الذي يملك نفعه ، فلم يُجبر على قلعه مع الإضرار به ، كما لو كان لا شفعة فيه.

وقال أبو حنيفة والثوري : يُجبر على قلعه ؛ لأنّه بنى في حقّ غيره بغير إذنه ، فكان عليه قلعه ، كما لو بنى فيها وبانت مستحقَّةً(٤) .

وفرّق(٥) الأوائل بأنّه غرس في ملك غيره(٦) .

وقول أبي حنيفة عندي لا بأس به ، والبناء وإن كان في ملكه لكنّه ملكٌ غير مستقرّ ، فلا يؤثّر في منع القلع ، والقياس على عدم الشفعة باطل.

لا يقال : القسمة تقطع الشركة ، وتردّ العلقة بينهما إلى الجوار ، وحينئذٍ وجب أن لا تبقى الشفعة ؛ لاندفاع الضرر الذي كُنّا نثبت الشفعة لدفعه ، كما لا تثبت ابتداءً للجار.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

(٢) المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٨ ، الخلاف ٣ : ٤٣٩ ، المسألة ١٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٦ - ١٧٧ ، المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٩ ، المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

(٥) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فرّقوا ».

(٦) المغني ٥ : ٥٠١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥١٣.

٢٧١

لأنّا نقول : الجوار وإن لم يكن يكتفى به في الابتداء إلّا أنّه اكتفي به في الدوام عند حصول الشركة في الابتداء ، ولم يخرّج على الخلاف في بطلان الشفعة فيما إذا باع نصيبه جاهلاً بالشفعة ؛ لأنّ الجوار على حال ضرب اتّصال قد يؤدّي إلى التأذّي(١) بضيق المرافق وسوء الجوار ، ولذلك اختلف العلماء في ثبوت الشفعة به.

إذا عرفت هذا ، فلا فرق بين تصرّف المشتري والمستعير إذا بنى في أرض المعير أو غرس. ولو كان قد زرع ، ترك زرعه إلى أن يدرك ويحصد.

وهل للشفيع أن يطالبه باُجرة بقاء الزرع؟ الأقوى : العدم ، بخلاف المستعير ، فإنّه زرع أرض الغير وقد رجع في العارية ، فكان عليه الاُجرة ، أمّا المشتري فإنّه زرع ملك نفسه واستوفى منفعته بالزراعة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : له المطالبة ، كما أنّ المعير يبقي بالاُجرة(٢) . وقد بيّنّا الفرق.

وكذا لو باع أرضاً مزروعة ، لا يطالبه المشتري بالاُجرة لمدّة بقاء الزرع.

وللشافعيّة في الصور الثلاث - صورة بيع الأرض المزروعة ، وصورة العارية ، وصورة الشفعة - وجهان في وجوب الاُجرة ، لكنّ الظاهر عندهم في صورة العارية وجوب الاُجرة ، وفي الصورتين الاُخريين المنع ؛ للمعنى الجامع لهما ، وهو أنّه استوفى منفعة ملكه(٣) .

وأمّا إذا زرع بعد المقاسمة ، فإنّ الشفيع يأخذ بالشفعة ، ويبقى زرع المشتري إلى أوان الحصاد ، لأنّ ضرره لا يبقى ، والأجرة عليه ، لأنّه زرعه‌

____________________

(١) في « س » والطبعة الحجريّة : « على حال ضرر إيصال قد يتأدّى إلى التأذّي ». وفي « ي » : « على حال ضرر أيضاً . .». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٧.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٠.

٢٧٢

في ملكه.

تذنيب : إذا زرع ، لزم الشفيع إبقاء الزرع ، وحينئذٍ يجوز له تأخير الشفعة إلى الإدراك والحصاد ؛ لأنّه لا ينتفع به قبل ذلك ، ويخرج الثمن من يده ، فله في التأخير غرض صحيح ، وهو الانتفاع بالثمن إلى ذلك الوقت ، قاله بعض الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : ويحتمل أن لا يجوز التأخير وإن تأخّرت المنفعة ، كما لو بِيعت الأرض في وسط الشتاء ، لا تؤخّر الشفعة إلى أوان الانتفاع(٢) . ولعلّ بينهما فرقاً.

ولو كان في الشقص أشجار عليها ثمار لا تستحقّ بالشفعة ، ففي جواز التأخير إلى وقت القطاف وجهان للشافعيّة(٣) .

وعندي أنّه يجب الأخذ معجّلاً.

مسالة ٧٥١ : لو تصرّف المشتري بوقف أو هبة وغيرهما ، صحّ‌ ؛ لأنّه واقع في ملكه ، وثبوت حقّ التملّك للشفيع لا يمنع المشتري من التصرّف ، كما أنّ حقّ التملّك للواهب بالرجوع(٤) لا يمنع تصرّف المتّهب ، وكما أنّ حقّ التملّك للزوج بالطلاق لا يمنع تصرّف الزوجة.

وعن ابن سريج من الشافعيّة أنّ تصرَّفاته باطلة ؛ لأنّ للشفيع حقّاً لا سبيل إلى إبطاله ، فأشبه حقّ المرتهن(٥) .

وإذا قلنا بالصحّة على ما اخترناه نحن - وهو الظاهر من قول الشافعيّة(٦) - أنّه يُنظر إن كان التصرّف ممّا لا تثبت به الشفعة ، فللشفيع نقضه ، وأخذ‌

____________________

(٣-١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

(٤) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « فالرجوع ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥و٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨.

٢٧٣

الشقص بالشفعة ، وإلّا تخيّر بين الأخذ بالأوّل وفسخ الثاني ، وبين إمضائه والأخذ بالثاني.

وعن المروزي أنّه ليس تصرّف المشتري بأقلّ من بنائه ، فكما لا ينقض المشتري بناؤه لا ينبغي أن ينقض تصرّفه(١) .

واختلفت الشافعيّة في موضع هذا الوجه :

فمنهم مَنْ خصّصه بما تثبت فيه الشفعة من التصرّفات ، أمّا ما لا تثبت فله نقضه ، لتعذّر الأخذ به.

ومنهم مَنْ عمّم وقال : تصرّف المشتري يُبطل حقَّ الشفيع ، كما يُبطل تصرّف المشتري المفلس حقَّ الفسخ للبائع ، وتصرّف المرأة حقَّ الرجوع إلى العين إذا طلّق قبل الدخول ، وتصرّف المتّهب رجوعَ الواهب. نعم ، لو كان التصرّف بيعاً ، تجدّد حقّ الشفعة بذلك(٢) .

وعن أبي إسحاق من الشافعيّة أنّها لا تتجدّد أيضاً ؛ لأنّ تصرّف المشتري إذا كان مبطلاً للشفعة ، لا يكون مثبتاً لها ، كما إذا تحرّم(٣) بالصلاة ثمّ شكّ فجدّد نيّةً وتكبيراً ، لا تنعقد بها الصلاة ؛ لأنّه يحصل بها الحلّ فلا يحصل العقد(٤) .

ووجه ظاهر المذهب : أنّ للشفيع نقض تصرّف المشتري ؛ لأنّ حقّه ثابت بأصل العقد ، فلا يتمكّن المشتري من إبطاله ، ولا يشبه تصرّف المفلس وتصرّف المرأة في الصداق ، فإنّ حقّ البائع والزوج لا يبطل بالكلّيّة ، بل ينتقل إلى الثمن والقيمة ، والواهب رضي بسقوط حقّه حيث سلّمه إليه وسلّطه عليه ، وهنا لم يبطل حقّ الشفيع بالكلّيّة ، ولم يوجد منه‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « أحرم » بدل « تحرّم ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٢.

٢٧٤

رضا ولا تسليم(١) .

قال بعض الشافعيّة : يجوز أن يبنى الوجهان على القولين فيما إذا عُتقت الأمة تحت عبد وطلّقها قبل أن تختار الفسخ ، هل ينفذ الطلاق؟

ووجه الشبه : أنّ الطلاق يُبطل حقّها في الفسخ ولم تسلّطه عليه ، كما ذكرنا في الشفيع(٢) .

وحكي عن بعضهم أنّه لا ينقض الشفعةَ تصرّفُ الوقف ، وينقض ما عداه(٣) .

مسالة ٧٥٢ : النخل تتبع الأرض في الشفعة‌ ، وبه قال الشافعي(٤) .

فإن طالب بالشفعة وقد زادت النخل بطولٍ وسعفٍ ، رجع في ذلك ؛ لأنّ هذه زيادة غير متميّزة ، فتبعت الأرض في الرجوع ، كسمن الجارية.

اعترض بعض الشافعيّة بأنّه كيف جعلتم النخل تبعاً للأرض في الشفعة وقد قلتم : إنّ الأرض تتبع النخل في المساقاة ، فتجوز المزارعة على ما بين النخل من البياض تبعاً للنخيل!؟

واُجيب : بأنّه يجوز أن تكون الأرض تبعاً في حكمٍ يختصّ بالنخل ، والنخل تبعاً لها في حكم آخَر يختصّ بالأرض ، وإنّما لا يجوز أن يكون الشي‌ء تابعاً ومتبوعاً في أمرٍ واحد ، وقد عرفت الكلبُ مقيس على الخنزير في النجاسة ، والخنزير مقيس عليه في الغَسْل من ولوغه عندهم(٥) .

ولو طلّق الزوج قبل الدخول وكان الصداق نخلاً وقد طالت ، لا يرجع في النصف ، لأنّ الزوج يمكنه الرجوع في القيمة إذا تعذّر الرجوع في‌

____________________

(٣-١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٢.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٢٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤.

(٥) لم نعثر على الاعتراض والجواب عنه في المصادر المتوفّرة لدينا.

٢٧٥

العين ، والقيمة تنوب منابها ، وفي الشفعة إذا لم يرجع في ذلك ، سقط حقّه من الشفعة ، فلهذا لم يسقط من الأصل لأجل ما حدث من البائع.

إذا عرفت هذا ، فإن كان في هذه النخل طلع حدث ، نُظر فإن كان قد اُبّر وتشقّق ، كان للمشتري ؛ لأنّه بمنزلة النماء المنفصل من ملكه.

وإن كان لم يؤبّر ، فهل يتبع في الشفعة؟

أمّا عندنا فلا ؛ لاختصاص الشفعة بالبيع خاصّةً.

وأمّا عند الشافعي فقولان(١) ، كالمفلس إذا ابتاع نخلاً وحدث فيها طلع لم يؤبّر وأراد البائع الرجوع في النخل.

ويفارق ذلك البيعَ ؛ لأنّه أزال ملكه باختياره ، وكان الطلع تابعاً إذا لم يكن ظاهراً ، ويكون في الردّ بالعيب كالشفعة.

وكذلك إذا كان انتقال الملك بغير عوض - كالهبة ، وفسخ الهبة - فيه قولان(٢) .

فإن كان المشتري اشترى النخل وفيها الطلع ، فإن كان مؤبَّراً ، فإنّه لا يتبع في البيع ، وإذا اشترطه ، دخل في البيع ، ولا تثبت فيه الشفعة ، وإنّما يأخذ الأرض والنخل بحصّتهما من الثمن.

فإن كانت غير مؤبَّرة ، تبعت بمطلق العقد.

فإن أخذ الشفيع الشقص قبل أن تؤبّر الثمرة ، لم يأخذه الشفيع بالثمرة إن تجدّدت بعد الشراء.

وإن كانت موجودةً حال البيع ، فالأقوى : الدخول في الشفعة ، كما دخلت في البيع ، فصارت بمنزلة النخل في الأرض.

____________________

(١ و ٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

٢٧٦

وإن أخذ الشقص بعد التأبير ، لم يتبعه الطلع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أخذ الشفيع الشقص قبل أن يؤبّر الطلع ، كان في الطلع القولان ؛ لأنّه لو ثبت حقّ الشفيع في هذا الطلع ، لوجب أن يأخذه وإن تشقّق ؛ لأنّ ذلك زيادة متّصلة(١) .

والغراس تبع في الشفعة ؛ لأنّه يراد للتبقية في الأرض والتأبيد.

مسالة ٧٥٣ : إذا تبايعا بثمن ثمّ زاده المشتري عليه زيادة أو نقص البائع منه شيئاً بعد العقد، فإن كان ما اتّفقا عليه من الزيادة أو الحطّ بعد لزوم البيع وانقضاء الخيار ، لم يكن للشفيع في ذلك حقّ ، ولا عليه شي‌ء لا في حطّ الكلّ ولا في حطّ البعض ؛ لأنّ الشفيع إنّما يأخذ بما استقرّ عليه العقد ، والذي استقرّ عليه المسمّى.

ولو كان في زمن الخيار ، لم يلحق أيضاً الشفيع عندنا ؛ لوقوع العقد على شي‌ء ، فلا تضرّ الزيادة والنقيصة بعده.

وقال الشافعي : يثبت ذلك التغيير في حقّ الشفيع في أحد الوجهين ؛ لأنّ حقّ الشفيع إنّما ثبت إذا تمّ العقد ، وإنّما يستحقّ بالثمن الذي هو ثابت في حال استحقاقه. ولأنّ زمن الخيار بمنزلة حالة العقد ، والتغيير يلحق بالعقد ؛ لأنّهما على اختيارهما فيه كما كانا في حال العقد(٢) .

فأمّا إذا انقضى الخيار وانبرم(٣) العقد فزاد أو نقص ، لم يلحق بالعقد ؛ [ لأنّ الزيادة ](٤) لا تثبت إلّا أن تكون هبةً مقبوضةً ، والنقصان يكون‌

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) الوجيز ١ : ٢١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣ ، المغني ٥ : ٥٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٢.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « لزم » بدل « انبرم ».

(٤) بدل ما بين المعقوفين في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « والزيادة ». والظاهر ما أثبتناه كما في المغني والشرح الكبير.

٢٧٧

إبراءً ، ولا يثبت [ ذلك ](١) في حقّ الشفيع ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقال أبو حنيفة : يثبت النقصان بعد الخيار للشفيع ، ولا تثبت الزيادة وإن كانا(٣) عنده يلحقان بالعقد ، ويقول : الزيادة تضرّ بالشفيع فلم يملكها(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك تغيّر بعد استقرار العقد ، فلم يثبت في حقّ الشفيع ، كالزيادة.

والفرق ليس بصحيح ؛ لأنّ ذلك لو لحق بالعقد ، لثبت في حقّه وإن أضرّ به ، كما لو كان في زمن الخيار.

ولو حطّ كلّ الثمن في زمن الخيار ، لم يلحق الحطّ عندنا بالشفعة - وبه قال الشافعي(٥) - لأنّ ذلك بمنزلة ما لو باع بلا ثمن ، فلا شفعة للشريك ؛ لأنّه يصير هبةً ، فيبطل على رأي ، ويصحّ على رأي.

أمّا إذا حطّ منه أرش العيب ، فإنّه يثبت في حقّ الشفيع ؛ لأنّه سقط بجزء فقد من المبيع ، ولهذا فاته جزء من الثمن.

مسالة ٧٥٤ : لو كان ثمن الشقص عبداً ، ثبتت الشفعة عندنا‌ ، خلافاً لبعض علمائنا وبعض الجمهور ، وقد سبق(٦) ، ويأخذ الشفيع بقيمة العبد.

فإن وجد البائع بالعبد عيباً ، فإمّا أن يكون [ قبل ](٧) أن يحدث عنده‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المغني والشرح الكبير.

(٢) المصادر في الهامش (٢) من ص ٢٧٦.

(٣) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « كان » بدل « كانا ». وما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.

(٤) المغني ٥ : ٥٠٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٦) في ص ٢٥٧ ، المسألة ٧٤٥.

(٧) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « بعد » بدل « قبل ». والصحيح ما أثبتناه.

٢٧٨

عيب أو يكون الوقوف على العيب بعد حدوث عيب عنده. فإن علمه قبل أن يحدث عنده عيب ، فإمّا أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع بالشفعة أو قبله.

فإن وقف عليه بعد أخذ الشفيع ، كان له ردّ العبد على المشتري ، ولم يكن له استرجاع الشقص ؛ لأنّ الشقص قد ملكه بالأخذ ، فلم يكن للبائع إبطال ملكه ، كما لو كان المشتري قد باعه ثمّ وجد البائع بالثمن عيباً ، فإنّه يردّه ، ولا يفسخ بيع المشتري ، ويرجع البائع إلى قيمة الشقص ، كذا هنا.

وقال بعض الشافعيّة : يستردّ المشتري الشقص من الشفيع ، ويردّ عليه ما أخذه ، ويسلّم الشقص إلى البائع ؛ لأنّ الشفيع نازل منزلة المشتري ، فردُّ البائع يتضمّن نقض ملكه ، كما يتضمّن نقض ملك المشتري لو كان في ملكه(١) .

والمشهور عندهم(٢) ما قلناه.

فإذا دفع الشفيع قيمة العبد إلى المشتري ودفع المشتري إلى البائع قيمة الشقص ، فإن تساويا ، فلا بحث. وإن تفاوتا ، لم يرجع المشتري على الشفيع إن كانت قيمة الشقص أكثر بشي‌ء ، ولا يرجع الشفيع على المشتري إن كانت قيمة العبد أكثر - وهو أحد قولي الشافعيّة(٣) - لأنّ الشفيع أخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد ، فلا يلزمه أكثر من ذلك.

والثاني : يتراجعان ؛ لأنّ المشتري استقرّ عليه عوض الشفيع قيمته ، فينبغي أن يستحقّ ذلك على الشفيع ، فيرجع كلّ مَنْ كان ما دفعه أكثر على صاحبه بالزيادة(٤) .

ولو عاد الشقص إلى المشتري ببيع أو هبة أو ميراث أو غير ذلك ،

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، وأيضاً : فتح العزيز ١١ : ٤٥٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

(٢ - ٤ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

٢٧٩

لم يكن للبائع أخذه منه ، بخلاف الغاصب إذا دفع القيمة لتعذّر ردّ المغصوب ثمّ قدر عليه ، فإنّه يجب عليه ردّه على المالك ، واسترداد ما دفعه من القيمة ؛ لأنّ المالك لم يزل ملكه عن المغصوب بالتقويم ودفع القيمة ، وإنّما أخذنا القيمة للضرورة وقد زالت ، وهنا زال ملك البائع عنه وصار ملكاً للشفيع ، وانقطع حقّه عنه ، وإنّما انتقل حقّه إلى القيمة ، فإذا أخذها ، لم يبق له حقّ.

وحكى بعض الشافعيّة فيه وجهين بناءً على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزل ، أو كالذي لم يعد؟(١)

وأمّا إذا كان قد علم بالعيب قبل أن يأخذ الشفيع بالشفعة ، فهنا حقّان ، ففي تقديم أيّهما للشافعيّة وجهان :

أحدهما : الشفيع أولى ؛ لأنّ حقّه سبق حقّ البائع في الردّ.

والثاني : البائع أولى ؛ لأنّ الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشريك ، فلا نثبتها مع تضرّر البائع بإثباتها(٢) .

وحكى الجويني الجزم بتقديم البائع(٣) .

والوجه عندي : تقديم حقّ الشفيع ؛ لسبقه.

فإذا قلنا : الشفيع أحقّ ، فإنّ البائع يأخذ من المشتري قيمة الشقص ، ويرجع المشتري على الشفيع بقيمة العبد ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني : يرجع على الشفيع بقيمة الشقص(٤) .

ولو وجد البائع العيب في العبد بعد أن حدث عنده عيب أو بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٤.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٣.

(٤) لم نعثر عليه في مظانّه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287