موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام20%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147561 / تحميل: 5353
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

آل عمران : ١٢٣

( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )

البقرة : ١٩٠

( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً )

الفتح : ١

( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ )

آل عمران : ١٤٤

٣
٤

تقديم

( ١ )

نضال وكفاح وإيمان تسلّح به الإمام أمير المؤمنين ٧ بطل الإسلام وقائد مسيرته الظافرة في كفاحه المسلّح ضدّ الجاهلية الرعناء التي لا تحمل أي طابع من التوازن ولا بصيص من الوعي والفكر ، فكان الإمام القوّة الضاربة التي حمت الثورة الإسلامية من ذئاب الجاهلية ومردة أهل الكتاب.

لقد أحدثت الثورة الإسلامية بشعاراتها ومبادئها زلزالا مدمّرا للحياة الفكرية والعقائدية التي عاشتها الجاهلية فدمّرت جميع معالم الحياة فيها من عبادة الأوثان والأصنام ووأد البنات وغزو الأقوياء للضعفاء ، وأقامت الثورة الإسلامية نظاما متطوّرا خلاقا يضيء الطريق ويوضّح القصد ، ويجمع ولا يشتّت ، ويوحّد ولا يفرّق ، ويقضي على الغبن والجريمة.

وقد تبنّى الإمام بصورة إيجابية وإيمان لا حدود له جميع قضايا الإسلام ، فخاض في سبيله أعنف المعارك ساخرا من الموت هازئا من الحياة ، فردّ العتاة من جبابرة قريش الذين جهدوا على لفّ لواء الإسلام وإخماد نوره ، فحصد الإمام رءوسهم ، وألحق بهم الهزيمة والعار. ويعرض هذا الكتاب إلى صور مشرقة من جهاده وكفاحه.

٥

( ٢ )

من بحوث هذا الكتاب أنّه عرض بصورة أمينة لأقسى كارثة مني بها العالم الإسلامي على امتداد التاريخ ، وهي انتقال النبيّ ٦ إلى حضيرة القدس ، فقد انطوت ألوية العدل ، ومادت أركان الحقّ ، وارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي غيّر مجرى التاريخ إلى واقع مشرق تتلاشى فيه آهات المظلومين والمعذّبين ، ولا يكون فيه ظلّ للحاجة والحرمان.

فقد أخلدت للمسلمين الخطوب والكوارث وألقتهم في شرّ عظيم ، وقد أعلن القرآن الكريم هول تلك الأحداث ومدى خطورتها بقوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) ، وأي مصيبة أعظم من الانقلاب ، وأي مأساة أقسى من المروق من الدين.

وكان من أفجع ألوان الخطوب السود بعد وفاة المنقذ العظيم هي إبعاد العترة الطاهرة عن الشؤون السياسية في البلاد ، وجعلها في معزل عن واقع الحياة الاجتماعية ، في حين انّ الامّة لم تكن بأي حال في غنى عن ثرواتها الفكرية والعلمية المستمدّة من الرسول الأعظم.

كما أنّ الهزّات العنيفة التي منيت بها الامّة ، إنّما جاءت نتيجة حتمية لفصل الخلافة عن أهل البيت : ، فقد انتشرت الأطماع السياسية بشكل سافر عند كثير من الصحابة ، ممّا أدّى إلى تشكيلهم للأحزاب النفعية التي لم تكن تنشد في مخطّطاتها السياسية سوى الوصول إلى الحكم والتنعّم بخيرات البلاد.

ومن المآسي ما عانته الاسرة النبوية من صنوف القتل والتنكيل ، فقد طافت بها المحن والأزمات يتبع بعضها بعضا ، لم يراع فيها حرمة النبيّ ٦ التي هي أولى وأحقّ بالرعاية والتكريم من كلّ شيء.

٦

آمل أن أكون قد ساهمت في إبراز التأريخ الإسلامي على واقعه من دون تحيّز أو تقليد ..

والله وليّ التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القريشى

٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤١٨ هـ

٧
٨

مع النبيّ

في جهاده وغزواته

٩
١٠

تبنّى النبيّ ٦ بصورة إيجابية الدعوة إلى السلم وتحرير الإنسان من ويلات الحروب ومآثم الحياة ، وقد انطلقت دعوته المشرقة من مكّة التي كانت مركزا للقوى الجاهلية المتمثّلة في القرشيّين الذين انطوت أفكارهم على الجهل والغطرسة والأنانية فورمت آنافهم وانتفخ سحرهم وهبّوا لمناجزة رسول الله ٦ وتعذيب من آمن به من المستضعفين حتى اضطرّوا إلى الهجرة للحبشة للتخلّص من عنف القرشيّين واضطهادهم ، وكان النبيّ ٦ محتميا بعمّه شيخ البطحاء ومؤمن قريش أبي طالب ، ولمّا انتقل إلى حضيرة القدس لم يجد النبيّ ركنا يأوي إليه ، فاجتمعت قريش على قتله ـ كما تحدّثنا عن ذلك في البحوث السابقة ـ ، فهاجر إلى يثرب فوجد في أهلها الحماية والإيمان بدعوته والاستجابة لنصرته ، وقامت قيامة القرشيّين وفزعوا كأشدّ ما يكون الفزع ، فأجمع رأيهم على شنّ الحرب عليه بلا هوادة ، وتسخير جميع إمكانياتهم الاقتصادية لمناجزته وإطفاء نور رسالته.

ووقف الإمام أمير المؤمنين ٧ إلى جانب النبيّ ٦ يحميه ويذبّ عنه في جميع الحروب التي شنّتها عليه قريش ، وقد أسند إليه قيادة جيشه ، وجعله رافعا للوائه ، وقد لازمه الإمام في غزواته التي كان الغرض منها رفع كلمة الله وتحرير إرادة الإنسان وفكره من عبادة الأوثان والأصنام التي هي من الأوبئة على الفكر ، ومن الأمراض الخطرة التي تلحق الإنسان بقافلة الحيوان السائم ، وتصدّه عن الطريق القويم.

وعلى أي حال فإنّا نعرض للحروب وبعض الغزوات التي خاضها الإمام مع

١١

النبيّ ٦ دفاعا عن كلمة الإسلام ورافعا لراية التوحيد ، وفيما يلي ذلك :

واقعة بدر :

سجّلت واقعة بدر (١) نصرا مبينا للإسلام ، وفتحا عظيما للمسلمين ، وضربة حاسمة لأئمّة الكفر والضلال من الطغاة القرشيّين وجبابرتهم ، لقد أعزّ الله عبده ورسوله محمّد ٦ بواقعة بدر ، وأذلّ أعداءه ، وأظهر دينه ، ودفع كلمته ، وكان البطل البارز في تلك المعركة هو الإمام أمير المؤمنين ٧ ، فقد كان سيفه منجل الموت الذي حصد رءوس المشركين ، وعتاة الملحدين من القرشيّين ونتحدّث ـ بإيجاز ـ عن بعض فصول هذه المعركة :

استنجاد أبي سفيان بقريش :

كان أبو سفيان ـ العدوّ الأوّل للإسلام ـ قد خرج إلى الشام في تجارة له ومعه سبعون شخصا من قريش ، ولمّا فضت تجارتهم واشتروا من البضائع ما يريدون قفلوا راجعين إلى مكّة ، وعلم النبيّ ٦ بقدومهم فندب إليهم أصحابه لمصادرة بضائعهم وأموالهم ، وذلك لإضعافهم اقتصاديا حتى لا يتمكّنوا من مناجزته ، وعلم أبو سفيان ذلك فاستنجد بالقبائل القرشية وطلب منها حمايتهم وحماية بضائعهم وأموالهم ، فهبّت قريش لنجدته ، وسلك أبو سفيان طريقا غير الطريق العامّ فنجا من قبضة المسلمين ، وزحف النبيّ ٦ بمن معه من المسلمين لإلقاء القبض على أبي سفيان ، وعسكر بجيشه ببدر.

رؤيا عاتكة :

رأت السيّدة عاتكة بنت عبد المطّلب في منامها رؤيا أفزعتها فسارعت إلى

__________________

(١) بدر : موضع يقع بين مكّة والمدينة ، سمّي بهذا الاسم لأنّ فيه ماء لرجل يسمّى بدرا ، فسمّي الموضع به ـ مجمع البحرين ١ : ٤٩٨.

١٢

أخيها العبّاس بن عبد المطّلب فقصّتها عليه قائلة :

إنّي رأيت الليلة رؤيا أفزعتني ..

وسارع العبّاس قائلا :

ما رأيت؟

وأخذت تقصّ عليه رؤياها بفزع وخوف قائلة :

إنّي أتخوّف أن يدخل على قومك منها شرّ عظيم فاكتم منّي ما أحدّثك به.

أفعل ذلك ولا أحدّث به.

ولمّا ضمن لها أن لا يذيع رؤيتها بين قريش أخذت تحدّثه بها قائلة :

رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثمّ صرخ بأعلى صوته :

ألا انفروا يا آل نجد لمصارعكم ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ثمّ أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكّة ولا دار إلاّ دخلتها منها فلقة ..

وفزع العبّاس من هذه الرؤيا التي تنبئ بالخطر العظيم على أهالي مكّة ، ولم يستطع كتمانها ، فقد ضاق صدره منها وراح يشيعها ويتحدّث بها إلى الناس ، ووصل خبرها إلى أبي جهل ، فانطلق إلى العباس وقال ساخرا : يا بني عبد المطّلب ، أما رضيتم أن يتنبّأ رجالكم حتى تتنبّأ نساؤكم (١) .

وصدقت رؤيا عاتكة ، فقد حلّ بالقرشيّين الدمار الشامل ، فقد كانت واقعة بدر التي نشرت في بيوتهم الثكل والحزن والحداد ، وخيّم عليها الذلّ والهوان.

نصيحة عتبة بن ربيعة :

وقبل أن تندلع نار الحرب أشار عتبة بن ربيعة على قومه القرشيّين بعدم

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ٦٠٣. تاريخ الطبري ٢ : ١٣٦.

١٣

مناجزة الرسول ٦ ونهاهم عن فتح باب الحرب مع المسلمين قائلا :

إنّي أرى قوما مستميتين لا تصلون إليهم يا قوم ، اعصبوها اليوم برأسي وقولوا : جبن عتبة بن ربيعة ، ولقد علمتم أنّي لست بأجبنكم ..

وسمع أبو جهل نصيحة عتبة فاستشاط غضبا وغيظا وصاح به :

أنت تقول هذا؟ والله! لو غيرك يقول هذا لعضضته ، لقد ملئت رئتك وجوفك رعبا ..

ويردّ عليه عتبة بعنف قائلا :

إيّاي تعيّر يا مصفرا استه (١)

ستعلم اليوم أيّنا أجبن؟ (٢)

و نظر النبيّ ٦ إلى عتبة ، وكان على جمل أحمر ، فرأى في وجهه الرشد والخير ، فقال لأصحابه : « إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا » (٣) .

ولم تصغ قريش لنصيحة عتبة ، ومضت سادرة في غيّها وجهلها ، وصمّمت على مناجزة النبيّ ٦ ، ونظر أبو جهل إلى قلّة أصحاب النبيّ ٦ فاستضعفهم واستهان بهم وقال : إنّ محمّدا وأصحابه أكلة جزور (٤) .

سقاية الإمام للجيش :

وأصاب الجيش الإسلامي ظمأ في بدر فانبرى الإمام ٧ إلى القليب وجاء

__________________

(١) كان أبو جهل مصابا بشذوذ جنسي ، وكان يحني استه ليرغب فيه فسّاق قومه ، فلذا عيّره عتبة.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ١٣٢.

(٣) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ٩٢٠.

(٤) المصدر السابق : ٦٢٣.

١٤

بالماء حتى أروى المسلمين (١) .

دعاء النبيّ للأنصار :

ونظر النبيّ ٦ إلى الأنصار وهم يتعاقبون في الحمل على النوق التي لم تكن تكفيهم ، فدعا لهم وقال :

« اللهمّ إنّهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، وعالة فأغنهم من فضلك ».

واستجاب الله تعالى دعاء نبيّه العظيم ، فما انتهت معركة بدر إلاّ وجد كلّ واحد منهم بعيرا معتليه ، واكتسى منهم كلّ عار ، وأصابوا الطعام من متاع قريش ، وأصابوا فداء الأسرى فاغتنى به كلّ عائل منهم (٢) .

دعاء النبيّ على قريش :

وأنفق النبيّ ٦ ليله ساهرا يصلّي إلى جانب شجرة ، وقد نام جميع المسلمين إلاّ هو ، كما حدّث بذلك الإمام أمير المؤمنين ٧ ، وكان يدعو الله تعالى بهذا الدعاء :

« اللهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحاربك وتكذّب رسولك ، اللهمّ فنصرك الّذي وعدتني ، اللهمّ أحفّهم (٣) الغداة » (٤) .

النبي مع أصحابه :

و أخذ النبيّ ٦ يلهم أصحابه القوّة والنشاط قائلا لهم :

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٠٦.

(٢) إمتاع الأسماع ١ : ٦٤.

(٣) أحفّهم : أي أهلكهم.

(٤) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ٩٢٣.

١٥

  « والّذي نفس محمّد بيده! لا يقاتلهم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلاّ أدخله الله الجنّة ». وبعثت هذه الكلمات في نفوسهم العزم ، فاندفعوا كالأسود لمناجزة أعداء الله.

المعركة :

بدأت المعركة صباح يوم الجمعة في اليوم السابع عشر من رمضان المبارك سنة ( ٢ ه‍ ) ، المصادف ١٥ كانون الثاني سنة ٦٢٤ م ، وقد فتح القرشيّون باب الحرب ، فبرز منهم عتبة بن ربيعة وشيبة والوليد ، وهم أبطال قريش وطليعة فرسانهم ، وبرز إليهم فتيان من الأنصار فاحتقرهم عتبة وأخذته العزّة بالإثم فقال لهم : لا نريد هؤلاء ، ولكن نريد أن يبارزنا بنو أعمامنا من بني عبد المطّلب ، فندب الرسول ٦ لمبارزتهم عبيدة وعليّا وحمزة ، وبرز حمزة لعتبة ، وعبيدة لشيبة ، وعليّ للوليد (١) .

أمّا الإمام عليّ وحمزة فكلّ منهما قتل صاحبه ، وأمّا عبيدة وعتبة بن ربيعة فقد اختلفا بضربتين ، وأثبت كلّ منهما سيفه في رأس صاحبه ، فكرّ عليه الإمام وحمزة بأسيافهما وتركاه جثة هامدة (٢) ، واشتدّت الحرب ، وكان النبيّ ٦ من أشدّ الناس بأسا ومن أقرب جيشه إلى العدو ، وكان المسلمون يلوذون به كما حدّث بذلك الإمام ٧ (٣) ، وبان الانكسار في صفوف القرشيّين وانهارت معنوياتهم وانهزموا شرّ هزيمة.

بسالة الإمام :

وأبدى الإمام أمير المؤمنين ٧ من البسالة والصمود ما لا يوصف ، فكان

__________________

(١) سنن البيهقي ٣ : ٢٧٩.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٣٢٥.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٦٤ ، رقم الحديث ٦٥٤.

١٦

القوّة الضاربة في جيش الرسول ٦ ، فقد غاص في أوساط القرشيّين يحصد رءوسهم ويشيع فيهم القتل والدمار ، وقد بهرت ملائكة السماء من بسالته ، و نادى جبرئيل : « لا سيف إلاّ ذو الفقار (١) ، ولا فتى إلاّ عليّ » (٢) .

وكتب الله النصر المبين للإسلام على يد الإمام القائد الملهم العظيم الذي أذلّ القرشيّين وأخزاهم وألحق بهم الهزيمة والعار.

أسماء من قتلهم الإمام :

من المؤكّد أنّه لم يكن بيت من بيوت القرشيّين لم ينله سيف الإمام ٧ في تلك المعركة ، وهذه أسماء من حصد رءوسهم وهم :

١ ـ الوليد بن عتبة ، كان جريئا فتّاكا تهابه الرجال ، وهو أخو هند أمّ معاوية وزوجة أبي سفيان.

٢ ـ حنظلة بن أبي سفيان.

٣ ـ العاص بن سعيد ، وكان هولا تهابه الأبطال.

٤ ـ نوفل بن خويلد ، وكان من أشدّ المشركين عداوة لرسول الله ٦ ، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه وتطيعه ، وهو من بني نوفل بن عبد مناف.

٥ ـ زمعة بن الأسود.

٦ ـ النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار.

٧ ـ طعيمة بن عدي بن نوفل ، كان من رءوس أهل الضلال.

٨ ـ عمير بن عثمان بن كعب بن تيم عمّ طلحة بن عبيد الله.

__________________

(١) سمّي هذا السيف بذي الفقار لأنّه كانت له فقرات كفقرات الظهر.

(٢) كنز العمّال ٣ : ١٥٤. السيرة النبوية ـ ابن هشام ٣ : ٥٣. وفي ذخائر العقبى (٧٤) : « نادى ملك من السماء يوم بدر : « لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتى إلاّ عليّ ».

١٧

٩ ـ عثمان بن عبيد الله.

١٠ ـ مالك بن عبيد الله أخو عثمان.

١١ ـ مسعود بن أميّة بن المغيرة من بني مخزوم.

١٢ ـ حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة.

١٣ ـ قيس بن الفاكه بن المغيرة.

١٤ ـ أبو قيس بن الوليد بن المغيرة.

١٥ ـ عمر بن مخزوم.

١٦ ـ الحارث بن زمعة.

١٧ ـ أبو المنذر بن أبي رفاعة.

١٨ ـ منبه بن الحجّاج السهمي.

١٩ ـ العاص بن منبه من بني سهم.

٢٠ ـ علقمة بن كلدة.

٢١ ـ أبو العاص بن قيس بن عدي.

٢٢ ـ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص.

٢٣ ـ لوذان بن ربيعة.

٢٤ ـ عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة.

٢٥ ـ حاجب بن السائب بن عويم.

٢٦ ـ أوس بن المغيرة بن لوذان.

٢٧ ـ زيد بن مليص.

٢٨ ـ غانم بن أبي عويف.

٢٩ ـ سعيد بن وهب حليف بني عامر.

٣٠ ـ معاوية بن عامر بن عبد القيس.

١٨

٣١ ـ السائب بن مالك.

٣٢ ـ عبد الله بن جميل بن زهير الحارث بن أسد.

٣٣ ـ أبو الحكم بن الأخنس.

٣٤ ـ هشام بن أبي أميّة بن المغيرة (١) .

هؤلاء الذين حصد رءوسهم الإمام ٧ بسيفه في سبيل الإسلام.

وقوف النبيّ على قتلى بدر :

وقف النبيّ ٦ على قتلى بدر فتأمّلهم ، وتذكّر ما عاناه منهم من صنوف التنكيل والارهاق ، وخاطبهم بقوله :

« يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة! ويا أميّة بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام ».

وعدّد عصابة من الذين بالغوا في التنكيل به ، ثمّ قال لهم : « هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ».

وبهر أصحاب النبيّ ٦ من خطابه للقتلى فقالوا له :

يا رسول الله ، أتنادي قوما قد جيفوا؟

فأجابهم الرسول :

« وما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني » (٢) . إنّ الأرواح لا تفنى ، وإنّما الأجسام تبلى ، وتعود إلى عنصرها الذي تكوّنت منه ، هذا ما أعلنه الرسول.

__________________

(١) أعيان الشيعة ٣ : ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

١٩

الأسرى من قريش :

ووقع سبعون أسيرا من قريش (١) بأيدي القوات المسلّحة من جيش الرسول ، فأخذ النبيّ ٦ من بعضهم الجزية وأطلق سراحهم ، ومن لم يتمكّن من دفع الجزية وكان يحسن القراءة والكتابة أمره أن يعلّم أبناء المسلمين بدل الجزية ، وبذلك أقام النبيّ أوّل صرح في عاصمته لمحو الاميّة.

حزن القرشيّين على قتلاهم :

وحزن القرشيّون كأشدّ ما يكون الحزن على قتلاهم ، وكان حزنهم كامنا في نفوسهم ، فقد نذر أبو سفيان أن لا يمسّ رأسه ماء من جنابة ، وأمّا زوجه هند فقد هامت في تيارات من الحزن وكتمت حزنها على أهل بيتها ، وقالت : كيف أبكيهم فيبلغ محمّدا وأصحابه فيشمتوا بنا ، لا والله! حتى أثأر من محمّد وأصحابه ، والدهن عليّ حرام حتى نغزو محمّدا ...

لقد ترك قتلى بدر لوعة في نفوس القرشيّين ، وقد رثاهم بعض شعرائهم بقوله :

فما ذا بالقليب قليب بدر

من الفتيان والقوم الكرام

وما ذا بالقليب قليب بدر

من الشيري (٢) ثكل بالسنام (٣)

وظلّت قريش حاقدة على الإمام حتى بعد ما أعلنت الإسلام وبويع الإمام بالخلافة ، فقد نظم أسيد بن إياس هذه الأبيات يحرّض قريشا على مناهضة الإمام ونكث بيعته قائلا :

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٣٦. تاريخ الطبري ٢ : ١٣٥.

(٢) الشيري : شجرة يتّخذ منها الجفان.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ١١٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287