موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287
المشاهدات: 140677
تحميل: 4437


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140677 / تحميل: 4437
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 2

مؤلف:
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

الأزهار وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها فقلن لها :

كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟ ..

فرمقتهنّ بطرفها ، وأجابتهنّ بصوت خافت مشفوع بالأسى والحسرات :

« أجدني كارهة لدنياكم ، مسرورة لفراقكنّ ، ألقى الله ورسوله بحسراتكنّ فما حفظ لي الحقّ ، ولا رعيت منّي الذّمّة ، ولا قبلت الوصيّة ، ولا عرفت الحرمة » (1) .

وحكت هذه الكلمات مدى آلامها وشجونها من تقصير القوم بحقّها ، فما حفظوا حقّها ولا رعوا وصيّة النبي فيها.

وبلغ من كراهتها لنساء القوم أنّهنّ طلبن حضورهنّ عند وفاتها فقلن لها :

يا بنت رسول الله ، صيّري لنا في حضور غسلك حظّا؟

فأبت وقالت بمرارة :

« أتردن أن تقلن فيّ كما قلتنّ في أمّي ، لا حاجة لي في حضوركنّ » (2) .

الزهراء في ذمّة الخلود :

وطافت بزهراء الرسول موجات عاتية من الآلام على فقد أبيها وغصب حقّها ، فقد برح بها المرض وأضرّ الأسى بقلبها الرقيق المعذّب ، وقد فتكت بها الآلام ، ومشى إليها الموت سريعا وهي في فجر الصبا وروعة الشباب فقد حان موعد اللقاء بينها وبين أبيها الذي طلبت لقياه بفارغ الصبر.

وصيّتها :

ودعت زهراء الرسول الإمام ، فلمّا مثل عندها أوصته بأمور كان منها :

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 95.

(2) حياة الإمام الحسن بن عليّ 8 1 : 182.

١٦١

1 ـ أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

2 ـ أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقّها فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها.

3 ـ أن يعفي موضع قبرها ليكون رمزا لاستيائها على امتداد التاريخ.

4 ـ أن يصنع لها نعشا يواري جثمانها المقدّس ؛ لأنّ الناس كانوا يضعون أمواتهم على سرير تبدو فيه الجثّة ، فكرهت ذلك ، وما أحبّت أن ينظر أحد إلى جثمانها.

وتعهّد الإمام لها بتنفيذ ذلك ، وانصرف عنها وهو غارق في البكاء ، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى التي استوعبتها الهموم والآلام.

وفي اليوم الأخير من حياتها ظهرت عليها المسرّات ، فقد علمت أنّها ستلتحق بأبيها الذي كرهت الحياة من بعده ، وقد عمدت إلى ولديها السبطين فغسلتهما وصنعت لهما من الطعام ما يكفيهم يومهم ، وأمرتهما بالخروج لزيارة مرقد جدّهما ، وألقت عليهما نظرة الوداع الأخير ، وهي تذرف أحرّ الدموع وذاب قلبها من اللوعة والوجد عليهما.

وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات مذهلة من الهواجس ، وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالأسى والشجون.

و التفتت وديعة النبي إلى أسماء بنت عميس ، وكانت هي التي تتولّى تمريضها وخدمتها فقالت لها :

« يا أمّاه ».

نعم ، يا حبيبة رسول الله.

« اسكبي لي غسلا ».

١٦٢

فانبرت أسماء ، وهيّأت لها الماء فاغتسلت فيه ثمّ قالت لها :

« ايتيني بثيابي الجدد ».

فناولتها ثيابها ، وهتفت بها ثانية :

« اجعلي فراشي في وسط البيت ».

وذعرت أسماء ومشت الرعدة بأوصالها ، فقد أحسّت أنّ وديعة النبيّ لا حقة بأبيها ، ووضعت أسماء الفراش لها فاضطجعت عليه ، واستقبلت القبلة ، و التفتت إلى أسماء فقالت لها بصوت خافت :

« يا أمّاه ، إنّي مقبوضة الآن ، وقد تطهّرت ، فلا يكشفني أحد » (1) .

وأخذت سيّدة النساء تتلو آيات من القرآن الكريم حتى فارقت الحياة ولسانها يلهج بذكر الله تعالى.

لقد سمت روحها العظيمة إلى الله تعالى شاكية إليه ما لاقته من الخطوب والكوارث ، لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى جنان الله ورضوانه تحفّها ملائكة الله ، ويستقبلها أنبياء الله. فما أظلّت سماء الدنيا في جميع مراحل الحياة مثل بضعة الرسول في قداستها وإيمانها ، لقد انقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول الله 6 .

وقفل الحسنان إلى الدار بلهفة يسألان عن أمّهما فأخبرتهما أسماء بوفاتها ، وهي غارقة في العويل والبكاء ، فكان ذلك كالصاعقة عليهما فهرعا مسرعين إلى جثمانها فوقع عليها ا لحسن وهو يقول :

« يا أمّاه ، كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني ».

وألقى الحسين نفسه عليها وهو يقول بذوب روحه :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن بن عليّ 8 1 : 182 ـ 185.

١٦٣

« يا أمّاه ، أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي ».

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلا وتعزّيهما ، وطلبت منهما أن يخبرا أباهما بوفاة أمّهما ، فانطلقا إلى مسجد رسول الله 6 ، وهما غارقان في البكاء ، فاستقبلهما المسلمون بفزع قائلين لهما :

ما يبكيكما يا ابني رسول الله؟ لعلّكما نظرتما موقف جدّكما فبكيتما شوقا إليه؟ ..

فأجابا بلوعة :

« أو ليس قد ماتت أمّنا فاطمة؟ ».

واضطرب الإمام حينما سمع النبأ المؤلم وراح يقول :

« بمن العزاء يا بنت محمّد؟ كنت بك أتعزّى ففيم العزاء بعدك؟ ».

وخفّ مسرعا إلى الدار وهو يذرف أحرّ الدموع ، فلمّا انتهى إليها ألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله 6 ، وطافت به الآلام والهموم ، وأخذ ينشد :

« لكلّ اجتماع من خليلين فرقة

وكلّ الّذي دون الفراق قليل

وإنّ افتقادي فاطما بعد أحم

د دليل على أن لا يدوم خليل »

وارتفعت الصيحة في المدينة ، وهرع الناس من كلّ صوب نحو بيت الإمام ليفوزوا بتشييع جثمان وديعة نبيّهم الذين ما رعوا حقّها.

وعهد الإمام إلى سلمان المحمّدي أن يصرف الناس ويعرّفهم بتأجيل تشييع جنازتها ، فأخبرهم بذلك ، فانصرفوا ، وأقبلت عائشة نحو بيت الإمام لتلقي نظرة على الجثمان المقدّس فحجبتها أسماء وقالت لها :

لقد عهدت إليّ أن لا يدخل أحد عليها (1) ، ولمّا مضى من الليل شطره ،

__________________

(1) مناقب آل أبي طالب 3 : 365.

١٦٤

قام الإمام فغسّل الجسد الطاهر ومعه الحسنان وزينب وأسماء ، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم ، وبعد أن أدرج جسدها في أكفانها دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان أمّهم ليلقوا عليها نظرة الوداع ، ومادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم ، ثمّ عقد الرداء عليها. ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى عليها ومعه النخبة من أصحابه بحمل الجثمان المعظّم إلى مثواه الأخير ولم يخبر أحدا سواهم ، ثمّ أودع الجثمان في قبرها وأخفاه امتثالا لوصيّتها ، ووقف على حافّة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، واندفع يؤبّنها بهذه الكلمات :

السّلام عليك يا رسول الله عنّي ، وعن ابنتك النّازلة في جوارك ، والسّريعة اللّحاق بك! قلّ يا رسول الله ، عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أنّ في التّأسّي لي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك « فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ». فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة! أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم. وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها ، فأحفها السّؤال ، واستخبرها الحال ؛ هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع ، لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين (1) .

وحكت هذه الكلمات حزنه العميق وألمه الممضّ على فقده لوديعة رسول الله ، كما حكت ما تقدّم به من الشكوى لرسول الله 6 على ما ألّم ببضعته من الكوارث التي تجرّعتها من القوم ، ويطلب منه أن يلحّ عليها في السؤال لتخبره بما جرى عليها تفصيلا من الظلم والضيم في تلك الفترة القصيرة التي عاشتها من بعده.

__________________

(1) نهج البلاغة 2 : 182.

١٦٥

وعاد الإمام إلى داره وقد طافت به الأزمات يتبع بعضها بعضا ، فهو ينظر إلى أطفاله وهم غارقون في البكاء على أمّهم الرءوم التي اختطفتها يد المنون وهي في روعة الشباب ونضارة العمر ..

وينظر إلى إعراض القوم عنه ناسين جهاده في سبيل الإسلام وقربه من الرسول ، وقد أضافت إليه هموما قاسية وأحزانا مريرة.

وعلى أي حال فقد اعتزل الإمام القوم وأعرض عنهم ، وأعرضوا عنه ، وقد صمّموا على إبعاده عن الحياة السياسية وعدم مشاركته بأي شأن من شئون الدولة.

ومن الجدير بالذكر أنّ حكومة أبي بكر لم ترشّح أحدا لمناصب الدولة وله ميول مع الإمام ، فقد روى المؤرّخون أنّ أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي بعثه لفتح الشام ، ولم يكن هناك موجب لعزله إلاّ ميله لعليّ يوم السقيفة ، وقد نبّهه لذلك عمر (1) ، كما أنّ أبا بكر لم يعهد لأي أحد من الهاشميّين بأي منصب من مناصب الدولة ، وقد تحدّث عمر مع ابن عبّاس عن سبب حرمانهم من أنّه يخشى إذا مات وأحد الهاشميّين وال على قطر من الأقطار الإسلامية أن يحدث في شأن الخلافة ما لا يحبّ (2) .

وكان معظم ولاة أبي بكر من الأسرة الأموية ، وكان منهم ما يلي :

1 ـ يزيد بن أبي سفيان ، استعمله واليا على الشام (3) ، وخرج مودّعا له إلى خارج يثرب ، وبعد وفاته أسندت ولاية الشام إلى أخيه معاوية.

2 ـ عتاب بن اسيد بن أبي العاص ، استعمله واليا على مكّة (4) .

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 352.

(2) مروج الذهب 5 : 135.

(3) الكامل في التاريخ 2 : 289.

(4) الاصابة 2 : 444.

١٦٦

3 ـ عثمان بن أبي العاص ، استعمله واليا على الطائف (1) .

4 ـ أبو سفيان ، جعله عاملا على ما بين آخر حدّ الحجاز وآخر مكان من نجران (2) .

وفي هذا الاجراء الذي اتّخذه قد برز نجم الأمويّين ، واحتلّوا مكانة مرموقة في الدولة الإسلامية ، وقد أبدى المراقبون لسياسة أبي بكر دهشتهم من هذه السياسة ، يقول العلائلي :

فلم يفز بنو تيم بفوز أبي بكر بل فاز الأمويّون وحدهم لذلك صبغوا الدولة بصبغتهم ، وأثروا في سياستها وهم بعيدون عن الحكم كما يحدّثنا المقريزي في رسالته « النزاع والتخاصم » (3) .

وكان الأولى بأبي بكر أن يعهد بأمور المسلمين إلى السادة من الاسرة النبوية وإلى الأخيار المتحرّجين في دينهم من الأوس والخزرج ، وإبعاد الأمويّين عن كلّ منصب من مناصب الدولة ، وأن يعاملهم بالازدراء كما عاملهم الرسول 6 ، وكما قابلهم المسلمون ، فقد كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار وامتهان لأنّهم خصوم الإسلام ، وإسلامهم لم يكن واقعيا وإنّما كان صوريا.

وفاة أبي بكر وعهده لعمر :

وقبل أن نطوي الحديث عن مؤتمر السقيفة وما رافقه من الأحداث الجسام نعرض إلى وفاة أبي بكر وعهده لعمر بن الخطّاب وليّا وخليفة من بعده.

ولم يطل سلطان أبي بكر ، فقد ألّمت به الأمراض بعد مضي سنتين من

__________________

(1) الكامل في التاريخ 2 : 289.

(2) الإمام الحسين 7 : 191. فتوح البلدان ـ البلاذري : 103.

(3) الإمام الحسين 7 : 191.

١٦٧

حكمه ، وقد صمّم وهو في الساعات الأخيرة من حياته على تقليد زميله عمر بن الخطّاب شئون الخلافة ؛ لأنّه هو الذي أقامه في منصبه.

ويقول المؤرّخون : أنّه لاقى معارضة كثيرة في ترشيحه لعمر خليفة من بعده ، فقد انبرى إليه طلحة بعنف قائلا :

ما ذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّا غليظا ، تفرق منه النفوس ، وتنفر منه القلوب (1) .

ووجم أبو بكر فلم يجبه إلاّ أنّ طلحة كرّر عليه إنكاره قائلا :

يا خليفة رسول الله ، إنّا كنّا لا نتحمّل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة؟ (2) .

ولم يعن أبو بكر لإنكار طلحة ، ولم يقم له أي وزن ، كما أنّ أكثر المهاجرين اندفعوا إلى الانكار عليه قائلين :

نراك استخلفت علينا عمرا وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ، فكيف إذا ولّيت عنا ، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسألك فما أنت قائل؟ ..

فأجابهم أبو بكر :

لئن سألني الله لأقولنّ : استخلفت عليهم خيرهم في نفسي (3) .

ويذهب الكثيرون إلى أنّ الأجدر بأبي بكر أن يستجيب لعواطف وآراء الأكثرية من المسلمين ، فلا يولّي عليهم أحدا إلاّ بعد رضاهم وإجراء عملية انتخابية أو يستشير أهل الحلّ والعقد إلاّ أنّه استجاب لعواطفه المترعة بالولاء والحبّ لابن

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 55.

(2) المصدر السابق 9 : 343.

(3) الإمامة والسياسة 1 : 19.

١٦٨

الخطّاب ، وقد طلب أبو بكر من بعض خواصه أن يخبره عن رأي المسلمين في ذلك فقال له :

ما يقول الناس في استخلافي عمر؟

كرهه قوم ورضيه آخرون ..

الذين كرهوه أكثر أم الذين رضوه؟ ..

بل الذين كرهوه (1) .

وإذا كانت الأكثرية الساحقة ناقمة على ولاية عمر من بعده ، فكيف فرضه عليهم ، ولم يمنح المسلمين الحرية في انتخاب من شاءوا لرئاسة الحكم.

ومهما يكن الأمر فإنّ عمر لازم أبا بكر في مرضه خوفا من التأثير عليه في العدول عن رأيه وكان يعزّز مقالته في انتخابه له قائلا :

أيّها الناس ، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله 6 (2) .

وطلب أبو بكر من عثمان بن عفّان أن يكتب للناس عهده في تولية عمر من بعده ، وجعل أبو بكر يملي عليه وهو يكتب ، وهذا نصّه :

هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظنّي به ، ورجائي فيه ، وإن بدّل وغير فالخير أردت ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (3) .

ولم يقل أحد أنّ أبا بكر يهجر ، وما حالوا بينه وبين كتابته في النصّ على عمر ،

__________________

(1) الآداب الشرعية والمنح المرعية 1 : 49.

(2) تاريخ الطبري 4 : 52.

(3) الإمامة والسياسة 1 : 19.

١٦٩

كما حالوا بين النبيّ وبين ما رامه في الكتابة في حقّ الإمام 7 وقالوا إنّه يهجر.

وعلى أيّ حال فقد وقع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر ، وانطلق به يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس فاستقبله رجل ، وقد أنكر حالته فقال له :

ما في الكتاب يا أبا حفص؟ ..

فنفى عمر درايته بما فيه إلاّ أنّه أذعن لما يحتويه قائلا :

لا أدري ، ولكنّي أوّل من سمع وأطاع ..

فرمقه الرجل بطرفه ، وعرف واقع الحال ، فقال له :

ولكنّي والله! أدري بما فيه ، أمّرته عام أول ، وأمّرك العام (1) .

وانطلق عمر وهو يلوّح بالكتاب ويدعو الناس إلى استماع ما فيه ، فقرأه على الناس وبذلك تمّ له الأمر بسهولة من دون أن ينازعه أحد في ذلك.

موقف الإمام :

والتاع الإمام 7 كأشدّ ما تكون اللوعة وأعرب عن أساه بعد حين من الزمن ، وذلك في خطبته الشقشقية ، قال 7 :

فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى. وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان ـ يعني عمر ـ بعده. ثمّ تمثّل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 : 20.

١٧٠

تشطّرا ضرعيها! (1)

وحكت هذه الكلمات آلامه وأساه على ضياع حقّه وإزالته عن مركزه ومقامه ، فقد تناهبته الرجال فوضعوه في تيم مرّة وأخرى في عدي ، وتناسوا مكانته من رسول الله 6 وجهاده المشرق في نصرة الإسلام.

وعلى أي حال فلم يلبث أبو بكر إلاّ زمانا قصيرا حتى وافاه الأجل المحتوم ، وانبرى صاحبه وخليله عمر إلى القيام بشئون جنازته فغسّله وأدرجه في أكفانه ، وصلّى عليه ، وواراه في بيت النبيّ 6 وألصق لحده بلحده (2) ، ويذهب المتكلّمون من الشيعة إلى أنّ البيت الذي دفن فيه إن كان من تركة النبيّ فهو لوارثته سيّدة نساء العالمين ، ومن بعده انتقل إلى زوجها وأولادها ، ولم يؤثر عن النبيّ 6 أنّه وهبه لعائشة ، وعلى هذا فلا يحلّ دفنه فيه إلاّ بعد الإذن من ورثة النبيّ ، أمّا اذن عائشة فلا موضوعية له لأنّها لا ترث من الأرض وإنّما ترث من البناء ، حسبما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة.

وإن كان البيت النبوي خاضعا لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبيّ أنّ الأنبياء لا يورّثون شيئا من متاع الدنيا وإنّما يورّثون الكتاب والحكمة ، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين ، وعلى هذا فلا بدّ من ارضاء الجماعة الإسلامية في دفنه في البيت ولم يتحقّق أي شيء من ذلك.

__________________

(1) نهج البلاغة 1 : 31 ـ 32.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 282.

١٧١

١٧٢

خلافة عمر ومبدأ الشّورى

١٧٣

١٧٤

وتولّى عمر الخلافة بسهولة وسرور ولم يلق أي جهد أو عناء ، وقد قبض على الحكم بيد من حديد ، وساس الامّة بشدّة وعنف حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة ، فقد كانت درّته ـ كما يقولون ـ أرهب من سيف الحجّاج ، حتى أنّ حبر الامّة عبد الله بن عباس لم يستطع أن يجهر برأيه في حلية المتعة إلاّ بعد وفاته ، وقد خافه وهابه ووصفه الإمام أمير المؤمنين 7 في خطبته الشقشقية بالحوزة الخشناء التي يغلظ كلمها ويخشن مسّها.

وعلى أي حال فإنّا نعرض بصورة موجزة إلى بعض معالم سياسته الداخلية والخارجية حسب ما صرّحت به مصادر التاريخ وغيرها.

سياسته الداخلية :

واتّسمت سياسة عمر الداخلية بالعنف والشدّة ، وقد سيطر سيطرة تامّة على البلاد ، وقابل كلّ من كان يعتدّ بنفسه بالصرامة ، كان منهم من يلي :

سعد بن أبي وقّاص :

كان سعد بن أبي وقّاص شخصية مرموقة ، وبلاؤه في فتح فارس معروف ، وقد أقبل على عمر وكان يقسّم مالا بين المسلمين ، فزاحم الناس حتى خلص إلى عمر ، فلمّا رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرة ، وقال : لم لم تهب سلطان الله في

١٧٥

الأرض ، فأردت أن اعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك (1) ، وقد كسر شوكته وملأ أنفه ذلاّ وخنوعا.

جبلة بن الأيهم :

وجبلة من الشخصيات المرموقة في العالم العربيّ ، وقد أسلم هو وقومه ، وفرح المسلمون بإسلامه ، وحضر جبلة الموسم ، وبينما هو يطوف حول الكعبة إذ وطأ إزاره رجل من فزارة فحلّه ، فغضب جبلة وسارع إلى الفزاري فلطمه ، فبلغ عمر ذلك ، فاستدعى الفزاري ، وأمر جبلة أن يقيّده من نفسه أو يرضيه ، وضيّق عليه غاية التضييق ، فارتدّ جبلة ورفض الإسلام ، وولّى إلى هرقل فاحتفى به وأنزله منزلا كريما ، إلاّ أن جبلة أسف أشدّ الأسف على ما فاته من شرف الإسلام وقد نظم أساه وحزنه بهذه الأبيات :

تنصّرت الأشراف من أجل لطمة

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

فيا ليت أمّي لم تلدني وليتني

رجعت إلى القول الذي قاله عمر

وقد أراد عمر أن يقوده بأوّل بادرة تبدو منه ببرة (2) محاولا بذلك إذلاله وإهانته (3) .

ولم تكن شدّة عمر مقتصرة على رعيّته ، وإنّما كانت شاملة لأهله ، ويقول المؤرّخون إنّه إذا غضب على أحد من أهله لا يسكن غضبه حتى يعضّ على يده عضّا شديدا فيدميها (4) .

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 288.

(2) البرة : حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود ، ويربط بها حبل.

(3) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 289.

(4) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 6 : 342.

١٧٦

ووصف عثمان بن عفّان شدّة عمر حينما نقم عليه المسلمون بقوله : لقد وطئكم ابن الخطّاب برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فخفتموه ورضيتم به (1) .

ويقول المعنيّون في البحوث الإسلامية : إنّ هذه السياسة تجافي سيرة الرسول 6 التي بنيت على الرفق واللين واجتناب جميع مظاهر العنف والشدّة ، وقد روى المؤرّخون صورا كثيرة من تواضعه كان منها أنّ رجلا جاءه فأخذته الرهبة منه وبدى عليه الرعب ، فنهره الرسول 6 وقال له : « إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » (2) ، وسار مع أصحابه سيرة الأخ مع أخيه ، وكره أن يتميّز على أحد منهم وقد شاركهم في العمل في بناء مسجده الأعظم ، وقد مدحه الله تعالى على سموّ أخلاقه قال تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) .

وعلى أي حال فإنّ الغلظة لا تتّفق بأي حال من الأحوال مع ما اثر عن الرسول 6 من سموّ الأخلاق ومحاسن الآداب.

فرض الإقامة الجبرية على الصحابة :

ومن بنود السياسة العمرية فرض الإقامة الجبرية على الصحابة ، فلم يسمح عمر لهم بمغادرة يثرب إلاّ بعد أن يأذن لهم بذلك ، ويرى الباحثون في الشؤون الإسلامية أنّ هذا الإجراء يتنافى مع ما شرّعه الإسلام من منهج الحريات العامّة للناس جميعا ، فهم أحرار فيما يعملون ويقولون شريطة أن لا تكون مجافية للتعاليم الإسلامية ، وليس للسلطة أن تقف منهم موقفا سلبيا ، اللهمّ إلاّ إذا أحدثت الحرية أضرارا بالغير أو فسادا في الأرض.

__________________

(1) حياة الإمام الحسن بن عليّ 8 1 : 175.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 290.

(3) القلم : 4.

١٧٧

رأي طه حسين :

وبرّر الدكتور طه حسين ما اتّخذه عمر من فرض الحصار على الصحابة بقوله :

ولكنّه ـ أي عمر ـ خاف عليهم ـ أي على الصحابة ـ الفتنة ، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلاّ بإذنه ، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة ، لا يذهبون إليها إلاّ بأمر منه خاف أن يفتتن الناس بهم ، وخاف عليهم أن يغرهم افتتان الناس بهم ، وخاف على الدولة عواقب هذا الافتتان (1) .

وفيما أرى أنّ هذا التوجيه لا يحمل أي طابع من التحقيق فإنّ الصحابة الذين راموا السفر من يثرب إلى الأقطار والأقاليم التي فتحها الإسلام إن كانوا من الأخيار والمتحرّجين في دينهم فإنّهم بكلّ تأكيد يكونون مصدر هداية ومصدر خير وتهذيب إلى الشعوب المتطلّعة لهدي الإسلام ومعرفة أحكامه ، وهم ـ من دون شكّ ـ يشيعون الفضيلة ويعملون على تهذيب السلوك ونشر محاسن الأخلاق. وإنّ كانوا من الذين فتنتهم الدنيا ، وخدعتهم مظاهر الفتوحات الإسلامية فلعمر الحقّ في منعهم من السفر رسما لا شرعا حفظ لصالح الدولة ووقاية للناس من الفتنة بهم ، ولكن لم يؤثر عنه أنّه فرض الحصار على فريق من الصحابة دون فريق وإنّما فرضه على جميع الصحابة ، وبذلك فقد حال بينهم وبين حرياتهم.

ولاته وعمّاله :

والشيء البارز في سياسة عمر مع الولاة والعمّال أنّه لم يعهد بأي منصب من مناصب الدولة إلى أحد من الاسرة النبوية ، وإنّما أقرّ من ولاّهم أبو بكر في مناصبهم ، كما لم يعيّن أحدا من الصحابة البارزين أمثال طلحة والزبير ، وقيل له :

إنّك استعملت يزيد بن أبي سفيان وسعيد بن العاص وفلانا وفلانا من المؤلّفة

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 : 17.

١٧٨

قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء وتركت أن تستعمل عليّا والعبّاس والزبير وطلحة؟

فقال : أمّا عليّ فأنبه من ذلك ، وأمّا هؤلاء النفر من قريش فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها بالفساد ...

وعلّق ابن أبي الحديد على هذا الكلام بقوله :

فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك ، ويدّعيه كلّ واحد منهم لنفسه ، كيف لم يخف من جعلهم ستّة متساويين في الشورى مرشّحين للخلافة ، وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا (1) .

لقد رشّح طلحة والزبير وجعلهما من أعضاء الشورى ، وشهد بأنّ رسول الله 6 توفّي وهو راض عنهما ، كيف يكونان ممّن ينشران الفساد في الأرض إذا أسند إليهما بعض مناصب الدولة.

مراقبة الولاة والعمال :

وكان عمر شديد المراقبة لعمّاله وولاته ، فلم يولّ عاملا إلاّ أحصى عليه حاله ، فإذا عزله أحصى عليه ما عنده من أموال ، فإن وجد عنده فرقا قاسمه ذلك الفرق ، فترك له شطرا وضمّ الشطر الآخر إلى بيت المال (2) ، واستعمل أبا هريرة الدوسي واليا على البحرين ، وقد وافته الأنباء بأنّه استأثر بأموال المسلمين ، فدعاه ، فلمّا مثل عنده قال له : علمت أنّي استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، ثمّ بلغني أنّك ابتعت أفراسا بألف وستمائة دينار ...؟

فاعتذر أبو هريرة وقال له :

كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 9 : 29 ـ 30.

(2) الفتنة الكبرى 1 : 20.

١٧٩

فلم يحفل أبو حفص باعتذاره فزجره وصاح به :

قد حسبت لك رزقك ومؤونتك ، وهذا فضل فأدّه ...

وراوغ أبو هريرة قائلا :

ليس لك ذلك ..

وورم أنف عمر وصاح به :

بلى والله! وأوجع ظهرك ..

ثمّ علاه بالدّرة فضربه حتى أدماه ، ولم يجد أبو هريرة ملجأ أمام صرامة عمر وشدّته ، فأحضر الأموال التي انتهبها فردّها على عمر وقال له :

احتسبتها عند الله ..

فردّ عليه عمر قائلا :

ذلك لو أخذتها من حلال ، وأدّيتها طائعا ، أجئت بها من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك ، لا لله ولا للمسلمين ما رجعت بك أميمة (1) إلاّ لرعية الحمر (2) ، ثمّ شاطره جميع أمواله التي اختلسها من بيت المال ، وكان الأجدر به أن يصادرها أجمع ، أمّا العمال الذين شاطرهم فهم :

1 ـ سمرة بن جندب.

2 ـ عاصم بن قيس.

3 ـ مجاشع بن مسعود.

4 ـ جزء بن معاوية.

5 ـ الحجّاج بن عتيك.

6 ـ بشير بن المحتفز.

__________________

(1) أميمة : أمّ أبي هريرة.

(2) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 3 : 163.

١٨٠