موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام13%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147666 / تحميل: 5362
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٧ ـ أبو مريم بن محرش.

٨ ـ نافع بن الحرث.

هؤلاء بعض عمّاله وولاته الذين شاطرهم أموالهم ، ويقول المؤرّخون : إنّ السبب في اتّخاذه هذا الإجراء هو يزيد بن قيس ، فقد حفّزه إلى ذلك ودعاه إليه بهذه الأبيات :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فأنت أمين الله في النهي والأمر

وأنت أمين الله فينا ومن يكن

أمينا لربّ العرش يسلم له صدري

فلا تدعن أهل الرّساتيق والقرى

يسيغون مال الله في الادم والوفر

فارسل إلى الحجّاج فاعرف حسابه

وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر

ولا تنسينّ النافعين كليهما

ولا ابن غلاب من سراة بني نصر

وما عاصم منها بصفر عيابه

وذاك الذي في السوق مولى بني بدر

وأرسل إلى النعمان واعرف حسابه

وصهر بني غزوان إنّي لذو خبر

وشبلا فسله المال وابن محرّش

فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر

فقاسمهم أهلي فداؤك إنّهم

سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر

ولا تدعوني للشّهادة إنّني

أغيب ولكنّي أرى عجب الدهر

نئوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم وفرّ ولسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة

من المسك راحت في مفارقهم تجري

وعلى أثر ذلك قام عمر فشاطر عمّاله نعلا بنعل (١) ، ومعنى هذا الشعر أنّ هؤلاء الولاة قد اقترفوا جريمة السرقة وخانوا مال المسلمين ، والواجب يقضي بأن تصادر جميع أموالهم وضمّها إلى بيت مال المسلمين ، وإذا ثبتت خيانتهم فيقصون

__________________

(١) الغدير ٦ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

١٨١

عن وظائفهم ، ولا تشاطر أموالهم كما فعل عمر.

وعلى أي حال فإنّ شدّة عمر ومراقبته لولاته لم تجد ، فقد كانت هناك شكاوى متّصلة منهم ، فقد أرسل إليه بعض المسلمين يشتكون من القائمين على الخراج ، وفيها هذان البيتان :

نئوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم وفر ولسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة

من المسك راحت في مفارقهم تجري (١)

بقي هنا شيء يدعو إلى التساؤل ، وهو أنّ عمر قد استعمل الشدّة والصرامة مع عمّاله وولاته سوى معاوية بن أبي سفيان فإنّه كان يحدب عليه ويشفق ، فلم يفتح معه أي لون من التحقيق ولم يحاسبه على بذخه وإسرافه ، وتكدّس الأموال عنده حيث تتواتر إليه الأخبار باختلاسه لبيت المال وإنفاقه الأموال الهائلة على رغباته وتوطيد ملكه فيعتذر عنه ويشيد به قائلا :

تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية (٢) ، وهذا مجاف لما في الحديث النبوي : « هلك كسرى ثمّ لا يكون كسرى بعده ، وقيصر ليهلكنّ ثمّ لا يكون قيصر بعده ، والّذي نفسي بيده! لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله ».

لقد بالغ في تسديد معاوية والإشادة به ولم يحفل بجرحه ، فقد أخبره جماعة من الصحابة أنّ معاوية قد جافى سنّة رسول الله ٦ ، فهو يلبس الحرير والديباج ويستعمل أواني الذهب والفضة ولا يتحرّج في أعماله وسلوكه عمّا خالف السنّة ، فأنكر عليهم عمر وقال لهم :

دعونا من ذمّ فتى من قريش من يضحك في الغضب ولا ينال ما عنده من

__________________

(١) فتوح البلدان : ٣٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١٤.

١٨٢

الرضاء ولا يؤخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدمه (١) .

وقد ذهب في تسديده إلى أبعد من ذلك ، فقد نفخ فيه روح الطموح وهدّد به أعضاء الشورى الذين انتخبهم من بعده قائلا : إنّكم إن تحاسدتم وتدابرتم ، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان (٢) .

ولمّا أمن معاوية جانب عمر أخذ يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان (٣) .

سياسته المالية :

أمّا سياسة عمر ومنهجه المالي فقد كان مخالفا لسياسة أبي بكر المالية ، فقد كان أبو بكر يساوي في العطاء ، وقد أشار عليه عمر بالعدول عن ذلك قائلا :

إنّ الله لم يفضّل أحدا على أحد ، ولكنّه قال : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) ، ولم يخصّ قوما دون آخرين (٤) .

ولمّا أفضت إليه الخلافة عدل عن سياسة أبي بكر وفضّل بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وقال : إنّ أبا بكر رأى في هذا الحال رأيا ، ولي فيه رأي آخر ، لا أجعل من قاتل رسول الله ٦ كمن قاتل معه (٥) . وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممّن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف ، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر

__________________

(١) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٣ : ٣٧٧.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١٨٧.

(٣) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٢٩٦.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ١١١.

(٥) حياة الإمام الحسن بن عليّ ٨ ١ : ٢٨٤.

١٨٣

ولم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف ، وفرض لأزواج النبيّ ٦ اثني عشر ألفا إلاّ صفية وجويرية ففرض لهما ستّة آلاف فرفضتا ذلك ، كما فرض للعبّاس عمّ رسول الله ٦ اثني عشر ألفا ، وفرض لاسامة بن زيد أربعة آلاف ، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك ، وقال له :

يا أبت ، لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي ، وكان له ما لم يكن لي؟

فقال له عمر : إنّ أبا اسامة كان أحبّ إلى رسول الله ٦ من أبيك ، وكان اسامة أحبّ إلى رسول الله منك (١) .

وقد فضّل عمر العرب على العجم ، والصريح على الموالي (٢) .

وأدّت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقيّة بين المسلمين ، كما أدّت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم واصولهم ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب ، وتصنيف القبائل بحسب اصولها (٣) .

وكان هذا الإجراء قد أوجد تحوّلا في الجماعة الإسلامية ، فقد أدّى إلى حنق الموالي على العرب ، وظهور النعرات الشعوبية والقومية ، في حين إنّ الإسلام قد ساوى بين جميع المسلمين وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب والدم.

ناقدون :

وأثارت هذه السياسة المالية التي انتهجها عمر موجة من النقد والسخط من المحقّقين ، وهؤلاء بعضهم :

__________________

(١) الخراج : ٢٤٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ٤١١.

(٣) العصبية القبلية : ١٩٠.

١٨٤

١ ـ الدكتور محمّد مصطفى :

وأنكر الدكتور محمّد مصطفى هذه السياسة قال : وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثّر تأثيرا خطيرا في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية ؛ إذ خلق شيئا فشيئا طبقة ارستقراطية غنيّة يأتيها رزقها رغدا دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال ذلك أنّ فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين : القرابة من رسول الله ، والسابقة في الإسلام ، ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات ، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك للمقابل الذي لا بدّ من أن تأخذه الدولة في صورة عمل وجهاد (١) .

٢ ـ العلاّمة العلائلي :

قال العلاّمة العلائلي : هذا التنظيم المالي أوجد تمايزا كبيرا ، وأقام المجتمع العربيّ على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سواء في نظر القانون ( الشريعة ) ، فقد أوجد ارستقراطية وشعبا وعامّة (٢) .

٣ ـ الدكتور عبد الله سلام :

وأنكر الدكتور عبد الله سلام هذه السياسة التي انتهجها عمر في سياسته المالية ، قال : لست أدري كيف اتّخذ عمر هذا الاجراء ولما ذا اتّخذه؟ إنّه إجراء أوجد تفاوتا اجتماعيا واقتصاديا ، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين (٣) .

إنّ السياسة التي جرى عليها عمر في الميدان الاقتصادي لا تحمل أي طابع

__________________

(١) اتّجاهات الشعر العربيّ : ١٠٨.

(٢) الإمام الحسين ٧ : ٢٣٢.

(٣) الغلوّ والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية : ٢٥١.

١٨٥

من التوازن ، فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة ، فقد تكدّست عندهم الأموال ، وقد خلّف بعضهم بعد موته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس ، وبذلك فقد سيطرت الرأسمالية على شئون الدولة ، وقد سخّرت أجهزتها لمصالحها الخاصّة ، وقد ازداد نفوذها وثراؤها أيام حكومة عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية وبعد قتله ، ولمّا تسلّم الإمام ٧ قيادة الحكم جهدت في معارضته ؛ لأنّ سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات الخاصّة ومصادرة أموالهم التي ابتزوها بغير حقّ ، كما سنوضّح ذلك عند التحدّث عن حكومة الإمام.

ندم عمر :

وندم عمر في آخر أيام حكومته لما تفشّى الثراء العريض عند بعض الصحابة وراح يقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرته أخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.

وفيما أحسب أنّ هذا الإجراء الذي أراد عمر أن يتّخذه لا يخلو من تأمّل ؛ فإنّ فضول أموال الأغنياء إن كانت مختلسة من أموال الدولة فيجب مصادرتها وتأميمها ، وإن كانت من أموال التجارة فليس له من سبيل عليها ، والواجب أخذ ما عليها من الضرائب المالية إن كانت خاضعة لها ، ومهما يكن الأمر فإنّ أموال الأغنياء إن كانت من الفيء ومن جباية الجزية والخراج فهي ملك للمسلمين فلا يجوز أن يستأثر بها فريق دون فريق.

اعتزال الإمام :

واعتزل الإمام أيام حكومة عمر ، ولم يشترك بأي عمل من أعمال الدولة ، كما اعتزل في أيام حكومة أبي بكر ، يقول محمّد بن سليمان في أجوبته على أسئلة

١٨٦

جعفر بن مكّي عمّا دار بين علي وعثمان : إنّ عليّا دحضه الأوّلان ـ يعني أبا بكر وعمر ـ وأسقطاه ، وكسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا (١) .

ويعزو الإمام ٧ جميع ما لاقاه في حياته من النكبات والأزمات إلى عمر ، وذلك في حديث خاصّ له مع عبد الله بن عمر (٢) .

وعلى أي حال فقد اعتزل الإمام ٧ الناس اعتزالا تامّا ، وانصرف إلى تفسير القرآن الكريم ، ولم يتّصل بأحد سوى الصفوة من أصحابه أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ، والثائر على الحكم الأموي أبو ذرّ ، وسلمان الفارسي وغيرهم من خيار أصحاب الرسول.

وكان عمر يرجع إلى الإمام في المسائل الفقهية ؛ لأنّ بضاعته كانت قليلة فيها ، وقد شاع عنه قوله :

لو لا علي لهلك عمر (٣) .

وقد نزلت في عمر نازلة فحار في التخلّص منها ، وعرض ذلك على أصحابه فقال لهم :

ما تقولون في هذا الأمر؟

فأجابوه : أنت المفزع والمنزع ...

فلم يرضه قولهم وتلا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (٤) .

ثمّ قال لهم :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ٩٨.

(٢) المصدر السابق : ٥٤.

(٣) الغدير ٦ : ٨٣ ، وفيه عرض شامل لذلك.

(٤) الأحزاب : ٧٠.

١٨٧

أما والله! إنّي وإيّاكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها.

فقالوا :

كأنّك أردت ابن أبي طالب؟

وأنّى يعدل بي عنه ، وهل طفحت حرّة بمثله ..

لو دعوته يا أمير المؤمنين.

فامتنع من إجابتهم وقال :

إنّ هناك شمخا من هاشم ، واثرة من علم ، ولحمة من رسول الله ٦ يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه ..

وخفّوا جميعا إليه فوجدوه في حائط له يعمل فيه وعليه تبان ، وهو يقرأ قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) إلى آخر السورة ودموعه تنهمر على خدّيه ، فلمّا رآه القوم اجهشوا في البكاء ، ولمّا سكتوا سأله عمر عمّا ألمّ به ، فأجابه عنه ، والتفت عمر إلى الإمام فقال له :

أما والله! لقد أرادك الحقّ ، ولكن أبى قومك ...

فأجابه الإمام :

« يا أبا حفص ، خفّض عليك من هنا وهنا » ، وقرأ قوله تعالى : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ) .

وذهل عمر فوضع إحدى يديه على الاخرى ، وخرج كأنّما ينظر في رماد (١) .

وعلى أي حال فإنّ الإمام في خلافة عمر قد كان جليسا في بيته يساور الهموم ، ويسامر النجوم ، ويتوسّد الأرق ، ويتجرّع الغصص ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره إلى الله تعالى.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ٧٩ ـ ٨٠.

١٨٨

نصيحته لعمر :

ونصح الإمام ٧ عمر في موضعين ، وأسدل عمّا يكنّه من الموجدة من ضياع حقّه ، وذلك حفظا لكلمة الإسلام وهما :

١ ـ غزو الروم :

ورام عمر أن يمضي لغزو الروم ، فنهاه الإمام عن ذلك وقال له :

« إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كانفة (١) دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلا محربا ، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة ، فإن أظهر الله فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى ، كنت ردءا للنّاس ومثابة للمسلمين ».

٢ ـ غزو الفرس :

واستشار عمر الإمام في الخروج بنفسه لغزو الفرس ، فأشار عليه بعدم خروجه قائلا :

« إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة. وهو دين الله الّذي أظهره ، وجنده الّذي أعدّه وأمدّه ، حتّى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث طلع ؛ ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده. ومكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز يجمعه ويضمّه : فإن انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب ، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم ، وإن كانوا قليلا ، فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالاجتماع! فكن قطبا ، واستدر الرّحا بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتّى يكون ما تدع وراءك من

__________________

(١) الكانفة : هي العاصمة التي يلجئون إليها.

١٨٩

العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.

إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا : هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ، وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك. وهو أقدر على تغيير ما يكره.

وأمّا ما ذكرت من عددهم ، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة! ».

وكان رأي الإمام هو الرأي المشرق ، فإنّ خروج عمر مع الجيش تكون له مضاعفاته السيّئة على المسلمين ، والتي منها أنّه لو اندحر الجيش الإسلامي وفيهم عمر لانطوت بذلك راية الإسلام.

٣ ـ حليّ الكعبة :

وفي أيام عمر كثرت الحليّ على الكعبة ، فأشار عليه القوم ببيعها وإرصاد ثمنها للجيوش الإسلامية لأنّ الكعبة ما تصنع بالحليّ ، وأراد عمر تنفيذ ذلك ، فاستشار الإمام ٧ فقال له الإمام :

إنّ هذا القرآن أنزل على النبيّ ٦ ، والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض ؛ والفيء فقسّمه على مستحقّيه ؛ والخمس فوضعه الله حيث وضعه ؛ والصّدقات فجعلها الله حيث جعلها. وكان حلي الكعبة فيها يومئذ ، فتركه الله على حاله ، ولم يتركه نسيانا ، ولم يخف عليه مكانا ، فأقرّه حيث أقرّه الله ورسوله.

فاستحسن عمر رأي الإمام ، وأبدى إعجابه قائلا : لولاك لافتضحنا ، وترك الحليّ بحاله ...

١٩٠

اغتيال عمر :

وآثرنا الايجاز في خلافة عمر ولم نعرض إلى الأحداث التي رافقت حكومته ، خصوصا ما صدر منه من الفتاوى التي كانت من الاجتهاد قبال النصّ كتحريم المتعة وغيرها ، فقد عرض لها علماء الشيعة وفقهاؤهم ، وفي طليعتهم الإمام الأعظم شرف الدين في كتابه الذائع الصيت ( النصّ والاجتهاد ) ، والمحقّق الكبير الإمام الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه الخالد ( الغدير ).

وعلى أي حال فإنّ الذي يعنينا اغتيال عمر ، ووضعه لنظام الشورى قبل وفاته ، أمّا اغتيال عمر فيعزوه بعض الكتّاب المحدثين إلى بني أميّة ، فقد أرادوا التخلّص من حكمه وفرض سلطانهم على المسلمين (١) ، وقد استدلّوا على ذلك بأنّ أبا لؤلؤة الذي اغتال عمر كان مولى للمغيرة بن شعبة الذي له صلة وثيقة بالأمويّين وهذا الرأي لا يحمل أي طابع من التحقيق ؛ لأنّ علاقة عمر بالأمويّين كانت وثيقة للغاية ، ولم تقع بينهما أيّة منافسة ، وكانوا من أعداء الإمام وهو المنافس الوحيد له.

واستعمل عمر وجوه الأمويّين ولاة على الأقطار الإسلامية أمثال يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ومعاوية ، ولم يشاطر أي واحد منهم أمواله كما شاطر بقيّة عمّاله ، وكان معنيّا بشئون نسائهم ، فقد أقرض هند بنت عتبة أمّ معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتّجر فيها (٢) ، وقد أعدّ في بيته مكانا خاصّا فرشه بأحسن الفرش ولم يسمح لأي أحد بالدخول فيه سوى أبي سفيان ، وعوتب على ذلك فقال : هذا شيخ قريش (٣) ، فكيف يقومون باغتياله.

__________________

(١) من أنصار هذا الرأي العلاّمة المغفور له العلائلي ، ذهب إلى ذلك في كتابه ( سموّ المعنى في سموّ الذات ) : ص ٣١.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٤١.

١٩١

ومهما يكن الأمر فإنّ من المقطوع به أنّ أبا لؤلؤة إنّما اندفع لاغتيال عمر بوحي من نفسه ، لا بدافع أموي ، ويعود السبب في ذلك أنّه كان شابا متحمّسا لشعبه ووطنه ، فقد رأى بلاده فتحت عنوة ، وقد انطوى مجد الفرس وذهب عزّهم ، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس ، وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد ، كما حضر عليهم دخول يثرب إلاّ من كان سنّه دون البلوغ (١) ، وأصدر فتواه بعدم إرثهم إلاّ من ولد في بلاد العرب (٢) ، كما كان يعبّر عنهم بالعلوج ، وهو بالذات قد خفّ إلى عمر شاكيا ضيقه وجهده من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج فلم يعن به عمر وصاح به.

وما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها ...

وأوجد ذلك حنقا وحقدا عليه ، فأضمر له في نفسه الشرّ ، وقد اجتاز عليه فسخر منه ، وقال له :

بلغني أنّك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت ..

فلذعته هذه السخرية وقال له :

لأصنعنّ لك رحى يتحدّث بها الناس.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (٣) ، فطعنه ثلاث طعنات إحداهنّ تحت السرّة فخرقت الصفاق (٤) .

ثمّ حمل على أهل المسجد فطعن أحد عشر رجلا ، وعمد إلى نفسه فانتحر ، وحمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دما ، فقال لمن حوله :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٥.

(٢) الموطأ ٢ : ١٢.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢١٢.

(٤) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

١٩٢

من طعنني؟

غلام المغيرة ..

ألم أقل لكم لا تجلبوا لنا من العلوج أحدا فغلبتموني (١) .

وأحضر له أهله طبيبا فقال له : أي الشراب أحبّ إليك؟

النبيذ ..

فسقوه منه ، فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديدا ، ثمّ سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب ، وقال له : لا أرى أن تمسي (٢) .

وصيّته :

ولمّا أيقن عمر بدنو الأجل المحتوم أوصى ولده عبد الله ، وقال له : انظر ما عليّ من الدّين ، فنظروا فيه فإذا به مدين لبيت المال ستين ألفا لا نعلم أنّها من الدنانير أو من الدراهم.

وقال لولده بعد أن بيّن مقدار دينه : إنّ وفى به مال آل عمر فأدّه من أموالهم ، وإلاّ فسل فيّ بني عدي بن كعب ، فإن لم تف به أموالهم ، فسل فيّ قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم (٣) ..

ويواجه هذه الوصية عدّة من المؤاخذات ذكرناها بالتفصيل في الجزء الأوّل من كتابنا ( حياة الإمام الحسين ٧ )

عمر مع ابنه عبد الله :

وطلب عبد الله من أبيه عمر أن ينصّ على أحد من المسلمين ويجعله خليفة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٧.

(٢) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ : ٤٦١. الإمامة والسياسة ١ : ٢١.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٨.

١٩٣

عليهم من بعده قائلا له :

يا أبتي ، استخلف على أمّة محمّد ٦ ، فإنّه لو جاء راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها ، وقلت له : كيف تركت أمانتك ضائعة فكيف بامّة محمّد ، فاستخلف عليهم ..

ورمقه عمر بطرفه ، وأجابه :

إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول الله ٦ (١) .

ولعلّ « الوجع » قد غلب عمر فنسي قيام النبيّ ٦ بنصب عليّ خليفة من بعده في يوم « غدير خمّ » ، وإلزام المسلمين بمبايعته ، وعمر بالذات ممّن بايعه ، وقال له : بخ بخ لك يا عليّ ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهل أبو بكر أشفق على المسلمين من النبيّ فأوصى من بعده بالخلافة إلى عمر وأهمل ذلك النبيّ ولم يوص لأحد من بعده؟

وعلى أي حال فإنّ عمر قد فتكت به جراحاته ، وأحاطت به الآلام ، فجزع جزعا شديدا ، وجعل يقول :

لو أنّ لي ما في الأرض ذهبا لا فتديت به من عذاب الله قبل أن أراه (٢) .

والتفت لولده عبد الله وقال له : ضع خدّي على الأرض ..

فلم يحفل به ولده ، وظنّ أنّه قد اختلس عقله ، وأمره ثانيا بذلك فلم يجبه ، فصاح به :

ضع خدّي على الأرض لا أمّ لك ..

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٢.

١٩٤

وبادر عبد الله فوضع خدّ أبيه على الأرض ، وأخذ يجهش بالبكاء ويقول :

يا ويل عمر!! وويل أمّ عمر!! إن لم يتجاوز الله عنه (١) ، ولعلّه قد لاحت له في تلك اللحظات الأخيرة من حياته ما أنزله بالاسرة النبوية من النكبات والأزمات.

وعلى أي حال فإنّ عمر بعث ولده إلى عائشة يستأذن منها أن يدفن مع رسول الله ٦ وأبي بكر فسمحت بذلك (٢) ، وعلّقت الشيعة على ذلك فقالت : إنّ ما تركه النبيّ ٦ من متع الحياة إن كان لا يرثه أهله ، وإنّما هي لولي الأمر من بعده حسب ما يرويه أبو بكر ، فلا وجه للاستئذان من عائشة ، وإن كان يرجع إلى ورثة النبيّ ٦ كما يقول بذلك أهل البيت : فليس لعائشة فيه أي نصيب ؛ لأنّ الزوجة لا ترث من الأرض ، وإنّما ترث من البناء ، حسبما قرّره فقهاء المسلمين ، ولا بدّ حينئذ أن يكون الإذن في دفنه من ورثة النبيّ ٦ ولم يتحقّق ذلك.

نظام الشورى :

ونظام الشورى الذي وضعه عمر كنظام السقيفة ، قد أخلد للمسلمين المصاعب وألقتهم في شرّ عظيم ، وهو نظام مفضوح لا غبار عليه في أنّ القصد منه إقصاء الإمام ٧ عن قيادة الامّة وتسليمها لبني أميّة إرضاء لعواطف القرشيّين المترعة بالحقد والكراهية للإمام أمير المؤمنين ٧ .

ونحن نعرض إلى الشورى العمرية بدراسة وتحليل بعيدة عن العواطف التقليدية ، لم نقصد بذلك إلاّ إبراز الواقع التأريخي على ما هو عليه.

وعلى أي حال ، فإنّ عمر لمّا أحسّ بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يمعن فيمن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٣.

(٢) المصدر السابق : ١٩٠.

١٩٥

يتولّى شئون الحكم من بعده ، وقد راح يتذكّر أقطاب حزبه الذين استعان بهم على البيعة لأبي بكر ، وصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين ، فجعل يصعّد حسراته ويبدي أساه عليهم قائلا :

« لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ؛ لأنّه أمين هذه الامّة ، فلو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته ؛ لأنّه شديد الحبّ لله تعالى » وليس لأبي عبيدة أي نصيب في خدمة الامّة الإسلامية وجهاد يذكر.

كما أنّه ليس لسالم مولى أبي حذيفة أية شخصية إسلامية معروفة ، وإنّما كان من سواد المسلمين ، إلاّ أنّه ساهم مساهمة إيجابية في مؤتمر السقيفة ، وكان كقوة ضاربة في حماية أعضائها.

وعلى أي حال فقد طلب منه أصحابه أن يرشّح أحدا من بعده ليتولّى شئون المسلمين ، فأبى وقال :

أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا ..

ولكنّه لم يلبث أن عدل عن رأيه فانتخب أعضاء الشورى الستّة ، وفوّض إليهم انتخاب أحدهم ليكون واليا على المسلمين ، وبذلك فقد تحمّل الخلافة حيّا وميّتا ، وعلّق ابن أبي الحديد على كلامه ، قائلا :

أي شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا؟ وأي فرق بين أن يتحمّلها ، بأن ينصّ على واحد بعينه ، وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب (١) .

صلاة صهيب :

وأوعز عمر إلى صهيب أن يصلّي بالناس حينما اغتاله أبو لؤلؤة ، فصلّى بهم ، وفي ذلك يقول الفرزدق :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٦٠.

١٩٦

صلّى صهيب ثلاثا ثمّ أرسلها

إلى ابن عفّان ملكا غير مقصود (١)

انتخاب عمر لأعضاء الشورى :

وانتخب عمر ستّة أشخاص ، وجعلهم أعضاء للشورى وألزمهم بانتخاب واحد منهم ليتولّى قيادة الامّة ، وهم :

١ ـ الإمام أمير المؤمنين ٧ .

٢ ـ سعد بن أبي وقّاص.

٣ ـ الزبير بن العوّام.

٤ ـ طلحة.

٥ ـ عثمان بن عفّان.

٦ ـ عبد الرحمن بن عوف.

والشيء البارز في هذا الانتخاب أنّه لم يجعل أي نصيب فيه للأنصار الذين نصروا النبيّ ، واحتضنوا مبادئه ، ولعلّ السبب في ذلك هو ميولهم للإمام ٧ ، وقد اقتصر أعضاء الشورى على الجناح القرشي ، وليس لغيرهم فيه أي نصيب.

عمر مع أعضاء الشورى :

وطلب عمر حضور أعضاء الشورى الذين انتخبهم ، فلمّا مثلوا أمامه وجّه إليهم أعنف القول وأقساه ورماهم بالصفات الذميمة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الإمامة ، وقد روى المؤرّخون صورا لحديثه معهم ، وهذه بعضها :

الرواية الاولى :

إنّ أعضاء الشورى لمّا حضروا عنده قال لهم : أكلّكم يطمع بالخلافة بعدي؟ ..

__________________

(١) نور القيس المختصر من المقتبس ـ المرزباني : ١.

١٩٧

ووجموا عن الكلام ، فأعاد عليهم القول ثانيا ، فأجابه الزبير : وما الذي يبعدنا منها ، وليتها ـ أي الخلافة ـ أنت فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ، ولا في السابقة ، ولا في القرابة ، ولم يسعه الردّ عليه لأنّه ليس في كلامه فجوة يسلك فيها لإبطال كلامه ، والتفت عمر إلى الجماعة فقال لهم :

أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ ..

فأجابوا مجمعين :

قل ، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا ..

وأخذ يحدّثهم عن نفسيّاتهم وميولهم ، فوجّه كلامه لكلّ واحد منهم :

مع الزبير :

« أمّا أنت يا زبير! فوعق لقس (١) ، مؤمن الرّضا ، كافر الغضب ، يوما إنسان ويوما شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعري من يكون للنّاس يوم تكون شيطانا؟ ومن يكون يوم تغضب!! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمّة وأنت على هذه الصّفة ».

إنّ الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيّته مبتلى بآفات شريرة وهي :

١ ـ الضجر والتبرّم.

٢ ـ الغضب الشديد الذي يفقده الرشد.

٣ ـ عدم الاستقامة في السلوك.

٤ ـ الحرص والبخل.

وهذه النزعات من مساوئ الصفات ، ومن اتّصف ببعضها لا يصلح لأن يكون إماما للمسلمين ومع هذه الصفات الماثلة فيه كيف رشّحه للخلافة؟

__________________

(١) الوعق : الضجر والتبرّم. اللقس : من لا يستقيم على أمر.

١٩٨

مع طلحة :

وأقبل عمر على طلحة ، وأخذ يحدّثه بنزعاته فقال له :

أقول أم أسكت؟ ..

فزجره طلحة وقال له :

إنّك لا تقول من الخير شيئا ..

وأخذ عمر يقول :

أما إنّي أعرفك منذ أصيبت اصبعك يوم أحد وائيا بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله ٦ ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب ...

وإذا كان النبيّ ٦ ساخطا على طلحة كيف يرشّحه للخلافة ، كما أنّه مناقض لما قاله في أعضاء الشورى أنّ رسول الله ٦ مات وهو راض عنهم.

وعلّق الجاحظ على مقاله بقوله :

لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله ٦ مات وهو راض عن الستّة ، فكيف تقول الآن لطلحة : إنّه مات ٦ ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه (١) ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له : ما دون هذا فكيف هذا؟ ..

مع سعد بن أبي وقّاص :

واتّجه صوب سعد بن أبي وقّاص ، فقال له : إنّما أنت صاحب مقنب (٢) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وسهم ، وما زهرة والخلافة وامور الناس؟

وحكى كلام عمر اتّجاهات سعد وأنّه رجل عسكري لا يفقه إلاّ عمليات

__________________

(١) المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم.

(٢) المقنب : جماعة الخيل.

١٩٩

الحروب ، ولا خبرة له بالشؤون الإدارية والسياسية ، وإذا كانت هذه اتّجاهاته كيف جعله من أعضاء الشورى؟

مع عبد الرحمن بن عوف :

وأقبل عمر على عبد الرحمن بن عوف ، فقال له : أمّا أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك عليهم ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر؟ ..

إنّ عبد الرحمن ـ حسب رأي عمر ـ مثال للإيمان والتقوى ، وإنّ إيمانه يساوي نصف إيمان المسلمين ، ومن إيمانه المزعوم أنّه عدل عن انتخابه سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين ٧ وسلّم الخلافة إلى بني أميّة ، فاتّخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا.

وإذا لم تكن لعبد الرحمن شخصية صلبة وقوية ـ حسب رأي عمر ـ كيف رشّحه للخلافة؟

مع الإمام أمير المؤمنين :

والتفت عمر إلى الإمام أمير المؤمنين ٧ فقال له : لله أنت لو لا دعابة فيك ...

أمّا والله! لئن ولّيتهم لتحملنّهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء ..

ومتى كانت للإمام أمير المؤمنين ٧ الدعابة؟ وهو الذي ما ألف في حياته غير الجدّ والحزم.

إنّ الدعابة تنمّ عن ضعف الشخصية ، وقد اعترف عمر أنّ الإمام لو ولي امور المسلمين لحملهم على الحقّ الواضع والمحجّة البيضاء ، ومن المؤكّد أنّ من يقوم بذلك لا بدّ أن يكون شخصية قوية ذا إرادة صلبة.

وعلى أي حال فإنّ عمر اعترف بأنّ الإمام لو تقلّد الحكم لسار بين المسلمين

٢٠٠

على الحقّ الواضح ، وحملهم على الصراط المستقيم ، فكيف جعله من أعضاء الشورى ولم يسند إليه الحكم مباشرة؟

مع عثمان :

وأقبل عمر على عثمان عميد الاسرة الأموية ، وهو الذي كتب العهد بولايته من أبي بكر ، وهو المرشّح الوحيد عنده للخلافة فقال له :

هيها إليك ، كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك ، فحملت بني اميّة وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا ، والله! لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثمّ أخذ بناصيته فقال له : فإذا كان ذلك فاذكر قولي (1) .

والشيء المؤكّد أنّ عثمان لم تقلّده قريش منصب الخلافة ، وإنّما عمر هو الذي قلّده بها ، ولم يكن ترشيحه له في أيام مرضه وإنّما كان قبل ذلك بزمان ، فقد روى الحسن بن نصر قال : حججت مع عمر ، وكان الحادي يحدو أنّ الأمير بعد عمر عثمان (2) .

إنّ نظام الشورى الذي وضعه عمر يؤدّي حتما إلى فوز عثمان بالخلافة ، فقد جعله من أعضاء الشورى ، وكان معظهم ممّن لهم ميول واتّصال وثيق بالأمويّين ، وهم لا يعدلون عن انتخابه كما سنعرض لذلك.

الرواية الثانية :

رواها ابن قتيبة أنّ أعضاء الشورى التقوا بعمر فقالوا له :

قل فينا يا أمير المؤمنين! مقالة نستدلّ فيها برأيك ونقتدي بها ...

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 185 ـ 186.

(2) جواهر المطالب : 290.

٢٠١

فقال مخاطبا لسعد : والله! ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ..

وقال لعبد الرحمن : وما يمنعني منك يا عبد الرحمن! إلاّ أنّك فرعون هذه الامّة.

وقال مخاطبا للزبير : وما يمنعني منك يا زبير! إلاّ أنّك مؤمن الرضا ، كافر الغضب.

وقال لطلحة : وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره ، ولو وليها وضع خاتمه في اصبع امرأته.

وقال لعثمان : وما يمنعني منك يا عثمان! إلاّ عصبيّتك وحبّك لقومك وأهلك.

وقال للإمام أمير المؤمنين : وما يمنعني منك يا عليّ! إلاّ حرصك عليها ، وأنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم (1) .

وقد اتّهم عمر أعضاء الشورى بمساوئ الصفات ، فوصف عبد الرحمن أنّه فرعون هذه الامّة ، وإذا كان ذلك فكيف جعله من أعضاء الشورى؟ والغريب أنّه في الفصل الأخير من وصاياه أناط برأيه شئون الخلافة ، وجعل قوله في انتخاب أحد المرشّحين منطق الفصل وفصل الخطاب.

ووصف الإمام بالحرص على الخلافة ، وهو اتّهام مردود ، فإنّ سيرة الإمام مشرقة كالشمس بعيدة عن الحرص كلّ البعد ، فإنّه لم يكن بأيّ حال من عشّاق الملك والسلطان ، وإنّما نازع الخلفاء وأقام عليهم الحجّة بأنّه أولى بالخلافة وأحقّ بها منهم من أجل أن يقيم في هذا الشرق وفي غيره حكم القرآن وعدالة الإسلام ، وقد صرّح 7 بذلك بقوله :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 : 24.

٢٠٢

  « اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ».

وأدلى 7 في حديثه مع ابن عبّاس عن زهده للسلطة واحتقاره للحكم ، وكان 7 يخصف بيده نعله الذي كان من ليف ، فقال لابن عبّاس :

« يا ابن عبّاس ، ما قيمة هذا النّعل؟ ».

يا أمير المؤمنين ، لا قيمة له ..

« إنّه خير من خلافتكم إلاّ أن اقيم حقّا وأدفع باطلا ».

من أجل إقامة الحقّ وتطبيق العدالة الاجتماعية كان الإمام يبغي الحكم وسيلة لتحقيق مثله العليا.

الرواية الثالثة :

رواها ابن أبي الحديد المعتزلي قال :

نظر إلى أعضاء الشورى ، فقال لهم : قد جاءني كلّ واحد منكم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة.

ثمّ التفت إلى طلحة فقال له :

أمّا أنت يا طلحة! أفلست القائل : إن قبض النبيّ أنكح أزواجه من بعده؟ فما جعل الله محمّدا أحقّ ببنات أعمامنا منّا ، فأنزل الله فيك : ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (1) .

ثمّ التفت إلى الزبير فقال له :

__________________

(1) الأحزاب : 53.

٢٠٣

وأمّا أنت يا زبير! فو الله! ما لان قلبك يوما ولا ليلة ، وما زلت جلفا جافيا ...

ووجّه خطابه إلى عثمان فقال له :

وأمّا أنت يا عثمان! لروثة خير منك ..

ثمّ التفت إلى عبد الرحمن بن عوف فقال له :

وأمّا أنت يا عبد الرحمن! فإنّك رجل عاجز ، تحبّ قومك ...

ثمّ وجه خطابه إلى سعد بن أبي وقّاص فقال له :

وأمّا أنت يا سعد! فصاحب عصبية وفتنة ..

ثمّ التفت إلى الإمام أمير المؤمنين 7 فقال له :

وأمّا أنت يا عليّ! لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم ..

وانصرف الإمام عنه ، فالتفت عمر إلى حضّار مجلسه فقال لهم :

والله! إنّي لأعلم مكان الرجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.

وبادروا قائلين :

من هو؟

هذا المولى بينكم ـ وأشار إلى الإمام.

ما يمنعك من ذلك؟

ليس إلى ذلك من سبيل (1) .

ولم لا سبيل إلى ترشيح الإمام بعد ما رشّحه النبيّ 6 وقلّده منصب الخلافة في يوم غدير خمّ ، فهل هناك عيب في الإمام وعدم توفّر قابليات القيادة فيه؟ نعم ، إنّها الأضغان والأحقاد التي أترعت بها نفوس القوم ضدّ وصيّ رسول الله 6 وباب

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 12 : 159.

٢٠٤

مدينة علمه ، والله هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.

الهيئة المشرفة على الانتخاب :

وأقام عمر هيئة مشرفة على عملية الانتخاب ، وليس لها رأي سوى الأشراف ، فقد قال لأعضاء الشورى : احضروا معكم من شيوخ الأنصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، وأحضروا معكم الحسن بن عليّ وعبد الله بن عبّاس ، فإنّهما لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء ...

والملاحظ في هذه الهيئة التي أقامها عمر هو أنّه أقصى الأنصار عن الانتخاب والاختيار لمن يرغبون فيه للحكم ، وجعل لهم الإشراف المجرّد الذي يعني حرمانهم من الحكم ، وبذلك فقد نقض العهد الذي قطعه على نفسه أبو بكر للأنصار حيث قال لهم : نحن الامراء وأنتم الوزراء فلم يجعل لهم عمر أي دور في شئون الدولة ، وإنّما جعلهم شرطة وجنودا لحكومته ثمّ إنّا لا نعلم ما هي البركة التي ينعم بها أعضاء الشورى في حضور الإمام الحسن وعبد الله بن عبّاس ، وهما لا يملكان من الأمر شيئا؟

عمر مع أبي طلحة والمقداد :

وأراد عمر أن يحكّم الشورى ويتقن بنودها ، ويفرضها على المسلمين فالتفت إلى أبي طلحة الأنصاري ، وهو فيما أظنّ مدير لشرطته ، فقال له :

يا أبا طلحة! إنّ الله أعزّ بكم الإسلام ، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ...

ثمّ التفت إلى المقداد وعهد إليه بما يلي :

إذا اتّفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وإنّ اتّفق ثلاثة منهم على رجل ورضي ثلاثة منهم برجل آخر

٢٠٥

فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس ...

وهذا الكلام حافل بالمؤاخذات ، سنعرض له عند البحث عن آفات الشورى.

إنذار عمر للصحابة :

وشيء خطير بالغ الأهميّة هو أنّ عمر أنذر أعضاء الشورى وهدّدهم بعمرو بن العاص واليه على مصر وبمعاوية واليه على الشام ، فقد قال لهم :

يا أصحاب محمّد ، تناصحوا ، فإن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.

وعلّق شيخ الإمامية الشيخ المفيد على هذا الكلام بقوله :

وإنّما أراد عمر بهذا القول : إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة ، وإطماعهما فيها لأنّ معاوية كان عامله وأميره على الشام وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر ، وخاف أن يضعف عثمان وتصير الخلافة إلى عليّ فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما وهما بمصر والشام ، فيتغلّبا على هذين الاقليمين إن أفضت إلى عليّ (1) .

وهو تحليل وثيق للغاية ، فقد أراد أن يظهر ابن العاص ومعاوية التمرّد على الإمام إن آلت الخلافة إليه ، وتحقّق ذلك ، فإنّه بعد أن آلت الخلافة إلى الإمام كان معاوية وابن العاص في طليعة القوى الباغية على الإمام والمناهضة لحكمه.

رأي الإمام :

وكان الإمام على يقين لا يخامره شكّ في موقف عمر تجاهه ، وأنّه لا يرغب

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 3 : 99.

٢٠٦

بأي حال من الأحوال أن يتولّى شئون المسلمين ، ولم يضع نظام الشورى إلاّ لأجل ذلك ، وإنّ ما يبغيه إيصال الحكم إلى عثمان عميد الاسرة الأموية ، فقد التقى الإمام بعمّه العبّاس وقال له :

« يا عمّ ، لقد عدلت ـ أي الخلافة ـ عنّا ».

من أعلمك بذلك؟

« لقد قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر ، ثمّ قال : كونوا مع عبد الرّحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرّحمن ، وعبد الرّحمن صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون ، فإمّا أن يولّيها عبد الرّحمن لعثمان ، أو يولّيها عثمان لعبد الرّحمن » (1) .

وصدق تفرّس الإمام ، فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثارا لمصالحه وابتغاء لرجوعها إليه.

لقد كانت الشورى باسلوبها مؤامرة مفضوحة لا ستار عليها في إبعاد الإمام عن الخلافة ، يقول الإمام كاشف الغطاء :

الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم بتدبير بارع عاد على الإسلام والمسلمين بشرّ ما له دافع (2) .

وراح الإمام بعد سنين ـ يتحدّث بأسى ـ عن الشورى العمرية التي صمّمت لإقصائه عن مركز الحكم يقول 7 :

حتّى إذا مضى لسبيله ـ يعني عمر ـ جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشّورى! متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل ـ يعني به أبا بكر ـ منهم ، حتّى صرت أقرن

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 : 35.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 317.

٢٠٧

إلى هذه النّظائر! ـ يعني أعضاء الشورى.

أجل والله! ـ يا أمير المؤمنين ـ! أنّه متى اعترض الريب لأي أحد من المسلمين وغيرهم أنّك أفضل الناس علما وجهادا وورعا ، ولكن الأحقاد القرشية هي التي أخّرتك عن مقامك وحرمت الامّة من مواهبك وعبقرياتك.

آفات الشورى :

ولم تكن الشورى العمرية سليمة ، فقد احتفّت بها المؤاخذات والمناقضات من جميع جهاتها ، وخلقت الكثير من المصاعب والفتن كان منها ما يلي :

1 ـ إنّ هذا النظام الذي صمّمه عمر لا يحمل أي طابع من حقيقة الشورى التي لا بدّ من أن تتوفّر فيها الامور التالية :

أ ـ أن تشترك الامّة بجميع شرائحها في الانتخاب.

ب ـ أن لا تتدخّل الحكومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في شئون الانتخاب.

ج ـ أن تتوفّر الحريات العامّة لجميع الناخبين.

وفقدت الشورى العمرية هذه العناصر ، ولم يعدّ لها أي وجود فيها ، فقد حظر عمر على الامّة وعلى الشخصيات البارزة من التدخّل في الانتخاب أمثال المجاهد الكبير عمّار بن ياسر والصحابي العظيم أبي ذرّ ، ومالك الأشتر الزعيم الكبير ، ولم يجعل الأنصار حماة الإسلام أي نصيب في ذلك ، وإنّما فوّض عمر الأمر إلى ستّة أشخاص ، وجعل آراءهم منطق الفصل ، وهذا لون من ألوان التزكية تفرضه بعض الحكومات التي لا تعنى بأي حال بإرادة شعوبها ، ومضافا إلى ذلك فقد أو عز إلى الشرطة بالتدخّل في عمليات الانتخاب ، وعهد إليهم بقتل كلّ شخص من أعضاء الشورى لا يتّفق مع البقيّة منهم.

٢٠٨

كما أنّ عمر قد حدّد مدّة الانتخاب لأعضاء الشورى بثلاثة أيام ، وقد ضيّق بذلك الوقت على الناخبين خوفا أن تتبلور الأوضاع وتتدخّل القطعات الشعبية لانتخاب من يشاؤون فيفوت غرضه.

2 ـ إنّ هذه الشورى قد ضمّت بعض العناصر المعادية للإمام 7 والحاقدة عليه ، ففيها عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية ، وموقف الأمويّين من الإمام معروف وعداؤهم له ظاهر ، وفيها عبد الرحمن بن عوف وهو صهر لعثمان ، وفيها سعد بن أبي وقّاص ، وهو من الحاقدين على الإمام لأنّ أخواله الأمويّون الذين وترهم الإمام ، فإنّ امّه حمنة بنت أبي سفيان ، وسعد حينما بويع الإمام بعد مقتل عثمان تخلّف عن بيعته ، وقد اختار عمر هذه العناصر المنافسة للإمام حتى لا يؤول الأمر إليه ..

وقد تحدّث الإمام عن المؤثّرات التي لعبت في ميدان الانتخاب قال 7 : « لكنّي أسففت إذ أسفّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ».

إنّ هذه الشورى لم يكن المقصود منها ـ حسب ما يراه المحقّقون ـ إلاّ إقصاء الإمام عن الحكم ومنحه للأمويّين. يقول العلائلي :

إنّ تعيين الترشيح في ستّة ، مهّد السبيل لدى الأمويّين لاستغلال الموقف ، وتشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين.

وقد وصل إلى هذه النتيجة السيّد مير علي الهندي قال :

إنّ عدم حرص عمر على مصلحة المسلمين دفعه إلى اختيار هؤلاء الستّة من أهل المدينة من دون أن يتبع سياسة سلفه ، وكان للأمويّين حزب قوي في المدينة ، ومن هنا مهّد اختياره ـ أي عمر ـ السبيل لمكايد الأمويّين ودسائسهم هؤلاء الذين ناصبوا الإسلام العداء ، ثمّ دخلوا فيه وسيلة لسدّ مطامعهم وتشييد صروح مجدهم

٢٠٩

على أكتاف المسلمين (1) .

إنّ أدنى تأمّل في أمر هذه الشورى يوحي بأنّ المقصود منها إبعاد الإمام عن الحكم وتسليمه للأمويّين.

3 ـ إنّ عمر عمد في هذه الشورى إلى إبعاد الأنصار ، فلم يجعل لأي أحد منهم نصيبا فيها ، وهم آووا النبيّ ونصروا الإسلام في أيام محنته وغربته ، وقدّموا أبناءهم قرابين للدعوة الإسلامية ، وقد أوصى بهم النبيّ 6 خيرا ، كما لم يجعل عمر فيها لعمّار وأبي ذرّ ومالك الأشتر وغيرهم من أعلام الإسلام أي نصيب فيها ، وأكبر الظنّ أنّه إنّما أبعدهم لأنّ لهم هوى مع الإمام ، ولهذه الجهة أقصاهم وقصر أعضاء الشورى على العناصر الحاقدة على الإمام.

4 ـ إنّ عمر قد شهد في حقّ أعضاء الشورى أنّ النبيّ 6 مات وهو عنهم راض أو انّه شهد لهم بالجنّة ، فكيف عهد إلى الشرطة بضرب أعناقهم إن تخلّفوا عن انتخاب أحدهم ، ويقول الناقدون لهذه الشورى إنّه كيف ساغ لعمر الأمر بقتلهم إن تخلّفوا عن الانتخاب مع العلم أنّ الإسلام بصورة جازمة حرّم إراقة الدماء وأوجب التحرّج فيها إلاّ في مواضع مخصوصة ذكرها الفقهاء وهذا ليس منها.

5 ـ إنّ عمر إنّما قصر أعضاء الشورى على ستّة بحجّة أنّ رسول الله 6 مات وهو عنهم راض ، وذلك لا يصلح دليلا على حصر أعضاء الشورى فيهم ؛ لأنّ رسول الله 6 مات وهو راض عن كثير من صحابته ، فتقديم هؤلاء عليهم إنّما هو من باب الترجيح بلا مرجّح وهو ممّا يتّسم بالقبح ـ كما يقول علماء الاصول.

6 ـ إنّ عمر جعل الترجيح في الانتخاب إلى الجهة التي تضمّ عبد الرحمن بن عوف ، وقدّمها على الجهة التي تضمّ الإمام أمير المؤمنين 7 ، وهو تحيّز ظاهر

__________________

(1) الإمام الحسين 7 1 : 267.

٢١٠

لا خفاء فيه إلى القوى القرشية الحاقدة على الإمام 7 .

كما أنّا لا نعلم أنّ أي ميزة اختصّ بها عبد الرحمن حتّى يستحقّ هذا التكريم والتبجيل ، وهو وطلحة والزبير قد استأثروا بأموال المسلمين وفيئهم ، وملكوا من الثراء العريض ما لا يحصى ، حتى تحيّروا في صرفه وإنفاقه ، وقد ترك ابن عوف من الذهب ما يكسّر بالفؤوس لكثرته وضخامته ، ومن المعلوم أنّ هذا الثراء العريض قد اختلسه هو وأمثاله من الرأسماليّين من فيء المسلمين.

وعلى أي حال أمثل عبد الرحمن يقدّم على الإمام أمير المؤمنين ، وهو صاحب المواقف المشهودة في نصرة الإسلام ، مضافا إلى مواهبه وعبقرياته وتنكّره للمحسوبيات والمصالح الخاصّة وشدّة تحرّجه في الدين ، والله تعالى يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ؟

7 ـ إنّ هذه الشورى أوجدت التنافس بين أعضائها وأشاعت الاختلاف والفرقة بينهم ، فعبد الرحمن بن عوف هو الذي قلّد عثمان الخلافة إلاّ أنّه لمّا ضاعت آماله ولم يحقّق أي شيء من مصالحه في حكومة عثمان أخذ يؤلّب عليه ، ودعا الإمام أمير المؤمنين ليحمل كلّ منهما سيفه ليناجزه ، وأوصى أولياءه بعد موته أن لا يصلّي عليه عثمان ، وكذلك كان الزبير شيعة للإمام 7 ، وهو الذي وقف إلى جانبه يوم السقيفة ، وقد قال في أيام عمر : والله! لو مات عمر بايعت عليّا ، ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح ، فرأى نفسه ندّا للإمام ففارقه بعد أن صارت الخلافة إليه ، وخرج عليه يوم الجمل.

وقد أدّى التنازع والتخاصم بين أعضاء الشورى وغيرهم إلى تصديع كلمة المسلمين وتشتيت شملهم ، وقد التفت إلى ذلك معاوية بن أبي سفيان ، فقد قال لأبي الحصين الذي أوفده زياد لمقابلته :

بلغني أنّ عندك ذهنا وعقلا ، فاخبرني عن شيء أسألك عنه.

٢١١

سلني عمّا بدا لك.

أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملئهم وخالف بينهم؟

قتل الناس عثمان.

ما صنعت شيئا ...

مسير عليّ إليك وقتاله إيّاك ...

ما صنعت شيئا.

مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم ...

ما صنعت شيئا ...

ما عندي غير هذا ...

أنا اخبرك ، إنّه لم يشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستّة نفر ، وذلك أنّ الله بعث محمّدا بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ، فعمل بما أمره الله به ، ثمّ قبضه الله إليه ، وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله 6 لأمر دينهم ، فعمل بسنّة رسول الله وسار بسيرته حتى قبضه الله واستخلف عمر ، فعمل بمثل سيرته ، ثمّ جعلها شورى بين ستّة نفر ، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلّعت إلى ذلك نفسه ، ولو أنّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف (1) .

إنّ عمر مهّد الطريق لعثمان واستخلفه على المسلمين بأسلوب بارع وسافر ، والشورى إنّما هي طريق لهذه الغاية ، ولكنّها أشاعت الأطماع والأهواء السياسية ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم.

__________________

(1) العقد الفريد 3 : 73 ـ 74.

٢١٢

هذه بعض آفات الشورى وهي ـ بصورة جازمة غير خاضعة للأهواء والعواطف المذهبية ـ هي التي مهّدت الطريق للطلقاء وأبنائهم للاستيلاء على السلطة والقبض على زمام الحكم ، وإبعاد القوى الإسلامية عن الحياة السياسية ، الأمر الذي نجم منه نهب ثروات الامّة وإذلال الأخيار والتنكيل بعترة النبيّ 6 .

عملية الانتخاب :

ولمّا مضى عمر لربّه ، وواروه في مقرّه الأخير أحاط الشرطة بأعضاء الشورى ، وألزموهم بالاجتماع واختيار شخص منهم ليتولّى شئون المسلمين تنفيذا لوصية عمر.

واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة ، وأشرف على عملية الانتخاب الإمام الحسن وعبد الله بن عبّاس ، وبادر المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص فجلسا في عتبة الباب فنهرهما سعد بن أبي وقّاص وقال لهما : تريدان أن تقولا حضرنا وكنّا في أهل الشورى.

وتداول الأعضاء فيما بينهم الحديث عمّن هو أحقّ بالخلافة وولاية أمر المسلمين ، وانبرى الإمام أمير المؤمنين فحذّرهم مغبة ما يحدث من الفتن والفساد إن استجابوا لعواطفهم ولم يؤثروا مصلحة الامّة قائلا :

لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم. فاسمعوا قولي ، وعوا منطقي ؛ عسى أن تروا هذا الأمر ـ أي الخلافة ـ من بعد هذا اليوم تنتضى فيه السّيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمّة لأهل الضّلالة ، وشيعة لأهل الجهالة.

ولم يستجيبوا لدعوة الإمام ولم يعوا منطقه ، وانسابوا وراء رغباتهم تسيّرهم القوى القرشية المحيطة بهم ، والتي تريد انتخاب من يضمن مصالحها ويحقّق نفوذها غير حافلين بمصلحة الامّة.

٢١٣

وعلى أي حال فقد عمّ الجدل بين أعضاء الشورى ، ولم ينتهوا إلى غاية مريحة ، وجماهير الشعب كانت تنتظر بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة وعقد الاجتماع مرّة أخرى إلاّ أنّه باء بالفشل ، وأشرف على أعضاء الشورى أبو طلحة الأنصاري ، فأخذ يتهدّدهم ويتوعّدهم قائلا : لا والّذي نفس عمر بيده لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي امرتم ...

واقترب اليوم الثالث الذي عيّنه عمر ، فانعقد الاجتماع ، فانبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان ، وإنّما فعل ذلك لأنّه كان حاقدا على الإمام بسبب منافسته لابن عمّه أبي بكر على الخلافة ، واندفع الزبير فوهب صوته للإمام 7 ، وانطلق سعد فوهب حقّه لعبد الرحمن بن عوف ...

وكان رأي عبد الرحمن هو الفيصل والحاسم لأنّ عمر قد وضع ثقته به وأناط به أمر الشورى ، إلاّ أنّه كان ضعيف الإرادة لا قدرة له على إرادة شئون الحكم ، فأجمع رأيه على ترشيح غيره للخلافة ، وكان له هوى مع عثمان لأنّه صهره ، وقد أشار عليه عامّة القرشيّين في انتخابه ، وزهّدوه في الإمام 7 لأنّه الوحيد الذي وترهم في سبيل الإسلام.

وحلّت الساعة الرهيبة التي لم يخضع فيها ابن عوف لمصلحة المسلمين ، واتّبع هوى القرشيّين الذين ناهضوا الإسلام في جميع مراحله.

والتفت ابن عوف إلى ابن اخته مسوّر فقال له :

يا مسوّر ، اذهب فادع عليّا وعثمان.

بأيّهما أبدأ؟

بأيّهما شئت.

ومضى مسوّر مسرعا فدعا عليّا وعثمان ، وازدحم المهاجرون من قريش والأنصار وسائر الناس ، فعرض عليهم الأمر وقال لهم :

٢١٤

أيّها الناس ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم ، فأشيروا عليّ؟

وتقدّم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يرضي الله ورسوله ، ويضمن للامّة سلامتها فقال له :

إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّا ..

وانبرى المقداد فأيّد مقالة عمّار قائلا :

صدق عمّار ، إن بايعت عليّا سمعنا وأطعنا ...

واندفعت القوى القرشية الحاقدة على الإسلام فشجبت مقالة عمّار والمقداد ودعت إلى ترشيح عثمان عميد الاسرة الأموية المعادية للإسلام ، وقد رفع عبد الله بن أبي سرح صوته مخاطبا بن عوف :

إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ..

وأيّده عبد الله بن أبي ربيعة قائلا :

إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ...

وردّ عليهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر قائلا :

متى كنت تنصح للمسلمين؟

وصدق عمّار ، متى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو الذي كفر بجميع قيم الإسلام وكان جاهليّا بجميع مراحل حياته ، وهو من أشدّ الأعداء إلى رسول الله 6 ، وقد أمر بقتله ، ولو كان متعلّقا بأستار الكعبة (1) .

انّه لو كان هناك أي منطق سائدا لأقصي هذا الدعي وسائر القبائل القرشية من التدخّل في شئون المسلمين ؛ لأنّها هي التي ناجزت النبيّ 6 وحرّضت عليه

__________________

(1) الاستيعاب 2 : 375.

٢١٥

القبائل وصمّمت على قتله ، ففر منهم في غلس الليل تاركا وصيّه وابن عمّه في فراشه ، وبعد ما هاجر منهم إلى يثرب خفّوا بجيوشهم إلى قتاله ، فكيف يسمح لهم بالتدخل في شئون المسلمين؟ إنّ الحكم والرأي يجب أن يكون بيد أمثال عمّار وأبي ذرّ ومالك الأشتر والأنصار ، وغيرهم يكونون في ذيل القافلة.

وعلى أي حال فقد احتدم الجدال بين الهاشميّين وأنصارهم ، وبين الأمويّين وأتباعهم ، فانبرى عمّار بن ياسر يدعوهم إلى الصالح العامّ قائلا :

أيّها الناس ، إنّ الله أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه ، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم؟ ...

فانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلا :

لقد عدوت طورك يا ابن سميّة ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟ ...

إنّ هذا الجاهلي يرى عمّارا قد تعدّى طوره ؛ لأنّه تدخّل في شئون قريش التي أناطت بهم الشورى العمرية شئون المسلمين.

إنّ عمّارا وأباه ياسرا وامّه سميّة ممّن يعتزّ بهم الإسلام ويفخر بنضالهم وجهادهم ، فهم الطليعة الاولى التي ساهمت في بناء الإسلام وأقامت صروحه إنّ أمر الخلافة يجب أن يكون بيد عمار وغيره من الضعفاء الذين أعزّهم الله بدينه ، وليس للقرشيّين وغيرهم من الطغاة أي حقّ في التدخّل في شئون المسلمين لو كان هناك منطق أو حساب.

وعلى أيّ حال فقد احتدم النزاع بين المسلمين والقرشيّين ، فخاف سعد أن يفوت الأمر وتفوز الجبهة الموالية للإمام ، فالتفت إلى ابن عمّه عبد الرحمن فقال له :

يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.

والتفت ابن عوف إلى الإمام قائلا :

هل أنت مبايعي على كتاب الله ، وسنّة نبيّه ، وفعل أبي بكر وعمر؟

٢١٦

ورمقه الإمام بطرفه فأجابه بمنطق الإسلام ومنطق الأحرار :

« بل على كتاب الله ، وسنّة نبيّه ، واجتهاد رأيي ».

إنّ مصدر التشريع في الإسلام إنّما هو كتاب الله وسنّة نبيّه ، وعليهما يجب أن تسير الدولة ، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع ، بالاضافة إلى أنّ عمر قد خالف أبا بكر في سياسته المالية ، وأوجد نظام الطبقية ، فقدّم بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وحرّم المتعتين ؛ متعة الحجّ ومتعة النساء ، وكانتا مشروعتين في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر ، فعلى أيّ المنهجين يسير ابن أبي طالب؟

إنّ ابن عوف إنّما شرط عليه ذلك لعلمه أنّ الإمام لا يستجيب له ، وأنّه لو تقلّد الخلافة لساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص والحقّ المحض ، ولم يمنح الاسر القرشية أي امتياز ، وساوى بينهم وبين المسلمين.

إنّ امتناع الإمام من إجابة عبد الرحمن تدلّ على مدى واقعيّته ؛ فإنّه لو كان من هواة الملك وعشّاق السلطان لأجابه إلى ذلك ، ثمّ يسلك في سياسته حسب ما يراه ، فإن عارضه ابن عوف بعد ذلك فيلقيه في السجون.

وعلى أيّ حال ، فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من الإمام التفت إلى عثمان زعيم الأمويّين فشرط عليه ذلك فأجابه بلا تردّد ، وفيما أحسب أنّ هناك اتّفاقا سرّيا على ذلك لحرمان الامّة من حكم الإمام ويرى بعض المؤرّخين من الافرنج أنّ عبد الرحمن استعمل طريقة الانتهازية والخداع ولم يترك الانتخاب يجري حرّا.

وبادر ابن عوف بعد أن استجاب له عثمان فصفق بكفّه على يديه ، وقال له :

اللهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان ....

ووقعت بيعة عثمان كصاعقة على القوى الخيّرة التي جهدت على أن تسود كلمة الله في الأرض ، و راح الإمام يندّد بابن عوف قائلا :

« والله! ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما ـ لعلّه يعني أبا بكر

٢١٧

وعمر ـ من صاحبه دقّ الله بينكما عطر منشم (1) ».

إنّ عبد الرحمن إنّما انتخب عثمان من أجل أطماعه السياسة راجيا أن يكون خليفة من بعده ، و وجّه الإمام خطابه للقرشيّين قائلا :

« ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ».

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده قائلا :

يا عليّ ، لا تجعل على نفسك سبيلا ...

و غادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول :

« سيبلغ الكتاب أجله ».

والتاع عمّار فخاطب ابن عوف قائلا :

يا عبد الرحمن! أما والله! لقد تركته ، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون.

وذابت نفس المقداد أسى وحزنا وراح يقول :

تالله! ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، واعجبا لقريش ، لقد تركت رجلا ما أقول ولا أعلم أنّ أحدا أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه ، أما لو أجد أعوانا ...

وقطع عليه عبد الرحمن كلامه ، وراح يحذّره من الفتنة قائلا :

__________________

(1) منشم : اسم امرأة بمكّة كانت عطّارة ، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها ، فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم فكان يقال : اشأم من عطر منشم ، جاء ذلك في صحاح الجوهري 25 : 2041. وقد استجاب الله دعاء الإمام فكانت بين عبد الرحمن وعثمان أشدّ المنافرة والخصومة ، وقد أوصى أن لا يصلّي عليه عثمان بعد موته.

٢١٨

اتّق الله يا مقداد! فإنّي أخاف عليك الفتنة (1) .

وهكذا تغلّبت قريش على سائر القوى الخيّرة التي أرادت إرجاع الحقّ إلى أهله ومعدنه ، وهم أهل بيت النبوّة ومعدن الحكمة ، الذين ساهموا في بناء الإسلام ، وقام على أكتافهم ، واستشهد أعلامهم أمثال الشهيد الخالد جعفر الطيّار وحمزة وعبيدة وغيرهم ، كما قام بجهود الإمام أمير المؤمنين وجهاده.

وعلى أيّ حال فقد انتهت مأساة الشورى التي صمّمت لإقصاء الإمام عن الحكم ، وقد أخلدت للمسلمين الفتن وألقتهم في شرّ عظيم.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 194.

٢١٩

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287