موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام13%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147642 / تحميل: 5361
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

حكومة عثمان

٢٢١

٢٢٢

واستقبلت القوى الخيّرة خلافة عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب ، فقد اعتبرت فوزه في الحكم فوزا لاسرة الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين ، ويرى « دوزي » أنّ انتصار الأمويّين إنّما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للإسلام (١) .

لقد خاف المسلمون على دينهم ، وخافوا على دولتهم من الأمويّين ، وتحقّق ما خافوا منه ، فإنّه لم يمض قليل من الوقت حتى استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة ، وسخّروا الاقتصاد العامّ لمصالحهم حتى عمّ الفقر وسادت الفوضى في جميع أنحاء البلاد.

إنّ عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين احتفّ به الأمويّون واخوانهم القرشيّون ، وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد النبيّ ٦ ، وقد علت أصواتهم بالدعم الكامل لحكومته ، والهتاف بحياته ، واعتلى عثمان المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ٦ ، ولم يجلس في المكان الذي كان يجلس فيه أبو بكر وعمر ، وارتاب بعض الحاضرين ، فقالوا : اليوم ولد الشرّ (٢) .

واتّجه المجتمع ليسمع ما يدلي به عثمان ، وما يفتح به مناهجه السياسية ، فارتجّ عليه ولم يدر ما يقول ، وجهد نفسه فألقى هذه الكلمات المتقطّعة المضطربة.

__________________

(١) تاريخ الشعر العربيّ : ٢٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. البداية والنهاية ٧ : ١٤٨.

٢٢٣

« أمّا بعد ، فإن أوّل مركب صعب ، وما كنّا خطباء ، وسيعلم الله ، وأنّ امراء ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت ، لموعوظ » ، ثمّ نزل عن المنبر وهو وجل (١) ، وأنت ترى أنّه ليس بين هذه الكلمات أي ربط أو اتّصال ، وإنّما كانت متنافرة في اسلوبها الأمر الذي دعا الحاضرين ليهزءوا به ويسخروا منه ، وكان ذلك من آفات الشورى التي امتحن بها المسلمون ، فقد أقصت أمير البيان ورائد الحكمة والعدالة في دنيا الإسلام وفرضت عثمان حاكما على المسلمين.

مظاهر شخصيّته :

ولا بدّ لنا من التحدّث عن مظاهر شخصيّة عثمان التي هي المقياس في نجاح أي حاكم أو فشله في الميادين السياسية والاجتماعية وهذه بعضها :

أوّلا ـ ضعف الإرادة :

كان عثمان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ضعيف الإرادة ، خائر العزيمة ، ولم تكن له أيّة قدرة على مواجهة الأحداث والتغلّب عليها ، فقد استولى عليه الأمويّون وسيطروا على جميع شئونه ، ولم يستطع أن يقف موقفا إيجابيا ضدّ رغباتهم وأهوائهم ، ووصفه بعض الكتّاب المحدثين بأنّه كالميّت في يد الغاسل لا حول له ولا قوّة.

وكان الذي يدير شئون دولته مروان بن الحكم ، فهو الذي يعطي ويمنع ويتصرّف حسب ما يشاء ، ولا رأي لعثمان ولا اختيار له ، وقد قبض على الدولة بيد من حديد ، يقول ابن أبي الحديد :

إنّ الخليفة في الحقيقة والواقع إنّما كان مروان ، وعثمان له اسم الخلافة.

__________________

(١) الموفّقيات : ٢٠٢.

٢٢٤

وأراد بعض المؤرّخين أن يدافع عن عثمان فقال : إنّه كان شديد الرأفة والرقّة واللين والتسامح. نعم ، إنّه كذلك ، ولكن مع أرحامه وأسرته ، أمّا مع الجبهة المعارضة لسياسته فقد اتّسم بالشدّة والغلظة معهم ، فقد نفى المصلح العظيم أبا ذرّ إلى الشام ، ثمّ إلى الربذة ، وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها ، وقد انعدمت في هذه البقعة جميع وسائل الحياة حتى مات جائعا غريبا وفي يد عثمان ذهب الأرض ينفقه بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط. كما نكل بالطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر صاحب رسول الله ٦ فأمر بضربه حتى أصابه فتق ، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه ، كما نكّل بعبد الله بن مسعود القارئ الكبير فقد ألهبت جسمه سياط شرطته وهشّموا أضلاعه وحرّم عليه العطاء ، وهكذا كانت معاملته مع الناقمين لسياسته ، أمّا المؤيّدون له فقد وهبهم الثراء العريض وأسند لهم المناصب الحسّاسة في الدولة وحملهم على رقاب الناس.

ثانيا ـ حبّه العارم للأمويّين :

من النزعات التي اشتهر بها عثمان هو أنّه كان عظيم الحبّ والولاء لاسرته ، حتى تمنّى أن تكون مفاتيح الجنّة بيده ليهبها لبني أميّة ، ولمّا تقلّد زمام الدولة آثرهم بالفيء ، ووهبهم الملايين ، وجعلهم ولاة على الأقطار والأمصار الإسلامية ، وكانت تتواتر إليه الأخبار أنّهم جانبوا الحقّ وأشاعوا الفساد في الأرض فلم يحفل بذلك ، ولم يجر معهم أي لون من التحقيق الأمر الذي أدّى إلى النقمة عليه ، وسنتعرّف على ذلك في البحوث الآتية.

ثالثا ـ ميله إلى الترف :

وكان عثمان شديد الميل إلى الترف والبذخ ، فاتّخذ القصور ، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال ، وأحاط نفسه بالثراء العريض ، ووصفه الإمام ٧ بقوله :

٢٢٥

« نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه » ، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه.

رابعا ـ مصانعة الوجوه :

ومن نزعاته مصانعة الوجوه والأشراف ، وإن أدّى ذلك إلى إهمال الأحكام الشرعية ، وكان من ذلك ما ذكره المؤرّخون أنّ أبا لؤلؤة لمّا اغتال عمر قام ولده عبيد الله فقتل الهرمزان صديق أبي لؤلؤة ، وقتل جفينة وابنة أبي لؤلؤة ، وهو قتل متعمّد بغير حقّ ، فأقفل عثمان سير التحقيق مع عبيد الله وأصدر عفوا عنه ممالأة لاسرة عمر ، وقد قوبل هذا الإجراء بمزيد من الانكار ، فقد أنكر عليه الإمام وطالبه بالقود من ابن عمر ، وكذلك طالبه المقداد فلم يعن عثمان بذلك ، وكان زياد بن لبيد إذ لقي عبيد الله بن عمر خاطبه بهذه الأبيات :

ألا يا عبيد الله! مالك مهرب

ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دما والله! في غير حلّه

حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل

أتتّهمون الهرمزان على عمر؟

فقال سفيه ـ والحوادث جمّة ـ:

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمر!

وكان سلاح العبد في جوف بيته

يقلّبها والأمر بالأمر يعتبر

وشكا عبيد الله إلى عثمان ما قاله زياد فيه ، فدعاه عثمان ونهاه عن ذلك إلاّ أنّه لم ينته ، وتناول عثمان بالنقد فقال فيه :

أبا عمرو عبيد الله رهن

ـ فلا تشكك ـ بقتل الهرمزان

فإنّك إن غفرت الجرم عنه

وأسباب الخطا فرسا رهان

أتعفو إذ عفوت بغير حقّ

فما لك بالذي تحكى يدان

وغضب عثمان من زياد وحذّره العقوبة حتى انتهى (١) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١.

٢٢٦

وأمر عثمان بإخراج عبيد الله إلى الكوفة ، وأقطعه بها أرضا واسعة ، فنسبت إليه ، وقيل ( كوفية ابن عمر ) ، وكانت هذه الحادثة من الأسباب التي أدّت إلى نقمة المسلمين عليه.

ولاته وعمّاله :

وفرض عثمان اسرته وذوي قرباه من بني أميّة وآل أبي معيط ولاة وحكّاما على المسلمين ، يقول المقريزي :

« وجعل عثمان بني أميّة أوتاد خلافته » ، مع العلم أنّه لم تتوفّر في أي واحد القابلية لتحمّل المسئولية وإدارة دفّة الحكم ، مع أنّ الكثيرين منهم ليس لهم معرفة بأحكام الإسلام ، كما لم تكن لهم حريجة في الدين ، فكيف يجعلون ولاة وحكّاما على المسلمين؟

ويرى السيّد مير علي أنّ المسلمين تذمّروا من استبداد الحكّام واغتصابهم الأموال (١) ، وكان من ولاته أبو موسى الأشعري ، فسمح لأحد عمّاله بالتجارة في أقوات أهل العراق (٢) .

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى بعض عمّاله الذين عانى منهم المسلمون الجهد والبلاء ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ عبد الله بن عامر :

عبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان ، وقد ولاّه إمارة البصرة بعد أن عزل منها أبا موسى الأشعري ، وكان ولاجا خرّاجا (٣) ، وهو أوّل من لبس الخزّ

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب : ٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨.

٢٢٧

في البصرة ، وقد لبس جبّة دكناء ، فقال الناس : لبس الأمير جلد دبّ ، فغيّر لباسه ولبس جبّة حمراء (١) .

وقد نقم الناس من سياسته وسوء تصرّفاته ، وعابوا على عثمان ولايته له ، وخفّ إلى يثرب عامر بن عبد الله موفدا من قبل أهل البصرة يطالب عثمان بالاستقامة في سلوكه فقال له :

إنّ اناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتّق الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها ...

فاحتقره عثمان وأعرض عنه ، وقال لمن حوله :

انظروا إلى هذا ، فإنّ الناس يزعمون انّه قارىء ، ثمّ هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات ، فو الله! ما يدري أين الله؟ ...

ولم يكلّمه عامر إلاّ بتقوى الله وطاعته ، وإيثار مصلحة المسلمين ، فهل هذه الامور من المحقّرات؟

والتفت إليه عامر فقال له :

أنا لا أدرى أين الله ...

نعم.

إنّي لأدري انّ الله بالمرصاد ...

وغضب عثمان ، فعقد مؤتمرا من مستشاريه ، وعرض عليهم انتقاد المعارضين لسياسته ، فأشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر أن يتّخذ معهم الاجراءات الصارمة قائلا :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ : ١٩٢.

٢٢٨

رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته ..

وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك ، إلاّ أنّه استجاب لرأي ابن خاله ، وأو عز إلى عمّاله بالتضييق على الجبهة المعارضة ، ومقابلتهم بالشدّة والعنف ، فاستجاب له ، وطبّق ما أشار عليه ، فقد أمر عمّاله بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على حرمانهم من العطاء حتى يشيع الفقر فيهم والبؤس ، فيضطروا إلى طاعته (١) .

ولمّا قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور بأنّه خالف المسلمين في امور قد أحلّها الله كان منها :

١ ـ أنّه لا يأكل اللحم.

٢ ـ لا يشهد الجمعة.

٣ ـ لا يرى مشروعية الزواج (٢) .

ودوّنت شهادتهم ، ورفعها إلى عثمان ، فأمره بنفيه إلى الشام ، وحمله على قتب حتى يشق عليه السفر ، ولمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية ( الخضراء ) ، وبعث إليه بجارية تكون عينا عليه ، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّدا ، ويخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يتناول كسرا من الخبز ويجعلها في الماء تحرّجا من أن يدخل جوفه شيء من الحرام ، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه ، فكتب إلى عثمان بأمره (٣) ، وقد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٩٤. تاريخ ابن خلدون ٢ : ٣٩.

(٢) الفتنة الكبرى ١ : ١١٦.

(٣) الاصابة ٣ : ٨٥.

٢٢٩

نقم الأخيار والمتحرّجون في دينهم على عثمان لما اقترفه في شأن هذا العبد الصالح.

وعلى أي حال فقد ظلّ عبد الله بن عامر واليا على البصرة لم يتحرّج من إثم وبغي ، ولمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكّة ، فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضمّ إليهم ، وأمدّهم بالأموال التي نهبها ليستعينوا بها على حرب الإمام أمير المؤمنين ، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة (١) .

إنّ هذا الذئب الجاهلي من ولاة عثمان ومن المقرّبين إليه ، وقد أسند إليه ولاية هذا القطر المهمّ.

٢ ـ الوليد بن عقبة :

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقّاص الزهري ، فعزله عثمان وولّى عليها الوليد بن عقبة ، وهو ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ من فسّاق بني أميّة ، ومن أكثرهم مجونا ، وقد أخبر النبيّ ٦ أنّه من أهل النار (٢) ، وكان أبوه عقبة من ألدّ أعداء النبيّ ٦ ، فكان يأتي بالروث ويطرحه على بابه (٣) ، وهو الذي بصق بوجه النبيّ ، فهدّده بأنّه إن وجده خارجا من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه ، ولمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج ، فأصرّ عليه أصحابه فأخبرهم بخوفه من النبيّ ، فأغروه وخدعوه وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه ، فاستجاب لهم ، وخرج لحرب النبيّ ، فلمّا هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض ، فأخذه المسلمون وجاءوا به أسيرا ، فأمر النبيّ عليّا بضرب عنقه ، فقام إليه وقتله (٤) ،

__________________

(١) اسد الغاية ٣ : ١٩٢.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٣.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ١٨٦.

(٤) الغدير ٨ : ٢٧٣.

٢٣٠

وقد أترعت نفس الوليد بالحقد والعداء للنبيّ وللإمام لأنّهما قد وتراه بأبيه ، وقد أسلم الوليد مع من أسلم من كفّار قريش خوفا من حدّ السيف.

وقد انزلت في ذمّه آيتان في فسقه وذمّه وهما :

الاولى : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١) ، وكان سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ ٦ أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة منهم ، فعاد إليه وأخبره بأنّهم منعوه منها ، فخرج إليهم النبيّ ٦ فتبيّن له كذبه ، ونزلت الآية في فسقه.

الثانية : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (٢) ، وكان السبب في نزولها أنّه جرت بين الوليد وبين الإمام مشادّة ، فقال الوليد للإمام :

اسكت فإنّك صبي وأنا شيخ ، والله! إنّي أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة.

فردّ عليه الإمام قائلا :

« اسكت فإنّك فاسق ».

فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية ، ونظم هذه الحادثة حسّان بن ثابت بقوله :

أنزل الله والكتاب عزيز

في عليّ وفي الوليد قرانا

فتبوّا الوليد من ذاك فسقا

وعليّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف الله

كمن كان فاسقا خوّانا

فعليّ يلقى لدى الله عزّا

ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا

وعليّ لا شكّ يجزى جنانا (٣)

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) السجدة : ١٨.

(٣) تذكرة الخواص : ١١٥.

٢٣١

ولمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهارا ، وقد دخل القصر وهو ثمل يتمثّل بأبيات تأبط شرّا :

ولست بعيدا عن مدام وقينة

ولا بصفا صلد عن الخير معزل

ولكن أروى من الخمر هامتي

وأمشي الملا بالساحب المتسلسل (١)

ومن مجونه أنّه كان يفيق لياليه سكران مع المغنّين حتى الصباح ، وكان نديمه أبو زيد الطائي من نصارى تغلب ، وقد أنزله دارا له على باب المسجد ، ثمّ وهبها له ، وكان الطائي يشقّ صفوف المصلّين في الجامع حتى ينتهي إليه وهو سكران (٢) .

وكان من إدمانه على الخمر أنّه شربها فصلّى بالناس صلاة الصبح وهو ثمل أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاء الخمر في المحراب وسلّم ، والتفت إلى المصلّين خلفه وقال : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فروة نعله وضرب بها وجهه ، وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو ثمل (٣) مترنّح ، وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالغدر

نادى وقد تمّت صلاتهم

أأزيدكم ثملا ولا يدري

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا

منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا

لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك إذ جريت ولو

خلوا عنانك لم تزل تجري (٤)

__________________

(١) الأخبار الطوال : ١٥٦.

(٢) الأغاني ٥ : ١٢٢. العقد الفريد ٦ : ٣٤٨.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٣١٤.

(٤) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٢

أرأيتم هذه السخرية اللاذعة والاستهزاء السافر بأحد ولاة عثمان؟

وقال الحطيئة في ذمّه وهجائه مرّة أخرى :

تكلّم في الصلاة وزاد فيها

علانية وجاهر بالنفاق

ومجّ الخمر عن سنن المصلّي

ونادى والجميع إلى افتراق

أأزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاق (١)

وأسرع جماعة من خيار الكوفة إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه أنّ الوليد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم بعنف :

ما يدريكم انّه شرب الخمر؟

هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية.

وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، فغضب عثمان ، ودفع في صدورهم وقابلهم بأخبث القول وأقساه ، وخرجوا منه وهم يتميّزون من الغيظ ، واتّجهوا صوب الإمام وأخبروه بما جرى لهم مع عثمان ، فانبرى إلى عثمان وقال له :

« دفعت الشّهود وأبطلت الحدود ».

وخاف عثمان من عواقب الامور ، فقال للإمام :

ما ترى؟

« أرى أن تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشّهادة في وجهه ولم يدل بحجّة أقمت عليه الحدّ ».

ولم يجد عثمان بدّا من امتثال أمر الإمام ، فكتب إلى الوليد يأمره بالحضور

__________________

(١) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٣

إلى يثرب ، ولمّا انتهت إليه رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب ولمّا مثل أمام عثمان دعا بالشهود ، فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأيّة حجّة ، وقد خضع بذلك لإقامة الحدّ ، ولم ينبر أحد لإقامة الحدّ عليه خوفا من عثمان ، فقام الإمام ٧ ودنا منه فسبّه الوليد وقال له : يا صاحب مكس (١) ، وقام إليه عقيل فردّ عليه سبّه ، وضرب الإمام به الأرض وعلاه بالسوط ، وعثمان يتميّز غيظا ، فصاح بالإمام :

ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الإمام بمنطق الشرع :

« بلى ، وشرّ من هذا إذا فسق ، ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه » (٢) .

وعلّق العلاّمة العلا يلي على هذه البادرة بقوله :

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديرا غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة ، تضع بين أيدينا صورة عن الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون ، والاغضاء في واقعة دينية ، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل من يغار عليها ، وإلاّ هدّد مكانه وافسح المجال للناس للنقد والتجريح ، وبالأخصّ حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذن ، فهذه المبالغة في الاغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها ـ إن كانت ـ بل إلى الحزبية حتى تتناحر مجتمعة (٣) .

إنّ الوليد بفسقه وفجوره ترك الدعارة واللهو والمجون في الكوفة ، وقد أسّست فيها دور للغناء والطرب ، وانتشر فيها المغنّون ، فكان فيها عبد الله بن هلال

__________________

(١) المكس : النقص والظلم.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٥.

(٣) الإمام الحسين ٧ : ٣٣.

٢٣٤

الذي لقّب بصاحب إبليس (١) ، وحنين الشاعر النصراني (٢) وغيرهما من أعلام الغناء.

٣ ـ عبد الله بن سعد :

ومن ولاة عثمان أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعله واليا على مصر ، وأسند إليه إقامة الصلاة والولاية على الخراج ، وهو فيما أجمع عليه المؤرّخون من أكثر زنادقة قريش عداء للنبيّ ٦ ، وكان يقول مستهزئا به : إنّي أصرفه حيث اريد ، وأحلّ النبيّ ٦ دمه وإن كان متعلّقا بأستار الكعبة ، وقد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكّة أتى به عثمان إلى النبيّ ، فلمّا رآه صمت طويلا ، ثمّ آمنه وعفا عنه ، فلمّا انصرف عثمان التفت النبيّ إلى أصحابه وقال لهم :

« ما صمت إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه ».

فقال له رجل من الأنصار : هلا أومأت إليّ يا رسول الله؟

فقال ٦ : « إنّ النبيّ لا ينبغي له خائنة الأعين » (٣) .

ولمّا ولي عبد الله مصر ساس المصريّين سياسة عنف وكلّفهم فوق ما يطيقون ، وأظهر الكبرياء والجبروت ، فضجروا منه ، فذهب خيارهم إلى عثمان يشكون إليه ، فاستجاب لهم عثمان وأرسل إليه رسالة يستنكر فيها سياسته في القطر ، فلم يستجب لعثمان ، وراح مصرّا على غيّه ، وعمد إلى من شكاه لعثمان فقتله ، وشاع التذمّر وعمّ السخط من جميع الأوساط في مصر ، فتشكّل منهم وفد كبير بلغ عدد أعضائه سبعمائة شخص فخفّوا إلى عثمان ، ولمّا انتهوا إلى يثرب نزلوا في الجامع وشكوا

__________________

(١) الأغاني ٢ : ٣٥١.

(٢) المصدر السابق : ٣٤٩.

(٣) تفسير القرطبي ٧ : ٤٠. سنن أبي داود ٢ : ٢٢٠.

٢٣٥

أميرهم إلى الصحابة ، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي ، وأرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم ، وكلّمه

الإمام أمير المؤمنين ٧ في شأنه قائلا : « إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دما ، فاعزله واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه ».

واستجاب عثمان ـ على كره ـ لنصيحة الإمام ، وقال للقوم : اختاروا رجلا اولّيه عليكم مكانه ، فأشاروا عليه بمحمّد بن أبي بكر ، فكتب إليه عهده ، وبعث معه عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح (١) ، ونزح القوم من المدينة ، فلمّا انتهوا إلى الموضع المعروف بـ ( حمس ) وإذا بقادم من المدينة ، تأمّلوه وإذا هو ورش غلام عثمان ، ففتّشوه وإذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالمصريّين ، وتأمّلوا الكتاب وإذا به بخطّ مروان ، فقفلوا راجعين إلى المدينة وقد صمّموا على قتل عثمان أو خلعه (٢) .

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان :

وأقرّ عثمان معاوية على الشام ، فقد ولاّه عمر عليه ، وزاد عثمان في رقعة سلطانه ، وزاد في نفوذه ، وقد مهّد له الطريق لنقل الخلافة إليه.

يقول الدكتور طه حسين :

وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان ، وتثبيتها في بني أميّة ، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين ، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر ، وأطلق يده في امور الشام أكثر ممّا أطلقها

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٢٥٠.

٢٣٦

عمر ، فلمّا كانت الفتنة فإذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيّته (١) .

وحكى حديث الدكتور الواقع ، فإنّ عثمان هو الذي أمدّ في سلطان معاوية ، وبسط له النفوذ والسعة حتى صار من أقوى الولاة ، وأصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلامية ومن أكثرها ولاء له.

٥ ـ سعيد بن العاص :

وأسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص ، فولاّه هذا القطر العظيم الذي كان حامية للجيوش الإسلامية بعد أن عزل عنه الوليد الذي شرب الخمر وأقام الإمام ٧ عليه الحدّ.

وقد استقبل الكوفيّون ولاية سعيد بكثير من الكراهية ؛ لأنّه كان شابا مترفا متهوّرا لا يتحرّج من اقتراف الإثم والمنكر ، وقد روى المؤرّخون صورا من استهتاره بالقيم الإسلامية والاجتماعية كان منها ما يلي : إنّه طلب من الحاضرين رؤية عيد شهر رمضان المبارك ، فقام إليه الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال فقال له :

أنا رأيته ..

فوجّه إليه كلاما جافيا لا يصدر من إنسان شريف قائلا له : بعينك هذه العوراء رأيته؟ ..

فالتاع هاشم وانبرى يقول :

تعيّرني بعيني ، وإنّما فقئت في سبيل الله ، وكانت عينه قد اصيبت يوم اليرموك.

لقد فقئت عين هذا المجاهد الكبير في واقعة اليرموك ، وقد عيّره بها هذا

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ : ١٢٠.

٢٣٧

الجاهلي الذي لم يتربّ إلاّ على الرذائل والموبقات.

وعلى أي حال فقد أصبح هاشم مفطرا ؛ لأنّه قد رأى الهلال ، وقد جاء عن النبيّ ٦ « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » ، وقد فطر الناس لإفطاره ، فانتهى الخبر إلى سعيد فأرسل خلفه وضربه ضربا موجعا وأمر بإحراق داره ، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الأخيار والمتحرّجون في دينهم ، فقد كان اعتداؤه على علم من أعلام الإسلام بغير حقّ ووجه مشروع إلاّ إرضاء لعواطفه المترعة بالجهل والحقد على رجال الإسلام (١) .

٢ ـ أعلن سعيد أمام الجماهير القول : إنّما السواد ـ يعني سواد الكوفة ـ بستان لقريش وأثار ذلك حفائظ النفوس ، فالسواد ملك للمسلمين وليس للقرشيّين الذين هم خصوم الإسلام وأعداء الرسول أي حقّ فيه وقد اندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر إلى الانكار عليه قائلا :

أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله! لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ...

لقد اتّخذ الحكم الأموي الذي فرض على الامّة بقوّة السيف خيرات الامّة بستانا لقريش التي ناجزت الإسلام وكفرت بجميع قيمه.

وانضمّ قرّاء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر فردّوا على الوالي طيشه وغروره ، وجابهوه بالنقد لمقالته ، وغضب مدير شرطته فردّ عليهم ردّا غليظا ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى اغمي عليه ، وأخذوا يذيعون مساوئ قريش وجرائم بني أميّة وذكر مثالب عثمان ، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بما جرى عليه ، فأمره بنفيهم إلى الشام ، وكتب رسالة إلى معاوية يأمره فيها

__________________

(١) حياة الإمام الحسن بن عليّ ٨ ١ : ٢٤٠.

٢٣٨

باستصلاحهم. ولم يرتكب هؤلاء الأخيار إثما أو يحدثوا فسادا في الأرض حتى يستحقّوا النفي من وطنهم ، وإنّما نقدوا أميرهم لأنّه قال غير الحقّ ، وشذّ عن الطريق القويم. ومن المؤكّد أنّ الإسلام قد منح الحرية التامّة للمواطنين ، فلهم أن ينقدوا الحكّام والمسئولين إذا شذّوا في سلوكهم وابتعدوا عن الحقّ.

وعلى أي حال فقد قامت السلطة بإخراج القوم بالعنف عن أوطانهم ، وأرسلتهم مخفورين إلى الشام ، فتلقّاهم معاوية وأنزلهم في كنيسة ، وأجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويحبّذ لهم الغضّ عمّا تقترفه السلطة من أعمال إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له وأنكروا عليه وعلى سعيد الذي قال : إنّما السواد بستان قريش.

ولمّا يئس معاوية منهم كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره بردّهم إلى الكوفة ، فلمّا عادوا إليها انطلقت ألسنتهم بنقد أمير الكوفة وذكر مثالب الأمويّين ، ورفع سعيد ثانيا أمرهم إلى عثمان ، فأمره بنفيهم إلى حمص والجزيرة ، فأخرجهم سعيد بعنف ، فلمّا انتهوا إلى حمص قابلهم وإليها بشدّة وعنف ، وسامهم سوء العذاب ، ويقول الرواة : إنّه إذا ركب أمر بهم بالسير حول ركابه مبالغة في إذلالهم والاستهانة بهم ، ولمّا رأوا ذلك أظهروا له الطاعة والاذعان لسلطانه ، وكتب لعثمان بذلك ، فأمره بردّهم إلى الكوفة ، وأخرجهم من حمص ، ومضوا يجدّون في سيرهم ، وجعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان ، وعرض ما عانوه من عمّاله من صنوف التعذيب والارهاق ، وتوجّهوا صوب المدينة ، فلمّا انتهوا إليها رأوا سعيدا قد أقبل من الكوفة في مهمّة رسمية ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه ما لا لاقوه من سعيد ، وسألوه عزله ، وفاجأهم سعيد فرآهم عند عثمان وهم يشكونه ، فأعرض عنهم عثمان وألزمهم بطاعته والانصياع لأوامره.

وقفل القوم راجعين إلى الكوفة ، وأقسموا أن لا يدخلها سعيد ، وقاموا

٢٣٩

باحتلال مركزه ، وخرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتى انتهوا إلى ( الجرعة ) ، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة ، وأقبل سعيد فقاموا بوجهه وعنّفوه أشدّ العنف ومنعوه من الدخول إلى مصرهم ، فولّى منهزما إلى عثمان يشكوهم إليه ، ولم يجد عثمان بدّا في عزله وتولية غيره مكانه (١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ولاة عثمان من الأمويّين ، وقد منحهم هذه المناصب العليا تقوية لنفوذهم ، وبسطا لسلطانهم ، وحملهم على رقاب المسلمين ، يقول السيّد مير علي الهندي :

وكان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين ، وقد تعلّقوا بالولايات كالثعبان الجائعة ، فجعلوا ينهشونها ويكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم (٢) .

وعلى أي حال فإنّ من الأسباب المهمّة التي أدّت إلى قتل عثمان سيرة ولاته وعمّاله الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

سياسته الاقتصادية :

ولم تكن لعثمان سياسة اقتصادية واضحة المعالم ، وإنّما انتهج سياسة عمر وسار عليها (٣) ، وهي ممالأة الأشراف والوجوه ، وتقديمهم في العطاء على غيرهم ، وقد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة بين المسلمين في العطاء ، وإيجاد التوازن الاقتصادي في الحياة العامّة ، وليس لولاة الامور أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥. تاريخ أبي الفداء ١ : ٦٨.

(٢) روح الإسلام : ٩٠.

(٣) تاريخ العراق في ظلّ الحكم الأموي : ٩٠.

٢٤٠

يصطفوا من أموال الدولة أي شيء لنفوسهم ولغيرهم ، يقول رسول الله 6 : « إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة » (1) .

وأوضح الإمام أمير المؤمنين 7 النهج الكامل على للسياسة الاقتصادية في الإسلام وذلك فيما كتبه إلى قثم بن العبّاس قال 7 :

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا (2) .

هذا هو نظر الإسلام في أموال الدولة : إنفاق على الفقراء ، ورفع لغائلة الجوع ، وبسط للرخاء العامّ بين المسلمين أمّا عثمان فلم يعن بذلك ، وإنّما أنفق الأموال بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط وسائر الوجوه والأشراف المؤيّدين لسياسته.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للأمويّين ، وادّعوا أنّ المال إنّما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنّها ملك لبني أميّة ، فقد منحوا نفوسهم جميع الامتيازات (3) ، ونعرض فيما يلي لذلك :

هباته للأمويّين :

ومنح عثمان بني أميّة الأموال الهائلة ووهبهم الثراء العريض ، وهذه قائمة ببعض أسماء الذين أغدق عليهم الأموال وهم :

1 ـ الحارث بن الحكم :

وهب عثمان الحارث بن الحكم صهره من عائشة ما يلي :

__________________

(1) صحيح البخاري 5 : 17.

(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 2 : 128.

(3) العقيدة والشريعة في الإسلام : 23.

٢٤١

أ ـ ثلاثمائة ألف درهم (1) .

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة (2) .

ج ـ أقطعه سوقا في المدينة يعرف بتهروز بعد أن تصدّق به النبيّ على جميع المسلمين (3) .

2 ـ أبو سفيان :

وهب عثمان عميد اسرته أبا سفيان مائتي ألف درهم من بيت المال (4) .

3 ـ سعيد بن العاص :

منحه مائة ألف درهم من بيت المال (5) .

4 ـ عبد الله بن خالد :

تزوّج عبد الله بن خالد بنت عثمان ، فأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال (6) .

5 ـ الوليد بن عقبة :

أمّا الوليد بن عقبة فهو أخو عثمان من امّه ، استقرض من عبد الله بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال ، فطالبه بها ، فأبى أن يدفعها ، ورفع الوليد رسالة إلى عثمان يشكو فيها ابن مسعود لمطالبته بالمال ، فكتب إليه عثمان : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، وغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال ، وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 52.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 355.

(3) و (5) أنساب الأشراف 5 : 28.

(4) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 67.

(6) تاريخ اليعقوبي 2 : 145.

٢٤٢

في ذلك ، وأقام في الكوفة بعد أن استقال من منصبه (1) .

إنّ بيت المال في عرف عثمان ملك لبني أميّة الذين ناهضوا الإسلام ، وليس ملكا للمسلمين ، ونترك الحكم في ذلك إلى القرّاء.

6 ـ الحكم بن أبي العاص : أمّا الحكم فهو رجس من أرجاس الجاهلية ، ومن ألدّ أعداء الرسول 6 ، ونفاه إلى الطائف بعد فتح مكّة ، وقال : لا يساكنني ، ولم يزل منفيا هو وأولاده ، وبعد وفاة النبيّ 6 أقرّ الشيخان نفيه ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو ، فقدم إلى يثرب وهو بأقصى مكان من الذلّ والبؤس ، وكان يسوق تيسا وعليه ثياب رثة ، فلمّا رآه عثمان تألّم وكساه جبة خز وطيلسان (2) ، ووهبه من الأموال ما يلي :

ـ وصله بمائة ألف درهم.

ـ ولاّه على صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له (3) .

وأدّت هباته للحكم التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلامية.

7 ـ مروان بن الحكم : أمّا مروان بن الحكم فهو خيط باطل ـ كما اشتهر بذلك ـ وكان وغدا خبيثا ، وكانت شئون الدولة العثمانية بيده ولا شأن لعثمان بها ، وقد وهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس افريقية ، وقد بلغت خمسمائة ألف دينار ، وقد عيب على عثمان في ذلك وانتقصه المسلمون ، وهجاه الشاعر عبد الرحمن بن حنبل بهذه الأبيات :

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 30.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 : 41.

(3) أنساب الأشراف 5 : 28.

٢٤٣

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإنّ الأمينين قد بينا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة

وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم وحميت الحمى (1)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين اوقية ، لا نعلم أنّها من الذهب أو الفضة وهذا ممّا سبّت عليه النقمة العامّة في البلاد (2) .

ج ـ أعطاه مائة ألف من بيت المال ، فسارع زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديه ، وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي أن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت المال عوضا عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله 6 ، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا.

وزجره عثمان وصاح به :

ألق المفاتيح يا ابن أرقم! فإنّا سنجد غيرك (3) .

د ـ أقطعه فدكا (4) ، وهي التي صادرها أبو بكر من سيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(1) تاريخ أبي الفداء 1 : 168 ، وفي العقد المفصّل ( 9 : 891 ) : إنّ اسم الشاعر عبد الرحمن ابن حسل.

(2) السيرة الحلبية 2 : 87.

(3) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 1 : 67.

(4) لطائف المعارف : 84. تاريخ أبي الفداء 1 : 168.

٢٤٤

الرسول بحجّة أنّها لجميع المسلمين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هـ ـ كتب له بخمس مصر (1) .

هذه بعض ممالأة عثمان لاسرته التي حاربت الله ورسوله وليس من العدل ولا من الإنصاف أن تمنح هذه الأموال إلى هؤلاء الأوغاد الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين.

هباته للأعيان :

ووهب عثمان الثراء العريض والأموال الهائلة إلى بعض الوجوه والأشراف من ذوي النفوذ ، وهم :

1 ـ طلحة : وأعطى عثمان طلحة مائتي ألف دينار (2) ، وكانت عليه خمسون ألفا فأحضرها طلحة فوهبها له وقال : هي لك على مروءتك (3) ، أليس هذا هو التلاعب في بيت مال المسلمين؟

2 ـ الزبير : منح الزبير بن العوّام ستمائة ألف ، ولمّا قبضها حار في صرفها ، فجعل يسأل عن خير مال يستغلّ صلته وينمّي ثراءه ، فأرشد إلى اتّخاذ الدور في الأقاليم والأمصار (4) ، فبنى إحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (5) .

3 ـ زيد بن ثابت : ووهب عثمان أموالا هائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضّة ما يكسّر بالفؤوس عدا ما ترك من

__________________

(1) الطبقات الكبرى 3 : 24.

(2) تاريخ الطبري 5 : 139.

(3) تاريخ الطبري 5 : 139.

(4) الطبقات الكبرى 3 : 79.

(5) صحيح البخاري 5 : 21.

٢٤٥

الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف (1) ، ومنح أموالا طائلة للمؤيّدين لسياسته أمثال حسّان بن ثابت ، وقد تكدّست ثروة البلاد في طائفة من الرأسماليّين الذين جهدوا على حصر الثروة عندهم وحرمان المجتمع الإسلامي منها ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى إشاعة الفساد ، وانتشار الترف والبذخ عند طائفة من الناس.

وقد خاف بعض المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي ظفر به من هبات عثمان ، يقول خباب بن الارت : لقد رأيتني مع رسول الله 6 ما أملك دينارا ولا درهما ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف (2) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا (3) .

وهكذا تمثّلت الحيرة والذهول عند الصحابة المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي اختصّ بقوم وحرمت الأكثرية الساحقة في البلاد الإسلامية من التمتّع بالعيش الرغيد.

إقطاعه للأراضي :

ومن مناهج السياسة المالية عند عثمان أنّه أقطع بعض الأراضي الواسعة لجمهرة من المؤيّدين لسياسته ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها وهذه الأراضي من المفتوحة عنوة ، وهي ملك للمسلمين ، فمن أحيى أرضا فهي له ، وعليه الخراج يؤدّيه للدولة.

وعلى أي حال فقد أقطع عثمان أراضي في الكوفة لجماعة ، وهي :

1 ـ طلحة : أقطعه أرضا سمّيت دار الطلحيّين ، وكانت في الكناسة.

__________________

(1) مروج الذهب 1 : 334.

(2) الوافي : درهم وأربعة دوانق.

(3) الطبقات الكبرى 6 : 8.

٢٤٦

2 ـ عبيد الله بن عمر : أقطعه أرضا سمّيت ( كوفيّة ابن عمر ).

3 ـ اسامة بن زيد.

4 ـ سعد وابن أخيه هاشم بن عتبة.

5 ـ أبو موسى الأشعري.

6 ـ حذيفة العبسي.

7 ـ عبد الله بن مسعود.

8 ـ سلمان الباهلي.

9 ـ المسيّب الفزاري.

10 ـ عمرو بن حريث المخزومي.

11 ـ جبير بن مطعم الثقفي.

12 ـ عتبة بن عمر الخزرجي.

13 ـ أبو جبير الأنصاري.

14 ـ عدي بن حاتم الطائي.

15 ـ جرير البجلي.

16 ـ الأشعث الكندي.

17 ـ الفرات بن حيّان العجلي.

18 ـ الوليد بن عقبة.

19 ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

20 ـ أمّ هاني بنت أبي طالب.

هؤلاء بعض من منحهم الأراضي ، ولا نعلم مقدار مساحتها.

٢٤٧

قائمة بأسماء الممنوحين أراضي واسعة :

وأقطع عثمان أراضي واسعة تدرّ بالربح الكثير لجماعة وهم :

1 ـ طلحة بن عبد الله : أقطعه ( النشاستج ).

2 ـ عدي بن حاتم : منحه ( البردجاء ).

3 ـ وائل بن حجر الحضرمي : منحه ضيعة ( زادر ).

4 ـ خباب بن الارت : منحه ( مسعبنا ).

5 ـ خالد بن عرفطة : أقطعه أرضا عند ( حمام أعين ).

6 ـ الأشعث الكندي : أعطاه ( ظيزناباد ).

7 ـ جرير بن عبد الله البجلي : أعطاه أرضا على شاطئ الفرات ( الجرفين ).

8 ـ عبد الله بن مسعود : أقطعه أرضا بالنهرين.

9 ـ الزبير بن العوّام : أقطعه أرضا.

10 ـ اسامة بين زيد : أقطعه أرضا ثمّ باعها (1) .

هذه بعض الأراضي الزراعية التي منحها عثمان لبعض الشخصيات.

ومن الجدير بالذكر أنّه اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء أراض خصبة في العراق ، فقد اشترى طلحة ومروان بن الحكم والأشعث بن قيس (2) ورجال من قبائل العراق أراضي واسعة حتى انتشر الاقطاع ، وعمّ البؤس والحرمان في أوساط الفلاحين ، وبذلك فقد وجد النظام الطبقي الذي يخلق الصراع بين أبناء الامّة.

__________________

(1) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة : 146 ـ 147.

(2) خطط الكوفة : 21. الحضارة الإسلامية 1 : 123.

٢٤٨

استقطاع عثمان للأموال :

واصطفى عثمان من بيت المال ما شاء لنفسه وعياله ، فقد روى المؤرّخون انّه كانت في بيوت الأموال جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها ، فأخذها وحلّى بها بناته ونساءه (1) ، كما بالغ في الترف والسرف إلى حدّ لم يألفه المسلمون ، فقد أشاد له دارا في المدينة بناها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (2) ، وكان ينضّد أسنانه بالذهب ، ويتلبّس بأثواب الملوك ، وأنفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (3) ، ولمّا قتل وجد عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، وترك ألف بعير وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى ما قيمتها مائتا ألف دينار (4) .

وعلّق محمّد كرد علي على هذه السياسة التي انتهجها عثمان بقوله :

لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس ؛ الاولى : الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو والتبطّل ، والاخرى : الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض ، وتعمل في الصناعة ، وتشقى في سبيل اولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم ، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء ، وقد سارت الدولة الأموية في أيام حكمها على هذه السياسة فأخضعت المال للتيارات السياسية وجعلوه سلاحا ضدّ أعدائهم ونعيما مباحا لأنصارهم (5) .

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 36.

(2) مروج الذهب 1 : 334.

(3) السيرة الحلبية 2 : 87.

(4) الطبقات الكبرى 3 : 53.

(5) الإدارة الإسلامية : 82.

٢٤٩

هذه بعض المؤاخذات على السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، وقد ابتعدت كلّ البعد عمّا قنّنه الإسلام من وجوب إنفاق أموال الدولة على ما يسعد به المجتمع من مكافحة الفقر ، وتطوير الحياة الاقتصادية بشكل عامّ.

مع الجبهة المعارضة :

وكان من الطبيعي أن ينقم خيار المسلمين وصلحاؤهم على عثمان وولاته بما اقترفوه من مساوئ الأعمال التي لا تتّفق بصلة مع الواقع الديني ، وقد شنّوا عليه حملة شعواء نقدوه بلاذع النقد ومن الجدير بالذكر أنّ المعارضة كانت مختلفة الاتّجاه بين اليمين واليسار ، فطلحة والزبير وعائشة ومن انضمّ إليهم كانوا مدفوعين لرغباتهم الخاصّة ومصالحهم الضيّقة ، أمّا الطائفة الثانية فكانت تضمّ أعلام الإسلام وحماته أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب وأمثال المجاهد الكبير أبي ذرّ ، والصحابي القارئ عبد الله بن مسعود ونظرائهم من الذين أبلوا في الله بلاء حسنا ، فرأوا أنّ السنّة قد اميتت ، والبدعة احييت ، ورأوا صادقا يكذّب ، وأثرة بغير حقّ ، فهبّوا في وجه عثمان مطالبين بتغيير سلوكه واتّباع الهدى ، ولم تكن لهم أيّة مصلحة ينشدونها سوى خدمة الإسلام ، ولو أنّه استجاب لهم لجنّب الامّة الكثير من المشاكل.

التنكيل بالمعارضين :

وأمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين لسياسته ، فصبّ عليهم جام غضبه وقابلهم بمزيد من القسوة والبطش والتنكيل ، وهذه قائمة بأسماء بعضهم وما عانوه منه :

1 ـ عمّار بن ياسر :

أمّا عمّار بن ياسر فهو أجلّ صحابي ، ومكانته في الإسلام معلومة ، فهو وأبواه

٢٥٠

قد عانوا في سبيل الإسلام أعنف المصاعب وأقسى ألوان التعذيب ، وقد استشهد أبواه في سبيل الإسلام على يد القساة الطغاة من قريش.

وقد أشاد القرآن الكريم بفضل عمّار ، فمن الآيات النازلة في حقّه قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (1) ، وقال تعالى في حقّه أيضا : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (2) .

وكانت له المنزلة الكريمة عند النبيّ 6 ، فقد سمع شخصا ينال من عمّار ، فتأثّر ، وقال : « ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (3) ، وكان عمّار من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين 7 ، فقد آمن بحقّه ، وأنّه أولى بمقام النبيّ من غيره ، وقد وقف إلى جانبه أيام الفتنة الكبرى ، وأعلن تأييده للإمام 7 ، وبعد ما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين في وضعه للشورى التي أدّت إلى فوزه في الحكم كان عمّار من أشدّ الناقمين على عثمان ، وقد أظهر نقمته عليه في المواضع التالية :

1 ـ إنّ عثمان لمّا استأثر بالسفط الذي يضمّ جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها بثمن ، فأخذها ليحلّي بها نساءه وبناته ، فأنكر عليه الإمام أمير المؤمنين 7 وأيّده عمّار ، فقال له عثمان : يا ابن المتكاء (4) ، أعليّ تجترئ؟ ثمّ أوعز إلى شرطته بأخذه ، فقبضوا عليه وأدخلوه عليه ، فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه ، وحملوه إلى منزل أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة ولم يفق من شدّة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين

__________________

(1) الزمر : 9 ، نصّ على ذلك ابن سعد في طبقاته 3 : 178. القرطبي في تفسيره 5 : 239.

(2) الأنعام : 122 ، نصّ على ذلك السيوطي في تفسيره 1 : 239 ، وغيره.

(3) السيرة النبوية ـ ابن هشام 2 : 114.

(4) المتكاء : العظيمة البطن التي لا تمسك بولها.

٢٥١

والمغرب ، فلمّا أفاق قام وتوضّأ وصلّى صلاة العشاء وقال :

الحمد لله ليس هذا أوّل يوم اوذينا فيه في الله.

يا لله! يا للمسلمين! أمثل عمّار الذي هو في طليعة المؤسّسين في بناء الإسلام يضرب ويهان لأنّه رأى أثرة بغير تقىّ ونهبا لأموال المسلمين بغير وجه مشروع.

وكان من الطبيعي أن يثير ذلك غضب المسلمين ونقمتهم على عثمان عميد الأمويّين ، فقد غضبت عائشة ، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله 6 ، وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، وقالت :

ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم! وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ..

وغضب عثمان من عائشة ، ولم يدر كيف يعتذر ممّا اقترفه تجاه عمّار (1) .

2 ـ أنّ أعلام الصحابة رفعوا مذكّرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه ومخالفاته للسنّة ، وطالبوه بالكفّ عنها ، فأخذها عمّار ودفعها إليه ، فقال له عثمان بعنف :

أعليّ تقدم من بينهم؟ ...

إنّي أنصحهم لك ...

كذبت يا ابن سميّة.

أنا والله! ابن سميّة ، وابن ياسر ..

وأوعز عثمان إلى جلاوزته لمدّ يديه ورجليه وضربه عثمان بنفسه برجليه على مذاكيره فأصابه فتق ، وكان ضعيفا فاغمي عليه ...

لقد لاقى هذا الصحابي من صنوف العذاب والتنكيل في عهد عثمان ما لا يوصف لمرارته ، والحاكم هو الله الذي يقضي بين عباده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 48.

٢٥٢

3 ـ لمّا نكّل عثمان بالصحابي الثائر على السياسة الأموية أبي ذرّ فنفاه إلى الربذة ، ومات فيها جائعا غريبا مظلوما مضطهدا ، فحزن عليه المسلمون فقال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

رحمه الله ..

فاندفع عمّار والأسى باد عليه فقال :

رحمه الله من كلّ أنفسنا ...

فغضب عثمان وقال لعمّار بأفحش القول وأقساه قائلا :

يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييره ...؟

أيليق هذا الفحش بالرجل العادي فضلا عمّن يدّعي أنّه خليفة المسلمين وأنّ الملائكة تستحي منه.

ثمّ أمر عثمان غلمانه فدفعوا عمّارا وأرهقوه ، وأمر بنفيه إلى الربذة ، فلمّا تهيّأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الإمام أمير المؤمنين 7 فسألوه أن يكلّم عثمان في شأن عمّار وأن يلغي قراره في اعتقاله في الربذة ، و كلّم الإمام عثمان بذلك قائلا :

« اتّق الله ، فإنّك سيّرت رجلا صالحا من المسلمين ، فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ..؟ ».

فثار عثمان وصاح بالإمام :

أنت أحقّ بالنّفي منه ...

« رم إن شئت ذلك ».

واجتمع المهاجرون فعذلوه عن ذلك ، فاستجاب لهم وعفا عن عمّار (1) .

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 150. أنساب الأشراف 5 : 54.

٢٥٣

وهكذا لقي هذا الصحابي العظيم صنوف الاضطهاد والارهاق من عثمان ، ولم يلحظ مكانته في الإسلام وعظيم جهاده في إقامة صروح الدين ، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

2 ـ مع أبي ذرّ :

أمّا أبو ذرّ فهو صاحب رسول الله 6 وخليله ، وهو من الأسبقين للإسلام ، وكان من أزهد الناس في الدنيا ، ومن أقلّهم احتفالا بمنافعها ، وكان من ألصق الناس برسول الله 6 ، فكان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من الصحابة ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ أحدا من أصحابه (1) ، وهو أحد الثلاثة الذين أحبّهم الله ، وأمر نبيّه بحبّهم ، كما أنّه أحد الثلاثة (2) الذين تشتاق إليهم الجنّة (3) .

ولمّا آل الحكم إلى عثمان واستأثرت بنو أميّة بمنافع الدولة وخيرات المسلمين ، هبّ أبو ذرّ إلى الانكار عليه ، وقد نهاه عثمان من نقده والانكار عليه ، فلم يمتنع ورأى أنّ ذلك ضرورة إسلامية وواجب عليه ، وكان أبو ذرّ يقف أمام الذين وهبهم عثمان الثراء العريض ويتلو عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ، وغاظ ذلك مروان بن الحكم المنتفع الأوّل من حكومة عثمان ، فشكاه إليه ، فأرسل خلفه ، فنهاه فقال أبو ذرّ :

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟ فو الله! لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ...

__________________

(1) كنز العمّال 8 : 15.

(2) الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنّة : الإمام عليّ ، أبو ذرّ وعمّار بن ياسر.

(3) مجمع الزوائد 9 : 330.

٢٥٤

لقد أبى أبو ذرّ الذي تربّى بتعاليم الإسلام وأحكام القرآن أن يصانع عثمان ، ويقرّه على سياسته الملتوية التي اتّخذت مال الله دولا.

وضاق عثمان ذرعا من أبي ذرّ الثائر العظيم الذي وعى الإسلام وآمن بقيمه وتعاليمه ، وراح عثمان يفتّش عن الوسائل التي يتخلّص بها من خصمه العنيد ، فاتّخذ القرار التالي :

اعتقال أبي ذرّ في الشام :

أبى أبو ذرّ أن يصانع عثمان ويساير خطواته ومخطّطاته ويجاريه بأي عمل من أعماله التي لا يقرّها الإسلام ، وكان من ذلك أنّ عثمان سأل حضّار مجلسه فقال لهم :

أيجوز لأحد أن يأخذ من بيت المال فإذا أيسر قضاه؟

فانبرى كعب الأحبار فأفتاه بالجواز ، وصعب على أبي ذرّ أن يتدخّل كعب في شئون الإسلام وهو يهودي النزعة ، وقد شكّ في إسلامه ، فصاح به :

يا ابن اليهوديّين ، أتعلّمنا ديننا؟ ...

فثار عثمان وصاح بأبي ذرّ :

ما أكثر أذاك لي! وولعك بأصحابي! الحق بمكتبك في الشام ...

وسيّره إلى الشام ، فلمّا انتهى إليها أفزعه ما رأى من منكرات معاوية وبدعه ، فقد رآه قد أطلق يديه في بيت المال يهبه لعملائه وينفقه على شهواته وملاذّه فأخذ ينكر عليه ذلك ، ويذيع مساوئ عثمان وبدعه ، وقد قال لمعاوية حينما قال :

المال مال الله ..

فردّ عليه أبو ذرّ :

المال مال المسلمين ..

٢٥٥

إنّ أموال الخزينة العامّة للمسلمين وليست لمعاوية حتى ينفقها على ملاذه وتدعيم سلطانه ، ولمّا بنى معاوية داره الخضراء أنكر عليه أبو ذرّ وقال له :

يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ..

وأخذ الثائر العظيم يدعو المسلمين إلى الحذر واليقظة من السياسة الأموية التي أمعنت في اقتراف المنكر ، فكان يقول لأهل الشام :

والله! لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله! ما هي في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه ، والله! لأرى حقّا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه (1) .

وأخذ الوعي ينتشر بين أهل الشام ، فقد أوجدت دعوته هدى في النفوس ، واستطابتها العامّة لقد كانت دعوته إلى إنصاف المحرومين ، وتحريض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الطغمة الحاكمة وخاف الطاغية معاوية أن تندلع عليه نار الثورة فنهى الناس عن مخالطته والاجتماع به ، وقال بعنف لأبي ذرّ :

يا عدو الله! تؤلّب الناس علينا ، وتصنع ما تصنع!! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ لقتلتك ..

فردّ عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ورسوله أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ..

لقد صدق أبو ذرّ بمقالته ، فإنّ معاوية وأباه أبو سفيان لم يؤمنا بالله طرفة عين ،

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 : 52.

٢٥٦

أظهرا الإسلام خوفا من السيف وأبطنا الكفر والكيد للإسلام.

وعلى أي حال ، فقد ظلّ أبو ذرّ يواصل نشاطه الديني والسياسي للتشهير بالحكم الأموي حتى فزع منه معاوية وخاف على سلطانه.

إخراج أبي ذرّ من الشام :

وكتب معاوية إلى عثمان يخبره بخطر أبي ذرّ على الشام ويطلب منه إخراجه إلى بلد آخر ، فأجابه عثمان ، وأمره بحمله على أغلظ مركب وأوعره حتى يلقى الجهد والعناء ، فأرسله معاوية مع جلاوزة نزعت من نفوسهم الرأفة والرحمة والشرف والكرامة ، فساروا به سيرا مزعجا ولم يسمحوا له أن يستريح من الجهد والعناء ، ومضوا في سيرهم لا يلوون على شيء حتى تسلّخت بواطن فخذه وكاد أن يموت.

ولمّا انتهى إلى يثرب دخل على عثمان وهو منهوك القوى ، فاستقبله عثمان بالجفوة ومرارة القول قائلا :

أنت الذي فعلت وفعلت؟ ...

فأجابه أبو ذرّ بمنطق الحقّ قائلا :

نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني ..

فصاح عثمان به :

كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها ، وقد أنغلت الشام علينا ...

فوجّه إليه أبو ذر نصيحته قائلا :

اتّبع سنّة صاحبيك ـ يعني أبا بكر وعمر ـ لم يكن لأحد كلام.

فصاح به عثمان :

ما لك لا أمّ لك ...

٢٥٧

فقال له أبو ذرّ بهدوء :

والله! ما وجدت لي عذرا إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وثار عثمان فقال لمن حوله :

أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام ...

فثار الإمام 7 من هذه الاستهانة التي قابل بها عثمان أبا ذرّ ، فقال له :

« يا عثمان ، سمعت رسول الله 6 يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ ».

ولم يحفل هذا الثائر العظيم بعثمان ، وإنّما راح ينكر عليه بوحي من دينه ، ويندّد بسياسته الملتوية قائلا له :

تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء؟

وأخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من النبيّ 6 في ذمّ الأمويّين ، ومدى خطرهم على الإسلام قائلا :

قال رسول الله : « إنّ بني العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا ، وعباد الله خولا ، ومال الله دولا » (1) .

وأصدر عثمان أمرا بمنع مجالسة أبي ذرّ وحرّم مخالطته والكلام معه ، لأنّه يقول الحقّ ويأمر بالعدل وينهى عن المنكر.

اعتقاله في الربذة :

واستمرّ أبو ذرّ في جهاده ينشر مساوئ الأمويّين ويذيع منكراتهم ويوقظ الجماهير ، فضاق عثمان به ذرعا فصمّم على أن ينفيه عن الأمصار الإسلامية

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 368 ـ 370.

٢٥٨

ويعتقله في أرض جرداء لا سكن فيها ، فأرسل شرطته خلفه ، فلمّا حضر عنده بادره أبو ذرّ منكرا وناقما على سياسته قائلا :

ويحك يا عثمان ، أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر ، هل رأيت هذا هديهم ، إنّك لتبطش بي بطش الجبّارين ..

فقطع عليه عثمان كلامه وصاح به :

اخرج عنّا من بلادنا ..

أتخرجني من حرم رسول الله 6 ؟ ..

نعم ، وأنفك راغم.

اخرج إلى مكّة.

لا ..

الكوفة؟

لا ..

إلى الربذة حتى تموت فيها ..

وأوعز شيخ الأمويّين عثمان إلى وزيره ومستشاره مروان بن الحكم بإخراج هذا الصحابي العظيم من مدينة الرسول 6 ليقيم في أرض جرداء قد انعدمت فيها جميع وسائل الحياة ، فأخرجه الوزغ ابن الوزغ مهان الجانب ، محطّم الكيان ، وحرّم على المسلمين مشايعته وتوديعه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ :

ولم تذعن الاسرة النبوية لأوامر عثمان بتحريم توديع أبي ذرّ ، فقد خرجت ومعها الصحابي الجليل عمّار بن ياسر لتوديع هذا الصحابي المضطهد ، وتلقي عليه نظرة الوداع.

٢٥٩

ولمّا رآهم مروان وجّه خطابه وإنذاره إلى الإمام الحسن 7 فقال له :

ايه يا حسن! ألا تعلم أنّ عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ...

ولم يجبه الإمام بكلمة احتقارا له ، و ثار الإمام أمير المؤمنين 7 وحمل على مروان وضرب أذني دابته ، وصاح به :

« تنحّ نحّاك الله إلى النّار » ، وولّى مروان منهزما فزعا إلى سيّده وابن عمّه عثمان يخبره بعصيان أهل البيت : أمره ، فاستشاط عثمان غيظا وورم أنفه.

كلمة الإمام :

وألقى الإمام 7 على أبي ذرّ نظرة مشفوعة بالأسى والحزن ، وخاطبه بهذه الكلمات التي حدّدت أبعاد شخصيّة أبي ذرّ ، وألقت الأضواء على ثورته ضدّ الحكم الأموي قائلا :

يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت لله فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه ؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا. ولو أنّ السّماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك.

يا لها من كلمات ذهبية ألمّت بواقع أبي ذرّ الذي ثار في وجه الطغيان والاستبداد! فقد كانت ثورته إصلاحية استهدفت القضاء على الاستغلال ونهب ثروات الامّة.

وقد مجّد الإمام ثورة أبي ذرّ التي خشيها الأمويّون وطلب منه أن يهرب بدينه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287