موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام20%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147686 / تحميل: 5364
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمرا عجيبا ولا يمكن تصوّره وقبوله ، في حين أنّ الأمرين متماثلان : «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة ، فتارة عن طريق علم الله ، وأخرى عن طريق قدرته ، ثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات ، وأخيرا عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عدنا إلى آيات القرآن الاخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة أخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة ، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والأسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمرا ملتويا وعسيرا.

* * *

٢١

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) )

التّفسير

كتابه جميع الأقوال :

يثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد ، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) .

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان ، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره ، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

٢٢

وأعماله وأقواله ، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر ، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة ، ولو انقطع الفيض لحظة لهلكنا ، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ ارتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل ، هو الخالق ، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات ، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) .

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن ، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .(١)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي ، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب ، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته ، وكوننا في قبضة قدرته ، فإنّ تكليفنا واضح ، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

__________________

(١) سورة الأنفال ، ٢٤.

٢٣

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان ، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادقعليه‌السلام يوما فقال : رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلّا أنّه لم ينههم عن ذلك ، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادقعليه‌السلام ادعوا لي ولدي موسى فدعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا : إنّ الذي كنت اصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول اللهعزوجل :( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فاحتضنه الإمام الصادق وقال : بأبي أنت وأمّي يا مستودع الأسرار(١) .

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده ، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب! إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسبا ، ولا سيّما إذا لا حظنا الآية ٢٤ من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمنا ـ مأخوذة من الورود ، ومعناه الذهاب نحو الماء ، وحيث إنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الاصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان ، وبالعكس ـ هذا الاصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٨.

٢٤

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) (١) .

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه ، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله ، وهما معه دائما ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر ، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم ، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(٢) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان ، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله ، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارة ، واخرى في حال الجلوس ، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصّدان أعماله.

ويحتمل أيضا أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر ، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائما ويسجّلان أعماله ، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج ٥٩ ص ١٨٦ رقم الرّواية ٣٢».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

__________________

(١) كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين ، إلّا أنّ جماعة اخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلّا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ باستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالأخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

(٢) كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفا وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

٢٥

الحسنات ، وملك الشمال كاتب السيّئات ، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل الإنسان حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات ، فإذا استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعد موت المؤمن : ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال : سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(١) .

وفي رواية اخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلّا أمر الله تعالى الحفظة فقال : اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» ثمّ أضافصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»(٢) .

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضا فتقول :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) .

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان ، وفي هذه الآية اهتمام بخصوص ألفاظه ، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس ، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٦ ، ص ١٦٥ ذيل الآيات محل البحث ، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٨٧ في الرّوايتين ٣٤ و٣٥».

(٣) الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائدا على الذي يلفظ القول ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب.

٢٦

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم ويرون أنفسهم أحرارا في الكلام مع أنّ أكثر الأمور تأثيرا وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناء على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيئ للعمل ، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئا أو يدّخره بأنّه عتيد ، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الادّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد اسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد» ، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر ، إلّا أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم ، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه ، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلّا أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ رواية عن الإمام الصادق يقول فيها : «إنّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي : ألم يقل الله تعالى( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )

٢٧

فيجيب الإمامعليه‌السلام : إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(١) .

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) احتراما وإكراما له ، إلّا أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار ، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية ٧٨ من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة : كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك ، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّا لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّا أو اقتربنا منها كثيرا فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك : «يا من هو اختفى لفرط نوره»!

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه ، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الاولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه : «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

__________________

(١) اصول الكافي طبقا لما نقل في نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

٢٨

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيها آخر ، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الاسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك : حين نقول : توجّه إلى الكعبة ، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها ، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة ، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلّا تبعا للمفهوم الاسمي ، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة ، إذ دون ارتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

* * *

٢٩

الآيات

( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) )

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ

تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلّق بيوم المعاد : «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا :( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) .

سكرة الموت : هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والانقلاب والتبدّل ، وربّما استولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة ، وأن يخطو في

٣٠

عالم جديد عليه مليء بالأسرار ، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت ، وهنا تتملّكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سكرا وليس بسكر(١) .

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت باطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب ، ويصابون ببعض العقبات في حالة الانتقال ، كما قد ورد في حالات انتقال روح النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول :( لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) ثمّ يقول : إن للموت سكرات(٢) .

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول : «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجا فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(٣) .

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول : «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(٤) .

__________________

(١) السّكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء ، والسكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود ، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزا وسدّا بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسكر على زنة الشكر.

(٢) روح المعاني ، ج ٩ ، ص ١١٨

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٩.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٠.

٣١

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا :( ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (١) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناء لا نافذة إلى عالم البقاء ، أو أنّهم لعلائقهم وارتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها ، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّا كان فهم منه يهربون ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في انتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه ، ولا بدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات أخر كما هو في الآية (٧٨) من سورة النساء إذ يقول :( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) !.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها بامّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجة يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد :( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ ) .

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم ، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) .

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية ، لأنّه كما نوّهنا آنفا فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين : فالنفخة الاولى تدعى بنفخة الفزع أو الصعق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي ، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

__________________

(١) كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه.

٣٢

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف ، و «النفخة» بمعنى المرّة منه ، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادة لجمع الجنود أو تفريقهم أو الاستعداد أو الذهاب للراحة والنوم ، واستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية ٦٨ من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال ، فمع الالتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله ، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والصالحين نحو جهنّم ، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما ، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم : إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات ، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات ، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

٣٣

وقال بعضهم : «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد ، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لاختلاف الوصفين ، أي أنّ مع الإنسان ملكا يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضا.

إلّا أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية ، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان ، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اخرى لبعض الشهود في يوم القيامة ، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن ، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار ، والملك الثاني يمنع عن الإنكار ، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبدا.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فردا فردا) فيقال :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

أجل ، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور ، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة ، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة ، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال ، وما كان مستورا وراء حجاب الغيب يبدو ظاهرا اليوم ، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

٣٤

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عينا حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل ، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفيا ولا لثام على جمال الحبيب ، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلّا أنّ الغرق في بحر الطبيعة والابتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة ، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة ، وأساسا فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا استطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصرا حديدا يرون به الحقائق ، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمدية ، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء ، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة ، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في أولياء الله في أرضه : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة ١٤٧.

٣٥

بحوث

١ ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء ، إلّا أنّ هذه النظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبدا.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي ، وهو انتقال وعبور من عالم إلى آخر ، ولذلك عبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «توفّي» ويعني تسلّم الروح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) هو إشارة إلى هذا المعنى(١) أيضا ، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق :( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ) (الملك ـ ٢).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية ، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل : ما الموت؟ فقال :عليه‌السلام : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن عليّعليه‌السلام السؤال الآنف ذاته فقال : «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلّا أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلّا يوم القيامة»(٢) .

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق ، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

__________________

(١) في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك احتمالات عديدة ، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت ، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت ، وقيل أنّ الباء للملابسة ، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٥ [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجوادعليه‌السلام ].

٣٦

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسينعليه‌السلام لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال : «صبرا بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة ، والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يكلّم أحدا ، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر : يا بن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقالعليه‌السلام : «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد»(٢) .

٢ ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت ، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة ، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر اشتداد حالة الإنسان اضطرب منها فيرى سكرا وليس بسكر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية انتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٨٩ باب معنى الموت الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٧

الله ، إلّا أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الانتقالية ليست سهلة لأي إنسان ، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وارتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن سبب اضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب : لأنّه نما عليها البدن(١) .

وهذا يشبه تماما حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة ، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالألم إلّا أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام ، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه ، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت ، ويوم القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) (٢) ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام ، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون انتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألما ومرارة!.

٣ ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين ، إذ نقرأ في الآية (٩٩) من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر نفسه مع شيء من التلخيص : نقرأ في سورة مريم الآية ١٥ في شأن يحيى :( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) .

٣٨

سورة الحجر( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) . وفي الآية (٤٧) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضا.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لا بدّ أن يطرق بابه ، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيرا.

والالتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يعدّ إنذارا لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال : إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره ، فأمر عمر به فحبس ، فبلغ ذلك علياعليه‌السلام فقال : يا عمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال : ولم؟ فقال علي : إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة( إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ ) (٢) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر : لو لا علي لهلك عمر(٣) .

* * *

__________________

(١) التغابن ، الآية ١٥.

(٢) سورة ق ، الآية ١٩.

(٣) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ١١٨.

٣٩

الآيات

( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) )

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين :

مرّة اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد ، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاولى من هذه الآيات : يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

حكومة عثمان

٢٢١

٢٢٢

واستقبلت القوى الخيّرة خلافة عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب ، فقد اعتبرت فوزه في الحكم فوزا لاسرة الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين ، ويرى « دوزي » أنّ انتصار الأمويّين إنّما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للإسلام (١) .

لقد خاف المسلمون على دينهم ، وخافوا على دولتهم من الأمويّين ، وتحقّق ما خافوا منه ، فإنّه لم يمض قليل من الوقت حتى استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة ، وسخّروا الاقتصاد العامّ لمصالحهم حتى عمّ الفقر وسادت الفوضى في جميع أنحاء البلاد.

إنّ عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين احتفّ به الأمويّون واخوانهم القرشيّون ، وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد النبيّ ٦ ، وقد علت أصواتهم بالدعم الكامل لحكومته ، والهتاف بحياته ، واعتلى عثمان المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله ٦ ، ولم يجلس في المكان الذي كان يجلس فيه أبو بكر وعمر ، وارتاب بعض الحاضرين ، فقالوا : اليوم ولد الشرّ (٢) .

واتّجه المجتمع ليسمع ما يدلي به عثمان ، وما يفتح به مناهجه السياسية ، فارتجّ عليه ولم يدر ما يقول ، وجهد نفسه فألقى هذه الكلمات المتقطّعة المضطربة.

__________________

(١) تاريخ الشعر العربيّ : ٢٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. البداية والنهاية ٧ : ١٤٨.

٢٢٣

« أمّا بعد ، فإن أوّل مركب صعب ، وما كنّا خطباء ، وسيعلم الله ، وأنّ امراء ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت ، لموعوظ » ، ثمّ نزل عن المنبر وهو وجل (١) ، وأنت ترى أنّه ليس بين هذه الكلمات أي ربط أو اتّصال ، وإنّما كانت متنافرة في اسلوبها الأمر الذي دعا الحاضرين ليهزءوا به ويسخروا منه ، وكان ذلك من آفات الشورى التي امتحن بها المسلمون ، فقد أقصت أمير البيان ورائد الحكمة والعدالة في دنيا الإسلام وفرضت عثمان حاكما على المسلمين.

مظاهر شخصيّته :

ولا بدّ لنا من التحدّث عن مظاهر شخصيّة عثمان التي هي المقياس في نجاح أي حاكم أو فشله في الميادين السياسية والاجتماعية وهذه بعضها :

أوّلا ـ ضعف الإرادة :

كان عثمان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ضعيف الإرادة ، خائر العزيمة ، ولم تكن له أيّة قدرة على مواجهة الأحداث والتغلّب عليها ، فقد استولى عليه الأمويّون وسيطروا على جميع شئونه ، ولم يستطع أن يقف موقفا إيجابيا ضدّ رغباتهم وأهوائهم ، ووصفه بعض الكتّاب المحدثين بأنّه كالميّت في يد الغاسل لا حول له ولا قوّة.

وكان الذي يدير شئون دولته مروان بن الحكم ، فهو الذي يعطي ويمنع ويتصرّف حسب ما يشاء ، ولا رأي لعثمان ولا اختيار له ، وقد قبض على الدولة بيد من حديد ، يقول ابن أبي الحديد :

إنّ الخليفة في الحقيقة والواقع إنّما كان مروان ، وعثمان له اسم الخلافة.

__________________

(١) الموفّقيات : ٢٠٢.

٢٢٤

وأراد بعض المؤرّخين أن يدافع عن عثمان فقال : إنّه كان شديد الرأفة والرقّة واللين والتسامح. نعم ، إنّه كذلك ، ولكن مع أرحامه وأسرته ، أمّا مع الجبهة المعارضة لسياسته فقد اتّسم بالشدّة والغلظة معهم ، فقد نفى المصلح العظيم أبا ذرّ إلى الشام ، ثمّ إلى الربذة ، وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها ، وقد انعدمت في هذه البقعة جميع وسائل الحياة حتى مات جائعا غريبا وفي يد عثمان ذهب الأرض ينفقه بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط. كما نكل بالطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر صاحب رسول الله ٦ فأمر بضربه حتى أصابه فتق ، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه ، كما نكّل بعبد الله بن مسعود القارئ الكبير فقد ألهبت جسمه سياط شرطته وهشّموا أضلاعه وحرّم عليه العطاء ، وهكذا كانت معاملته مع الناقمين لسياسته ، أمّا المؤيّدون له فقد وهبهم الثراء العريض وأسند لهم المناصب الحسّاسة في الدولة وحملهم على رقاب الناس.

ثانيا ـ حبّه العارم للأمويّين :

من النزعات التي اشتهر بها عثمان هو أنّه كان عظيم الحبّ والولاء لاسرته ، حتى تمنّى أن تكون مفاتيح الجنّة بيده ليهبها لبني أميّة ، ولمّا تقلّد زمام الدولة آثرهم بالفيء ، ووهبهم الملايين ، وجعلهم ولاة على الأقطار والأمصار الإسلامية ، وكانت تتواتر إليه الأخبار أنّهم جانبوا الحقّ وأشاعوا الفساد في الأرض فلم يحفل بذلك ، ولم يجر معهم أي لون من التحقيق الأمر الذي أدّى إلى النقمة عليه ، وسنتعرّف على ذلك في البحوث الآتية.

ثالثا ـ ميله إلى الترف :

وكان عثمان شديد الميل إلى الترف والبذخ ، فاتّخذ القصور ، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال ، وأحاط نفسه بالثراء العريض ، ووصفه الإمام ٧ بقوله :

٢٢٥

« نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه » ، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه.

رابعا ـ مصانعة الوجوه :

ومن نزعاته مصانعة الوجوه والأشراف ، وإن أدّى ذلك إلى إهمال الأحكام الشرعية ، وكان من ذلك ما ذكره المؤرّخون أنّ أبا لؤلؤة لمّا اغتال عمر قام ولده عبيد الله فقتل الهرمزان صديق أبي لؤلؤة ، وقتل جفينة وابنة أبي لؤلؤة ، وهو قتل متعمّد بغير حقّ ، فأقفل عثمان سير التحقيق مع عبيد الله وأصدر عفوا عنه ممالأة لاسرة عمر ، وقد قوبل هذا الإجراء بمزيد من الانكار ، فقد أنكر عليه الإمام وطالبه بالقود من ابن عمر ، وكذلك طالبه المقداد فلم يعن عثمان بذلك ، وكان زياد بن لبيد إذ لقي عبيد الله بن عمر خاطبه بهذه الأبيات :

ألا يا عبيد الله! مالك مهرب

ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دما والله! في غير حلّه

حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل

أتتّهمون الهرمزان على عمر؟

فقال سفيه ـ والحوادث جمّة ـ:

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمر!

وكان سلاح العبد في جوف بيته

يقلّبها والأمر بالأمر يعتبر

وشكا عبيد الله إلى عثمان ما قاله زياد فيه ، فدعاه عثمان ونهاه عن ذلك إلاّ أنّه لم ينته ، وتناول عثمان بالنقد فقال فيه :

أبا عمرو عبيد الله رهن

ـ فلا تشكك ـ بقتل الهرمزان

فإنّك إن غفرت الجرم عنه

وأسباب الخطا فرسا رهان

أتعفو إذ عفوت بغير حقّ

فما لك بالذي تحكى يدان

وغضب عثمان من زياد وحذّره العقوبة حتى انتهى (١) .

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١.

٢٢٦

وأمر عثمان بإخراج عبيد الله إلى الكوفة ، وأقطعه بها أرضا واسعة ، فنسبت إليه ، وقيل ( كوفية ابن عمر ) ، وكانت هذه الحادثة من الأسباب التي أدّت إلى نقمة المسلمين عليه.

ولاته وعمّاله :

وفرض عثمان اسرته وذوي قرباه من بني أميّة وآل أبي معيط ولاة وحكّاما على المسلمين ، يقول المقريزي :

« وجعل عثمان بني أميّة أوتاد خلافته » ، مع العلم أنّه لم تتوفّر في أي واحد القابلية لتحمّل المسئولية وإدارة دفّة الحكم ، مع أنّ الكثيرين منهم ليس لهم معرفة بأحكام الإسلام ، كما لم تكن لهم حريجة في الدين ، فكيف يجعلون ولاة وحكّاما على المسلمين؟

ويرى السيّد مير علي أنّ المسلمين تذمّروا من استبداد الحكّام واغتصابهم الأموال (١) ، وكان من ولاته أبو موسى الأشعري ، فسمح لأحد عمّاله بالتجارة في أقوات أهل العراق (٢) .

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى بعض عمّاله الذين عانى منهم المسلمون الجهد والبلاء ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ عبد الله بن عامر :

عبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان ، وقد ولاّه إمارة البصرة بعد أن عزل منها أبا موسى الأشعري ، وكان ولاجا خرّاجا (٣) ، وهو أوّل من لبس الخزّ

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب : ٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨.

٢٢٧

في البصرة ، وقد لبس جبّة دكناء ، فقال الناس : لبس الأمير جلد دبّ ، فغيّر لباسه ولبس جبّة حمراء (١) .

وقد نقم الناس من سياسته وسوء تصرّفاته ، وعابوا على عثمان ولايته له ، وخفّ إلى يثرب عامر بن عبد الله موفدا من قبل أهل البصرة يطالب عثمان بالاستقامة في سلوكه فقال له :

إنّ اناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتّق الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها ...

فاحتقره عثمان وأعرض عنه ، وقال لمن حوله :

انظروا إلى هذا ، فإنّ الناس يزعمون انّه قارىء ، ثمّ هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات ، فو الله! ما يدري أين الله؟ ...

ولم يكلّمه عامر إلاّ بتقوى الله وطاعته ، وإيثار مصلحة المسلمين ، فهل هذه الامور من المحقّرات؟

والتفت إليه عامر فقال له :

أنا لا أدرى أين الله ...

نعم.

إنّي لأدري انّ الله بالمرصاد ...

وغضب عثمان ، فعقد مؤتمرا من مستشاريه ، وعرض عليهم انتقاد المعارضين لسياسته ، فأشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر أن يتّخذ معهم الاجراءات الصارمة قائلا :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ : ١٩٢.

٢٢٨

رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته ..

وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك ، إلاّ أنّه استجاب لرأي ابن خاله ، وأو عز إلى عمّاله بالتضييق على الجبهة المعارضة ، ومقابلتهم بالشدّة والعنف ، فاستجاب له ، وطبّق ما أشار عليه ، فقد أمر عمّاله بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على حرمانهم من العطاء حتى يشيع الفقر فيهم والبؤس ، فيضطروا إلى طاعته (١) .

ولمّا قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور بأنّه خالف المسلمين في امور قد أحلّها الله كان منها :

١ ـ أنّه لا يأكل اللحم.

٢ ـ لا يشهد الجمعة.

٣ ـ لا يرى مشروعية الزواج (٢) .

ودوّنت شهادتهم ، ورفعها إلى عثمان ، فأمره بنفيه إلى الشام ، وحمله على قتب حتى يشق عليه السفر ، ولمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية ( الخضراء ) ، وبعث إليه بجارية تكون عينا عليه ، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّدا ، ويخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يتناول كسرا من الخبز ويجعلها في الماء تحرّجا من أن يدخل جوفه شيء من الحرام ، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه ، فكتب إلى عثمان بأمره (٣) ، وقد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٩٤. تاريخ ابن خلدون ٢ : ٣٩.

(٢) الفتنة الكبرى ١ : ١١٦.

(٣) الاصابة ٣ : ٨٥.

٢٢٩

نقم الأخيار والمتحرّجون في دينهم على عثمان لما اقترفه في شأن هذا العبد الصالح.

وعلى أي حال فقد ظلّ عبد الله بن عامر واليا على البصرة لم يتحرّج من إثم وبغي ، ولمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكّة ، فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضمّ إليهم ، وأمدّهم بالأموال التي نهبها ليستعينوا بها على حرب الإمام أمير المؤمنين ، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة (١) .

إنّ هذا الذئب الجاهلي من ولاة عثمان ومن المقرّبين إليه ، وقد أسند إليه ولاية هذا القطر المهمّ.

٢ ـ الوليد بن عقبة :

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقّاص الزهري ، فعزله عثمان وولّى عليها الوليد بن عقبة ، وهو ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ من فسّاق بني أميّة ، ومن أكثرهم مجونا ، وقد أخبر النبيّ ٦ أنّه من أهل النار (٢) ، وكان أبوه عقبة من ألدّ أعداء النبيّ ٦ ، فكان يأتي بالروث ويطرحه على بابه (٣) ، وهو الذي بصق بوجه النبيّ ، فهدّده بأنّه إن وجده خارجا من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه ، ولمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج ، فأصرّ عليه أصحابه فأخبرهم بخوفه من النبيّ ، فأغروه وخدعوه وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه ، فاستجاب لهم ، وخرج لحرب النبيّ ، فلمّا هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض ، فأخذه المسلمون وجاءوا به أسيرا ، فأمر النبيّ عليّا بضرب عنقه ، فقام إليه وقتله (٤) ،

__________________

(١) اسد الغاية ٣ : ١٩٢.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٣.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ١٨٦.

(٤) الغدير ٨ : ٢٧٣.

٢٣٠

وقد أترعت نفس الوليد بالحقد والعداء للنبيّ وللإمام لأنّهما قد وتراه بأبيه ، وقد أسلم الوليد مع من أسلم من كفّار قريش خوفا من حدّ السيف.

وقد انزلت في ذمّه آيتان في فسقه وذمّه وهما :

الاولى : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١) ، وكان سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ ٦ أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة منهم ، فعاد إليه وأخبره بأنّهم منعوه منها ، فخرج إليهم النبيّ ٦ فتبيّن له كذبه ، ونزلت الآية في فسقه.

الثانية : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (٢) ، وكان السبب في نزولها أنّه جرت بين الوليد وبين الإمام مشادّة ، فقال الوليد للإمام :

اسكت فإنّك صبي وأنا شيخ ، والله! إنّي أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة.

فردّ عليه الإمام قائلا :

« اسكت فإنّك فاسق ».

فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية ، ونظم هذه الحادثة حسّان بن ثابت بقوله :

أنزل الله والكتاب عزيز

في عليّ وفي الوليد قرانا

فتبوّا الوليد من ذاك فسقا

وعليّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف الله

كمن كان فاسقا خوّانا

فعليّ يلقى لدى الله عزّا

ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا

وعليّ لا شكّ يجزى جنانا (٣)

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) السجدة : ١٨.

(٣) تذكرة الخواص : ١١٥.

٢٣١

ولمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهارا ، وقد دخل القصر وهو ثمل يتمثّل بأبيات تأبط شرّا :

ولست بعيدا عن مدام وقينة

ولا بصفا صلد عن الخير معزل

ولكن أروى من الخمر هامتي

وأمشي الملا بالساحب المتسلسل (١)

ومن مجونه أنّه كان يفيق لياليه سكران مع المغنّين حتى الصباح ، وكان نديمه أبو زيد الطائي من نصارى تغلب ، وقد أنزله دارا له على باب المسجد ، ثمّ وهبها له ، وكان الطائي يشقّ صفوف المصلّين في الجامع حتى ينتهي إليه وهو سكران (٢) .

وكان من إدمانه على الخمر أنّه شربها فصلّى بالناس صلاة الصبح وهو ثمل أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاء الخمر في المحراب وسلّم ، والتفت إلى المصلّين خلفه وقال : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فروة نعله وضرب بها وجهه ، وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو ثمل (٣) مترنّح ، وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالغدر

نادى وقد تمّت صلاتهم

أأزيدكم ثملا ولا يدري

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا

منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا

لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك إذ جريت ولو

خلوا عنانك لم تزل تجري (٤)

__________________

(١) الأخبار الطوال : ١٥٦.

(٢) الأغاني ٥ : ١٢٢. العقد الفريد ٦ : ٣٤٨.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٣١٤.

(٤) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٢

أرأيتم هذه السخرية اللاذعة والاستهزاء السافر بأحد ولاة عثمان؟

وقال الحطيئة في ذمّه وهجائه مرّة أخرى :

تكلّم في الصلاة وزاد فيها

علانية وجاهر بالنفاق

ومجّ الخمر عن سنن المصلّي

ونادى والجميع إلى افتراق

أأزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاق (١)

وأسرع جماعة من خيار الكوفة إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه أنّ الوليد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم بعنف :

ما يدريكم انّه شرب الخمر؟

هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية.

وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، فغضب عثمان ، ودفع في صدورهم وقابلهم بأخبث القول وأقساه ، وخرجوا منه وهم يتميّزون من الغيظ ، واتّجهوا صوب الإمام وأخبروه بما جرى لهم مع عثمان ، فانبرى إلى عثمان وقال له :

« دفعت الشّهود وأبطلت الحدود ».

وخاف عثمان من عواقب الامور ، فقال للإمام :

ما ترى؟

« أرى أن تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشّهادة في وجهه ولم يدل بحجّة أقمت عليه الحدّ ».

ولم يجد عثمان بدّا من امتثال أمر الإمام ، فكتب إلى الوليد يأمره بالحضور

__________________

(١) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٣

إلى يثرب ، ولمّا انتهت إليه رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب ولمّا مثل أمام عثمان دعا بالشهود ، فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأيّة حجّة ، وقد خضع بذلك لإقامة الحدّ ، ولم ينبر أحد لإقامة الحدّ عليه خوفا من عثمان ، فقام الإمام ٧ ودنا منه فسبّه الوليد وقال له : يا صاحب مكس (١) ، وقام إليه عقيل فردّ عليه سبّه ، وضرب الإمام به الأرض وعلاه بالسوط ، وعثمان يتميّز غيظا ، فصاح بالإمام :

ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الإمام بمنطق الشرع :

« بلى ، وشرّ من هذا إذا فسق ، ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه » (٢) .

وعلّق العلاّمة العلا يلي على هذه البادرة بقوله :

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديرا غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة ، تضع بين أيدينا صورة عن الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون ، والاغضاء في واقعة دينية ، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل من يغار عليها ، وإلاّ هدّد مكانه وافسح المجال للناس للنقد والتجريح ، وبالأخصّ حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذن ، فهذه المبالغة في الاغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها ـ إن كانت ـ بل إلى الحزبية حتى تتناحر مجتمعة (٣) .

إنّ الوليد بفسقه وفجوره ترك الدعارة واللهو والمجون في الكوفة ، وقد أسّست فيها دور للغناء والطرب ، وانتشر فيها المغنّون ، فكان فيها عبد الله بن هلال

__________________

(١) المكس : النقص والظلم.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٥.

(٣) الإمام الحسين ٧ : ٣٣.

٢٣٤

الذي لقّب بصاحب إبليس (١) ، وحنين الشاعر النصراني (٢) وغيرهما من أعلام الغناء.

٣ ـ عبد الله بن سعد :

ومن ولاة عثمان أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعله واليا على مصر ، وأسند إليه إقامة الصلاة والولاية على الخراج ، وهو فيما أجمع عليه المؤرّخون من أكثر زنادقة قريش عداء للنبيّ ٦ ، وكان يقول مستهزئا به : إنّي أصرفه حيث اريد ، وأحلّ النبيّ ٦ دمه وإن كان متعلّقا بأستار الكعبة ، وقد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكّة أتى به عثمان إلى النبيّ ، فلمّا رآه صمت طويلا ، ثمّ آمنه وعفا عنه ، فلمّا انصرف عثمان التفت النبيّ إلى أصحابه وقال لهم :

« ما صمت إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه ».

فقال له رجل من الأنصار : هلا أومأت إليّ يا رسول الله؟

فقال ٦ : « إنّ النبيّ لا ينبغي له خائنة الأعين » (٣) .

ولمّا ولي عبد الله مصر ساس المصريّين سياسة عنف وكلّفهم فوق ما يطيقون ، وأظهر الكبرياء والجبروت ، فضجروا منه ، فذهب خيارهم إلى عثمان يشكون إليه ، فاستجاب لهم عثمان وأرسل إليه رسالة يستنكر فيها سياسته في القطر ، فلم يستجب لعثمان ، وراح مصرّا على غيّه ، وعمد إلى من شكاه لعثمان فقتله ، وشاع التذمّر وعمّ السخط من جميع الأوساط في مصر ، فتشكّل منهم وفد كبير بلغ عدد أعضائه سبعمائة شخص فخفّوا إلى عثمان ، ولمّا انتهوا إلى يثرب نزلوا في الجامع وشكوا

__________________

(١) الأغاني ٢ : ٣٥١.

(٢) المصدر السابق : ٣٤٩.

(٣) تفسير القرطبي ٧ : ٤٠. سنن أبي داود ٢ : ٢٢٠.

٢٣٥

أميرهم إلى الصحابة ، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي ، وأرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم ، وكلّمه

الإمام أمير المؤمنين ٧ في شأنه قائلا : « إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دما ، فاعزله واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه ».

واستجاب عثمان ـ على كره ـ لنصيحة الإمام ، وقال للقوم : اختاروا رجلا اولّيه عليكم مكانه ، فأشاروا عليه بمحمّد بن أبي بكر ، فكتب إليه عهده ، وبعث معه عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح (١) ، ونزح القوم من المدينة ، فلمّا انتهوا إلى الموضع المعروف بـ ( حمس ) وإذا بقادم من المدينة ، تأمّلوه وإذا هو ورش غلام عثمان ، ففتّشوه وإذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالمصريّين ، وتأمّلوا الكتاب وإذا به بخطّ مروان ، فقفلوا راجعين إلى المدينة وقد صمّموا على قتل عثمان أو خلعه (٢) .

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان :

وأقرّ عثمان معاوية على الشام ، فقد ولاّه عمر عليه ، وزاد عثمان في رقعة سلطانه ، وزاد في نفوذه ، وقد مهّد له الطريق لنقل الخلافة إليه.

يقول الدكتور طه حسين :

وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان ، وتثبيتها في بني أميّة ، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين ، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر ، وأطلق يده في امور الشام أكثر ممّا أطلقها

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٢٥٠.

٢٣٦

عمر ، فلمّا كانت الفتنة فإذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيّته (١) .

وحكى حديث الدكتور الواقع ، فإنّ عثمان هو الذي أمدّ في سلطان معاوية ، وبسط له النفوذ والسعة حتى صار من أقوى الولاة ، وأصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلامية ومن أكثرها ولاء له.

٥ ـ سعيد بن العاص :

وأسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص ، فولاّه هذا القطر العظيم الذي كان حامية للجيوش الإسلامية بعد أن عزل عنه الوليد الذي شرب الخمر وأقام الإمام ٧ عليه الحدّ.

وقد استقبل الكوفيّون ولاية سعيد بكثير من الكراهية ؛ لأنّه كان شابا مترفا متهوّرا لا يتحرّج من اقتراف الإثم والمنكر ، وقد روى المؤرّخون صورا من استهتاره بالقيم الإسلامية والاجتماعية كان منها ما يلي : إنّه طلب من الحاضرين رؤية عيد شهر رمضان المبارك ، فقام إليه الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال فقال له :

أنا رأيته ..

فوجّه إليه كلاما جافيا لا يصدر من إنسان شريف قائلا له : بعينك هذه العوراء رأيته؟ ..

فالتاع هاشم وانبرى يقول :

تعيّرني بعيني ، وإنّما فقئت في سبيل الله ، وكانت عينه قد اصيبت يوم اليرموك.

لقد فقئت عين هذا المجاهد الكبير في واقعة اليرموك ، وقد عيّره بها هذا

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ : ١٢٠.

٢٣٧

الجاهلي الذي لم يتربّ إلاّ على الرذائل والموبقات.

وعلى أي حال فقد أصبح هاشم مفطرا ؛ لأنّه قد رأى الهلال ، وقد جاء عن النبيّ ٦ « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » ، وقد فطر الناس لإفطاره ، فانتهى الخبر إلى سعيد فأرسل خلفه وضربه ضربا موجعا وأمر بإحراق داره ، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الأخيار والمتحرّجون في دينهم ، فقد كان اعتداؤه على علم من أعلام الإسلام بغير حقّ ووجه مشروع إلاّ إرضاء لعواطفه المترعة بالجهل والحقد على رجال الإسلام (١) .

٢ ـ أعلن سعيد أمام الجماهير القول : إنّما السواد ـ يعني سواد الكوفة ـ بستان لقريش وأثار ذلك حفائظ النفوس ، فالسواد ملك للمسلمين وليس للقرشيّين الذين هم خصوم الإسلام وأعداء الرسول أي حقّ فيه وقد اندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر إلى الانكار عليه قائلا :

أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله! لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ...

لقد اتّخذ الحكم الأموي الذي فرض على الامّة بقوّة السيف خيرات الامّة بستانا لقريش التي ناجزت الإسلام وكفرت بجميع قيمه.

وانضمّ قرّاء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر فردّوا على الوالي طيشه وغروره ، وجابهوه بالنقد لمقالته ، وغضب مدير شرطته فردّ عليهم ردّا غليظا ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى اغمي عليه ، وأخذوا يذيعون مساوئ قريش وجرائم بني أميّة وذكر مثالب عثمان ، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بما جرى عليه ، فأمره بنفيهم إلى الشام ، وكتب رسالة إلى معاوية يأمره فيها

__________________

(١) حياة الإمام الحسن بن عليّ ٨ ١ : ٢٤٠.

٢٣٨

باستصلاحهم. ولم يرتكب هؤلاء الأخيار إثما أو يحدثوا فسادا في الأرض حتى يستحقّوا النفي من وطنهم ، وإنّما نقدوا أميرهم لأنّه قال غير الحقّ ، وشذّ عن الطريق القويم. ومن المؤكّد أنّ الإسلام قد منح الحرية التامّة للمواطنين ، فلهم أن ينقدوا الحكّام والمسئولين إذا شذّوا في سلوكهم وابتعدوا عن الحقّ.

وعلى أي حال فقد قامت السلطة بإخراج القوم بالعنف عن أوطانهم ، وأرسلتهم مخفورين إلى الشام ، فتلقّاهم معاوية وأنزلهم في كنيسة ، وأجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويحبّذ لهم الغضّ عمّا تقترفه السلطة من أعمال إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له وأنكروا عليه وعلى سعيد الذي قال : إنّما السواد بستان قريش.

ولمّا يئس معاوية منهم كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره بردّهم إلى الكوفة ، فلمّا عادوا إليها انطلقت ألسنتهم بنقد أمير الكوفة وذكر مثالب الأمويّين ، ورفع سعيد ثانيا أمرهم إلى عثمان ، فأمره بنفيهم إلى حمص والجزيرة ، فأخرجهم سعيد بعنف ، فلمّا انتهوا إلى حمص قابلهم وإليها بشدّة وعنف ، وسامهم سوء العذاب ، ويقول الرواة : إنّه إذا ركب أمر بهم بالسير حول ركابه مبالغة في إذلالهم والاستهانة بهم ، ولمّا رأوا ذلك أظهروا له الطاعة والاذعان لسلطانه ، وكتب لعثمان بذلك ، فأمره بردّهم إلى الكوفة ، وأخرجهم من حمص ، ومضوا يجدّون في سيرهم ، وجعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان ، وعرض ما عانوه من عمّاله من صنوف التعذيب والارهاق ، وتوجّهوا صوب المدينة ، فلمّا انتهوا إليها رأوا سعيدا قد أقبل من الكوفة في مهمّة رسمية ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه ما لا لاقوه من سعيد ، وسألوه عزله ، وفاجأهم سعيد فرآهم عند عثمان وهم يشكونه ، فأعرض عنهم عثمان وألزمهم بطاعته والانصياع لأوامره.

وقفل القوم راجعين إلى الكوفة ، وأقسموا أن لا يدخلها سعيد ، وقاموا

٢٣٩

باحتلال مركزه ، وخرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتى انتهوا إلى ( الجرعة ) ، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة ، وأقبل سعيد فقاموا بوجهه وعنّفوه أشدّ العنف ومنعوه من الدخول إلى مصرهم ، فولّى منهزما إلى عثمان يشكوهم إليه ، ولم يجد عثمان بدّا في عزله وتولية غيره مكانه (١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ولاة عثمان من الأمويّين ، وقد منحهم هذه المناصب العليا تقوية لنفوذهم ، وبسطا لسلطانهم ، وحملهم على رقاب المسلمين ، يقول السيّد مير علي الهندي :

وكان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين ، وقد تعلّقوا بالولايات كالثعبان الجائعة ، فجعلوا ينهشونها ويكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم (٢) .

وعلى أي حال فإنّ من الأسباب المهمّة التي أدّت إلى قتل عثمان سيرة ولاته وعمّاله الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

سياسته الاقتصادية :

ولم تكن لعثمان سياسة اقتصادية واضحة المعالم ، وإنّما انتهج سياسة عمر وسار عليها (٣) ، وهي ممالأة الأشراف والوجوه ، وتقديمهم في العطاء على غيرهم ، وقد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة بين المسلمين في العطاء ، وإيجاد التوازن الاقتصادي في الحياة العامّة ، وليس لولاة الامور أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥. تاريخ أبي الفداء ١ : ٦٨.

(٢) روح الإسلام : ٩٠.

(٣) تاريخ العراق في ظلّ الحكم الأموي : ٩٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287