موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام20%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147584 / تحميل: 5356
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

يصطفوا من أموال الدولة أي شيء لنفوسهم ولغيرهم ، يقول رسول الله ٦ : « إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة » (١) .

وأوضح الإمام أمير المؤمنين ٧ النهج الكامل على للسياسة الاقتصادية في الإسلام وذلك فيما كتبه إلى قثم بن العبّاس قال ٧ :

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا (٢) .

هذا هو نظر الإسلام في أموال الدولة : إنفاق على الفقراء ، ورفع لغائلة الجوع ، وبسط للرخاء العامّ بين المسلمين أمّا عثمان فلم يعن بذلك ، وإنّما أنفق الأموال بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط وسائر الوجوه والأشراف المؤيّدين لسياسته.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للأمويّين ، وادّعوا أنّ المال إنّما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنّها ملك لبني أميّة ، فقد منحوا نفوسهم جميع الامتيازات (٣) ، ونعرض فيما يلي لذلك :

هباته للأمويّين :

ومنح عثمان بني أميّة الأموال الهائلة ووهبهم الثراء العريض ، وهذه قائمة ببعض أسماء الذين أغدق عليهم الأموال وهم :

١ ـ الحارث بن الحكم :

وهب عثمان الحارث بن الحكم صهره من عائشة ما يلي :

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٧.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٢٨.

(٣) العقيدة والشريعة في الإسلام : ٢٣.

٢٤١

أ ـ ثلاثمائة ألف درهم (١) .

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة (٢) .

ج ـ أقطعه سوقا في المدينة يعرف بتهروز بعد أن تصدّق به النبيّ على جميع المسلمين (٣) .

٢ ـ أبو سفيان :

وهب عثمان عميد اسرته أبا سفيان مائتي ألف درهم من بيت المال (٤) .

٣ ـ سعيد بن العاص :

منحه مائة ألف درهم من بيت المال (٥) .

٤ ـ عبد الله بن خالد :

تزوّج عبد الله بن خالد بنت عثمان ، فأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال (٦) .

٥ ـ الوليد بن عقبة :

أمّا الوليد بن عقبة فهو أخو عثمان من امّه ، استقرض من عبد الله بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال ، فطالبه بها ، فأبى أن يدفعها ، ورفع الوليد رسالة إلى عثمان يشكو فيها ابن مسعود لمطالبته بالمال ، فكتب إليه عثمان : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، وغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال ، وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٣٥٥.

(٣) و (٥) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥.

٢٤٢

في ذلك ، وأقام في الكوفة بعد أن استقال من منصبه (١) .

إنّ بيت المال في عرف عثمان ملك لبني أميّة الذين ناهضوا الإسلام ، وليس ملكا للمسلمين ، ونترك الحكم في ذلك إلى القرّاء.

٦ ـ الحكم بن أبي العاص : أمّا الحكم فهو رجس من أرجاس الجاهلية ، ومن ألدّ أعداء الرسول ٦ ، ونفاه إلى الطائف بعد فتح مكّة ، وقال : لا يساكنني ، ولم يزل منفيا هو وأولاده ، وبعد وفاة النبيّ ٦ أقرّ الشيخان نفيه ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو ، فقدم إلى يثرب وهو بأقصى مكان من الذلّ والبؤس ، وكان يسوق تيسا وعليه ثياب رثة ، فلمّا رآه عثمان تألّم وكساه جبة خز وطيلسان (٢) ، ووهبه من الأموال ما يلي :

ـ وصله بمائة ألف درهم.

ـ ولاّه على صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له (٣) .

وأدّت هباته للحكم التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلامية.

٧ ـ مروان بن الحكم : أمّا مروان بن الحكم فهو خيط باطل ـ كما اشتهر بذلك ـ وكان وغدا خبيثا ، وكانت شئون الدولة العثمانية بيده ولا شأن لعثمان بها ، وقد وهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس افريقية ، وقد بلغت خمسمائة ألف دينار ، وقد عيب على عثمان في ذلك وانتقصه المسلمون ، وهجاه الشاعر عبد الرحمن بن حنبل بهذه الأبيات :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

٢٤٣

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإنّ الأمينين قد بينا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة

وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم وحميت الحمى (١)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين اوقية ، لا نعلم أنّها من الذهب أو الفضة وهذا ممّا سبّت عليه النقمة العامّة في البلاد (٢) .

ج ـ أعطاه مائة ألف من بيت المال ، فسارع زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديه ، وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي أن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت المال عوضا عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ٦ ، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا.

وزجره عثمان وصاح به :

ألق المفاتيح يا ابن أرقم! فإنّا سنجد غيرك (٣) .

د ـ أقطعه فدكا (٤) ، وهي التي صادرها أبو بكر من سيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨ ، وفي العقد المفصّل ( ٩ : ٨٩١ ) : إنّ اسم الشاعر عبد الرحمن ابن حسل.

(٢) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٤) لطائف المعارف : ٨٤. تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨.

٢٤٤

الرسول بحجّة أنّها لجميع المسلمين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هـ ـ كتب له بخمس مصر (١) .

هذه بعض ممالأة عثمان لاسرته التي حاربت الله ورسوله وليس من العدل ولا من الإنصاف أن تمنح هذه الأموال إلى هؤلاء الأوغاد الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين.

هباته للأعيان :

ووهب عثمان الثراء العريض والأموال الهائلة إلى بعض الوجوه والأشراف من ذوي النفوذ ، وهم :

١ ـ طلحة : وأعطى عثمان طلحة مائتي ألف دينار (٢) ، وكانت عليه خمسون ألفا فأحضرها طلحة فوهبها له وقال : هي لك على مروءتك (٣) ، أليس هذا هو التلاعب في بيت مال المسلمين؟

٢ ـ الزبير : منح الزبير بن العوّام ستمائة ألف ، ولمّا قبضها حار في صرفها ، فجعل يسأل عن خير مال يستغلّ صلته وينمّي ثراءه ، فأرشد إلى اتّخاذ الدور في الأقاليم والأمصار (٤) ، فبنى إحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (٥) .

٣ ـ زيد بن ثابت : ووهب عثمان أموالا هائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضّة ما يكسّر بالفؤوس عدا ما ترك من

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٧٩.

(٥) صحيح البخاري ٥ : ٢١.

٢٤٥

الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف (١) ، ومنح أموالا طائلة للمؤيّدين لسياسته أمثال حسّان بن ثابت ، وقد تكدّست ثروة البلاد في طائفة من الرأسماليّين الذين جهدوا على حصر الثروة عندهم وحرمان المجتمع الإسلامي منها ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى إشاعة الفساد ، وانتشار الترف والبذخ عند طائفة من الناس.

وقد خاف بعض المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي ظفر به من هبات عثمان ، يقول خباب بن الارت : لقد رأيتني مع رسول الله ٦ ما أملك دينارا ولا درهما ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف (٢) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا (٣) .

وهكذا تمثّلت الحيرة والذهول عند الصحابة المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي اختصّ بقوم وحرمت الأكثرية الساحقة في البلاد الإسلامية من التمتّع بالعيش الرغيد.

إقطاعه للأراضي :

ومن مناهج السياسة المالية عند عثمان أنّه أقطع بعض الأراضي الواسعة لجمهرة من المؤيّدين لسياسته ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها وهذه الأراضي من المفتوحة عنوة ، وهي ملك للمسلمين ، فمن أحيى أرضا فهي له ، وعليه الخراج يؤدّيه للدولة.

وعلى أي حال فقد أقطع عثمان أراضي في الكوفة لجماعة ، وهي :

١ ـ طلحة : أقطعه أرضا سمّيت دار الطلحيّين ، وكانت في الكناسة.

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٢) الوافي : درهم وأربعة دوانق.

(٣) الطبقات الكبرى ٦ : ٨.

٢٤٦

٢ ـ عبيد الله بن عمر : أقطعه أرضا سمّيت ( كوفيّة ابن عمر ).

٣ ـ اسامة بن زيد.

٤ ـ سعد وابن أخيه هاشم بن عتبة.

٥ ـ أبو موسى الأشعري.

٦ ـ حذيفة العبسي.

٧ ـ عبد الله بن مسعود.

٨ ـ سلمان الباهلي.

٩ ـ المسيّب الفزاري.

١٠ ـ عمرو بن حريث المخزومي.

١١ ـ جبير بن مطعم الثقفي.

١٢ ـ عتبة بن عمر الخزرجي.

١٣ ـ أبو جبير الأنصاري.

١٤ ـ عدي بن حاتم الطائي.

١٥ ـ جرير البجلي.

١٦ ـ الأشعث الكندي.

١٧ ـ الفرات بن حيّان العجلي.

١٨ ـ الوليد بن عقبة.

١٩ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

٢٠ ـ أمّ هاني بنت أبي طالب.

هؤلاء بعض من منحهم الأراضي ، ولا نعلم مقدار مساحتها.

٢٤٧

قائمة بأسماء الممنوحين أراضي واسعة :

وأقطع عثمان أراضي واسعة تدرّ بالربح الكثير لجماعة وهم :

١ ـ طلحة بن عبد الله : أقطعه ( النشاستج ).

٢ ـ عدي بن حاتم : منحه ( البردجاء ).

٣ ـ وائل بن حجر الحضرمي : منحه ضيعة ( زادر ).

٤ ـ خباب بن الارت : منحه ( مسعبنا ).

٥ ـ خالد بن عرفطة : أقطعه أرضا عند ( حمام أعين ).

٦ ـ الأشعث الكندي : أعطاه ( ظيزناباد ).

٧ ـ جرير بن عبد الله البجلي : أعطاه أرضا على شاطئ الفرات ( الجرفين ).

٨ ـ عبد الله بن مسعود : أقطعه أرضا بالنهرين.

٩ ـ الزبير بن العوّام : أقطعه أرضا.

١٠ ـ اسامة بين زيد : أقطعه أرضا ثمّ باعها (١) .

هذه بعض الأراضي الزراعية التي منحها عثمان لبعض الشخصيات.

ومن الجدير بالذكر أنّه اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء أراض خصبة في العراق ، فقد اشترى طلحة ومروان بن الحكم والأشعث بن قيس (٢) ورجال من قبائل العراق أراضي واسعة حتى انتشر الاقطاع ، وعمّ البؤس والحرمان في أوساط الفلاحين ، وبذلك فقد وجد النظام الطبقي الذي يخلق الصراع بين أبناء الامّة.

__________________

(١) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٢) خطط الكوفة : ٢١. الحضارة الإسلامية ١ : ١٢٣.

٢٤٨

استقطاع عثمان للأموال :

واصطفى عثمان من بيت المال ما شاء لنفسه وعياله ، فقد روى المؤرّخون انّه كانت في بيوت الأموال جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها ، فأخذها وحلّى بها بناته ونساءه (١) ، كما بالغ في الترف والسرف إلى حدّ لم يألفه المسلمون ، فقد أشاد له دارا في المدينة بناها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (٢) ، وكان ينضّد أسنانه بالذهب ، ويتلبّس بأثواب الملوك ، وأنفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (٣) ، ولمّا قتل وجد عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، وترك ألف بعير وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى ما قيمتها مائتا ألف دينار (٤) .

وعلّق محمّد كرد علي على هذه السياسة التي انتهجها عثمان بقوله :

لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس ؛ الاولى : الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو والتبطّل ، والاخرى : الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض ، وتعمل في الصناعة ، وتشقى في سبيل اولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم ، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء ، وقد سارت الدولة الأموية في أيام حكمها على هذه السياسة فأخضعت المال للتيارات السياسية وجعلوه سلاحا ضدّ أعدائهم ونعيما مباحا لأنصارهم (٥) .

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

(٢) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٥٣.

(٥) الإدارة الإسلامية : ٨٢.

٢٤٩

هذه بعض المؤاخذات على السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، وقد ابتعدت كلّ البعد عمّا قنّنه الإسلام من وجوب إنفاق أموال الدولة على ما يسعد به المجتمع من مكافحة الفقر ، وتطوير الحياة الاقتصادية بشكل عامّ.

مع الجبهة المعارضة :

وكان من الطبيعي أن ينقم خيار المسلمين وصلحاؤهم على عثمان وولاته بما اقترفوه من مساوئ الأعمال التي لا تتّفق بصلة مع الواقع الديني ، وقد شنّوا عليه حملة شعواء نقدوه بلاذع النقد ومن الجدير بالذكر أنّ المعارضة كانت مختلفة الاتّجاه بين اليمين واليسار ، فطلحة والزبير وعائشة ومن انضمّ إليهم كانوا مدفوعين لرغباتهم الخاصّة ومصالحهم الضيّقة ، أمّا الطائفة الثانية فكانت تضمّ أعلام الإسلام وحماته أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب وأمثال المجاهد الكبير أبي ذرّ ، والصحابي القارئ عبد الله بن مسعود ونظرائهم من الذين أبلوا في الله بلاء حسنا ، فرأوا أنّ السنّة قد اميتت ، والبدعة احييت ، ورأوا صادقا يكذّب ، وأثرة بغير حقّ ، فهبّوا في وجه عثمان مطالبين بتغيير سلوكه واتّباع الهدى ، ولم تكن لهم أيّة مصلحة ينشدونها سوى خدمة الإسلام ، ولو أنّه استجاب لهم لجنّب الامّة الكثير من المشاكل.

التنكيل بالمعارضين :

وأمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين لسياسته ، فصبّ عليهم جام غضبه وقابلهم بمزيد من القسوة والبطش والتنكيل ، وهذه قائمة بأسماء بعضهم وما عانوه منه :

١ ـ عمّار بن ياسر :

أمّا عمّار بن ياسر فهو أجلّ صحابي ، ومكانته في الإسلام معلومة ، فهو وأبواه

٢٥٠

قد عانوا في سبيل الإسلام أعنف المصاعب وأقسى ألوان التعذيب ، وقد استشهد أبواه في سبيل الإسلام على يد القساة الطغاة من قريش.

وقد أشاد القرآن الكريم بفضل عمّار ، فمن الآيات النازلة في حقّه قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (١) ، وقال تعالى في حقّه أيضا : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٢) .

وكانت له المنزلة الكريمة عند النبيّ ٦ ، فقد سمع شخصا ينال من عمّار ، فتأثّر ، وقال : « ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (٣) ، وكان عمّار من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين ٧ ، فقد آمن بحقّه ، وأنّه أولى بمقام النبيّ من غيره ، وقد وقف إلى جانبه أيام الفتنة الكبرى ، وأعلن تأييده للإمام ٧ ، وبعد ما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين في وضعه للشورى التي أدّت إلى فوزه في الحكم كان عمّار من أشدّ الناقمين على عثمان ، وقد أظهر نقمته عليه في المواضع التالية :

١ ـ إنّ عثمان لمّا استأثر بالسفط الذي يضمّ جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها بثمن ، فأخذها ليحلّي بها نساءه وبناته ، فأنكر عليه الإمام أمير المؤمنين ٧ وأيّده عمّار ، فقال له عثمان : يا ابن المتكاء (٤) ، أعليّ تجترئ؟ ثمّ أوعز إلى شرطته بأخذه ، فقبضوا عليه وأدخلوه عليه ، فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه ، وحملوه إلى منزل أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة ولم يفق من شدّة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين

__________________

(١) الزمر : ٩ ، نصّ على ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ : ١٧٨. القرطبي في تفسيره ٥ : ٢٣٩.

(٢) الأنعام : ١٢٢ ، نصّ على ذلك السيوطي في تفسيره ١ : ٢٣٩ ، وغيره.

(٣) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ١١٤.

(٤) المتكاء : العظيمة البطن التي لا تمسك بولها.

٢٥١

والمغرب ، فلمّا أفاق قام وتوضّأ وصلّى صلاة العشاء وقال :

الحمد لله ليس هذا أوّل يوم اوذينا فيه في الله.

يا لله! يا للمسلمين! أمثل عمّار الذي هو في طليعة المؤسّسين في بناء الإسلام يضرب ويهان لأنّه رأى أثرة بغير تقىّ ونهبا لأموال المسلمين بغير وجه مشروع.

وكان من الطبيعي أن يثير ذلك غضب المسلمين ونقمتهم على عثمان عميد الأمويّين ، فقد غضبت عائشة ، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله ٦ ، وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، وقالت :

ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم! وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ..

وغضب عثمان من عائشة ، ولم يدر كيف يعتذر ممّا اقترفه تجاه عمّار (١) .

٢ ـ أنّ أعلام الصحابة رفعوا مذكّرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه ومخالفاته للسنّة ، وطالبوه بالكفّ عنها ، فأخذها عمّار ودفعها إليه ، فقال له عثمان بعنف :

أعليّ تقدم من بينهم؟ ...

إنّي أنصحهم لك ...

كذبت يا ابن سميّة.

أنا والله! ابن سميّة ، وابن ياسر ..

وأوعز عثمان إلى جلاوزته لمدّ يديه ورجليه وضربه عثمان بنفسه برجليه على مذاكيره فأصابه فتق ، وكان ضعيفا فاغمي عليه ...

لقد لاقى هذا الصحابي من صنوف العذاب والتنكيل في عهد عثمان ما لا يوصف لمرارته ، والحاكم هو الله الذي يقضي بين عباده.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٤٨.

٢٥٢

٣ ـ لمّا نكّل عثمان بالصحابي الثائر على السياسة الأموية أبي ذرّ فنفاه إلى الربذة ، ومات فيها جائعا غريبا مظلوما مضطهدا ، فحزن عليه المسلمون فقال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

رحمه الله ..

فاندفع عمّار والأسى باد عليه فقال :

رحمه الله من كلّ أنفسنا ...

فغضب عثمان وقال لعمّار بأفحش القول وأقساه قائلا :

يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييره ...؟

أيليق هذا الفحش بالرجل العادي فضلا عمّن يدّعي أنّه خليفة المسلمين وأنّ الملائكة تستحي منه.

ثمّ أمر عثمان غلمانه فدفعوا عمّارا وأرهقوه ، وأمر بنفيه إلى الربذة ، فلمّا تهيّأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الإمام أمير المؤمنين ٧ فسألوه أن يكلّم عثمان في شأن عمّار وأن يلغي قراره في اعتقاله في الربذة ، و كلّم الإمام عثمان بذلك قائلا :

« اتّق الله ، فإنّك سيّرت رجلا صالحا من المسلمين ، فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ..؟ ».

فثار عثمان وصاح بالإمام :

أنت أحقّ بالنّفي منه ...

« رم إن شئت ذلك ».

واجتمع المهاجرون فعذلوه عن ذلك ، فاستجاب لهم وعفا عن عمّار (١) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠. أنساب الأشراف ٥ : ٥٤.

٢٥٣

وهكذا لقي هذا الصحابي العظيم صنوف الاضطهاد والارهاق من عثمان ، ولم يلحظ مكانته في الإسلام وعظيم جهاده في إقامة صروح الدين ، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

٢ ـ مع أبي ذرّ :

أمّا أبو ذرّ فهو صاحب رسول الله ٦ وخليله ، وهو من الأسبقين للإسلام ، وكان من أزهد الناس في الدنيا ، ومن أقلّهم احتفالا بمنافعها ، وكان من ألصق الناس برسول الله ٦ ، فكان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من الصحابة ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ أحدا من أصحابه (١) ، وهو أحد الثلاثة الذين أحبّهم الله ، وأمر نبيّه بحبّهم ، كما أنّه أحد الثلاثة (٢) الذين تشتاق إليهم الجنّة (٣) .

ولمّا آل الحكم إلى عثمان واستأثرت بنو أميّة بمنافع الدولة وخيرات المسلمين ، هبّ أبو ذرّ إلى الانكار عليه ، وقد نهاه عثمان من نقده والانكار عليه ، فلم يمتنع ورأى أنّ ذلك ضرورة إسلامية وواجب عليه ، وكان أبو ذرّ يقف أمام الذين وهبهم عثمان الثراء العريض ويتلو عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ، وغاظ ذلك مروان بن الحكم المنتفع الأوّل من حكومة عثمان ، فشكاه إليه ، فأرسل خلفه ، فنهاه فقال أبو ذرّ :

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟ فو الله! لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ...

__________________

(١) كنز العمّال ٨ : ١٥.

(٢) الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنّة : الإمام عليّ ، أبو ذرّ وعمّار بن ياسر.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ٣٣٠.

٢٥٤

لقد أبى أبو ذرّ الذي تربّى بتعاليم الإسلام وأحكام القرآن أن يصانع عثمان ، ويقرّه على سياسته الملتوية التي اتّخذت مال الله دولا.

وضاق عثمان ذرعا من أبي ذرّ الثائر العظيم الذي وعى الإسلام وآمن بقيمه وتعاليمه ، وراح عثمان يفتّش عن الوسائل التي يتخلّص بها من خصمه العنيد ، فاتّخذ القرار التالي :

اعتقال أبي ذرّ في الشام :

أبى أبو ذرّ أن يصانع عثمان ويساير خطواته ومخطّطاته ويجاريه بأي عمل من أعماله التي لا يقرّها الإسلام ، وكان من ذلك أنّ عثمان سأل حضّار مجلسه فقال لهم :

أيجوز لأحد أن يأخذ من بيت المال فإذا أيسر قضاه؟

فانبرى كعب الأحبار فأفتاه بالجواز ، وصعب على أبي ذرّ أن يتدخّل كعب في شئون الإسلام وهو يهودي النزعة ، وقد شكّ في إسلامه ، فصاح به :

يا ابن اليهوديّين ، أتعلّمنا ديننا؟ ...

فثار عثمان وصاح بأبي ذرّ :

ما أكثر أذاك لي! وولعك بأصحابي! الحق بمكتبك في الشام ...

وسيّره إلى الشام ، فلمّا انتهى إليها أفزعه ما رأى من منكرات معاوية وبدعه ، فقد رآه قد أطلق يديه في بيت المال يهبه لعملائه وينفقه على شهواته وملاذّه فأخذ ينكر عليه ذلك ، ويذيع مساوئ عثمان وبدعه ، وقد قال لمعاوية حينما قال :

المال مال الله ..

فردّ عليه أبو ذرّ :

المال مال المسلمين ..

٢٥٥

إنّ أموال الخزينة العامّة للمسلمين وليست لمعاوية حتى ينفقها على ملاذه وتدعيم سلطانه ، ولمّا بنى معاوية داره الخضراء أنكر عليه أبو ذرّ وقال له :

يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ..

وأخذ الثائر العظيم يدعو المسلمين إلى الحذر واليقظة من السياسة الأموية التي أمعنت في اقتراف المنكر ، فكان يقول لأهل الشام :

والله! لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله! ما هي في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه ، والله! لأرى حقّا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه (١) .

وأخذ الوعي ينتشر بين أهل الشام ، فقد أوجدت دعوته هدى في النفوس ، واستطابتها العامّة لقد كانت دعوته إلى إنصاف المحرومين ، وتحريض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الطغمة الحاكمة وخاف الطاغية معاوية أن تندلع عليه نار الثورة فنهى الناس عن مخالطته والاجتماع به ، وقال بعنف لأبي ذرّ :

يا عدو الله! تؤلّب الناس علينا ، وتصنع ما تصنع!! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ لقتلتك ..

فردّ عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ورسوله أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ..

لقد صدق أبو ذرّ بمقالته ، فإنّ معاوية وأباه أبو سفيان لم يؤمنا بالله طرفة عين ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

٢٥٦

أظهرا الإسلام خوفا من السيف وأبطنا الكفر والكيد للإسلام.

وعلى أي حال ، فقد ظلّ أبو ذرّ يواصل نشاطه الديني والسياسي للتشهير بالحكم الأموي حتى فزع منه معاوية وخاف على سلطانه.

إخراج أبي ذرّ من الشام :

وكتب معاوية إلى عثمان يخبره بخطر أبي ذرّ على الشام ويطلب منه إخراجه إلى بلد آخر ، فأجابه عثمان ، وأمره بحمله على أغلظ مركب وأوعره حتى يلقى الجهد والعناء ، فأرسله معاوية مع جلاوزة نزعت من نفوسهم الرأفة والرحمة والشرف والكرامة ، فساروا به سيرا مزعجا ولم يسمحوا له أن يستريح من الجهد والعناء ، ومضوا في سيرهم لا يلوون على شيء حتى تسلّخت بواطن فخذه وكاد أن يموت.

ولمّا انتهى إلى يثرب دخل على عثمان وهو منهوك القوى ، فاستقبله عثمان بالجفوة ومرارة القول قائلا :

أنت الذي فعلت وفعلت؟ ...

فأجابه أبو ذرّ بمنطق الحقّ قائلا :

نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني ..

فصاح عثمان به :

كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها ، وقد أنغلت الشام علينا ...

فوجّه إليه أبو ذر نصيحته قائلا :

اتّبع سنّة صاحبيك ـ يعني أبا بكر وعمر ـ لم يكن لأحد كلام.

فصاح به عثمان :

ما لك لا أمّ لك ...

٢٥٧

فقال له أبو ذرّ بهدوء :

والله! ما وجدت لي عذرا إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وثار عثمان فقال لمن حوله :

أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام ...

فثار الإمام ٧ من هذه الاستهانة التي قابل بها عثمان أبا ذرّ ، فقال له :

« يا عثمان ، سمعت رسول الله ٦ يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ ».

ولم يحفل هذا الثائر العظيم بعثمان ، وإنّما راح ينكر عليه بوحي من دينه ، ويندّد بسياسته الملتوية قائلا له :

تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء؟

وأخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من النبيّ ٦ في ذمّ الأمويّين ، ومدى خطرهم على الإسلام قائلا :

قال رسول الله : « إنّ بني العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا ، وعباد الله خولا ، ومال الله دولا » (١) .

وأصدر عثمان أمرا بمنع مجالسة أبي ذرّ وحرّم مخالطته والكلام معه ، لأنّه يقول الحقّ ويأمر بالعدل وينهى عن المنكر.

اعتقاله في الربذة :

واستمرّ أبو ذرّ في جهاده ينشر مساوئ الأمويّين ويذيع منكراتهم ويوقظ الجماهير ، فضاق عثمان به ذرعا فصمّم على أن ينفيه عن الأمصار الإسلامية

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٣٦٨ ـ ٣٧٠.

٢٥٨

ويعتقله في أرض جرداء لا سكن فيها ، فأرسل شرطته خلفه ، فلمّا حضر عنده بادره أبو ذرّ منكرا وناقما على سياسته قائلا :

ويحك يا عثمان ، أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر ، هل رأيت هذا هديهم ، إنّك لتبطش بي بطش الجبّارين ..

فقطع عليه عثمان كلامه وصاح به :

اخرج عنّا من بلادنا ..

أتخرجني من حرم رسول الله ٦ ؟ ..

نعم ، وأنفك راغم.

اخرج إلى مكّة.

لا ..

الكوفة؟

لا ..

إلى الربذة حتى تموت فيها ..

وأوعز شيخ الأمويّين عثمان إلى وزيره ومستشاره مروان بن الحكم بإخراج هذا الصحابي العظيم من مدينة الرسول ٦ ليقيم في أرض جرداء قد انعدمت فيها جميع وسائل الحياة ، فأخرجه الوزغ ابن الوزغ مهان الجانب ، محطّم الكيان ، وحرّم على المسلمين مشايعته وتوديعه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ :

ولم تذعن الاسرة النبوية لأوامر عثمان بتحريم توديع أبي ذرّ ، فقد خرجت ومعها الصحابي الجليل عمّار بن ياسر لتوديع هذا الصحابي المضطهد ، وتلقي عليه نظرة الوداع.

٢٥٩

ولمّا رآهم مروان وجّه خطابه وإنذاره إلى الإمام الحسن ٧ فقال له :

ايه يا حسن! ألا تعلم أنّ عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ...

ولم يجبه الإمام بكلمة احتقارا له ، و ثار الإمام أمير المؤمنين ٧ وحمل على مروان وضرب أذني دابته ، وصاح به :

« تنحّ نحّاك الله إلى النّار » ، وولّى مروان منهزما فزعا إلى سيّده وابن عمّه عثمان يخبره بعصيان أهل البيت : أمره ، فاستشاط عثمان غيظا وورم أنفه.

كلمة الإمام :

وألقى الإمام ٧ على أبي ذرّ نظرة مشفوعة بالأسى والحزن ، وخاطبه بهذه الكلمات التي حدّدت أبعاد شخصيّة أبي ذرّ ، وألقت الأضواء على ثورته ضدّ الحكم الأموي قائلا :

يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت لله فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه ؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا. ولو أنّ السّماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك.

يا لها من كلمات ذهبية ألمّت بواقع أبي ذرّ الذي ثار في وجه الطغيان والاستبداد! فقد كانت ثورته إصلاحية استهدفت القضاء على الاستغلال ونهب ثروات الامّة.

وقد مجّد الإمام ثورة أبي ذرّ التي خشيها الأمويّون وطلب منه أن يهرب بدينه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287