موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام20%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147602 / تحميل: 5358
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

يصطفوا من أموال الدولة أي شيء لنفوسهم ولغيرهم ، يقول رسول الله ٦ : « إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة » (١) .

وأوضح الإمام أمير المؤمنين ٧ النهج الكامل على للسياسة الاقتصادية في الإسلام وذلك فيما كتبه إلى قثم بن العبّاس قال ٧ :

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا (٢) .

هذا هو نظر الإسلام في أموال الدولة : إنفاق على الفقراء ، ورفع لغائلة الجوع ، وبسط للرخاء العامّ بين المسلمين أمّا عثمان فلم يعن بذلك ، وإنّما أنفق الأموال بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط وسائر الوجوه والأشراف المؤيّدين لسياسته.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للأمويّين ، وادّعوا أنّ المال إنّما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنّها ملك لبني أميّة ، فقد منحوا نفوسهم جميع الامتيازات (٣) ، ونعرض فيما يلي لذلك :

هباته للأمويّين :

ومنح عثمان بني أميّة الأموال الهائلة ووهبهم الثراء العريض ، وهذه قائمة ببعض أسماء الذين أغدق عليهم الأموال وهم :

١ ـ الحارث بن الحكم :

وهب عثمان الحارث بن الحكم صهره من عائشة ما يلي :

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٧.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٢٨.

(٣) العقيدة والشريعة في الإسلام : ٢٣.

٢٤١

أ ـ ثلاثمائة ألف درهم (١) .

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة (٢) .

ج ـ أقطعه سوقا في المدينة يعرف بتهروز بعد أن تصدّق به النبيّ على جميع المسلمين (٣) .

٢ ـ أبو سفيان :

وهب عثمان عميد اسرته أبا سفيان مائتي ألف درهم من بيت المال (٤) .

٣ ـ سعيد بن العاص :

منحه مائة ألف درهم من بيت المال (٥) .

٤ ـ عبد الله بن خالد :

تزوّج عبد الله بن خالد بنت عثمان ، فأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال (٦) .

٥ ـ الوليد بن عقبة :

أمّا الوليد بن عقبة فهو أخو عثمان من امّه ، استقرض من عبد الله بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال ، فطالبه بها ، فأبى أن يدفعها ، ورفع الوليد رسالة إلى عثمان يشكو فيها ابن مسعود لمطالبته بالمال ، فكتب إليه عثمان : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، وغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال ، وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٣٥٥.

(٣) و (٥) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥.

٢٤٢

في ذلك ، وأقام في الكوفة بعد أن استقال من منصبه (١) .

إنّ بيت المال في عرف عثمان ملك لبني أميّة الذين ناهضوا الإسلام ، وليس ملكا للمسلمين ، ونترك الحكم في ذلك إلى القرّاء.

٦ ـ الحكم بن أبي العاص : أمّا الحكم فهو رجس من أرجاس الجاهلية ، ومن ألدّ أعداء الرسول ٦ ، ونفاه إلى الطائف بعد فتح مكّة ، وقال : لا يساكنني ، ولم يزل منفيا هو وأولاده ، وبعد وفاة النبيّ ٦ أقرّ الشيخان نفيه ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو ، فقدم إلى يثرب وهو بأقصى مكان من الذلّ والبؤس ، وكان يسوق تيسا وعليه ثياب رثة ، فلمّا رآه عثمان تألّم وكساه جبة خز وطيلسان (٢) ، ووهبه من الأموال ما يلي :

ـ وصله بمائة ألف درهم.

ـ ولاّه على صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له (٣) .

وأدّت هباته للحكم التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلامية.

٧ ـ مروان بن الحكم : أمّا مروان بن الحكم فهو خيط باطل ـ كما اشتهر بذلك ـ وكان وغدا خبيثا ، وكانت شئون الدولة العثمانية بيده ولا شأن لعثمان بها ، وقد وهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس افريقية ، وقد بلغت خمسمائة ألف دينار ، وقد عيب على عثمان في ذلك وانتقصه المسلمون ، وهجاه الشاعر عبد الرحمن بن حنبل بهذه الأبيات :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

٢٤٣

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإنّ الأمينين قد بينا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة

وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم وحميت الحمى (١)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين اوقية ، لا نعلم أنّها من الذهب أو الفضة وهذا ممّا سبّت عليه النقمة العامّة في البلاد (٢) .

ج ـ أعطاه مائة ألف من بيت المال ، فسارع زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديه ، وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي أن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت المال عوضا عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ٦ ، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا.

وزجره عثمان وصاح به :

ألق المفاتيح يا ابن أرقم! فإنّا سنجد غيرك (٣) .

د ـ أقطعه فدكا (٤) ، وهي التي صادرها أبو بكر من سيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨ ، وفي العقد المفصّل ( ٩ : ٨٩١ ) : إنّ اسم الشاعر عبد الرحمن ابن حسل.

(٢) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٤) لطائف المعارف : ٨٤. تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨.

٢٤٤

الرسول بحجّة أنّها لجميع المسلمين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هـ ـ كتب له بخمس مصر (١) .

هذه بعض ممالأة عثمان لاسرته التي حاربت الله ورسوله وليس من العدل ولا من الإنصاف أن تمنح هذه الأموال إلى هؤلاء الأوغاد الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين.

هباته للأعيان :

ووهب عثمان الثراء العريض والأموال الهائلة إلى بعض الوجوه والأشراف من ذوي النفوذ ، وهم :

١ ـ طلحة : وأعطى عثمان طلحة مائتي ألف دينار (٢) ، وكانت عليه خمسون ألفا فأحضرها طلحة فوهبها له وقال : هي لك على مروءتك (٣) ، أليس هذا هو التلاعب في بيت مال المسلمين؟

٢ ـ الزبير : منح الزبير بن العوّام ستمائة ألف ، ولمّا قبضها حار في صرفها ، فجعل يسأل عن خير مال يستغلّ صلته وينمّي ثراءه ، فأرشد إلى اتّخاذ الدور في الأقاليم والأمصار (٤) ، فبنى إحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (٥) .

٣ ـ زيد بن ثابت : ووهب عثمان أموالا هائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضّة ما يكسّر بالفؤوس عدا ما ترك من

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٧٩.

(٥) صحيح البخاري ٥ : ٢١.

٢٤٥

الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف (١) ، ومنح أموالا طائلة للمؤيّدين لسياسته أمثال حسّان بن ثابت ، وقد تكدّست ثروة البلاد في طائفة من الرأسماليّين الذين جهدوا على حصر الثروة عندهم وحرمان المجتمع الإسلامي منها ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى إشاعة الفساد ، وانتشار الترف والبذخ عند طائفة من الناس.

وقد خاف بعض المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي ظفر به من هبات عثمان ، يقول خباب بن الارت : لقد رأيتني مع رسول الله ٦ ما أملك دينارا ولا درهما ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف (٢) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا (٣) .

وهكذا تمثّلت الحيرة والذهول عند الصحابة المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي اختصّ بقوم وحرمت الأكثرية الساحقة في البلاد الإسلامية من التمتّع بالعيش الرغيد.

إقطاعه للأراضي :

ومن مناهج السياسة المالية عند عثمان أنّه أقطع بعض الأراضي الواسعة لجمهرة من المؤيّدين لسياسته ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها وهذه الأراضي من المفتوحة عنوة ، وهي ملك للمسلمين ، فمن أحيى أرضا فهي له ، وعليه الخراج يؤدّيه للدولة.

وعلى أي حال فقد أقطع عثمان أراضي في الكوفة لجماعة ، وهي :

١ ـ طلحة : أقطعه أرضا سمّيت دار الطلحيّين ، وكانت في الكناسة.

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٢) الوافي : درهم وأربعة دوانق.

(٣) الطبقات الكبرى ٦ : ٨.

٢٤٦

٢ ـ عبيد الله بن عمر : أقطعه أرضا سمّيت ( كوفيّة ابن عمر ).

٣ ـ اسامة بن زيد.

٤ ـ سعد وابن أخيه هاشم بن عتبة.

٥ ـ أبو موسى الأشعري.

٦ ـ حذيفة العبسي.

٧ ـ عبد الله بن مسعود.

٨ ـ سلمان الباهلي.

٩ ـ المسيّب الفزاري.

١٠ ـ عمرو بن حريث المخزومي.

١١ ـ جبير بن مطعم الثقفي.

١٢ ـ عتبة بن عمر الخزرجي.

١٣ ـ أبو جبير الأنصاري.

١٤ ـ عدي بن حاتم الطائي.

١٥ ـ جرير البجلي.

١٦ ـ الأشعث الكندي.

١٧ ـ الفرات بن حيّان العجلي.

١٨ ـ الوليد بن عقبة.

١٩ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

٢٠ ـ أمّ هاني بنت أبي طالب.

هؤلاء بعض من منحهم الأراضي ، ولا نعلم مقدار مساحتها.

٢٤٧

قائمة بأسماء الممنوحين أراضي واسعة :

وأقطع عثمان أراضي واسعة تدرّ بالربح الكثير لجماعة وهم :

١ ـ طلحة بن عبد الله : أقطعه ( النشاستج ).

٢ ـ عدي بن حاتم : منحه ( البردجاء ).

٣ ـ وائل بن حجر الحضرمي : منحه ضيعة ( زادر ).

٤ ـ خباب بن الارت : منحه ( مسعبنا ).

٥ ـ خالد بن عرفطة : أقطعه أرضا عند ( حمام أعين ).

٦ ـ الأشعث الكندي : أعطاه ( ظيزناباد ).

٧ ـ جرير بن عبد الله البجلي : أعطاه أرضا على شاطئ الفرات ( الجرفين ).

٨ ـ عبد الله بن مسعود : أقطعه أرضا بالنهرين.

٩ ـ الزبير بن العوّام : أقطعه أرضا.

١٠ ـ اسامة بين زيد : أقطعه أرضا ثمّ باعها (١) .

هذه بعض الأراضي الزراعية التي منحها عثمان لبعض الشخصيات.

ومن الجدير بالذكر أنّه اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء أراض خصبة في العراق ، فقد اشترى طلحة ومروان بن الحكم والأشعث بن قيس (٢) ورجال من قبائل العراق أراضي واسعة حتى انتشر الاقطاع ، وعمّ البؤس والحرمان في أوساط الفلاحين ، وبذلك فقد وجد النظام الطبقي الذي يخلق الصراع بين أبناء الامّة.

__________________

(١) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٢) خطط الكوفة : ٢١. الحضارة الإسلامية ١ : ١٢٣.

٢٤٨

استقطاع عثمان للأموال :

واصطفى عثمان من بيت المال ما شاء لنفسه وعياله ، فقد روى المؤرّخون انّه كانت في بيوت الأموال جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها ، فأخذها وحلّى بها بناته ونساءه (١) ، كما بالغ في الترف والسرف إلى حدّ لم يألفه المسلمون ، فقد أشاد له دارا في المدينة بناها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (٢) ، وكان ينضّد أسنانه بالذهب ، ويتلبّس بأثواب الملوك ، وأنفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (٣) ، ولمّا قتل وجد عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، وترك ألف بعير وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى ما قيمتها مائتا ألف دينار (٤) .

وعلّق محمّد كرد علي على هذه السياسة التي انتهجها عثمان بقوله :

لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس ؛ الاولى : الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو والتبطّل ، والاخرى : الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض ، وتعمل في الصناعة ، وتشقى في سبيل اولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم ، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء ، وقد سارت الدولة الأموية في أيام حكمها على هذه السياسة فأخضعت المال للتيارات السياسية وجعلوه سلاحا ضدّ أعدائهم ونعيما مباحا لأنصارهم (٥) .

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

(٢) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٥٣.

(٥) الإدارة الإسلامية : ٨٢.

٢٤٩

هذه بعض المؤاخذات على السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، وقد ابتعدت كلّ البعد عمّا قنّنه الإسلام من وجوب إنفاق أموال الدولة على ما يسعد به المجتمع من مكافحة الفقر ، وتطوير الحياة الاقتصادية بشكل عامّ.

مع الجبهة المعارضة :

وكان من الطبيعي أن ينقم خيار المسلمين وصلحاؤهم على عثمان وولاته بما اقترفوه من مساوئ الأعمال التي لا تتّفق بصلة مع الواقع الديني ، وقد شنّوا عليه حملة شعواء نقدوه بلاذع النقد ومن الجدير بالذكر أنّ المعارضة كانت مختلفة الاتّجاه بين اليمين واليسار ، فطلحة والزبير وعائشة ومن انضمّ إليهم كانوا مدفوعين لرغباتهم الخاصّة ومصالحهم الضيّقة ، أمّا الطائفة الثانية فكانت تضمّ أعلام الإسلام وحماته أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب وأمثال المجاهد الكبير أبي ذرّ ، والصحابي القارئ عبد الله بن مسعود ونظرائهم من الذين أبلوا في الله بلاء حسنا ، فرأوا أنّ السنّة قد اميتت ، والبدعة احييت ، ورأوا صادقا يكذّب ، وأثرة بغير حقّ ، فهبّوا في وجه عثمان مطالبين بتغيير سلوكه واتّباع الهدى ، ولم تكن لهم أيّة مصلحة ينشدونها سوى خدمة الإسلام ، ولو أنّه استجاب لهم لجنّب الامّة الكثير من المشاكل.

التنكيل بالمعارضين :

وأمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين لسياسته ، فصبّ عليهم جام غضبه وقابلهم بمزيد من القسوة والبطش والتنكيل ، وهذه قائمة بأسماء بعضهم وما عانوه منه :

١ ـ عمّار بن ياسر :

أمّا عمّار بن ياسر فهو أجلّ صحابي ، ومكانته في الإسلام معلومة ، فهو وأبواه

٢٥٠

قد عانوا في سبيل الإسلام أعنف المصاعب وأقسى ألوان التعذيب ، وقد استشهد أبواه في سبيل الإسلام على يد القساة الطغاة من قريش.

وقد أشاد القرآن الكريم بفضل عمّار ، فمن الآيات النازلة في حقّه قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (١) ، وقال تعالى في حقّه أيضا : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٢) .

وكانت له المنزلة الكريمة عند النبيّ ٦ ، فقد سمع شخصا ينال من عمّار ، فتأثّر ، وقال : « ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (٣) ، وكان عمّار من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين ٧ ، فقد آمن بحقّه ، وأنّه أولى بمقام النبيّ من غيره ، وقد وقف إلى جانبه أيام الفتنة الكبرى ، وأعلن تأييده للإمام ٧ ، وبعد ما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين في وضعه للشورى التي أدّت إلى فوزه في الحكم كان عمّار من أشدّ الناقمين على عثمان ، وقد أظهر نقمته عليه في المواضع التالية :

١ ـ إنّ عثمان لمّا استأثر بالسفط الذي يضمّ جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها بثمن ، فأخذها ليحلّي بها نساءه وبناته ، فأنكر عليه الإمام أمير المؤمنين ٧ وأيّده عمّار ، فقال له عثمان : يا ابن المتكاء (٤) ، أعليّ تجترئ؟ ثمّ أوعز إلى شرطته بأخذه ، فقبضوا عليه وأدخلوه عليه ، فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه ، وحملوه إلى منزل أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة ولم يفق من شدّة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين

__________________

(١) الزمر : ٩ ، نصّ على ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ : ١٧٨. القرطبي في تفسيره ٥ : ٢٣٩.

(٢) الأنعام : ١٢٢ ، نصّ على ذلك السيوطي في تفسيره ١ : ٢٣٩ ، وغيره.

(٣) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ١١٤.

(٤) المتكاء : العظيمة البطن التي لا تمسك بولها.

٢٥١

والمغرب ، فلمّا أفاق قام وتوضّأ وصلّى صلاة العشاء وقال :

الحمد لله ليس هذا أوّل يوم اوذينا فيه في الله.

يا لله! يا للمسلمين! أمثل عمّار الذي هو في طليعة المؤسّسين في بناء الإسلام يضرب ويهان لأنّه رأى أثرة بغير تقىّ ونهبا لأموال المسلمين بغير وجه مشروع.

وكان من الطبيعي أن يثير ذلك غضب المسلمين ونقمتهم على عثمان عميد الأمويّين ، فقد غضبت عائشة ، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله ٦ ، وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، وقالت :

ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم! وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ..

وغضب عثمان من عائشة ، ولم يدر كيف يعتذر ممّا اقترفه تجاه عمّار (١) .

٢ ـ أنّ أعلام الصحابة رفعوا مذكّرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه ومخالفاته للسنّة ، وطالبوه بالكفّ عنها ، فأخذها عمّار ودفعها إليه ، فقال له عثمان بعنف :

أعليّ تقدم من بينهم؟ ...

إنّي أنصحهم لك ...

كذبت يا ابن سميّة.

أنا والله! ابن سميّة ، وابن ياسر ..

وأوعز عثمان إلى جلاوزته لمدّ يديه ورجليه وضربه عثمان بنفسه برجليه على مذاكيره فأصابه فتق ، وكان ضعيفا فاغمي عليه ...

لقد لاقى هذا الصحابي من صنوف العذاب والتنكيل في عهد عثمان ما لا يوصف لمرارته ، والحاكم هو الله الذي يقضي بين عباده.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٤٨.

٢٥٢

٣ ـ لمّا نكّل عثمان بالصحابي الثائر على السياسة الأموية أبي ذرّ فنفاه إلى الربذة ، ومات فيها جائعا غريبا مظلوما مضطهدا ، فحزن عليه المسلمون فقال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

رحمه الله ..

فاندفع عمّار والأسى باد عليه فقال :

رحمه الله من كلّ أنفسنا ...

فغضب عثمان وقال لعمّار بأفحش القول وأقساه قائلا :

يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييره ...؟

أيليق هذا الفحش بالرجل العادي فضلا عمّن يدّعي أنّه خليفة المسلمين وأنّ الملائكة تستحي منه.

ثمّ أمر عثمان غلمانه فدفعوا عمّارا وأرهقوه ، وأمر بنفيه إلى الربذة ، فلمّا تهيّأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الإمام أمير المؤمنين ٧ فسألوه أن يكلّم عثمان في شأن عمّار وأن يلغي قراره في اعتقاله في الربذة ، و كلّم الإمام عثمان بذلك قائلا :

« اتّق الله ، فإنّك سيّرت رجلا صالحا من المسلمين ، فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ..؟ ».

فثار عثمان وصاح بالإمام :

أنت أحقّ بالنّفي منه ...

« رم إن شئت ذلك ».

واجتمع المهاجرون فعذلوه عن ذلك ، فاستجاب لهم وعفا عن عمّار (١) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠. أنساب الأشراف ٥ : ٥٤.

٢٥٣

وهكذا لقي هذا الصحابي العظيم صنوف الاضطهاد والارهاق من عثمان ، ولم يلحظ مكانته في الإسلام وعظيم جهاده في إقامة صروح الدين ، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

٢ ـ مع أبي ذرّ :

أمّا أبو ذرّ فهو صاحب رسول الله ٦ وخليله ، وهو من الأسبقين للإسلام ، وكان من أزهد الناس في الدنيا ، ومن أقلّهم احتفالا بمنافعها ، وكان من ألصق الناس برسول الله ٦ ، فكان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من الصحابة ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ أحدا من أصحابه (١) ، وهو أحد الثلاثة الذين أحبّهم الله ، وأمر نبيّه بحبّهم ، كما أنّه أحد الثلاثة (٢) الذين تشتاق إليهم الجنّة (٣) .

ولمّا آل الحكم إلى عثمان واستأثرت بنو أميّة بمنافع الدولة وخيرات المسلمين ، هبّ أبو ذرّ إلى الانكار عليه ، وقد نهاه عثمان من نقده والانكار عليه ، فلم يمتنع ورأى أنّ ذلك ضرورة إسلامية وواجب عليه ، وكان أبو ذرّ يقف أمام الذين وهبهم عثمان الثراء العريض ويتلو عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ، وغاظ ذلك مروان بن الحكم المنتفع الأوّل من حكومة عثمان ، فشكاه إليه ، فأرسل خلفه ، فنهاه فقال أبو ذرّ :

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟ فو الله! لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ...

__________________

(١) كنز العمّال ٨ : ١٥.

(٢) الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنّة : الإمام عليّ ، أبو ذرّ وعمّار بن ياسر.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ٣٣٠.

٢٥٤

لقد أبى أبو ذرّ الذي تربّى بتعاليم الإسلام وأحكام القرآن أن يصانع عثمان ، ويقرّه على سياسته الملتوية التي اتّخذت مال الله دولا.

وضاق عثمان ذرعا من أبي ذرّ الثائر العظيم الذي وعى الإسلام وآمن بقيمه وتعاليمه ، وراح عثمان يفتّش عن الوسائل التي يتخلّص بها من خصمه العنيد ، فاتّخذ القرار التالي :

اعتقال أبي ذرّ في الشام :

أبى أبو ذرّ أن يصانع عثمان ويساير خطواته ومخطّطاته ويجاريه بأي عمل من أعماله التي لا يقرّها الإسلام ، وكان من ذلك أنّ عثمان سأل حضّار مجلسه فقال لهم :

أيجوز لأحد أن يأخذ من بيت المال فإذا أيسر قضاه؟

فانبرى كعب الأحبار فأفتاه بالجواز ، وصعب على أبي ذرّ أن يتدخّل كعب في شئون الإسلام وهو يهودي النزعة ، وقد شكّ في إسلامه ، فصاح به :

يا ابن اليهوديّين ، أتعلّمنا ديننا؟ ...

فثار عثمان وصاح بأبي ذرّ :

ما أكثر أذاك لي! وولعك بأصحابي! الحق بمكتبك في الشام ...

وسيّره إلى الشام ، فلمّا انتهى إليها أفزعه ما رأى من منكرات معاوية وبدعه ، فقد رآه قد أطلق يديه في بيت المال يهبه لعملائه وينفقه على شهواته وملاذّه فأخذ ينكر عليه ذلك ، ويذيع مساوئ عثمان وبدعه ، وقد قال لمعاوية حينما قال :

المال مال الله ..

فردّ عليه أبو ذرّ :

المال مال المسلمين ..

٢٥٥

إنّ أموال الخزينة العامّة للمسلمين وليست لمعاوية حتى ينفقها على ملاذه وتدعيم سلطانه ، ولمّا بنى معاوية داره الخضراء أنكر عليه أبو ذرّ وقال له :

يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ..

وأخذ الثائر العظيم يدعو المسلمين إلى الحذر واليقظة من السياسة الأموية التي أمعنت في اقتراف المنكر ، فكان يقول لأهل الشام :

والله! لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله! ما هي في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه ، والله! لأرى حقّا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه (١) .

وأخذ الوعي ينتشر بين أهل الشام ، فقد أوجدت دعوته هدى في النفوس ، واستطابتها العامّة لقد كانت دعوته إلى إنصاف المحرومين ، وتحريض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الطغمة الحاكمة وخاف الطاغية معاوية أن تندلع عليه نار الثورة فنهى الناس عن مخالطته والاجتماع به ، وقال بعنف لأبي ذرّ :

يا عدو الله! تؤلّب الناس علينا ، وتصنع ما تصنع!! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ لقتلتك ..

فردّ عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ورسوله أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ..

لقد صدق أبو ذرّ بمقالته ، فإنّ معاوية وأباه أبو سفيان لم يؤمنا بالله طرفة عين ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

٢٥٦

أظهرا الإسلام خوفا من السيف وأبطنا الكفر والكيد للإسلام.

وعلى أي حال ، فقد ظلّ أبو ذرّ يواصل نشاطه الديني والسياسي للتشهير بالحكم الأموي حتى فزع منه معاوية وخاف على سلطانه.

إخراج أبي ذرّ من الشام :

وكتب معاوية إلى عثمان يخبره بخطر أبي ذرّ على الشام ويطلب منه إخراجه إلى بلد آخر ، فأجابه عثمان ، وأمره بحمله على أغلظ مركب وأوعره حتى يلقى الجهد والعناء ، فأرسله معاوية مع جلاوزة نزعت من نفوسهم الرأفة والرحمة والشرف والكرامة ، فساروا به سيرا مزعجا ولم يسمحوا له أن يستريح من الجهد والعناء ، ومضوا في سيرهم لا يلوون على شيء حتى تسلّخت بواطن فخذه وكاد أن يموت.

ولمّا انتهى إلى يثرب دخل على عثمان وهو منهوك القوى ، فاستقبله عثمان بالجفوة ومرارة القول قائلا :

أنت الذي فعلت وفعلت؟ ...

فأجابه أبو ذرّ بمنطق الحقّ قائلا :

نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني ..

فصاح عثمان به :

كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها ، وقد أنغلت الشام علينا ...

فوجّه إليه أبو ذر نصيحته قائلا :

اتّبع سنّة صاحبيك ـ يعني أبا بكر وعمر ـ لم يكن لأحد كلام.

فصاح به عثمان :

ما لك لا أمّ لك ...

٢٥٧

فقال له أبو ذرّ بهدوء :

والله! ما وجدت لي عذرا إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وثار عثمان فقال لمن حوله :

أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام ...

فثار الإمام ٧ من هذه الاستهانة التي قابل بها عثمان أبا ذرّ ، فقال له :

« يا عثمان ، سمعت رسول الله ٦ يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ ».

ولم يحفل هذا الثائر العظيم بعثمان ، وإنّما راح ينكر عليه بوحي من دينه ، ويندّد بسياسته الملتوية قائلا له :

تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء؟

وأخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من النبيّ ٦ في ذمّ الأمويّين ، ومدى خطرهم على الإسلام قائلا :

قال رسول الله : « إنّ بني العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا ، وعباد الله خولا ، ومال الله دولا » (١) .

وأصدر عثمان أمرا بمنع مجالسة أبي ذرّ وحرّم مخالطته والكلام معه ، لأنّه يقول الحقّ ويأمر بالعدل وينهى عن المنكر.

اعتقاله في الربذة :

واستمرّ أبو ذرّ في جهاده ينشر مساوئ الأمويّين ويذيع منكراتهم ويوقظ الجماهير ، فضاق عثمان به ذرعا فصمّم على أن ينفيه عن الأمصار الإسلامية

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليّ ٨ ١ : ٣٦٨ ـ ٣٧٠.

٢٥٨

ويعتقله في أرض جرداء لا سكن فيها ، فأرسل شرطته خلفه ، فلمّا حضر عنده بادره أبو ذرّ منكرا وناقما على سياسته قائلا :

ويحك يا عثمان ، أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر ، هل رأيت هذا هديهم ، إنّك لتبطش بي بطش الجبّارين ..

فقطع عليه عثمان كلامه وصاح به :

اخرج عنّا من بلادنا ..

أتخرجني من حرم رسول الله ٦ ؟ ..

نعم ، وأنفك راغم.

اخرج إلى مكّة.

لا ..

الكوفة؟

لا ..

إلى الربذة حتى تموت فيها ..

وأوعز شيخ الأمويّين عثمان إلى وزيره ومستشاره مروان بن الحكم بإخراج هذا الصحابي العظيم من مدينة الرسول ٦ ليقيم في أرض جرداء قد انعدمت فيها جميع وسائل الحياة ، فأخرجه الوزغ ابن الوزغ مهان الجانب ، محطّم الكيان ، وحرّم على المسلمين مشايعته وتوديعه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ :

ولم تذعن الاسرة النبوية لأوامر عثمان بتحريم توديع أبي ذرّ ، فقد خرجت ومعها الصحابي الجليل عمّار بن ياسر لتوديع هذا الصحابي المضطهد ، وتلقي عليه نظرة الوداع.

٢٥٩

ولمّا رآهم مروان وجّه خطابه وإنذاره إلى الإمام الحسن ٧ فقال له :

ايه يا حسن! ألا تعلم أنّ عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ...

ولم يجبه الإمام بكلمة احتقارا له ، و ثار الإمام أمير المؤمنين ٧ وحمل على مروان وضرب أذني دابته ، وصاح به :

« تنحّ نحّاك الله إلى النّار » ، وولّى مروان منهزما فزعا إلى سيّده وابن عمّه عثمان يخبره بعصيان أهل البيت : أمره ، فاستشاط عثمان غيظا وورم أنفه.

كلمة الإمام :

وألقى الإمام ٧ على أبي ذرّ نظرة مشفوعة بالأسى والحزن ، وخاطبه بهذه الكلمات التي حدّدت أبعاد شخصيّة أبي ذرّ ، وألقت الأضواء على ثورته ضدّ الحكم الأموي قائلا :

يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت لله فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه ؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا. ولو أنّ السّماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك.

يا لها من كلمات ذهبية ألمّت بواقع أبي ذرّ الذي ثار في وجه الطغيان والاستبداد! فقد كانت ثورته إصلاحية استهدفت القضاء على الاستغلال ونهب ثروات الامّة.

وقد مجّد الإمام ثورة أبي ذرّ التي خشيها الأمويّون وطلب منه أن يهرب بدينه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287