موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام20%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 147583 / تحميل: 5356
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

عبل الذّراعين شديد القسورة

كليث غابات كريه المنظرة (١)

أضرب بالسّيف رقاب الكفرة

أكيلهم بالسّيف كيل السّندره » (٢)

ولم يختلف الرواة في أنّ هذا الشعر للإمام (٣) ، وقد حكى هذا الشعر قوّة بأس الإمام ٧ وشجاعته ، وتقدّم إليه الإمام فبادره بضربة قدّت البيضة والمغفر ورأسه ، وسقط إلى الأرض صريعا يتخبّط بدمه ، فأجهز عليه وتركه جثّة هامدة ، وبذلك فقد كتب الله النصر للإسلام ، وفتحت حصون خيبر ، وأذلّ اليهود ولقّنهم درسا قاسيا يذكرونه بأسى ولوعة على امتداد التاريخ.

وسرّ النبيّ ٦ سرورا بالغا بهذا النصر المبين الذي أعزّ الله به المسلمين وقهر أعداءهم اليهود ، وصادف في ذلك اليوم رجوع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فقال ٦ : « ما أدري بأيّهما أنا أسرّ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر » (٤) ؟

غزوة بني قريظة :

وبنو قريظة من شرائح اليهود الذين يشكّلون خطرا على المسلمين ويكيدونهم في وضح النهار وغلس الليل ، وقد هبط جبرئيل على رسول الله ٦ بأمر من الله تعالى أن ينازلهم الحرب ويستأصل شأفتهم (٥) ، وخفّ النبيّ ٦ لحربهم ، وقدّم الإمام أمير المؤمنين أمامه وهو يحمل رايته ، فسار لهم ، فلمّا دنا من

__________________

(١) العبل : الضخم.

(٢) السندرة : اختلف في معناها ، فقال ابن الاعرابي : هي المكيال ، والمعنى : أنّي أقتلكم قتلا واسعا كثيرا ، وقال غيره : هي امرأة كانت توفي الكيل ، أي أقتلكم قتلا وافيا.

(٣) خزانة الأدب ٦ : ٦٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ١٢٨.

(٥) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٣٣٣.

٤١

حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في النبيّ ، فرجع حتى التقى به وقال له : « يا رسول الله ، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث » ، فقال له : « لم أظنّك سمعت منهم لي أذى؟ » ، قال : « نعم » ، فقال النبي :

« لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا » وحاصرهم النبيّ خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

نصيحة كعب لبني قريظة :

وأيقنت بنو قريظة أنّ رسول الله ٦ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم الحرب فتقدّم إليهم كعب بن أسد بنصيحة لهم قائلا :

يا معشر اليهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم؟

وهتفوا جميعا ما هي؟

عرض عليهم نصيحته قائلا :

نتابع هذا الرجل ونصدّقه ، فو الله! لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ..

وأشار عليهم بنجاتهم وسلامتهم ، إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له وردّوا عليه قائلين :

لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ..

وأشار عليهم ثانيا :

فإذا أبيتم عليّ هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد ، فإن نهلك فهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء ...

٤٢

ورفضوا هذا المقترح قائلين :

ونقتل هؤلاء المساكين فما خير للعيش بعدهم ..

واقترح عليهم ثالثا : فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد امنونا فيها ، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة ..

ورفضوا ذلك وقالوا : نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

ولم ينصاعوا لرأيه وأصرّوا على جهلهم (١) .

نزولهم على حكم الرسول :

وضاق بنو قريظة ذرعا وسدّت عليهم جميع النوافذ فنزلوا على حكم رسول الله ٦ وما يراه فيهم.

تحكيم سعد :

وأوكل النبيّ ٦ أمرهم إلى سعد بن معاذ ، وكان من أجلاّء الصحابة ، لا تأخذه في الله لومة لائم وكان جريحا ، فحمل إلى رسول الله ٦ فقام إليه وسائر الصحابة تكريما وقالوا له :

يا أبا عمرو ، إنّ رسول الله ٦ قد أمر مواليك لتحكم فيهم ..

فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، إنّ الحكم فيهم لما حكمت ...

نعم.

وحكم سعد فيهم بقتل رجالهم وتقسيم أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم.

وهو حكم عادل في هؤلاء اليهود الذين هم مصدر فتنة وفساد في الأرض.

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٤٣

وأقرّ النبيّ ٦ حكم سعد ، وقال له :

« لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة » (١) .

ونفّذ الإمام أمير المؤمنين ٧ حكم الاعدام في هؤلاء الأشرار ، فقد حصد رءوسهم بسيفه.

غزوة بني النضير :

وبنو النضير من فصائل اليهود الذين أترعت نفوسهم بالبغض والعداء إلى الرسول ٦ ، وقد سار إليهم في جماعة من أصحابه ، في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين ٧ وذلك لأخذ دية منهم كانت قد اتّفق معهم عليها ، وجلس النبيّ ٦ إلى جانب جدار من بيوتهم ، فخلا بعضهم ببعض وتآمروا على أن يلقي بعضهم صخرة من السطح على رأس النبيّ ، واستجاب عمرو بن جحاش لذلك ، وأخذ معه الصخرة ، فنزل الوحي من السماء على النبيّ ٦ يخبره بذلك ، فسارع قائما وترك أصحابه في مجالسهم وقفل راجعا إلى المدينة ، وفي ذلك يقول السبكي :

وجاءك الوحي بالذي أضمرت بنو

النضيرة وقد همّوا بإلقاء صخرة (٢)

وسارع الإمام ٧ إلى اليهودي الذي حاول اغتيال الرسول ٦ فقتله ، وهربت العصابة التي معه ، فطلب الامام من الرسول ملاحقتهم فأذن له ، وزوّده بكوكبة من جيشه فلحقوهم قبل دخول حصنهم وقتلوهم ، وكان ذلك السبب في فتح حصونهم ، وانبرى جماعة من الشعراء كان منهم حسّان بن ثابت فنظّموا في

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) إنسان العين ٢ : ١٧٦.

٤٤

شعرهم الحادثة ، وأثنوا على الإمام ٧ على ما بذله من جهد شاقّ في فتح حصون بني النضير.

غزوة وادي القرى :

ولمّا فتح النبيّ ٦ حصون خيبر أتى وادي القرى ، وقد سكنه اليهود ، فعرض عليهم الإسلام فأبوا واختاروا قتاله ، فقاتلهم المسلمون ، وقتل منهم أحد عشر رجلا قد قتل الإمام بعضهم ، وفتح الله للنبيّ ٦ ديارهم ، وغنم المسلمون أموالهم ، وترك لهم ما في أيديهم من الأرض والنخيل ، وعاملهم بها مثل معاملته لأهل الخيبر (١) .

الإمام وفتح اليمن :

وأرسل النبيّ ٦ الإمام ٧ مع كتيبة عسكرية إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام أو الحرب ، وأخذ الإمام يجدّ في السير لا يلوي على شيء لينفّذ رسالة الرسول ٦ .

دعاء الإمام :

وكان الإمام ٧ قد دعا بهذا الدعاء الشريف حين توجّهه إلى اليمن ، وهذا نصّه :

« اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بلا ثقة منّي بغيرك ، ولا رجاء يأوي بي إلاّ إليك ، ولا قوّة أتّكل عليها ، ولا حيلة ألجأ إليها إلاّ طلب فضلك ، والتّعرّض لرحمتك ، والسّكون إلى أحسن عادتك ، وأنت أعلم بما سبق لي في وجهي هذا ممّا أحبّ وأكره ، فأيّما أوقعت عليّ فيه قدرتك ، فمحمود فيه بلاؤك متّضح فيه قضاؤك ، وأنت تمحو ما

__________________

(١) إنسان العين ٣ : ٦٨ ـ ٦٩.

٤٥

تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب.

اللهمّ فاصرف عنّي مقادير كلّ بلاء ، ومقاصر كلّ لأواء ، وأبسط عليّ كنفا من رحمتك وسعة من فضلك ، ولطفا من عفوك حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت ، وذلك مع ما أسألك أن تخلفني في أهلي وولدي ، وصروف حزانتي بأحسن ما خلفت به غائبا من المؤمنين في تحصين كلّ عورة وستر كلّ سيّئة ، وحطّ كلّ معصية ، وكفاية كلّ مكروه ، وارزقني على ذلك شكرك وذكرك ، وحسن عبادتك ، والرّضا بقضائك ، يا وليّ المؤمنين ، واجعلني وما خوّلتني وولدي ، ورزقتني من المؤمنين والمؤمنات في حماك الّذي لا يستباح ، وذمّتك التي لا تخفر ، وجوارك الّذي لا يرام ، وأمانك الّذي لا ينقض ، وسترك الّذي لا يهتك ، فإنّه من كان في حماك وذمّتك وجوارك وأمانك وسترك كان آمنا محفوظا ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ » (١) .

وحكى هذا الدعاء مدى اعتصام الإمام ٧ بالله تعالى والتجائه إليه وانقطاعه الكامل لإرادته ومشيئته.

إسلام همدان :

وانتهى الإمام مع الوفد العسكري إلى اليمن والتقى بزعماء اليمانيّين ووجوههم ، وعرض عليهم دعوة النبيّ ٦ ، وشرح لهم محاسن الإسلام وما تنشده مبادئه من القيم الكريمة والمثل العليا ، وقد بهر اليمانيّون بكمال الإمام وفضله وأدبه فاستجابوا لدعوته ، وأعلنت همدان بأسرها الإسلام والتمسّك بقيمه ، وبذلك فقد كان الإمام رسول السلام الذي نجح في فتح اليمن بلا حرب (٢) .

__________________

(١) مهج الدعوات : ٩٤.

(٢) أمالي المرتضى ١ : ٢٩٢.

٤٦

فتح مكّة :

وكتب الله تعالى النصر المبين لعبده ورسوله محمّد ٦ ، فقد أذلّ القوى المعادية من القرشيّين واليهود ، وامتدّت دولته على كثير من مناطق الجزيرة العربية ، فقد سادت فيها كلمة الإسلام ورفعت عليها راية التوحيد.

وقد رأى النبيّ ٦ أنّه لا يتحقّق له النصر الحاسم والفتح المبين إلاّ بفتح مكّة التي هي قلعة الشرك والإلحاد والتي حاربته حينما كان فيها وحينما نزح عليها.

وسار النبيّ ٦ بجيش مكثّف قوامه عشرة آلاف جندي مسلّح أو يزيد على ذلك ، وهو مزوّد بجميع آلات الحرب ، وقد أحاط اتّجاهه إلى مكّة بكثير من الكتمان ، فلم تعلم القطعات من جيشه اتّجاهها ، فقد خاف النبيّ أن تستعد قريش لمحاربته إن علمت بمسيرة جيوشه لاحتلال بلدهم فتراق الدماء في البلد الحرام ، فأخفى ذلك عليهم حتى يفاجئهم بجيشه فلا يتمكّنوا على مناهضته.

رسالة حاطب لقريش :

وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بتوجّه النبيّ ٦ لاحتلال بلدهم ، وأعطى الكتاب إلى امرأة وأوصاها بالكتمان الشديد ، وجعل لها جعلا إن هي أوصلت الرسالة إلى القرشيّين ، فجعلت الكتاب في شعر رأسها وأخفته حتى لا يعلم به أحد ، ونزل الوحي على رسول الله ٦ وأحاطه علما بالكتاب ، فاستدعى أخاه الإمام أمير المؤمنين ٧ والزبير بن العوّام وأمرهما بالقبض على المرأة وأخذ الكتاب منها ، وسارع الإمام مع الزبير في السير حتى أدركا المرأة ، فسألاها عن الكتاب ، فأنكرت ذلك ، فصاح بها الإمام وزجرها قائلا :

« إنّي أحلف بالله ما كذب رسول الله ٦ ولا كذّبنا ، لتخرجنّ الكتاب أو لنكشفنّك » ، فاستولى عليها الرعب وخافت فأخرجت الكتاب من شعر رأسها

٤٧

وأعطته للإمام ، وخفّ الإمام مع الزبير مسرعين إلى النبيّ فسلّماه الكتاب ، فدعا بحاطب ، فلمّا مثل عنده قال له :

« ما حملك على هذا؟ » .

وأبدى حاطب معاذيره للرسول ٦ قائلا : يا رسول الله ، إنّي مؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكن ليس لي في قريش أصل ولا عشيرة ، فصانعتهم عليه ».

وقبل النبيّ ٦ معاذيره ، ونزلت الآية الكريمة في حقّه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآية (١) » (٢) .

في رحاب مكّة :

وسارعت الجيوش الإسلامية لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى مشارف مكّة وأهلها غافلون لا يعلمون شيئا ، فقد أحاط النبيّ ٦ مسيرته بكثير من التعتيم حفظا على السلام وعدم إراقة الدماء ، وأمر النبيّ جيشه بجمع الحطب ، فجمعت كميات هائلة ، فلمّا اختلط الظلام أمر بإشعال النار فيه ، فكان لهبها يرى في مكّة ، وفزع أبو سفيان وأوجس في نفسه خيفة منها ، فقال لبديل بن ورقاء ـ وكان إلى جانبه ـ :

ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ؟

وبادر بديل قائلا :

وهذه والله! خزاعة حمشتها الحرب ..

وسخر أبو سفيان منه وراح يقول له :

__________________

(١) التحريم : ١.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٣٩٨.

٤٨

خزاعة أذلّ وأقلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها واستولى عليه الفزع والخوف ، واطمأنت نفسه أنّها جيوش المسلمين جاءت لاحتلال مكّة.

العباس وأبو سفيان :

ولمّا علم العباس بقدوم الجيوش الإسلامية لاحتلال مكّة ، أوجس في نفسه خيفة على قومه القرشيّين ، وأخذ يحدّث نفسه قائلا : واصباح قريش ، والله! لئن دخل رسول الله ٦ مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر وجهد على أن يجد شخصا فيأتي إلى مكّة فيخبر أهلها بمكان رسول الله ٦ فيخفّوا إليه ليطلبوا منه الأمن ، وبينما هو غارق في تيار من الهواجس والخوف على قومه إذ بصر بأبي سفيان فهتف به :

يا أبا حنظلة ...

وعرفه أبو سفيان فسارع قائلا :

أبو الفضل ..

نعم ..

فداك أبي وأمّي.

ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله في الناس واصباح قريش ...

وذعر أبو سفيان وجمد دمه ، وخاف على نفسه وقومه فبادر قائلا :

ما الحيلة فداك أبي وأمّي؟

وسارع العباس يدلّه على الطريق الذي يحافظ به على دمه قائلا له : والله! لئن ظفر بك رسول الله ٦ ليضربنّ عنقك ، فاركب على عجز هذه البغلة حتى آتي بك إلى رسول الله ٦ فأستأمنه لك.

فأردفه خلفه ، فكان كلّما مرّ على نار من نيران المسلمين قالوا : من هذا؟ فإذا

٤٩

رأوا بغلة رسول الله ٦ ، قالوا : عمّ رسول الله ، وبصر به عمر بن الخطّاب فعرفه ، فصاح :

هذا أبو سفيان عدوّ الله ...

ثمّ صاح ثانيا :

الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ووجم أبو سفيان واضطربت خلجات قلبه وهام في تيارات من الهواجس ، وخاف على نفسه وقومه الذين لم يبقوا في قاموس الإساءة والمكروه شيئا إلاّ صبّوه على النبيّ وأصحابه.

وجرت مناوشات كلامية بين العباس وعمر في شأن أبي سفيان ، وبادر العباس إلى رسول الله ٦ فأحاطه علما بأسر أبي سفيان ، فأمره النبيّ أن يذهب به إلى رحله ويأتي به عند الصباح ، وبات أبو سفيان ليلته مع العباس وهو وجل مضطرب قد أنفق ليله ساهرا.

أبو سفيان بين يدي النبيّ :

ولمّا اندلع نور الصبح أقبل العباس ومعه أبو سفيان ، فلمّا مثلا أمام النبيّ التفت إلى أبي سفيان فقال له :

« ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ الله ...؟ ».

ولم يعرض النبيّ ٦ إلى ما عاناه من صنوف التنكيل والاضطهاد من أبي سفيان وقومه ، فقد أسدل الستار على ذلك لنشر الوئام وإفهامه بروح الإسلام التي لا تعرف الانتقام من الأعداء وراح أبو سفيان يتضرّع إلى النبيّ ويطلب منه العفو قائلا :

بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، والله! لقد ظننت أنّه لو كان مع الله إله غيره لأغنى عنّي ..

٥٠

والتفت إليه النبيّ بلطف ورفق قائلا :

« ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ ».

ولم يستطع أن يقرّ أبو سفيان بذلك ، فقد أترعت نفسه بالكفر والالحاد والنفاق ، فلم يستطع أن يخفي ما انطوى عليه ضميره وراح يقول :

بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئا حتى الآن ...

وانبرى العباس لأبي سفيان ينذره ويتهدّده إن لم يستجب لدعوة الرسول قائلا : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك ..

ولم يجد الخبيث بدّا فأعلن الإسلام بلسانه على كره خوفا من حدّ السيف ، وانطوى قلبه على الكفر والنفاق.

ألطاف النبيّ على أبي سفيان :

ووسعت رحمة النبيّ ٦ أبا سفيان الذي هو ألدّ أعدائه وخصومه ، والذي أثار عليه الأحزاب وقاد الجيوش لحربه ، فقبل إسلامه المزيّف ، ولم يقابله بالمثل ، وقد أعطى النبيّ ٦ بذلك مثلا لرحمة الإسلام وإيثاره للسلم.

والتفت العباس إلى النبيّ فطلب منه أن يسدي يدا على أبي سفيان قائلا :

يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له شيئا؟

و استجاب الرسول لدعوة العبّاس ، وقال :

« نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ».

٥١

وربح أبو سفيان هذه الكرامة كما ربح لقومه العفو العامّ الذي لم يحدث له مثيل في جميع فترات التاريخ ، فقد غمرهم الرسول بألطافه وهم الذين جرّعوه ألوانا قاسية من المحن والخطوب.

أبو سفيان في مضيق الوادي :

وأمر النبيّ ٦ العباس بحبس أبي سفيان في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ عليه جنود الله فيراها حتى يحذّر قريشا من مناهضة النبيّ ٦ ، وحبسه العباس في المضيق ، واجتازت عليه الكتائب وهي تحمل رايات النصر ، وكلّما مرّت عليه كتيبة سأل عنها فيعرّفه العباس بها ، واجتازت عليه كتيبة مدجّجة بالسلاح فقال للعباس :

يا عباس ، من هذه؟

سليم ..

ما لي ولسليم.

واجتازت عليه كتيبة أخرى فقال للعباس :

يا عباس ، ما هذه؟

مزينة ..

ما لي ولمزينة ..

ولمّا انتهت الكتائب مرّ عليه النبيّ ٦ في كتيبة خضراء ، وهي في منتهى القوّة ، فقد شهرت السيوف على رأس الرسول ، وأحاطت به صناديد أصحابه ، فبهر أبو سفيان وقال للعباس :

من هذه الكتيبة؟

هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار ...

٥٢

ولم يملك أبو سفيان إعجابه وراح يقول للعباس :

ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ...

فردّ عليه العبّاس قائلا :

يا أبا سفيان ، إنّها النبوّة ...

فهزّ أبو سفيان رأسه العفن وقال بسخرية :

نعم إذن (١) .

وما كان هذا الجاهلي ليفقه الإسلام ، وإنّما كان يفقه الملك والسلطان ، ثمّ أمر النبيّ بإطلاق سراح أبي سفيان ، فأطلق ، وولّى إلى مكّة.

نداء أبي سفيان :

وانطلق أبو سفيان مسرعا يسبق الجيش إلى مكّة وهو رافع عقيرته ينادي بأعلى صوته :

يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..

فهبّت قريش قائلة :

وما تغني عنّا دارك؟

وهتف فيهم ثانيا :

من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ..

فسكن روع القرشيّين وسارعوا إلى دورهم وإلى المسجد.

معارضة هند :

وانبرت هند زوج أبي سفيان وهي مذعورة قد ملأت نفسها بالألم والحزن ،

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

٥٣

فجعلت تثير عواطف القرشيّين وتستهين بزوجها قائلة : اقتلوا الحميت (١) الدنس قبّح من طليعة قوم.

وراح أبو سفيان يحذّر قريشا من مغبّة عصيانه ويحذّرهم من بطش المسلمين.

دخول النبي مكّة :

وسارعت جيوش المسلمين لدخول مكّة وهي فرحة مستبشرة بهذا النصر ، فإنّها لم تلق أيّة مقاومة من قريش ، وقد حمل الراية سعد بن عبادة ، وهو يلوّح بها في الفضاء ويهتف : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة ..

فسمعها عمر بن الخطّاب ـ كما يقول ابن هشام ـ فسارع إلى النبيّ ٦ قائلا :

يا رسول الله ، اسمع ما قال سعد؟

فأمر النبيّ ٦ بأخذ اللواء من سعد وإعطائه إلى الإمام أمير المؤمنين ٧ ، فأخذه وأدخله إدخالا رقيقا ، ورفع صوته قائلا :

« اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ».

وعمّت الفرحة الكبرى جميع أوساط القرشيّين ، وأيقنوا أنّ النبيّ لا يؤاخذهم بما اقترفوه تجاهه من التنكيل والاعتداء.

النبي في الكعبة :

وسارع النبيّ ٦ بعد دخوله مكّة إلى بيت الله الحرام ، فأغلق بوجهه عثمان ابن طلحة باب الكعبة وصعد على سطحها ، وأبى أن يدفع إليه المفتاح ، وبادر إليه الإمام ٧ فلوى يده وأخذ المفتاح منه وفتحها للنبيّ ٦ ، فصلّى فيها ركعتين (٢) ثمّ

__________________

(١) الحميت : الشديد الدناسة.

(٢) صبح الأعشى ٤ : ٢٦٩.

٥٤

سلّم المفتاح له ، و قال له : « يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء » (١) .

تطهير البيت من الأصنام :

ولمّا دخل النبيّ ٦ البيت الحرام كان أوّل عمل قام به تحطيمه وإزالته للأصنام والأوثان التي اتّخذها القرشيّون آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، والتي تنمّ عن جهلهم وانحطاطهم الفكري ، وقد كانت الأصنام المعلّقة على الكعبة ثلاثمائة وستين صنما ، ولكلّ حيّ من العرب صنم خاصّ بهم.

و كان على جهة باب البيت المعظّم الصنم الأعلى لقريش وهو هبل ، فجعل النبيّ ٦ يطعن بقوسه في عينه ، وهو يقول : « جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا » ثمّ أمر بتحطيمه وتطهير البيت منه ، وقد شقّ ذلك على أبي سفيان وغيره من عتاة القرشيّين ، ثمّ اعتلى النبيّ ٦ على منكب الإمام ٧ لتكسير الأصنام ، فعجز الإمام عن النهوض به ، فقال له الرسول :

« إنّك لا تستطيع حمل ثقل النّبوّة ، فاصعد أنت » ، فاعتلى الإمام على كاهل رسول الله ٦ و قال الإمام : « لو شئت لنلت افق السّماء » ، وأقبل على الأصنام فجعل يقلعها ويرمي بها إلى الأرض ، ولم يبق إلاّ صنم خزاعة وكان موتدا بأوتاد من حديد ، فقال له الرسول : « عالجه » ، فعالجه الإمام وهو يقول :

« جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا » ، فعالجه حتى تمكّن منه فقذفه حتى تكسّر (٢) ، وبذلك فقد تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش على يد بطل الإسلام وقائد مسيرته الظافرة لقد حطّم الإمام الأصنام كما حطّمها جدّه إبراهيم خليل الله ، وقد نظم الشاعر الملهم محمّد بن أحمد الكتاب المعروف بـ « المفجع »

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤١٢.

(٢) إنسان العين ٣ : ٩٩ ـ ١٠٠.

٥٥

هذه المأثرة للإمام ٧ بقوله :

وله من أبيه ذي الأيد اسما

عيل شبه ما كان عنّي خفيّا

إنّه عاون الخليل على الكعب

ة إذ شاد ركنها المبنيّا

ولقد عاون الوصيّ حبيب الل

ه إذ يغسلان منها الصفيّا

رام حمل النبيّ كي يقطع الأصنا

م من سطحها المثول الحبيّا (١)

فحناه ثقل النبوّة حتّى كاد

يناد تحته منئيّا (٢)

فارتقى منكب النبيّ علي

صنوه ما أجلّ ذا المرتقيّا

فأماط الأوثان عن ظاهر الكعب

ة ينفي الأرجاس عنها نفيّا

ولو أنّ الوصيّ حاول مسّ النجم

بالكفّ لم تجده قصيّا (٣)

إنّ تحطيم الأصنام وتطهير الكعبة منها أقسى ضربة موجعة للقرشيّين الذين تفانوا في عبادة الأوثان ، كما كان أعظم انتصار رائع للإسلام الذي جاء لتحرير العقول ونشر الوعي بين الناس ، فقد باءت بالفشل والخزي جميع المقاومات والاعتداءات على الإسلام ، وها هو يرفع رايته وينشر مبادئه العملاقة في ديارهم.

خطاب النبيّ :

وأحاطت جماهير أهالي مكّة بالرسول الأعظم ٦ وهي تنتظر بفارغ الصبر ما يواجهونه منه ، فهل ينزل بهم العقاب الصارم ويقابلهم بالانتقام من جرّاء ما صبّوه عليه وعلى أتباعه المستضعفين من صنوف الخطوب والكوارث ، أو إنّه سيعفو عنهم ويقابلهم بالصفح الجميل؟ واعتلى الرسول ٦ منصّة الخطابة واستمال الجمع إلى

__________________

(١) المثول : جمع ماثل ، أي المنتصب. الحبي : جمع حاب ، أي المرتفع.

(٢) منئيا : أي مثقلا.

(٣) معجم الأدباء ١٧ : ٢٠٢.

٥٦

أذن صاغية ، فعرض ٦ في خطابه إلى توحيد الله والثناء عليه وإلى نصره لدينه وهزيمته للمشركين ثمّ قال :

« يا معشر قريش ، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظيمها بالآباء. النّاس من آدم ، وآدم من تراب » ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١) .

« يا معشر قريش ، ما ترون أنّي فاعل بكم؟ ».

فهتفوا جميعا بلسان واحد :

خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ...

فأصدر رسول الرحمة العفو عنهم قائلا : « اذهبوا فأنتم الطّلقاء » (٢) .

وتمثّلت الرحمة والشرف والكرامة بجميع ما تحمل هذه الألفاظ من معنى في هذا العفو ، فلم يقابل أولئك الجفاة الجناة بالمثل وأعرض عمّا لاقاه منهم من صنوف الإساءة والأذى ، ولم يؤاخذهم بجرائمهم وآثامهم التي تقتضي أن يعدم رجالهم ويستصفي أموالهم ، ولا يترك لهم أي أثر أو وجود على الأرض.

غزوة حنين :

وفزعت هوازن كأشدّ ما يكون الفزع حينما وافتهم الأنباء بفتح النبيّ ٦ مكّة ، وخضوع القبائل القرشية لحكم الإسلام ، فانبرى مالك بن عوف وهو زعيم هوازن فجمع قبيلته ، واستنجد ببعض القبائل العربية الاخرى وفي طليعتها ثقيف ،

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤١٢.

٥٧

فعرض عليهم الأخطار الهائلة التي ستواجههم من اتّساع الإسلام ، وأنّ النبيّ ٦ سيزحف بجيوشه لاحتلالهم ، فآمن الجميع بدعوته واستجابوا لقوله ، وزحفت هوازن ومن تابعهم من القبائل لحرب النبيّ ٦ ، وأوصاهم مالك بن عوف وهو القائد العامّ لجيوشهم فقال لهم : إذا رأيتموهم ـ أي المسلمين ـ فاكسروا جفون سيوفكم ، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد (١) .

ولمّا انتهت أنباؤهم إلى النبيّ ٦ أوفد للقياهم عبد الله الأسلمي ، وأمره بالتعرّف على أنبائهم ، فمضى ، وعلم أنّهم مصمّمون على حرب النبيّ ، فقفل راجعا إلى مكّة ، وأخبر النبيّ بذلك ، فزحف بجيشه البالغ عدده اثني عشر ألفا ، وكان فيهم من لم يخاط الإسلام قلبه كأبي سفيان بن حرب وأمثاله من المنافقين والطامعين في الغنائم والأسلاب.

وتحرّك جيش النبيّ ٦ من مكّة وقد وزّع الرايات على قادة جيشه ، وأعطى لواء المهاجرين إلى الإمام أمير المؤمنين ٧ ، وسارعت جيوش المسلمين تطوي البيداء لا تلوي على شيء ، فانتهت إلى وادي حنين (٢) .

فرار المسلمين :

وكانت هوازن قد أعدّت خطّة رهيبة ومحكمة للايقاع بالمسلمين ، فقد احتلّت وادي حنين وكمنت في شعابه ومضايقه ، فلمّا اجتازت عليهم جيوش المسلمين ، ولم يكونوا على علم بما دبّر لهم ، وثبت عليهم هوازن من كلّ زاوية في الوادي ، فجفل المسلمون وانهزموا هزيمة منكرة لا يلوي أحد منهم على أحد ،

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤٣٩.

(٢) وادي حنين : موضع قريب من مكّة ، وقيل : هو واد قبل الطائف بجنب ذي المجاز ، وقال الواقدي : بينه وبين مكّة ثلاث ليالي ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ : ٣١٣.

٥٨

وانحاز رسول الله ٦ ذات اليمين ، وجعل يدعو المسلمين إلى الثبات والصبر على الجهاد وعدم الفرار قائلا :

« أيّها النّاس ، إليّ أنا رسول الله محمّد بن عبد الله » (١) .

بسالة الإمام :

وأبدى الإمام أمير المؤمنين ٧ من البسالة ما لا يوصف ، فقد أخذ يجول في الميدان يجندل الأبطال ، وينزل بهم أفدح الخسائر ، وقد أجمع الرواة أنّه كان من أصلب المدافعين عن النبيّ ٦ (٢) ، وناول الإمام ٧ النبيّ ٦ قبضة من التراب ، فرمى بها وجوه المشركين من هوازن وغيرهم (٣) ، والتحم الإمام مع المشركين التحاما شديدا ، وقد التحق به مائة رجل من فرسان المسلمين فقاتلوا قتالا أهونه الشديد ، و لمّا رأى النبيّ ٦ ذلك قال :

« أنا النّبي لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب »

الآن حمى الوطيس (٤) ، واشتدّ الحرب ، فسقطت الرءوس والأيدي.

شماتة أبي سفيان وصفوان :

وسرّ المنافقون بهزيمة المسلمين وطاروا فرحا ، وأبدى أبو سفيان رأس المنافقين شماتته بذلك فقال : لا تنتهي هزيمتهم ـ أي هزيمة المسلمين ـ دون البحر.

كما أبدى المنافق صفوان بن أميّة شماتته بانهيار جيش المسلمين قائلا :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.

(٢) مجمع الزوائد ٦ : ١٨٠.

(٣) تاريخ بغداد ٤ : ٣٣٤. مجمع الزوائد ٦ : ١٨٢.

(٤) الوطيس : هو التنّور ، وقيل : هي الحجارة التي يوقد عليها النار ، وهو كناية عن اشتداد الحرب.

٥٩

الآن بطل السحر (١) .

هزيمة المشركين :

ولمّا بلغت قلوب المسلمين الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا وساد عليهم الجزع والخوف نصر الله تعالى رسوله الكريم فقتل من المشركين سبعون رجلا من أبطالهم وانهزم الباقون شرّ هزيمة ، ولاحقتهم جيوش المسلمين فأشاعت فيهم القتل وأسرت جماعة منهم (٢) ، وكان النصر المؤزّر على يد بطل الإسلام وحامي حوزته الإمام أمير المؤمنين ٧ ، وبذلك فقد انتهت هذه المعركة التي كانت من أعنف المعارك ومن أشدّها هولا وقسوة ، وبها قد انتصر الإسلام انتصارا حاسما وهابته جميع قبائل الشرك.

الغنائم :

وبعد ما وضعت الحرب أوزارها ارتحل الرسول ٦ من أرض المعركة إلى الجعرانة ، فأتته وفود هوازن طالبين منه أن يردّ عليهم ما أخذ منهم ، فخيّرهم بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم ، فاختاروا أبناءهم ونساءهم ، وانبرى زهير أبو حرد من بني سعد فقال : يا رسول الله ، إنّما في الحظائر عمّاتك وخالاتك ، وحواضنك اللاّتي كنّ يكفلنك ، ولو أنّا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغسّاني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه ، وأنت خير المكفولين ، ثمّ قال :

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنّك المرء نرجوه وندّخر

امنن على نسوة قد عاقها قدر

ممزّق شملها في دهرها غير (٣)

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٤ : ٦٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287