موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٢

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
المحقق: باقر شريف القرشي
المترجم: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 287
المشاهدات: 140695
تحميل: 4437


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 287 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140695 / تحميل: 4437
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 2

مؤلف:
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

وبعد ما أقام الرسول الأعظم 6 الإمام أمير المؤمنين 7 خليفة على امّته في غدير خمّ ونصّبه إماما من بعده قفل راجعا إلى يثرب ، وقد بدت صحّته تنهار يوما بعد يوم ، فقد ألمّ به المرض وأصابته حمى مبرحة ، حتى كأن به لهبا منها ، وقد لازمته ولم تنقطع عنه ، وكانت عليه قطيفة ، فإذا وضع أزواجه وعوّاده أيديهم عليها شعروا بحرّها (1) ، وقد وضعوا إلى جواره إناء فيه ماء بارد ، فكان يضع يده فيه ويمسح بها وجهه الشريف لتخفّ حرارة الحمى منه.

و تذهب بعض المصادر إلى أنّ وفاته تستند إلى طعام مسموم قدّمته إحدى اليهوديات له ، فكان يقول :

« ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلته بخيبر ، فهذا أوان ، وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ » (2) .

ولمّا اشيع مرضه هرع المسلمون لعيادته وهم ما بين باك وواجم ، قد طافت بهم موجات من الألم والذهول ، واستقبلهم الرسول بأسى بالغ فنعى إليهم نفسه الشريفة ، و أوصاهم بما يضمن لهم الاستقامة والتوازن في حياتهم قائلا :

« أيّها النّاس ، يوشك أن أقبض قبضا سريعا فينطلق بي ، وقدّمت إليكم القول

__________________

(1) البداية والنهاية 5 : 226.

(2) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 202.

٨١

معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ».

وكان الإمام أمير المؤمنين 7 إلى جانبه ، فأخذ بيده وقال لعوّاده :

« هذا عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض » (1) .

وقد وضع النبيّ 6 أهمّ المخطّطات التي تضمن لامّته النجاح وتقيها من الأزمات ، وهي :

أوّلا : التمسّك بكتاب الله والعمل بما فيه ، فإنّه يهدي للتي هي أقوم.

ثانيا : التمسّك بالعترة الطاهرة وعلى رأسها سيّدها الإمام أمير المؤمنين ، فإنّها لا تألوا جهدا في إسعادها وبلوغ أهدافها.

إعطاء القصاص من نفسه :

ولمّا علم النبيّ 6 إنّ لقاءه بربّه قريب ، دعا الفضل بن عباس ، فأمره أن يأخذ بيده ويجلسه على المنبر ، كما أمره أن ينادي بالناس الصلاة جامعة ، فنادى الفضل بذلك ، فاجتمع الناس ، فخطب فيهم الرسول 6 قائلا :

« أيّها النّاس ، إنّه قد دنا منّي خلوف من بين أظهركم ، ولن تروني في هذا المقام فيكم ، وقد كنت أرى أنّ غيره غير مغن عنّي حتّى أقوّمه فيكم ، ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد ، ومن كنت أخذت منه مالا فهذا مالي فليأخذ منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد ولا يقولنّ قائل : أخاف الشّحناء من قبل رسول الله ، ألا وإنّ الشّحناء ليست من شأني ولا من خلقي ، وإنّ أحبّكم إليّ من أخذ

__________________

(1) الصواعق المحرقة 2 : 361.

٨٢

حقّا كان له عليّ ، أو حلّلني فلقيت الله عزّ وجلّ وليس لأحد عندي مظلمة ».

يا لروعة العدل!! يا لروعة الخلق النبوي!! لقد أسّس النبيّ 6 جميع صنوف العدل التي لم يؤسّسها أي مصلح اجتماعي.

لقد أعطى رسول الإنسانية القصاص من نفسه وهو في الساعات الأخيرة من حياته ، ليخرج من هذه الدنيا وليس لأي أحد أي تبعة عليه ، وقد انبرى رجل من القوم فقال للرسول :

يا رسول الله ، لي عندك ثلاثة دراهم ..

فقابله الرسول بلطف قائلا :

« أمّا أنا فلا اكذّب قائلا ، ولا مستحلفه على يمين ، فبم كانت لك عندي؟ ».

فسارع الرجل قائلا : أما تذكر أنّه مرّ بك سائل فأمرتني أن اعطيه ، فأعطيته ثلاثة دراهم ...

وأمر النبيّ 6 الفضل بإعطائه الدراهم ، ثمّ عاد النبيّ إلى خطابه فقال :

« من عنده من الغلول شيء فليردّه ».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله ، فقال له النبيّ :

« لم غللتها؟ » .

كنت محتاجا إليها ...

فأمر النبيّ 6 الفضل أن يأخذها منه فأخذها ، و عاد النبيّ في خطابه ، فقال :

« أيّها النّاس ، من أحسّ في نفسه شيئا فليقم أدع الله له ».

٨٣

فقام إليه رجل فقال :

يا رسول الله ، إنّي لمنافق ، وإنّي لكذوب ، وإنّي لشؤوم ..

فزجره عمر وصاح به ، وقال له :

لقد سترك الله ، لو سترت على نفسك.

و التفت النبيّ 6 إلى عمر فقال له :

« صه يا ابن الخطّاب! فضوح الدّنيا أهون من فضوح الآخرة ».

ودعا النبيّ 6 للرجل فقال : « اللهمّ ارزقه صدقا وإيمانا ، وأذهب عنه الشّؤم » (1) ، وانبرى رجل من أقصى القوم يسمّى سوادة بن قيس فقال :

يا رسول الله ، إنّك ضربتني بالسوط على بطني ، وأنا اريد القصاص منك ...

فاستجاب الرسول 6 لطلبه وأمر بلالا بإحضار السوط ليقتصّ منه سوادة ، وذهل الحاضرون ، وساد عليهم صمت رهيب من هذا العدل ، وانطلق بلال رافعا عقيرته قائلا :

أيّها الناس ، اعطوا القصاص من أنفسكم في دار الدنيا ، فهذا رسول الله قد أعطى القصاص من نفسه ..

ومضى بلال إلى بيت النبيّ 6 فجاء بالسوط وناوله إلى سوادة ، فأخذه وأقبل رافعا له صوب النبيّ الذي ألمّت به الأمراض ، وهو في الساعات الأخيرة من حياته ، واتّجه المسلمون بقلوبهم وأبصارهم نحو سوادة فقال للنبيّ :

يا رسول الله ، اكشف عن بطنك ...

فكشف الرسول عن بطنه ، فقال سوادة وهو غارق في البكاء :

__________________

(1) البداية والنهاية 5 : 231.

٨٤

يا رسول الله ، أتأذن لي أن أضع فمّي على بطنك؟

« نعم ».

ووضع سوادة وجهه على بطن الرسول ودموعه تتبلور على خدّيه وهو يقول بصوت حزين النبرات : أعوذ بموضع القصاص من رسول الله من النار يوم القيامة.

و التفت إليه النبيّ قائلا :

« أتعفو يا سوادة أم تقتصّ؟ ».

بل أعفو يا رسول ...

فرفع النبيّ يديه بالدعاء قائلا :

« اللهمّ اعف عن سوادة كما عفا عن نبيّك ».

إنّ هذا الخلق النبوي أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه ، فقد تجسّدت فيه جميع القيم والمبادئ الكريمة التي سما بها النبيّ على سائر الأنبياء.

سرية اسامة :

واستبانت للنبيّ 6 التيارات الحزبية من صحابته الذين صمّموا على صرف الخلافة عن أهل بيت النبوة ، فرأى خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يبعث بجميع أصحابه لغزو الروم حتى تخلو عاصمته منهم إذا انتقل إلى حضيرة القدس ، وبذلك يتمّ ما أراده من تسلّم الإمام أمير المؤمنين 7 مقاليد الحكم من دون منازع له ، وقد أمر أعلام المهاجرين والأنصار بالالتحاق بالجيش ، كان من بينهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجرّاح وبشير بن سعد (1) ، وهم من أقطاب الحزب المعارض للإمام ،

__________________

(1) كنز العمّال 5 : 312. الطبقات الكبرى ـ ابن سعد 4 : 46. تاريخ الخميس 2 : 46.

٨٥

وعهد النبيّ 6 بإمارة الجيش إلى اسامة بن زيد ، وكان في شرخ الشباب ، ولم يعهد بها إلى شيوخ أصحابه ، وكان في ذلك إشعار منه بأنّ القيادة العامّة لا تخضع لكبر السنّ والتقدّم في العمر ، وإنّما تخضع للمؤهّلات والقابليات التي يتمتّع بها القائد.

و قال النبيّ 6 لاسامة : « سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد ولّيتك هذا الجيش فاغز صباحا على أهل أبنى (1) وحرّق عليهم ، وأسرع السّير لتسبق الأخبار ، فإن أظهرك الله عليهم فأقلل اللّبث فيهم ، وخذ معك الأدلاّء ، وقدّم العيون والطّلائع معك ».

وحفلت هذه الوصية بالمناهج العسكرية الرائعة التي دلّت على أصالة التعاليم العسكرية في الإسلام.

وفي اليوم التاسع والعشرين من صفر رأى النبيّ 6 جيشه قد مني بالتمرّد ، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية ، فساءه ذلك وخرج مع ما به من المرض فحثّهم على المسير ، و عقد بنفسه اللواء لاسامة وقال له :

« اغز بسم الله ، وفي سبيل الله ، وقاتل من كفر بالله » ، وخرج اسامة معقودا لواؤه ، فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف (2) ، وتثاقل الصحابة من الالتحاق بالمعسكر ، وأظهروا العصيان والطعن بقيادة اسامة ، يقول له عمر :

مات رسول الله ، وأنت عليّ أمير؟

ونقلت هذه الكلمات إلى النبيّ 6 وكانت قد ازدادت به الحمى فغضب ، وخرج وهو معصب الرأس قد دثّر بقطيفته ، فصعد المنبر وهو متبرّم ، فأعلن سخطه

__________________

(1) أبنى : ناحية بالبلقاء من أرض سوريا ، تقع بين عسقلان والرملة بالقرب من مؤتة التي استشهد فيها الشهيد الخالد جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة.

(2) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو جهة الشام ، كانت به أموال لعمر بن الخطّاب ولأهل المدينة ، وفيه بعض الآبار ، جاء ذلك في معجم البلدان 2 : 128.

٨٦

على من لم يلتحق بجيش اسامة.

« أيّها النّاس ، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة؟ ولقد طعنتم في تأميري أباه ، وأيم الله إنّه كان لخليقا بالإمارة وإنّ ابنه من بعده لخليق بها » (1) .

ثمّ نزل عن المنبر وهو متألّم كأشدّ ما يكون الألم ، وجعل يؤكّد على الالتحاق بجيش اسامة ، ويلعن من تخلّف عنه قائلا :

« جهّزوا جيش اسامة ».

« نفّذوا جيش اسامة ».

« لعن الله من تخلّف عن جيش اسامة ».

ولم تثر هذه الأوامر المشدّدة من رسول الله 6 حفائظ نفوسهم ، ولم تدفعهم إلى الالتحاق بجيش اسامة ، فقد تثاقلوا واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير الواهية ، وهو سلام الله عليه لم يمنحهم العذر ، وإنّما أظهر السخط وعدم الرضا وهناك بحوث مهمّة عرضنا لها بالتفصيل في كتابنا ( حياة الإمام الحسن 7 ).

رزية يوم الخميس :

واستبان للنبيّ 6 بصورة مكشوفة ما عليه بعض الصحابة من تصميمهم على صرف الخلافة عن وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين 7 ، فرأى أن يكتب كتابا خاصّا بالنصّ عليه ، ويعزّز بيعة يوم الغدير ، ويسدّ بذلك أبواب المتآمرين عليه ، فقال :

« ائتوني بالكتف والدّواة لأكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ».

يا لها من نعمة كبرى على المسلمين أنّه التزام من سيّد الكائنات بأن لا تضلّ

__________________

(1) السيرة الحلبية 3 : 34.

٨٧

امّته على امتداد التاريخ إن كتب لها الكتاب ، إنّه الكتاب الذي أراد الرسول به أن يصون امّته من الزيغ والانحراف ، ولا تصاب بأيّة نكسة في جميع الأحقاب والآباد.

وعلم بعض الصحابة ما يريده النبيّ 6 من نصب الإمام 7 خليفة من بعده وقائدا لمسيرة امّته ، فقال :

حسبنا كتاب الله ...

والمتأمّل في هذا الكلام يطلّ على الغاية المنشودة لهذا القائل وهو صرف النبيّ 6 من الكتابة في حقّ الإمام 7 ، فلو كان يعتقد أنّ النبيّ 6 يريد أن يوصي بحماية الثغور أو بجهاد الكفّار أو بالمحافظة على الطقوس الدينية لما ردّ على النبيّ 6 وقابله بهذه الجرأة ووقف بصلابة دون تنفيذ رغبته.

وعلى أي حال ، فقد كثر الجدل بين القوم ، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبيّ 6 ، وطائفة أخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بينه وبين ما طلبه من الكتابة ؛ وذلك خوفا على فوات مصالحها وأطماعها ، وانطلقت بعض السيّدات من وراء الستر فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبيّ وهو في ساعاته الأخيرة ، فقلن لهم :

ألا تسمعون ما يقول رسول الله؟

ألا تنفّذون ما يريد رسول الله؟

فثار عمر وهو بطل الموقف ، وزعيم المعارضة فصاح بالنساء قائلا :

إنّكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن ، وإذا صحّ ركبتن عنقه ...

فرمقه الرسول بطرفه وصاح به :

« دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم ».

وبدا صراع رهيب بين القوم وكادت تفوز الجبهة التي أرادت أن يكتب النبيّ ،

٨٨

فانبرى بعض الحاضرين فسدّد سهما لما رامه النبيّ ، فقال ـ ويا لهول ما قال! ـ :

إنّ النبيّ ليهجر (1) ! ما أعظم هذه الجرأة على النبي! ما أقسى هذا الاعتداء على مركز النبوّة! يا لها من كلمة تحمل جميع ألوان الشرور! ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى في حقّ نبيّه العظيم : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) (2) ؟

ألم تمرّ عليه هذه الآية في سموّ مكانة رسول الله 6 : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (3) ؟

بلى والله! لقد سمع هذا القائل ما أنزل الله من الآيات في كتابه المجيد في شأن رسوله الكريم ، ولكن الأطماع السياسية دفعته إلى هذا الموقف الذي يحزّ في نفس كلّ مسلم وكان ابن عباس حبر الامّة إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يذوب لوعة ويبكي حتى تسيل دموعه على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ وهو يقول :

يوم الخميس ، وما يوم الخميس؟ قال رسول الله 6 : « ائتوني بالكتف والدّواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا » ، فقالوا : إنّ رسول الله يهجر (4) .

حقّا لأن يجزع ابن عبّاس ويبكي بأمرّ ألوان البكاء ، فقد دهمت المسلمين

__________________

(1) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع المؤرّخين في الإسلام ، ذكرها البخاري في صحيحه عدّة مرّات في 4 : 68 ـ 69 و 6 : 8 ، وقد كتم اسم القائل ، وفي نهاية ابن الأثير 4 : 130 ، وشرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 3 : 114 وغيرهما تصريح باسمه.

(2) النجم : 2 ـ 5.

(3) التكوير : 19 و 20.

(4) مسند أحمد بن حنبل 1 : 355.

٨٩

كارثة مدمّرة ألقتهم في شرّ عظيم ، فقد حيل بينهم وبين ما أراده الرسول من تطوير حياتهم وسيادتهم في جميع الأحقاب والآباد.

وأكبر الظنّ أنّ النبيّ 6 لو كتب في حقّ عليّ ونصّ على خلافته لما أجدت كتابته شيئا ، فقد اتّهموه بالهجر وعدم الوعي ، وفي ذلك طعن صريح في مركز النبوّة وقداسة الرسول ، فرأى صلوات الله عليه بالاعراض عن الكتابة.

فجيعة الزهراء :

ومنيت زهراء الرسول 3 بكارثة مدمّرة حينما علمت أنّ أباها سيفارق الحياة ، فقد نخب الحزن قلبها الرقيق ، وهامت في تيارات من الأسى واللوعة ، وقد لازمت أباها وهي مذهولة كأنّها جثمان فارقته الحياة ، وقد أحدقت بوجهه فسمعته يقول :

« وا كرباه! » .

وامتلأ قلبها الطاهر حزنا ، فأسرعت قائلة :

« وا كربي! لكربّك يا أبت » ، وأشفق عليها أبوها وراح يسلّيها قائلا :

« لا كرب على أبيك بعد اليوم » (1) .

وكانت هذه الكلمات أشدّ على نفسها من الموت ، ورآها النبيّ وهي ولهى مذهولة قد خطف الحزن لونها كأنّما تعاني آلام الاحتضار فأمرها بالدنوّ منه ، فأسرّ إليها بحديث فغامت عيناها بالدموع ، ثمّ أسرّ إليها ثانيا ، فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر والرضا ، وكانت عائشة إلى جنبها فبهرت من ذلك ، وراحت تقول :

ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!

__________________

(1) حياة الإمام الحسن بن عليّ 8 1 : 112.

٩٠

وسألتها عمّا أسرّ إليها أبوها ، فأشاحت بوجهها عنها وأبت أن تخبرها ، ولمّا انصرفت أخبرت سلام الله عليها بعض السيّدات عن ذلك

فقالت :

« أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة ، وإنّه عارضني به في هذا العام مرّتين ، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي ».

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها ، وأمّا سبب سرورها وابتهاجها

فتقول :

« أخبرني أنّك أوّل أهل بيتي لحوقا بي ، ونعم السّلف أنا لك ، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الامّة » (1) ؟

وغرقت سيّدة النساء في البكاء ، فأخذ النبيّ 6 يخفّف عنها آلامها قائلا :

« يا بنيّة ، لا تبكي ، وإذا متّ فقولي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فإنّ فيها من كلّ ميّت معوضة ».

وذابت نفسها شعاعا ، وغامت عيناها بالدموع ، فقالت له بصوت متقطّع بالبكاء :

« ومنك يا رسول الله؟ » .

« نعم ، ومنّي » (2) .

واشتدّ الوجع برسول الله 6 ، فنظرت إليه سيّدة النساء فقالت له :

« أنت والله! كما قال القائل :

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل »

فقال لها أبوها :

« هذا قول عمّك أبي طالب » ، وقرأ قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ

__________________

(1) حياة الإمام الحسين بن عليّ 8 1 : 251.

(2) أنساب الأشراف 1 : 133.

٩١

خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (1) . (2)

النبيّ يوصي بأهل بيته :

روى أنس بن مالك قال : جاءت فاطمة ومعها الحسنان إلى رسول الله 6 في مرضه الذي توفّي فيه فانكبّت عليه وألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء ، ثمّ انطلقت إلى بيتها ، والنبيّ تسبقه دموعه وهو يقول :

« اللهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن ».

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرّات (3) وهو مثقل بالألم والحزن ، فقد استشفّ من وراء الغيب ما يجري عليهم من المحن والخطوب.

وصيّة النبيّ بسبطيه :

و قبل أن ينتقل النبيّ إلى حضيرة القدس بثلاثة أيام أوصى الإمام 7 برعاية سبطيه قائلا :

« يا أبا الرّيحانتين ، اوصيك بريحانتيّ من الدّنيا ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك ».

ولمّا قبض النبيّ قال الإمام :

« هذا أحد ركنيّ الّذي قال فيه رسول الله 6 » ، ولمّا ماتت فاطمة قال : « هذا الرّكن الثّاني الّذي قال لي رسول الله » (4) .

إلى الفردوس الأعلى :

وآن لسيّد الكائنات أن يلتحق بالفردوس الأعلى مقرّ الأنبياء والأوصياء ، فقد

__________________

(1) آل عمران : 144.

(2) و (3) أنساب الأشراف 1 : 133.

(4) أمالي الصدوق : 119.

٩٢

وفد عليه ملك الموت فاستأذن بالدخول عليه ، فأخبرته زهراء الرسول بأنّه مشغول بنفسه عنه ، فانصرف ، وبعد قليل عاد طالبا الإذن ، فأفاق النبيّ وقال لبضعته :

« أتعرفينه؟ ».

« لا ، يا رسول الله ».

« إنّه معمّر القبور ، ومخرّب الدّور ، ومفرّق الجماعات » ، وذهلت حبيبة الرسول ، وقدّ قلبها ، واندفعت تقول :

« وا أبتاه! لموت خاتم الأنبياء ، وا مصيبتاه! لممات خير الأتقياء ، ولانقطاع سيّد الأصفياء ، وا حسرتاه! لانقطاع الوحي من السّماء ، فقد حرمت اليوم كلامك » .

وتصدّع قلب الرسول وذابت نفسه ، وراح يسلّي زهراء قائلا :

« لا تبكي فإنّك أوّل أهلي لحوقا بي » (1) .

وأذن النبيّ لملك الموت بالدخول عليه ، ولمّا مثل أمامه قال له :

« يا رسول الله ، إنّ الله أمرني أن أطيعك في كلّ ما تأمرني به ، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها ، وإن تأمرني أن أتركها تركتها ».

وبهر النبيّ 6 وقال له :

« أتفعل يا ملك الموت ذلك؟ ».

« بذلك امرت أن اطيعك في كلّ ما أمرتني ».

ولم يحظ أحد من أنبياء الله ورسله بمثل ما حظي به خاتم الأنبياء ، فقد أمر الله تعالى ملك الموت بإطاعته ، والاستئذان بالدخول عليه.

وهبط جبرئيل على رسول الله 6 فقال له :

__________________

(1) درّة الناصحين : 66.

٩٣

« يا أحمد ، إنّ الله اشتاق إليك » ، واختار النبيّ جوار ربّه ، فإنّ الآخرة خير له وأبقى ، وأذن لملك الموت باستلام روحه المقدّسة ، ودعا وصيّه وباب مدينة علمه الامام 7 فقال له :

« ضع رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله ، فإذا فاضت نفسي فتناولها ، وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمري ، وصلّ عليّ أوّل النّاس ، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي واستعن بالله عزّ وجلّ ».

وأخذ الإمام رأس النبيّ فوضعه في حجره ، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه ، وأخذ النبي يعاني آلام الموت وقسوته حتى فاضت روحه العظيمة ، فمسح بها الإمام وجهه (1) . لقد مادت الأرض ، وخبا نور العدل ، وانطفأت تلك الشعلة المشرقة التي أضاءت سماء الدنيا بالعلم والإيمان يا لمدينة الرسول وآل الرسول ، يا لهم من يوم خالد في دنيا الأحزان ، يوم ليس كمثله في الأيام الحالكات ، ووجم المسلمون ، وطاشت أحلامهم ، وهرعت السيّدات صوب دار الرسول وهن يلد من الوجوه ، قد علت أصواتهنّ بالبكاء ، أمّا امّهات المؤمنين فقد وضعن الجلابيب عن رءوسهنّ ، وهن يلد من صدورهنّ ، وأمّا نساء الأنصار فقد ذبحت حلوقهنّ من الصياح (2) .

وكان أعظم أهل البيت حزنا بضعة الرسول وريحانته ، فقد وقعت على الجثمان المقدّس وهي تبكي أمرّ البكاء وتقول بذوب روحها :

« وأبتاه »!

__________________

(1) مناقب آل أبي طالب 1 : 29 ، وتواترت الأخبار أنّ النبيّ توفّي ورأسه في حجر عليّ ، جاء ذلك في : الطبقات الكبرى 2 : 51. مجمع الزوائد 1 : 293. كنز العمّال 4 : 55.

ذخائر العقبى : 94. الرياض النضرة 2 : 219.

(2) أنساب الأشراف 1 : 574.

٩٤

« وا نبيّ رحمتاه » .

« الآن لا يأتي الوحي. الآن ينقطع عنّا جبرئيل ، اللهمّ ألحق روحي بروحه ، واشفعني بالنّظر إلى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة » (1) .

وأخذت تجول حول الجثمان العظيم وهي ولهى قد أخرسها الخطب قائلة :

« وا أبتاه! إلى جبرئيل أنعاه ».

« وا أبتاه! جنّة الفردوس مأواه ».

« وا أبتاه! أجاب ربّا دعاه » (2) .

ومادت الأرض بالمسلمين وذهلوا حتى عن نفوسهم لعظم الكارثة.

تجهيز الجثمان العظيم :

وتولّى الإمام أمير المؤمنين 7 تجهيز جثمان أخيه وابن عمّه ، وذلك بأمر منه ، وهو يذرف الدموع ، فغسّل الجسد ، وهو يقول :

بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النّبوّة والإنباء وأخبار السّماء. خصّصت حتّى صرت مسلّيا عمّن سواك ، وعمّمت حتّى صار النّاس فيك سواء. ولو لا أنّك أمرت بالصّبر ، ونهيت عن الجزع ، لأنفدنا عليك ماء الشّؤون ولكان الدّاء مماطلا ، والكمد محالفا (3) .

قال 7 : « ولقد وليت غسله 6 والملائكة أعواني ، فضجّت الدّار والأفنية ،

__________________

(1) تاريخ الخميس 2 : 192.

(2) سير أعلام النبلاء 2 : 88. سنن ابن ماجة 1 : 511 ، وجاء فيه : أنّ حمّاد بن زيد قال : رأيت ثابت راوي الحديث حينما يحدّث به يبكي حتى رأيت أضلاعه تختلف.

(3) نهج البلاغة 2 : 255.

٩٥

ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم (1) يصلّون عليه ».

وكان العباس عمّ النبيّ 6 واسامة يناولان الإمام الماء من وراء الستر (2) .

وكان الطيب في أثناء الغسل يخرج من الجسد الطاهر ، و الإمام يقول :

« بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، طبت حيّا وميّتا » (3) ، أمّا الماء الذي غسّل فيه الرسول فهو من بئر يقال لها الغرس ، وكان يشرب منها (4) ، وبعد الفراغ من الغسل أدرجه الإمام في أكفانه ، ووضعه على السرير.

الصلاة على الجثمان العظيم :

وأوّل من صلّى على الجثمان المقدّس هو الله تعالى من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل ، ثمّ إسرافيل ، ثمّ الملائكة زمرا زمرا (5) ، وهرع المسلمون للصلاة على جثمان نبيّهم ، فقال لهم الإمام :

« لا يقوم عليه إمام منكم ، هو إمامكم حيّا وميّتا » ، فكانوا يدخلون عليه رسلا رسلا فيصلّون عليه صفّا ليس لهم إمام ، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان وهو يقول :

« السّلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته اللهمّ إنّا نشهد أنّه قد بلّغ ما أنزل إليه ، ونصح لامّته ، وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه وتمّت كلمته ، اللهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل إليه ، وثبّتنا بعده ، واجمع بيننا وبينه ».

__________________

(1) الهينمة : الصوت الخفي.

(2) البداية والنهاية 5 : 263.

(3) الطبقات الكبرى 2 : 63.

(4) البداية والنهاية 5 : 261.

(5) حلية الأولياء 4 : 77.

٩٦

وكان المصلّون يقولون : آمين (1) ، وكانت جموع المسلمين تمرّ على الجثمان العظيم فتلقي عليه نظرة الوداع وهي مذهولة ، قد هامت في تيارات من الهواجس ، فقد مات المنقذ ، ومات المعلّم ، ومات من أسّس لهم دولة تدعو إلى تطوّرهم وسعادتهم.

مواراة الجثمان المقدّس :

وبعد ما فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم قام الإمام بحفر القبر ، وبعد الانتهاء منه وارى جثمان أخيه ، وقد وارى أعظم شخصية خلقها الله في الأرض ، وأفضل هبة من الله لعباده وقد انهارت قوى الإمام ، ووقف على حافّة القبر ، وهو يروي ترابه من ماء عينيه قائلا :

إنّ الصّبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل ، وإنّه قبلك وبعدك لجلل (2) .

وانطوت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان ألوية العدل ، وغاب ذلك النور الذي أضاء سماء الكون وغيّر مجرى حياة الإنسان من واقع مظلم ليس فيه بصيص من النور إلى حياة آمنة مزدهرة بالعدل ، تتلاشى فيها آهات المظلومين وأنين المحرومين وتنبسط فيها خيرات الله على عباده.

فزع أهل البيت :

وفزع أهل البيت : كأشدّ ما يكون الفزع وداخلهم خوف رهيب من الاسر القرشيّة الذين وترهم الإمام بسيفه وروى الأرض من دمائهم ، وكانت تتربّص بهم الدوائر ، وتبغي لهم الغوائل ، وقد بات أهل البيت بأطول ليلة ، قد حاطت بهم

__________________

(1) كنز العمّال 4 : 54.

(2) نهج البلاغة 3 : 224.

٩٧

الهواجس والآلام و حكى الإمام الصادق 7 مدى ذعرهم وفزعهم بقوله :

« لمّا مات النبيّ 6 بات أهل بيته كأن لا سماء تظلّهم ، ولا أرض تقلّهم ؛ لأنّه وتر الأقرب والأبعد ».

وقد انصبّت المحن والكوارث على العترة الطاهرة بعد وفاة رسول الله 6 ، فقد انتقمت منهم قريش ، وأبعدتهم عن مراكزهم ، وحالت بينهم وبين ما أراده الله ورسوله لهم ، ولم تمض على انتقاله إلى حضيرة القدس خمسون عاما وإذا هم بموكب جهير يجوب الأقطار حاملين رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد.

تأبين الإمام للرسول :

ووقف الإمام 7 على منبر الرسول 6 وهو يصوغ من حزنه كلمات وقال :

بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، والله! إنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ الصّبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ المصيبة بك لأجلّ ، وإنّ ما بعدك وما قبلك لجلل ، ثمّ قال :

« ما فاض دمعي عند نازلة

إلاّ جعلتك للبكا سببا

فإذا ذكرتك سامحتك به

مقل الجفون ففاض وانسكبا

إنّي أجلّ ثرى حللت به

من أن أرى بسواه مكتئبا » (1)

__________________

(1) ربيع الأبرار 4 : 192.

٩٨

مؤتمر السّقيفة وحكومة أبي بكر

٩٩

١٠٠