موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٤

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام18%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 310

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 310 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133830 / تحميل: 6462
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مع الله في آياته وتوحيده

٢١
٢٢

ومعظم أدعية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قد حفلت بتوحيد الله تعالى والثناء عليه ، وهي تحمل طابع الإخلاص والعبودية المطلقة لله الواحد القهّار ، فقد حكت أدعيته مدى تذلّله أمام الله ، وتضرّعه إليه ، ومعرفته به ، وهذه نماذج منها :

دعاؤه عليه‌السلام

في توحيد الله والثناء عليه

الحمد لله أوّل محمود ، وآخر معبود ، وأقرب موجود ، البديء بلا معلوم لأزليّته ، ولا آخر لأوّليّته ، والكائن قبل الكون بغير كيان ، والموجود في كلّ مكان بغير عيان ، والقريب من كلّ نجوى بغير تدان ، علنت عنده الغيوب ، وضلّت في عظمته القلوب ، فلا الأبصار تدرك عظمته ، ولا القلوب على احتجابه تنكر معرفته ، تمثّل في القلوب بغير مثال تحدّه الأوهام ، أو تدركه الأحلام ، ثمّ جعل من نفسه دليلا على تكبّره عن الضّدّ والنّدّ والشّكل والمثل ، فالوحدانيّة آية الرّبوبيّة ، والموت الآتي على خلقه مخبر عن خلقه وقدرته ، ثمّ خلقهم من نطفة ولم يكونوا شيئا ، دليل على إعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم كما خلقهم أوّل مرّة ...

وحكى هذا المقطع مدى تعظيم الإمام عليه‌السلام لله تعالى ، فقد نعته بهذه النعوت

٢٣

التي تنمّ عن معرفته بتلك الحقيقة المذهلة للعقول ، فهو تعالى الكائن قبل كلّ شيء ، والموجود في كلّ مكان ، والقريب من كلّ نجوى ، فتعالى أن تدركه الأحلام ، أو تعرف واقعة العقول التي هي محدودة في إدراكها وتصوّرها ، فكيف تصل إلى إدراكه تعالى؟ ويستمرّ الإمام في دعائه فيقول :

والحمد لله ربّ العالمين ، الّذي لم يضرّه بالمعصية المتكبّرون ، ولم ينفعه بالطّاعة المتعبّدون ، الحليم عن الجبابرة المدّعين ، والممهّل للزّاعمين له شريكا في ملكوته ، الدّائم في سلطانه بغير أمد ، والباقي في ملكه بعد انقضاء الأبد ، والفرد الواحد الصّمد ، والمتكبّر عن الصّاحبة والولد ، رافع السّماء بغير عمد ، ومجري السّحاب بغير صفد (١) ، قاهر الخلق بغير عدد ، لكن الله الأحد ، الفرد الصّمد ، الّذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

والحمد لله الّذي لم يخل من فضله المقيمون على معصيته ، ولم يجازه لأصغر نعمه المجتهدون في طاعته ، الغنيّ الّذي لا يضنّ برزقه على جاحده ، ولا ينقص عطاياه أرزاق خلقه ، خالق الخلق ومفنيه ، ومعيده ، ومبديه ، ومعافيه ، عالم ما أكنّته السّرائر ، وأخبته الضّمائر ، واختلفت به الألسن ، وآنسته الأزمن ، الحيّ الّذي لا يموت ، والقيّوم الّذي لا ينام ، والدّائم الّذي لا يزول ، والعدل الّذي لا يجور ، والصّافح عن الكبائر بفضله ، والمعذّب من عذّب بعدله ، لم يخف الفوت فحلم ، وعلم الفقر إليه فرحم ، وقال في محكم كتابه : ( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) ...

__________________

(١) الصفد : القيد.

٢٤

وحفل هذا المقطع من دعاء الإمام عليه‌السلام بالثناء على الله تعالى وذكر بعض صفاته العظيمة ، التي طبق سناها ما في السموات والأرض. ويستمرّ إمام المتّقين في دعائه قائلا :

أحمده حمدا أستزيده في نعمته ، وأستجير به من نقمته ، وأتقرّب إليه بالتّصديق لنبيّه المصطفى لوحيه ، المتخيّر لرسالته ، المختصّ بشفاعته ، القائم بحقّه ، محمّد ٦ وعلى أصحابه ، وعلى النّبيّين والمرسلين ، والملائكة أجمعين ، وسلّم تسليما.

إلهي! درست الآمال ، وتغيّرت الأحوال ، وكذبت الألسن ، واخلفت العدة إلاّ عدتك ، فإنّك وعدت مغفرة وفضلا.

اللهمّ صلّ على محمّد وآله وأعطني من فضلك ، وأعذني من الشّيطان الرّجيم. سبحانك وبحمدك ما أعظمك! وأحلمك! وأكرمك! وسع بفضل حلمك تمرّد المستكبرين ، واستغرقت نعمتك شكر الشّاكرين ، وعظم حلمك عن إحصاء المحصين ، وجلّ طولك عن وصف الواصفين ، كيف ـ لو لا فضلك ـ حلمت عمّن خلقته من نطفة ولم يك شيئا ، فربّيته بطيّب رزقك ، وأنشأته في تواتر نعمك ، ومكّنت له في مهاد أرضك ، ودعوته إلى طاعتك ، فاستنجد على عصيانك بإحسانك ، وجحدك وعبد غيرك في سلطانك؟ كيف ـ لو لا حلمك ـ أمهلتني ، وقد شملتني بسترك ، وأكرمتني بمعرفتك ، وأطلقت لساني بشكرك ، وهديتني السّبيل إلى طاعتك ، وسهّلتني المسلك إلى كرامتك ، وأحضرتني سبيل قربتك ، فكان جزاؤك منّي أن كافأتك عن الإحسان بالإساءة ، حريصا على ما أسخطك ، متنقّلا فيما أستحقّ به المزيد من نقمتك ، سريعا إلى ما هو أبعد عن رضاك ،

٢٥

مغتبطا بغرّة الأمل ، معرضا عن زواجر الأجل ، لم ينفعني حلمك عنّي ، وقد أتاني توعّدك بأخذ القوّة منّي ، حتّى دعوتك على عظيم الخطيئة ، أستزيدك في نعمك غير متأهّب لما قد أشرفت عليه من نقمتك ، مستبطئا لمزيدك ، ومتسخّطا لميسور رزقك ، مقتضيا جوائزك بعمل الفجّار ، كالمراصد رحمتك بعمل الأبرار ، مجتهدا أتمنّى عليك العظائم كالمدلّ الآمن من قصاص الجرائم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ...

وحكى هذا المقطع مدى ألطاف الله ، وعظيم فضله وإحسانه على عباده ؛ مع ما يصدر منهم من سوء الأعمال ، والتنكّر لألطافه ونعمه عليهم ، وهو مع ذلك يقابلهم بالمزيد من برّه وفضله ، ويأخذ الإمام بالتضرّع إليه تعالى قائلا :

مصيبة عظم رزؤها ، وجلّ عقابها ، بل كيف ـ لو لا أملي ، ووعدك الصّفح عن زللي ـ أرجو إقالتك ، وقد جاهرتك بالكبائر ، مستخفيا عن أصاغر خلقك؟

فلا أنا راقبتك وأنت معي ، ولا راعيت حرمة سترك عليّ.

بأيّ وجه ألقاك؟ وبأيّ لسان اناجيك؟ وقد نقضت العهود والأيمان بعد توكيدها ، وجعلتك عليّ كفيلا ، ثمّ دعوتك مقتحما في الخطيئة فأجبتني ، ودعوتني وإليك فقري؟ فوا سوأتاه وقبح صنيعاه! سبحانك أيّة جرأة تجرّأت ، وأيّ تغرير غرّرت نفسي؟ سبحانك! فبك أتقرّب إليك ، وبحقّك أقسم عليك ، ومنك أهرب إليك ، بنفسي استخففت عند معصيتي لا بنفسك ، وبجهلي اغتررت لا بحلمك ، وحقّي أضعت لا عظيم حقّك ، ونفسي ظلمت ، ولرحمتك الآن رجوت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وإليك

٢٦

أنبت وتضرّعت ، فارحم إليك فقري وفاقتي ، وكبوتي لحرّ وجهي (١) وحيرتي في سوأة ذنوبي ، إنّك أرحم الرّاحمين.

وحكت هذه الفقرات من دعاء الإمام مدى خوفه من الله تعالى وتضرّعه إليه ، وإنابته ، وانقطاعه إليه ، وأنّه لا يرجو غيره ، ولا يأمل سواه ، وهذا غاية الطاعة ومنتهى الإخلاص. ويستمر الإمام في دعائه فيقول :

يا أسمع مدعوّ! وخير مرجوّ! وأحلم مغض! وأقرب مستغاث! أدعوك مستغيثا بك ، استغاثة المتحيّر المستيئس من إغاثة خلقك ، فعد بلطفك على ضعفي ، واغفر لي بسعة رحمتك كبائر ذنوبي ، وهب لي عاجل صنعك ، إنّك أوسع الواهبين ، لا إله إلاّ أنت ، سبحانك إنّي كنت من الظّالمين ، يا الله يا أحد ، يا الله يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

اللهمّ! أعيتني المطالب ، وضاقت عليّ المذاهب ، وأقصاني الأباعد ، وملّني الأقارب ، وأنت الرّجاء إذا انقطع الرّجاء ، والمستعان إذا عظم البلاء ، واللّجاء في الشّدّة والرّخاء ، فنفّس كربة نفس إذا ذكّرها القنوط مساوئها أيست من رحمتك ، ولا تؤيسني من رحمتك يا أرحم الرّاحمين (٢) .

لقد تجرّد الإمام من كلّ نزعة مادية ، ولم يعد له أي التقاء مع متع الدنيا ورغائبها ، وانقطع إلى الله انقطاعا كاملا ، فلا يرى غيره ملجأ ومفزعا ، وهكذا كانت حياته كلّها مع الله تعالى.

__________________

(١) حرّ الوجه : أكرم شيء فيه وأعزّه ، وهو الجبهة.

(٢) مهج الدعوات : ١١١ ـ ١١٤. بحار الأنوار ٩١ : ٢٣١.

٢٧

دعاؤه عليه‌السلام

في توحيد الله وتعظيمه

ومن أدعيته عليه‌السلام في توحيد الله وتعظيمه هذا الدعاء الشريف :

اللهمّ! إنّك حيّ لا تموت ، وصادق لا تكذب ، وقاهر لا تقهر ، وخالق لا تعان ، وقريب لا تبعد ، وقادر لا تضادّ ، وغافر لا تظلم ، وصمد لا تطعم ، وقيّوم لا تنام ، ومجيب لا تسأم ، وبصير لا ترتاب ، وجبّار لا تعان ، وعظيم لا ترام ، وعليم لا تعلّم ، وقويّ لا تضعف ، وحليم لا تعجل ، وعظيم لا توصف ، ووفيّ لا تخلف ، وعادل لا تحيف ، وغالب لا تغلب ، وغنيّ لا تفتقر ، وكبير لا تصغر ، وحكيم لا تجوز ، ومنيع لا تقهر ، ومعروف لا تنكر ، ووتر لا تستأنس ، وفرد لا تستشير ، ووهّاب لا تملّ ، وسميع لا تذهل ، وجواد لا تبخل ، وعزيز لا تذلّ ، وحافظ لا تغفل ، وقائم لا تسهو ، وقيّوم لا تنام ، ورفيق لا تعنف ، وحليم لا تعجل ، وشاهد لا تغيب ، ومحتجب لا ترى ، ودائم لا تفنى ، وباق لا تبلى ، وواحد لا تشبّه ، ومقتدر لا تنازع ...

وألمّت هذه الكلمات ببعض صفات الخالق العظيم ، ونعوته التي يعرفها ويحيط بها إمام المتّقين ، وسيّد العارفين. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

يا كريم ، يا جواد ، يا متكرّم ، يا قريب ، يا مجيب ، يا متعالي ، يا جليل ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا متعزّز ، يا جبّار ،

٢٨

يا متجبّر ، يا كبير ، يا متكبّر ، يا قادر ، يا مقتدر ، يا من ينادى من كلّ فجّ عميق بألسنة شتّى ، ولغات مختلفة ، وحوائج متتابعة ، لا يشغلك شيء عن شيء.

أنت الّذي لا تبيد ، ولا تفنيك الدّهور ، ولا تغيّرك الأزمنة ، ولا تحيط بك الأمكنة ، ولا يأخذك نوم ولا سنة ، ولا يشبهك شيء. وكيف لا تكون كذلك وأنت خالق كلّ شيء؟ لا إله إلاّ أنت ، كلّ شيء هالك إلاّ وجهك أكرم الوجوه.

سبّوح ذكرك ، قدّوس أمرك ، واجب حقّك ، نافذ قضاؤك ، لازمة طاعتك ، صلّ على محمّد وآل محمّد ، ويسّر لي من أمري ما أخاف عسره ، وفرّج عنّي وعن كلّ مؤمن ومؤمنة ما أخاف كربه ، وسهّل لي ما أخاف صعوبته ، وخلّصني ممّا أخاف هلكته ، يا أرحم الرّاحمين.

يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلاّ أنت سبحانك! إنّي كنت من الظّالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين ... (١) .

__________________

(١) الصحيفة العلوية : ٧٤ ـ ٧٦.

٢٩

دعاؤه عليه‌السلام

في التوحيد والتعظيم

من أدعية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هذا الدعاء الشريف وهو من أجلّ أدعيته ، وكان يدعو به في يوم الجمعة ، وقد حفل بتوحيد الله ، وتنزيهه عن مشابهة مخلوقاته ، وهذا نصّه :

الحمد لله الّذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ، مستشهدا بحدوث الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه ، لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّته ، ولا له شبه ولا مثال فيوصف بكيفيّته ، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثيّته ، مباين لجميع ما أحدث في الصّفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصرّف الذّوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات ، ومحرّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى عوامق ثاقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات النّظر تصويره ، ولا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثّله ، قد يئست عن استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصّغر عن السّموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ، واحد لا من عدد ، ودائم لا بأمد ،

٣٠

وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصّفات ، قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليّته ، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج بحار أفلاك ملكوته ، مقتدر بالآلاء ، وممتنع بالكبرياء ، ومتملّك على الأشياء ، فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به ، قد خضعت له رقاب الصّعاب في محلّ تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها ، مستشهدا بكلّيّة الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على بقائه ، فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها ، ولا خروج عن إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها ، ولا امتناع من قدرته عليها ، كفى بإتقان الصّنع له آية ، وبتركيب الطّبع عليه دلالة ، وبحدوث الفطر عليه قدمة ، وبإحكام الصّنعة عليه عبرة ، فليس إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه بمحجوب ، تعالى عن ضرب الأمثال له والصّفات المخلوقة علوّا كبيرا ...

وحفل هذا المقطع من كلام إمام الموحّدين بتوحيد الله وتنزيهه عن كلّ صفة من صفات الممكن الذي هو عرضة للزوال والفناء ، وأنّه تعالى غير خاضع لأيّ حدّ ؛ سواء أكانت من حدود الموجودات الخارجية أم غيرها ، وأنّه تعالى بقدرته التي لا نهاية لها قد أحاط بكلّ شيء من مخلوقاته التي منها هذه المجرّات المذهلة التي تسبح بالفضاء ، فجلّت قدرته ، وتعالى أمره ، وجلّت عظمته.

إنّ هذه اللوحة من دعاء الإمام عليه‌السلام من أجلّ وأسمى ما كتب ودوّن في علم التوحيد ، وتحليل هذه الكلمات ودراستها تستوعب صفحات كثيرة ، ويستمرّ الإمام

٣١

العظيم في دعائه فيقول :

وسبحان الله الّذي خلق الدّنيا للفناء والبيود ـ أي الإبادة ـ ، والآخرة للبقاء والخلود.

وسبحان الله الّذي لا ينقصه ما أعطى فأسنى ، وإن جاز المدى في المنى ، وبلغ الغاية القصوى ، ولا يجور في حكمه إذا قضى.

وسبحان الله الّذي لا يردّ ما قضى ، ولا يصرف ما أمضى ، ولا يمنع ما أعطى ، ولا يهفو ، ولا ينسى ، ولا يعجل ، بل يمهل ويعفو ، ويغفر ، ويرحم ويصبر ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

ولا إله إلاّ الله ، الشّاكر للمطيع له ، المملي للمشرك به ، القريب ممّن دعاه على حال بعده ، والبرّ الرّحيم بمن لجأ إلى ظلّه ، واعتصم بحبله.

ولا إله إلاّ الله المجيب لمن ناداه بأخفض صوته ، السّميع لمن ناجاه لأغمض سرّه ، الرّءوف بمن رجاه لتفريج همّه ، القريب ممّن دعاه لتنفيس كربه وغمّه.

ولا إله إلاّ الله الحليم عمّن ألحد في آياته ، وانحرف عن بيّناته ، ودان بالجحود في كلّ حالاته.

والله أكبر القاهر للأضداد ، المتعالي عن الأنداد ، المتفرّد بالمنّة على جميع العباد.

والله أكبر المحتجب بالملكوت والعزّة ، المتوحّد بالجبروت والقدرة ، المتردّي بالكبرياء والعظمة.

٣٢

والله أكبر المتقدّس بدوام السّلطان ، والغالب بالحجّة والبرهان ، ونفاذ المشيئة في كلّ حين وأوان.

اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، وأعطه اليوم أفضل الوسائل ، وأشرف العطاء ، وأعظم الحباء ، وأقرب المنازل ، وأسعد الجدود ، وأقرّ الأعين.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الّذين أمرت بطاعتهم ، وأذهبت عنهم الرّجس ، وطهّرتهم تطهيرا.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الّذين ألهمتهم علمك ، واستحفظتهم كتبك ، واسترعيتهم عبادك.

اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ونبيّك وحبيبك وخليلك ، وسيّد الأوّلين والآخرين من الأنبياء والمرسلين والخلق أجمعين ، وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين الّذين أمرت بطاعتهم ، وأوجبت علينا حقّهم ومودّتهم ...

عرض الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع من دعائه عظيم قدرة الله تعالى ، ومزيد ألطافه وفضله على عباده ، فهو القريب ممّن دعاه منهم ، والبرّ الرحيم لمن لجأ إليه منهم الذي يفيض برحمته وإحسانه حتّى على الجاحدين لربوبيّته ، وبعد ذلك صلّى على ابن عمّه وأخيه الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حبيب الله وخليله ، ثمّ صلّى على آله أبواب حكمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخزنة علومه. ويستمرّ الإمام في دعائه الشريف فيقول :

اللهمّ إنّي أسألك سؤال وجل من عقابك ، حاذر من نقمتك ، فزع إليك منك ، لم يجد لفاقته مجيرا غيرك ، ولا لخوفه أمنا غير فنائك وتطوّلك.

٣٣

سيّدي ومولاي! على طول معصيتي لك أقصدني إليك ، وإن كانت سبقتني الذّنوب ، وحالت بيني وبينك ؛ لأنّك عماد المعتمد ، ورصد المرتصد ، لا تنقصك المواهب ، ولا تغيظك المطالب ، فلك المنن العظام ، والنّعم الجسام.

يا من لا تنقص خزائنه! ولا يبيد ملكه ، ولا تراه العيون ، ولا تعزب منه حركة ولا سكون ، لم تزل سيّدي ولا تزال ، لا يتوارى عنك متوار في كنين أرض ولا سماء ولا تخوم ، تكفّلت بالأرزاق يا رزّاق ، وتقدّست عن أن تتناولك الصّفات ، وتعزّزت عن أن تحيط بك تصاريف اللّغات ، ولم تكن مستحدثا فتوجد متنقّلا عن حالة إلى حالة ، بل أنت الفرد الأوّل والآخر ، وذو العزّ القاهر ، جزيل العطاء ، سابغ النّعماء ، أحقّ من تجاوز وعفا عمّن ظلم وأساء بكلّ لسان.

إلهي تهجّد ، وفي الشّدائد عليك يعتمد ، فلك الحمد والمجد لأنّك المالك الأبد ، والرّبّ السّرمد ، أتقنت إنشاء البرايا فأحكمتها بلطف التّدبير والتّقدير ، وتعاليت في ارتفاع شأنك عن أن ينفذ فيك حكم التّغيير ، أو يحتال منك بحال يصفك به الملحد إلى تبديل ، أو يوجد في الزّيادة والنّقصان مساغ في اختلاف التّحويل ، أو تلتثق سحائب الإحاطة بك في بحور همم الأحلام ، أو تمتثل لك منها جبلّة تضلّ فيها رويّات الأوهام ، فلك الحمد مولاي! انقاد الخلق مستخذئين بإقرار الرّبوبيّة ، ومعترفين خاضعين لك بالعبوديّة ...

وحفل بداية هذا المقطع بالتذلّل وإظهار العبودية المطلقة لله تعالى ، وبيان عظمة قدرته ، وجليل مواهبه وعطاياه وتكفّله بأرزاق عباده صالحهم وطالحهم ، كما عرض إلى عظيم شأن الله تعالى ، وأنّه لا يحيط بكنهه وصف الواصفين

٣٤

ونعت الناعتين ، ثمّ عرض إلى أنّه تعالى هو المفزع والملجأ إذا ألمّت بالإنسان كوارث الأيام. هذا بعض ما حواه كلام الإمام عليه‌السلام ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا في تمجيد الله والثناء عليه :

سبحانك ما أعظم شأنك! وأعلى مكانك! وأنطق بالصّدق برهانك! وأنفذ أمرك! وأحسن تقديرك! سمكت السّماء فرفعتها ، ومهّدت الأرض ففرشتها ، فأخرجت منها ماء ثجّاجا ، ونباتا رجراجا ، فسبّحك نباتها ، وجرت بأمرك مياهها ، وقاما على مستقرّ المشيّة كما أمرتهما.

فيا من تعزّز بالبقاء ، وقهر عباده بالفناء ، أكرم مثواي ، فإنّك خير منتجع لكشف الضّرّ. يا من هو مأمول في كلّ عسر ، ومرتجى لكلّ يسر ، بك أنزلت اليوم حاجتي ، وإليك أبتهل فلا تردّني خائبا ممّا رجوت ، ولا تحجب دعائي عنك إذ فتحته لي فدعوت.

وصلّ على محمّد وآل محمّد ، وارزقني من فضلك الواسع رزقا واسعا سائغا حلالا طيّبا هنيئا مريئا لذيذا في عافية ...

وحفل هذا المقطع بتوحيد الله ، وذكر بعض آياته ؛ من رفع السماء ، وخلق الأرض بالكيفيّة المذهلة ، وذلك بإخراج الماء منها ، وإنبات النبات فيها إلى غير ذلك من آياته العظام ، ثمّ ينزل الإمام جميع شئونه بساحة الله تعالى طالبا منه إنجازها. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ اجعل خير أيّامي يوم ألقاك ، واغفر لي خطاياي فقد أوحشتني ، وتجاوز عن ذنوبي فقد أوبقتني ، فإنّك مجيب منيب رقيب قريب قادر غافر

٣٥

قاهر رحيم كريم قيّوم ، وذلك عليك يسير ، وأنت أحسن الخالقين.

اللهمّ افترضت عليّ للآباء والأمّهات حقوقا فعظّمتهنّ ، وأنت أولى من حطّ الأوزار وخفّفها ، وأدّى الحقوق عن عبيده ، فاحتملهنّ عنّي إليهما ، واغفر لهما كما رجاك كلّ موحّد مع المؤمنين والمؤمنات والإخوان والأخوات ، وألحقنا وإيّاهم بالأبرار ، وأبح لنا ولهم جنّاتك مع النّجباء الأخيار ، إنّك سميع الدّعاء ، وصلّى الله على النّبيّ محمّد وعترته الطّيّبين ، وسلّم تسليما (١) .

وانتهى هذا الدعاء الشريف الذي هو من غرر أدعية الإمام عليه‌السلام ، وقد حفل بتوحيد الله تعالى ، وتنزيهه عن صفات مخلوقاته ، والتذلل أمام عظمته ، ورجاء مغفرته وعفوه وطلب مرضاته.

لقد عكف إمام المتّقين في جميع حياته على طاعة الله ، وعبادته ومناجاته ، وتعدّ أدعيته منهجا متكاملا لمعرفة الله ، والتذلّل أمامه.

__________________

(١) البلد الأمين : ٩٢ ـ ٩٤.

٣٦

دعاؤه عليه‌السلام

في التوحيد وعظيم القدرة

ومن أدعية الإمام الباهرة هذا الدعاء الجليل الذي حكى فيه عظيم قدرة الله تعالى ، وإبداعه لخلق الأشياء ، وهذا نصّه :

الحمد لله الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم الدّائم ، الملك الحقّ المبين ، المدبّر بلا وزير ، ولا خلق من عباده يستشير ، الأوّل غير موصوف ، الباقي بعد فناء الخلق ، العظيم الرّبوبيّة نور السّماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما ، خلقهما بغير عمد ترونها وفتقهما فتقا ، فقامت السّماوات طائعات بأمره ، واستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء ، ثمّ علا ربّنا في السّماوات العلى ، الرّحمن على العرش استوى ، له ما في السّماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثّرى.

فأنا أشهد بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت ، لا رافع لما وضعت ، ولا واضع لما رفعت ، ولا معزّ لمن أذللت ، ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت.

وأنت الله لا إله إلاّ أنت كنت إذ لم تكن سماء مبنيّة ، ولا أرض مدحيّة ، ولا شمس مضيئة ، ولا ليل مظلم ، ولا نهار مضيء ، ولا بحر لجّيّ ، ولا جبل راس ، ولا نجم سار ، ولا قمر منير ، ولا ريح تهبّ ، ولا سحاب يسكب ، ولا برق يلمع ، ولا رعد يسبّح ، ولا روح تنفّس ، ولا طائر يطير ،

٣٧

ولا نار تتوقّد ، ولا ماء يطّرد.

كنت قبل كلّ شيء ، وكوّنت كلّ شيء ، وقدرت على كلّ شيء ، وابتدعت كلّ شيء ، وأغنيت وأفقرت ، وأمتّ وأحييت ، وأضحكت وأبكيت ، وعلى العرش استويت ، فتباركت يا الله ، وتعاليت يا الله.

تحدّث إمام الموحّدين في هذا المقطع عن صفات الله تعالى ، وعظيم قدرته ، وبديع صنعه ، وعجائب خلقه ؛ من دحو الأرض ، واستقرارها بأوتادها ، وغير ذلك من مذهلات مخلوقاته التي لا حصر لها. ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت الخلاّق العليم ، أمرك غالب ، وعلمك نافذ ، وكيدك غريب ، ووعدك صادق ، وقولك حقّ ، وحكمك عدل ، وكلامك هدى ، ووحيك نور ، ورحمتك واسعة ، وعفوك عظيم ، وفضلك كثير ، وعطاؤك جزيل ، وحبلك متين ، وإمكانك عتيد ، وجارك عزيز ، وبأسك شديد ، ومكرك مكيد.

أنت يا ربّ موضع كلّ شكوى ، وشاهد كلّ نجوى ، وحاضر كلّ ملإ ، ومنتهى كلّ حاجة ، وفرج كلّ حزين ، وغنى كلّ فقير مسكين ، وحصن كلّ هارب ، وأمان كلّ خائف. حرز الضّعفاء ، كنز الفقراء ، مفرّج الغمّاء ، معين الصّالحين ، ذلك الله ربّنا لا إله إلاّ هو ، تكفي من عبادك من توكّل عليك ، وأنت جار من لا ذبك وتضرّع إليك. عصمة من اعتصم بك من عبادك ، ناصر من انتصر بك. تغفر الذّنوب لمن استغفرك ، جبّار الجبابرة ، عظيم العظماء ، كبير الكبراء ، سيّد السّادات ، مولى الموالي ، صريخ المستصرخين ، منفّس عن المكروبين ، مجيب دعوة المضطرّين ، أسمع السّامعين ، أبصر النّاظرين ، أحكم الحاكمين ،

٣٨

أسرع الحاسبين ، أرحم الرّاحمين ، خير الغافرين ، قاضي حوائج المؤمنين ، مغيث الصّالحين ...

وفي هذا المقطع تحدّث الإمام عليه‌السلام عن صفات الله تعالى وعظيم قدرته ، وجليل صنعه ، ووافر عطاياه ، وغير ذلك من صفاته العظيمة ، ويختم دعاءه بقوله :

أنت الله لا إله إلاّ أنت ربّ العالمين ، أنت الخالق وأنا المخلوق ، وأنت المالك وأنا المملوك ، وأنت الرّبّ وأنا العبد ، وأنت الرّازق وأنا المرزوق ، وأنت المعطي وأنا السّائل ، وأنت الجواد وأنا البخيل ، وأنت القويّ وأنا الضّعيف ، وأنت العزيز وأنا الذّليل ، وأنت الغنيّ وأنا الفقير ، وأنت السيّد وأنا العبد ، وأنت الغافر وأنا المسيء ، وأنت العالم وأنا الجاهل ، وأنت الحليم وأنا العجول ، وأنت الرّاحم وأنا المرحوم ، وأنت المعافي وأنا المبتلى ، وأنت المجيب وأنا المضطرّ ، وأنا أشهد بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت الواحد الفرد وإليك المصير ، وصلّى الله على محمّد وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين (١) .

وأنت ترى في هذه الفقرات مدى تذلّل الإمام وخضوعه أمام الخالق العظيم ، فقد اعترف بعبوديّته المطلقة له تعالى.

هذه بعض أدعية الإمام عليه‌السلام التي حكت آيات الله تعالى ، وعظيم قدرته ، وبدائع صنعته ، وهي من أدلّة التوحيد ، ومن كنوز معارف الإمام بالخالق العظيم.

__________________

(١) البلد الأمين : ٣٨٠ ـ ٣٨١.

٣٩
٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلّا معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / ٤٨ ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثمّ إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه، قال سبحانه:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إلّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا *وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / ٤ و ٥ ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

٨١

سبحانه:

( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / ١٦ ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على الله وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من الله سبحانه كما أمر الله نبيّه أن يجبهم بقوله:

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / ٦ )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه(١) .

يلاحظ عليه: أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن: ج ٨ ص ٢١٦، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

٨٢

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

٧ ـ إيمان النبي قبل البعثة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى: انّ النبي لـمّا تمّ له ثلاث سنين، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة »: ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له: يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟

قال: نعم.

قالت حليمة السعدية: فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

٨٣

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه: « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني »(١) .

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه(٢) .

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات:

١ ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم، والعطف على المسكين، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت: إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً(٣) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

__________________

(١) المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني، ونقله المجلسي في البحار: ج ١٥، ص ٣٩٢.

(٢) لاحظ « مفاهيم القرآن »: ج ٥ ص ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الوسائل: ج ٨، الباب٤٥ ص ٨٧ ـ ٨٨.

٨٤

٢ ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول: إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة، إلّا أن يقال: إنّ سنن إبراهيمعليه‌السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها، وإنّما انقضت نبوّته، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيميّة هي الأساس للشرائع اللّاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم، أو المسيح أو النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله جزء من أُمّة إبراهيمعليه‌السلام تابعاً له، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

٣ ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح، وأمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم، وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسجم مع هذا الإحتمال، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

٤ ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:

٨٥

«لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (١) .

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح:

( قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / ٣٠ ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى:

( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / ١٢ ).

ولازم ذلك، أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك وقال: « اقرأ »(٢) .

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة رقم ١٨٧ طبعة عبده.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، باب بدء الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٤.

٨٦

إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يفاض إلّا لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى، لا يحملها إلّا من وقع تحت رعاية الله وتربيته، ولا تتحقّق تلك الغاية إلّا باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

٨٧

٨٨

(٤)

الوحي في القرآن الكريم

لقد تعرّفت على حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، وقد أقام بعد أن حباه الله بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمـّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره الله سبحانه إلى جواره، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة:

١ ـ حياته قبل البعثة.

٢ ـ حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

٣ ـ حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

٨٩

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات الله تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام، والمستفاد من كلماتهم: أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وإنْ شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة، وإليك البيان:

١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين:

قال سبحانه:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ

٩٠

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / ١١ و ١٢ ).

فقوله سبحانه:( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين:

( الأوّل ): أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ): إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين، ولكن كل حسب درجته ومرتبته، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه:( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) ( الزلزلة / ١ ـ ٥ ).

٢ ـ الإدراك بالغريزة:

قال سبحانه:( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / ٦٨ و ٦٩ ).

فالأعمال المدهشة الخلّابة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثمّ التجوّل بين البساتين، ومصّ رحيق الأنهار، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد، شيء تتعلّمه بإيحاء من الله سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

٩١

٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب:

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / ٧ ).

ومنها قوله:( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / ١١١ ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسفعليه‌السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ، قال سبحانه:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / ١٥ ).

إلى غير ذلك من الموارد.

٤ ـ الإشارة:

قال سبحانه:( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / ١١ ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

٥ ـ الإلقاءات الشيطانيّة:

قال سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / ١١٢ ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

٩٢

٦ ـ كلام الله المنزّل على نبي من أنبيائه:

قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / ٣ ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث: أنّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد، وإنْ أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي:

قنوات المعرفة الثلاثة:

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده:

الطريق الأوّل ـ يستفيد منه جموع الناس غالباً ـ بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلّا أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي:

١ ـ الطريق الحسّي والتجربي:

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

٢ ـ الطريق التعقّلي النظري:

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال وإعمال النظر وإنهاء المجهولات إلى البديهيات، وقد توصّل

٩٣

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

٣ ـ طريق الإلهام:

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون ـ في منهج المادّيين وأصحاب النزعة المادّية ـ ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما، في حين أنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب الله سبحانه، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين الله سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه:

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسىعليه‌السلام كلام الله سبحانه في الطور، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

٩٤

الخليلعليه‌السلام ذبح ولده إسماعيل، وقد ينزل عليه ملك من جانب الله تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة: « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) وإلى نزول الملك بقوله:( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / ١٠٢ ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام الله سبحانه بقوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / ١٩٣ و ١٩٤ ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

١ ـ الوحي وليد النبوغ:

ويقولون: يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

٩٥

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول: إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلّابة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر، قال سبحانه حاكياً عنهم:( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / ٥ ).

ويجيبهم القرآن بقوله:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / ٦٩ ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن الله سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات الله ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل: لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا، ومن جانب آخر: إنّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

٩٦

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية، وتحت ظل الحضارات الإنسانية، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كانت على نقيض هذا الجانب، فقد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أضف إلى ذلك: انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام ١٣٣٥ ه‍ ق في رسالته إلى صاحب المنار:

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ):

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ):

دع من محمّد في صدى قرآنه

ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه

هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من

حكم روادع للهوى وعظات

٩٧

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها

ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه

ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء

بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى

وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى

من سابق أو غائب أو آت

٢ ـ الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة:

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام »، وخلاصتها:

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وذلك أنّ سريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله، والإعتقاد بوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة، يحدث في عقله الباطن، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إليه، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده(١) .

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

__________________

(١) الوحي المحمدي: ص ٦٦.

٩٨

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه، بأنّها أضغاث أحلام، قال تعالى حاكياً عنهم:( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن الله تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلّا تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا:( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / ٦ ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا ربِّ ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310