موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٤

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 310

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
المحقق: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 310
المشاهدات: 127096
تحميل: 5406


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 310 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127096 / تحميل: 5406
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

تضرّع وخشوع امام الله

٤١
٤٢

وانقطع إمام المتّقين ، وزعيم الموحّدين عليه‌السلام إلى الله تعالى انقطاعا كاملا ، وأناب إليه كأعظم ما تكون الإنابة ، وسرى حبّ الله تعالى والخشية والخوف منه في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، وقد توسّل وتضرّع إليه طالبا منه العفو ، والتقرّب إليه ، وقد أثرت عنه كوكبة من الأدعية الشريفة ، يلمس فيها مدى إخلاصه وتذلّله أمام عظمته تعالى ، كان منها ما يلي :

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع والتذلّل أمام الله

من أدعية الإمام عليه‌السلام الجليلة هذا الدعاء الشريف ، وهو من أجلّ أدعيته ، وكان يدعو به حفيده الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام ، باقر علوم الأوّلين والآخرين ، وهذا نصّه :

اللهمّ أنت ربّي وأنا عبدك ، آمنت بك مخلصا لك على عهدك ووعدك ما استطعت ، وأتوب إليك من سوء عملي ، وأستغفرك للذّنوب الّتي لا يغفرها غيرك ، أصبح ذلّي مستجيرا بعزّتك ، وأصبح فقري مستجيرا بغناك ، وأصبح جهلي مستجيرا بحلمك ، وأصبحت قلّة حيلتي مستجيرة بقدرتك ، وأصبح خوفي مستجيرا بأمانك ، وأصبح دائي مستجيرا بدوائك ، وأصبح سقمي مستجيرا بشفائك ، وأصبح حيني مستجيرا بقضائك ، وأصبح ضعفي مستجيرا

٤٣

بقوّتك ، وأصبح ذنبي مستجيرا بمغفرتك ، وأصبح وجهي الفاني البالي مستجيرا بوجهك الباقي الدّائم الّذي لا يبلى ولا يفنى ...

أرأيتم كيف تضرّع الإمام عليه‌السلام أمام الخالق العظيم؟ لقد ذابت نفسه شغافا فلا يرى غير الله تعالى ملجأ وملاذا ، فهو يستجير به في جميع شئونه وأحواله ، ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

يا من لا يواري منه ليل داج ، ولا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات ارتاج ، ولا ما في قعر بحر عجّاج (1) ، يا دافع السّطوات ، يا كاشف الكربات ، يا منزل البركات من فوق سبع سماوات ، أسألك يا فتّاح ، يا من بيده خزائن كلّ مفتاح ، أسألك أن تصلّي على محمّد وآل محمّد الطّيّبين الطّاهرين ، وأن تفتح لي خير الدّنيا والآخرة ، وأن تحجب عنّي فتنة الموكّل بي (2) ، ولا تسلّطه عليّ فيهلكني ، ولا تكلني إلى أحد طرفة عين فيعجز عنّي ، ولا تحرمني الجنّة ، وارحمني ، وتوفّني مسلما ، وألحقني بالصّالحين ، واكففني بالحلال عن الحرام ، وبالطّيّب عن الخبيث يا أرحم الرّاحمين.

اللهمّ خلقت القلوب على إرادتك ، وفطرت العقول على معرفتك ، فتململت الأفئدة من مخافتك ، وصرخت القلوب بالوله إليك ، وتقاصر وسع قدر العقول عن الثّناء عليك ، وانقطعت الألفاظ عن مقدار محاسنك ، وكلّت الألسن عن إحصاء نعمك ، فإذا ولجت بطرق البحث عن نعتك بهرتها حيرة العجز عن

__________________

(1) العجّاج : الماء الكثير الذي تصحبه أمواج.

(2) الموكّل بي : يعني به الشيطان الرجيم.

٤٤

إدراك وصفك ، فهي تتردّد في التّقصير عن مجاوزة ما حدّدت لها ؛ إذ ليس لها أن تتجاوز ما أمرتها ، فهي بالاقتدار على ما مكّنتها تحمدك بما أنهيت إليها ، والألسن منبسطة بما تملي عليها ، ولك على كلّ من استعبدت من خلقك ألاّ يملّوا من حمدك ، وإن قصرت المحامد عن شكرك بما أسديت إليها من نعمك ، فحمدك بمبلغ طاقة جهدهم الحامدون ، واعتصم برجاء عفوك المقصّرون ، وأوجس بالرّبوبيّة لك الخائفون ، وقصد بالرّغبة إليك الطّالبون ، وانتسب إلى فضلك المحسنون ، وكلّ يتفيّأ في ظلال تأميل عفوك ، ويتضاءل بالذّلّ لخوفك ، ويعترف بالتّقصير في شكرك ، فلم يمنعك صدوف من صدف عن طاعتك ، ولا عكوف من عكف على معصيتك ، أن أسبغت عليهم النّعم ، وأجزلت لهم القسم ، وصرفت عنهم النّقم ، وخوّفتهم عواقب النّدم ، وضاعفت لمن أحسن ، وأوجبت على المحسن شكر توفيقك للإحسان ، وعلى المسيء شكر تعطّفك بالامتنان ، ووعدت محسنهم الزّيادة في الإحسان منك ، فسبحانك تثيب على ما بدؤه منك ، وانتسابه إليك ، والقوّة عليه بك ، والإحسان فيه منك ، والتّوكّل في التّوفيق له عليك ، فلك الحمد حمد من علم أنّ الحمد لك ، وأنّ بدءه منك ، ومعاده إليك ، حمدا لا يقصر عن بلوغ الرّضى منك ، حمد من قصدك بحمده ، واستحقّ المزيد له منك في نعمه.

اللهمّ ولك مؤيّدات من عونك ، ورحمة تحصّن بها من أحببت من خلقك ، فصلّ على محمّد وآله ، واخصصنا من رحمتك ، ومؤيّدات لطفك أوجبها للإقالات ، وأعصمها من الإضاعات ، وأنجاها من الهلكات ، وأرشدها

٤٥

إلى الهدايات ، وأوقاها من الآفات ، وأوفرها من الحسنات ، وآثرها في البركات ، وأزيدها في القسم ، وأسبغها للنّعم ، وأسترها للعيوب ، وأسرّها للغيوب ، وأغفرها للذّنوب ، إنّك قريب مجيب.

وصلّ على خيرتك من خلقك ، وصفوتك من بريّتك ، وأمينك على وحيك ، بأفضل الصّلوات ، وبارك عليهم بأفضل البركات ، بما بلّغ عنك من الرّسالات ، وصدع بأمرك ، ودعا إليك ، وأفصح بالدّلائل عليك بالحقّ المبين ، حتّى أتاه اليقين ، وصلّى الله عليه في الأوّلين ، وصلّى عليه في الآخرين ، وعلى آله وأهل بيته الطّاهرين ، واخلفه فيهم بأحسن ما خلّفت به أحدا من المرسلين يا أرحم الرّاحمين.

اللهم ولك إرادات لا تعارض دون بلوغها الغايات ، قد انقطع معارضتها بعجز الاستطاعات عن الرّدّ لها دون النّهايات ، فأيّة إرادة جعلتها إرادة لعفوك ، وسببا لنيل فضلك ، واستنزالا لخيرك ، فصلّ على محمّد وأهل بيت محمّد ، وصلها اللهمّ بدوام ، وأيّدها بتمام ، إنّك واسع الحباء ، كريم العطاء ، مجيب النّداء ، سميع الدّعاء (1) .

انتهى هذا الدعاء الشريف الذي أبدى فيه الإمام تمام التذلّل والخضوع لله تعالى ، والذي أخلص له في عبادته وطاعته كأعظم ما يكون الإخلاص.

__________________

(1) البلد الأمين : 378 ـ 380.

٤٦

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع والخشوع

وهذا الدعاء من غرر أدعيته وأكثرها إبداعا وخضوعا لله تعالى ويعرف بدعاء اليمانيّ لأنّه قد علّمه إلى بعض أخيار اليمن فنسب إليه وهذا نصّه :

اللهمّ أنت الملك الحقّ الّذي لا إله إلاّ أنت ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي يا غفور يا شكور.

اللهمّ إنّي أحمدك وأنت للحمد أهل على ما خصصتني به من مواهب الرّغائب ، وما وصل إليّ من فضلك السّابغ ، وما أوليتني به من إحسانك إليّ ، وبوّأتني به من مظنّة العدل ، وأنلتني من منّك الواصل إليّ ، ومن الدّفاع عنّي ، والتّوفيق لي ، والإجابة لدعائي حين اناجيك داعيا ، وأدعوك مضاما ، وأسألك فأجدك في المواطن كلّها لي جابرا ، وفي الأمور ناظرا ، ولذنوبي غافرا ، ولعوراتي ساترا ، لم أعدم خيرك طرفة عين منذ أنزلتني دار الاختبار لتنظر ما اقدّم لدار القرار ، فأنا عتيقك من جميع الآفات والمصائب في اللّوازب والغموم الّتي ساورتني فيها الهموم بمعاريض أصناف البلاء ، ومصروف جهد القضاء ، لا أذكر منك إلاّ الجميل ، ولا أرى منك غير التّفضيل ، خيرك لي شامل ، وفضلك عليّ متواتر ، ونعمتك عندي متّصلة ، وسوابق لم تحقّق حذاري بل صدّقت رجائي ، وصاحبت أسفاري ، وأكرمت أحضاري ، وشفيت أمراضي وأوصابي ، وعافيت

٤٧

منقلبي ومثواي ، ولم تشمت بي أعدائي ، ورميت من رماني ، وكفيتني مؤونة من عاداني ، فحمدي لك واصل ، وثنائي عليك دائم ، من الدّهر إلى الدّهر ، بألوان التّسبيح ، خالصا لذكرك ، ومرضيّا لك بيانع التّوحيد ، وإمحاض التّمجيد ، بطول التّعديد ، ومزيّة أهل المزيد ، لم تعن في قدرتك ، ولم تشارك في إلهيّتك ، ولم تعلّم لك ماهيّة فتكون للأشياء المختلفة مجانسا ، ولم تعاين إذا حبست الأشياء على الغرائز ، ولا خرقت الأوهام حجب الغيوب فتعتقد فيك محدودا في عظمتك ، فلا يبلغك بعد الهمم ، ولا ينالك غوص الفكر ، ولا ينتهي إليك نظر ناظر في مجد جبروتك.

ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك ، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك ، لا ينقص ما أردت أن يزداد ، ولا يزداد ما أردت أن ينقص ، ولا أحد حضرك حين برأت النّفوس.

كلّت الأوهام عن تفسير صفتك ، وانحسرت العقول عن كنه عظمتك. وكيف توصف وأنت الجبّار القدّوس ، الّذي لم تزل أزليّا دائما في الغيوب ، وحدك ليس فيها غيرك ، ولم يكن لها سواك.

حار في ملكوتك عميقات مذاهب التّفكير ، فتواضعت الملوك لهيبتك ، وعنت الوجوه بذلّ الاستكانة لك ، وانقاد كلّ شيء لعظمتك ، واستسلم كلّ شيء لقدرتك ، وخضعت لك الرّقاب ، وضلّ هنالك التّدبير في تصاريف الصّفات ، فمن تفكّر في ذلك رجع طرفه إليه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وفكره متحيّرا.

حكت هذه الفصول من دعائه الشريف مدى التجاء الإمام عليه‌السلام إلى الله تعالى

٤٨

في جميع شئونه واموره ، واعتماده عليه في كلّ ما نزل به من كوارث الأيام وخطوبها ، وأنّه عليه‌السلام يحمده على ما أولاه من النعم ، وما تفضّل عليه من دفع النقم.

كما تحدّث الإمام عليه‌السلام عن عظمة الله تعالى ، وأنّه لا يحيط بوصفه الواصفون ونعت الناعتين ، فهو فوق كلّ شيء ، وإنّ الفكر ليقف حاسرا مبهورا أمام عظمته التي لا حدّ لها ، ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ فلك الحمد متواترا متواليا متّسقا مستوثقا يدوم ولا يبيد ، غير مفقود في الملكوت ، ولا مطموس في المعالم ، ولا منتقص في العرفان.

ولك الحمد ما لا تحصى مكارمه في اللّيل إذا أدبر ، والصّبح إذا أسفر ، وفي البراري والبحار ، والغدوّ والآصال ، والعشيّ والإبكار ، وفي الظّهائر والأسحار.

وفي هذه الفقرات قدّم الإمام عليه‌السلام إلى بارئه أجمل آيات التعظيم والتكريم ، فلم يبق في قاموس الثناء كلمة إلاّ قدّمها لله تعالى ، ويأخذ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ بتوفيقك قد أحضرتني الرّغبة ، وجعلتني منك في ولاية العصمة ، فلم أبرح في سبوغ نعمائك ، وتتابع آلائك ، محفوظا لك في المنعة والدّفاع ، محوطا بك في مثواي ومنقلبي ، ولم تكلّفني فوق طاقتي إذ لم ترض منّي إلاّ طاعتي ، وليس شكري ـ وإن أبلغت في المقال ، وبالغت في الفعال ـ ببالغ أداء حقّك ، ولا مكافيا لفضلك ؛ لأنّك أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت ، لم تغب ولا تغيب عنك غائبة ، ولا تخفى عليك خافية ، ولم تضلّ لك في ظلم الخفيّات ضالّة ، إنّما أمرك إذا أردت شيئا أن تقول له كن فيكون.

اللهمّ لك الحمد مثل ما حمدت به نفسك وحمدك به الحامدون ، ومجّدك

٤٩

به الممجّدون ، وكبّرك به المكبّرون ، وعظّمك به المعظّمون ، حتّى يكون لك منّي وحدي بكلّ طرفة عين وأقلّ من ذلك مثل حمد الحامدين ، وتوحيد أصناف المخلصين ، وتقديس أجناس العارفين ، وثناء جميع المهلّلين ، ومثل ما أنت به عارف من جميع خلقك من الحيوان ، وأرغب إليك في رغبة ما أنطقتني به من حمدك ، فما أيسر ما كلّفتني به من حقّك ، وأعظم ما أوعدتني على شكرك.

ابتدأتني بالنّعم فضلا وطولا ، وأمرتني بالشّكر حقّا وعدلا ، ووعدتني عليه أضعافا ومزيدا ، وأعطيتني من رزقك اعتبارا وفضلا ، وسألتني منه يسيرا صغيرا ، وأعطيتني عليه عطاء كثيرا ، وأعفيتني من جهد البلاء ، ولم تسلمني للسّوء من بلائك مع ما أوليتني من العافية ، وسوّغت من كرائم النّحل ، وضاعفت لي الفضل مع ما أودعتني من المحجّة الشّريفة ، ويسّرت لي من الدّرجة العالية الرّفيعة ، واصطفيتني بأعظم النّبيّين دعوة ، وأفضلهم شفاعة ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

اللهمّ فاغفر لي ما لا يسعه إلاّ مغفرتك ، ولا يمحقه إلاّ عفوك ، ولا يكفّره إلاّ فضلك ، وهب لي في يومي يقينا تهوّن عليّ به مصيبات الدّنيا وأحزانها بشوق إليك ، ورغبة فيما عندك ، واكتب لي عندك المغفرة ، وبلّغني الكرامة ، وارزقني شكر ما أنعمت به عليّ ، فإنّك أنت الله الواحد الرّفيع المبدئ البديع السّميع العليم ، الّذي ليس لأمرك مدفع ، ولا عن قضائك ممتنع. أشهد أنّك ربّي ، وربّ كلّ شيء ، فاطر السّماوات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، العليّ الكبير.

اللهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر ، والعزيمة على الرّشد ، والشكر على

٥٠

نعمتك ، وأعوذ بك من جور كلّ جائر ، وبغي كلّ باغ ، وحسد كلّ حاسد ، بك أصول على الأعداء ، وبك أرجو ولاية الأحبّاء مع ما لا أستطيع إحصاءه ولا تعديده من عوائد فضلك ، وطرف رزقك ، وألوان ما أوليت من إرفادك ؛ فإنّك أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت الفاشي في الخلق رفدك ، الباسط بالجود يدك ولا تضادّ في حكمك ، ولا تنازع في أمرك ، تملك من الأنام ما تشاء ولا يملكون إلاّ ما تريد.

قل اللهمّ مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممّن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنّك على كلّ شيء قدير. تولج اللّيل في النّهار ، وتولج النّهار في اللّيل ، وتخرج الحيّ من الميّت ، وتخرج الميّت من الحيّ ، وترزق من تشاء بغير حساب. أنت المنعم المفضل الخالق البارىء القادر القاهر المقدّس في نور القدس ، تردّيت بالمجد والعزّ ، وتعظّمت بالكبرياء ، وتغشّيت بالنّور والبهاء ، وتجلّلت بالمهابة والسّناء.

اللهمّ لك الحمد العظيم ، ولك المنّ القديم ، والسّلطان الشّامخ ، والجود الواسع ، والقدرة المقتدرة ؛ إذ جعلتني من أفضل بني آدم ، وجعلتني سميعا بصيرا ، صحيحا سويّا معافى ، لم تشغلني بنقصان في بدني ، ولم تمنعك كرامتك إيّاي وحسن صنيعك عندي وفضل إنعامك عليّ أن وسّعت عليّ في الدّنيا ، وفضّلتني على كثير من أهلها ، فجعلت لي سمعا يسمع آياتك ، وفؤادا يعرف عظمتك. وأنا بفضلك حامد ، وبجهد نفسي لك شاكر ، وبحقّك شاهد ؛ فإنّك حيّ قبل كلّ حيّ ، وحيّ بعد كلّ حيّ ، وحيّ لم ترث الحياة من حيّ ، ولم تقطع خيرك

٥١

عنّي طرفة عين في كلّ وقت ولم تنزل بي عقوبات النّقم ، ولم تغيّر عليّ دقائق العصم ، فلو لم أذكر من إحسانك إلاّ عفوك ، وإجابة دعائي حين رفعت رأسي بتحميدك وتمجيدك ، وفي قسمة الأرزاق حين قدّرت ، فلك الحمد عدد ما حفظه علمك ، وعدد ما أحاطت به قدرتك ، وعدد ما وسعته رحمتك.

اللهمّ فتمّم إحسانك إليّ فيما بقي من عمري ، كما أحسنت فيما مضى ، فإنّي أتوسّل إليك بتوحيدك ، وتمجيدك وتحميدك وتهليلك وتكبيرك وتعظيمك وبنورك ورأفتك ورحمتك وعلوّك وجمالك وجلالك وبهائك وسلطانك وقدرتك وبمحمّد وآله الطّاهرين ألاّ تحرمني رفدك وفوائدك ، فإنّه لا يعتريك لكثرة ما يتدفّق به عوائق البخل ، ولا ينقص جودك تقصير في شكر نعمتك ، ولا تفني خزائن مواهبك النّعم ، ولا تخاف ضيم إملاق فتكدي ، ولا يلحقك خوف عدم فينقص فيض فضلك.

اللهمّ ارزقني قلبا خاشعا ، ويقينا صادقا ، ولسانا ذاكرا ، ولا تؤمّني مكرك ، ولا تكشف عنّي سترك ، ولا تنسني ذكرك ، ولا تباعدني من جوارك ، ولا تقطعني من كلّ رحمتك ، ولا تؤيسني من روحك ، وكن لي أنيسا من كلّ وحشة ، واعصمني ونجني من كلّ بلاء ، فإنّك لا تخلف الميعاد.

اللهمّ ارفعني ولا تضعني ، وزدني ولا تنقصني ، وارحمني ولا تعذّبني ، وانصرني ولا تخذلني ، وآثرني ولا تؤثر عليّ ، وصلّ على محمّد وآل محمّد الطّيّبين الطّاهرين وسلّم تسليما كثيرا (1) .

__________________

(1) مهج الدعوات : 106 ـ 111.

٥٢

وانتهى هذا الدعاء الشريف الحافل بتمجيد الله تعالى والتضرّع إليه والانقطاع إلى فضله ورحمته وطلب فيضه وإحسانه ، وهذه من سمات إمام المتّقين وسيّد العارفين الذي أترعت نفسه بتقوى الله وطاعته.

دعاؤه عليه‌السلام

في التذلّل أمام الله

قال عليه‌السلام : اللهمّ إن فههت عن مسألتي ، أو عمهت عن طلبتي فدلّني على مصالحي ، وخذ بقلبي إلى مراشدي.

اللهمّ احملني على عفوك ، ولا تحملني على عدلك (1) .

__________________

(1) الصحيفة العلوية الثانية : 11 ـ 14.

٥٣

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع إلى الله

ومن أدعية أمير المؤمنين عليه‌السلام في التضرّع إلى الله تعالى هذا الدعاء الجليل :

اللهمّ يا من برحمته يستغيث المذنبون ، ويا من إلى إحسانه يفزع المضطرّون ، ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون ، يا انس كلّ مستوحش غريب ، يا فرج كلّ مكروب حريب (1) ، يا عون كلّ مخذول فريد ، يا عاضد كلّ محتاج طريد ، أنت الّذي وسعت كلّ شيء رحمة وعلما ، وأنت الّذي جعلت لكل مخلوق في نعمتك سهما ، وأنت الّذي عفوه أعلى من عقابه ، وأنت الّذي رحمته أمام غضبه ، وأنت الّذي إعطاؤه أكبر من منعه ، وأنت الّذي وسع الخلائق كلّهم بعفوه ، وأنت الّذي لا يرغب في غنى من أعطاه ، وأنت الّذي لا يفرّط (2) في عقاب من عصاه ...

وحكت هذه الكلمات عظمة الخالق العظيم الذي إليه يلجأ كلّ مكروب ، ويستغيث به كلّ محروم ، والذي وسعت رحمته كلّ شيء ، وعمّت ألطافه جميع الكائنات والمخلوقات ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

وأنا يا سيّدي عبدك الّذي أمرته بالدّعاء فقال : لبّيك وسعديك ،

__________________

(1) الحريب : المسلوب المال.

(2) لا يفرط : لا يعجل ، أو لا يتجاوز الحدّ.

٥٤

وأنا يا سيّدي عبدك الّذي أوقرت الخطايا ظهره ، وأنا الّذي أفنت الذّنوب عمره ، وأنا الّذي بجهله عصاك ولم يكن أهلا منه لذلك ، فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فأجتهد في الدّعاء ، أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء ، أم أنت متجاوز عمّن عفّر لك وجهه متذلّلا ، أم أنت مغن من شكا إليك فقره متوكّلا.

اللهمّ فلا تخيّب من لا يجد معطيا غيرك ، ولا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك.

اللهمّ لا تعرض عنّي وقد أقبلت عليك ، ولا تحرمني وقد رغبت إليك ، ولا تجبهني بالرّدّ وقد انتصبت بين يديك ، أنت الّذي وصفت نفسك بالرّحمة ، وأنت الّذي سمّيت نفسك بالعفوّ فارحمني واعف عنّي ، فقد ترى يا سيّدي فيض دموعي من خيفتك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، وانتفاض جوارحي من هيبتك ؛ كلّ ذلك حياء منك بسوء عملي ، وخجلا منك لكثرة ذنوبي ، قد كلّ لساني عن مناجاتك ، وخمد صوتي عن الدّعاء إليك ...

وحكت هذه الفقرات مدى تضرّع الإمام عليه‌السلام وتذلّله أمام الله تعالى ، وخوفه منه ، وشدّة فزعه من عقابه ، والتجاءه إليه في جميع أموره. ويستمرّ الإمام قائلا :

يا إلهي فكم من عيب سترته عليّ فلم تفضحني ، وكم من ذنب غطّيت عليه فلم تشهّر بي ، وكم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عنّي سترها ، ولم تقلّدني مكروه شنارها ، ولم تبد عليّ محرّمات سوآتها ، فمن يلتمس معايبي من جيرتي ، وحسدة نعمتك عندي ، ثمّ لم ينهني ذلك حتّى صرت إلى أسوإ ما عهدت منّي ، فمن أجهل منّي يا سيّدي برشدك ، ومن أغفل منّي عن حظّه منك ،

٥٥

ومن أبعد منّي من استصلاح نفسه حين أنفقت ما أجريت عليّ من رزقك فيما نهيتني عنه من معصيتك ، ومن أبعد غورا في الباطل ، وأشدّ إقداما على السّوء ، منّي ؛ حين أقف بين دعوتك ودعوة الشّيطان فأتّبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به ، ولا نسيان من حفظي له ، وأنا ـ حينئذ ـ موقن أنّ منتهى دعوتك الجنّة ، ومنتهى دعوته النّار ...

ذكرت هذه الفقرات ألطاف الله تعالى وعظيم نعمه على الإمام ، بل على جميع العباد ، فقد عمّتهم رحمته ورأفته وستره ، فيما يقترفون من مساوئ الأعمال التي يدفعهم إليها عدوّهم الألدّ الشيطان. ومن بنود هذا الدعاء الشريف قوله عليه‌السلام :

سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي ، وأعدّده من مكنون أمري ، وأعجب من ذلك أناتك عنّي ، وإبطاؤك عن معاجلتي ، وليس ذلك من كرمي عليك ، بل تأتّيا منك بي ، وتفضّلا منك عليّ لأن أرتدع عن خطيئتي ، ولأنّ عفوك أحبّ إليك من عقوبتي ، بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا ، وأقبح آثارا ، وأشنع أفعالا ، وأشدّ في الباطل تهوّرا ، وأضعف عند طاعتك تيقّظا ، وأغفل لوعيدك انتباها من أن احصي لك عيوبي ، وأقدر على تعديد ذنوبي ، وإنّما أوبّخ بهذا نفسي طمعا في رأفتك الّتي بها إصلاح أمر المذنبين ، ورجاء لعصمتك الّتي بها فكاك رقاب الخاطئين.

اللهمّ وهذه رقبتي قد أرّقتها الذّنوب فأعتقها بعفوك ، وقد أثقلتها الخطايا فخفّف عنها بمنّك.

اللهمّ إنّي لو بكيت حتّى تسقط أشفار عينيّ ، وانتحبت حتّى ينقطع

٥٦

صوتي ، وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينجذع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقّأ حدقتاي ، وأكلت التّراب طول عمري ، وشربت ماء الرّماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثمّ لم أرفع طرفي إلى آفاق السّماء استحياء منك ، لما استوجبت بذلك محو سيّئة واحدة من سيّئاتي ، فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك ، وتعفو عنّي حين أستحقّ عفوك ، فإنّ ذلك غير واجب لي بالاستحقاق ، ولا أنا أهل له على الاستيجاب ؛ إذ كان جزائي منك من أوّل ما عصيتك النّار ، فإن تعذّبني فإنّك غير ظالم ...

وحوى هذا المقطع من دعاء الإمام عليه‌السلام تذلّله وخوفه وخشيته من الله تعالى ، وأنّه أهل لأن لان يتّقى من عذابه. والفصل الأخير من هذا الدعاء قوله عليه‌السلام :

إلهي فإن تغمّدتني بسترك فلم تفضحني ، وأمهلتني بكرمك فلم تعاجلني ، وحلمت عنّي بتفضّلك فلم تغيّر نعمك عليّ ، ولم تكدّر معروفك عندي ، فارحم طول تضرّعي وشدّة مسكنتي وسوء موقفي. اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وأنقذني من المعاصي ، واستعملني بالطّاعة ، وارزقني حسن الإنابة ، وطهّرني بالتّوبة ، وأيّدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وارزقني حلاوة المغفرة ، واجعلني طليق عفوك ، واكتب لي أمانا من سخطك ، وبشّرني بذلك في العاجل دون الآجل ، بشرى أعرفها ، وعرّفني له علامة أتبيّنها إنّ ذلك لا يضيق عليك في وجدك ، ولا يتكاءدك في قدرتك ، وأنت على كلّ شيء قدير (1) .

أرأيتم هذا الإيمان الوثيق بالله؟ أرأيتم هذا التضرّع أمام الله تعالى؟

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد 6 : 180 ـ 182.

٥٧

دعاؤه عليه‌السلام

في الاستكانة والتذلّل أمام الله

من أدعية الإمام عليه‌السلام هذا الدعاء الشريف الذي أبدى فيه خشوعه وتذلّله وخشيته من الله تعالى وهذا نصّه :

إلهي إن حمدتك فبمواهبك ، وإن مجّدتك فبمرادك ، وإن سألتك فبقوّتك ، وإن هلّلتك فبقدرتك ، وإن نظرت فإلى رحمتك ، وإن عضضت فعلى نعمتك.

إلهي إنّه من لم يشغله الولوع بذكرك ، ولم يزوه السّفه بقربك ، كانت حياته عليه ميتة ، وميتته عليه حسرة.

إلهي تناهت أبصار النّاظرين إليك بسرائر القلوب ، وطالت أسماع السّامعين لك بخفيّات الصّدور ، فلم يلق أبصارهم ردّ ما يريدون ، وهتكت بينك وبينهم حجب الغفلة فسكنوا في نورك ، وتنفّسوا بروحك ، فصارت قلوبهم مغارس لمحبّتك ، وأبصارهم معاكف لقدرتك ، وقرّبت أرواحهم من قدسك ، فجالسوا اسمك بوقار المجالسة ، وخضوع المخاطبة ، فأقبلت إليهم إقبال الشّفيق ، وأنصتّ إليهم إنصات الرّفيق ، وأجبت لهم إجابات الأحبّاء ، وناجيتهم مناجاة الأخلاّء. فابلغ بي المحلّ الّذي إليه وصلوا ولا تترك بيني وبين ملكوت عزّك بابا إلاّ فتحته ، ولا حجابا من حجب الغفلة إلاّ هتكته ، حتّى تقيم روحي بين ضياء عرشك ، وتجعل لها مقاما نصب نورك ، إنّك على كلّ شيء قدير.

٥٨

إلهي ما أوحش طريقا لا يكون رفيقي فيه أملي فيك ، وأبعد سفرا لا يكون رجائي منه دليلي منك ، خاب من اعتصم بحبل غيرك ، وضعف ركن من استند إلى غير ركنك ، فيما معلّم مؤمّليه الأمل فيذهب عنهم كآبة الوجل ، لا تحرمني صالح العمل ، واكلأني كلاءة من فارقته الحيل ، فكيف يلحق مؤمّليك ذلّ الفقر وأنت الغنيّ عن مضارّ المذنبين؟

إلهي وإنّ كلّ حلاوة منقطعة ، وحلاوة الإيمان تزداد حلاوتها اتّصالا بك.

إلهي وإنّ قلبي قد بسط أمله فيك فأذقه من حلاوة بسطك إيّاه البلوغ لما أمّل ، إنّك على كلّ شيء قدير.

إلهي أسألك مسألة من يعرفك كنه معرفتك من كلّ خير ينبغي للمؤمن أن يسلكه ، وأعوذ بك من كلّ شرّ وفتنة أعذت منها أحبّاءك من خلقك ، إنّك على كلّ شيء قدير.

إلهي أسألك مسألة المسكين الّذي قد تحيّر في رجائه فلا يجد ملجأ ، ولا مسندا يصل به إليك ، ولا يستدلّ به عليك إلاّ بك ، وبأركانك ومقاماتك الّتي لا تعطيل لها منك ، فأسألك باسمك الّذي ظهرت به لخاصّة أوليائك فوحّدوك وعرفوك بحقيقتك أن تعرّفني نفسك لأقرّ لك بربوبيّتك على حقيقة الإيمان بك ، ولا تجعلني يا إلهي ممّن يعبد الاسم دون المعنى ، والحظني بلحظة من لحظاتك تنوّر بها قلبي بمعرفتك خاصّة ، ومعرفة أوليائك إنّك على كلّ شيء قدير (1) .

__________________

(1) بحار الأنوار 91 : 95. ربيع الأبرار 2 : 253.

٥٩

دعاؤه عليه‌السلام

في الخشوع والتضرّع

من أدعية الإمام عليه‌السلام هذا الدعاء الجليل ، وفيه جميع صنوف التضرّع والتذلّل أمام الله تعالى ، وهذا نصّه :

اللهمّ إنّي أحمدك وأنت للحمد أهل على حسن صنعك إليّ وتعطّفك عليّ ، وعلى ما وصلتني به من نورك ، وتداركتني به من رحمتك ، وأسبغت عليّ من نعمتك ، فقد اصطنعت عندي يا مولاي ما يحقّ لك به جهدي وشكري لحسن عفوك ، وبلائك القديم عندي ، وتظاهر نعمائك عليّ ، وتتابع أياديك لديّ ، لم أبلغ إحراز حظّي ، ولا صلاح نفسي ، ولكنّك يا مولاي بدأتني أوّلا بإحسانك فهديتني لدينك ، وعرّفتني نفسك ، وثبّتّني في اموري كلّها بالكفاية والصّنع لي ، فصرفت عنّي جهد البلاء ، ومنعت منّي محذور القضاء ، فلست أذكر منك إلاّ جميلا ، ولم أر منك إلاّ تفضّلا.

يا إلهي كم من بلاء وجهد صرفته عنّي ، وأريتنيه في غيري ، وكم من نعمة أقررت بها عيني ، وكم من صنيعة شريفة لك عندي.

إلهي أنت الّذي تجيب عند الاضطرار دعوتي ، وأنت الّذي تنفّس عند الغموم كربتي ، وأنت الّذي تأخذ لي من الأعداء ظلامتي ، فما وجدتك ، ولا أجدك بعيدا عنّي حين اريدك ، ولا منقبضا عنّي حين أسألك ، ولا معرضا عنّي

٦٠