موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٤

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام18%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
المحقق: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 310

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 310 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133832 / تحميل: 6462
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
ISBN: ٩٦٤-٩٤٣٨٨-٦-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

تضرّع وخشوع امام الله

٤١
٤٢

وانقطع إمام المتّقين ، وزعيم الموحّدين عليه‌السلام إلى الله تعالى انقطاعا كاملا ، وأناب إليه كأعظم ما تكون الإنابة ، وسرى حبّ الله تعالى والخشية والخوف منه في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، وقد توسّل وتضرّع إليه طالبا منه العفو ، والتقرّب إليه ، وقد أثرت عنه كوكبة من الأدعية الشريفة ، يلمس فيها مدى إخلاصه وتذلّله أمام عظمته تعالى ، كان منها ما يلي :

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع والتذلّل أمام الله

من أدعية الإمام عليه‌السلام الجليلة هذا الدعاء الشريف ، وهو من أجلّ أدعيته ، وكان يدعو به حفيده الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام ، باقر علوم الأوّلين والآخرين ، وهذا نصّه :

اللهمّ أنت ربّي وأنا عبدك ، آمنت بك مخلصا لك على عهدك ووعدك ما استطعت ، وأتوب إليك من سوء عملي ، وأستغفرك للذّنوب الّتي لا يغفرها غيرك ، أصبح ذلّي مستجيرا بعزّتك ، وأصبح فقري مستجيرا بغناك ، وأصبح جهلي مستجيرا بحلمك ، وأصبحت قلّة حيلتي مستجيرة بقدرتك ، وأصبح خوفي مستجيرا بأمانك ، وأصبح دائي مستجيرا بدوائك ، وأصبح سقمي مستجيرا بشفائك ، وأصبح حيني مستجيرا بقضائك ، وأصبح ضعفي مستجيرا

٤٣

بقوّتك ، وأصبح ذنبي مستجيرا بمغفرتك ، وأصبح وجهي الفاني البالي مستجيرا بوجهك الباقي الدّائم الّذي لا يبلى ولا يفنى ...

أرأيتم كيف تضرّع الإمام عليه‌السلام أمام الخالق العظيم؟ لقد ذابت نفسه شغافا فلا يرى غير الله تعالى ملجأ وملاذا ، فهو يستجير به في جميع شئونه وأحواله ، ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

يا من لا يواري منه ليل داج ، ولا سماء ذات أبراج ، ولا حجب ذات ارتاج ، ولا ما في قعر بحر عجّاج (١) ، يا دافع السّطوات ، يا كاشف الكربات ، يا منزل البركات من فوق سبع سماوات ، أسألك يا فتّاح ، يا من بيده خزائن كلّ مفتاح ، أسألك أن تصلّي على محمّد وآل محمّد الطّيّبين الطّاهرين ، وأن تفتح لي خير الدّنيا والآخرة ، وأن تحجب عنّي فتنة الموكّل بي (٢) ، ولا تسلّطه عليّ فيهلكني ، ولا تكلني إلى أحد طرفة عين فيعجز عنّي ، ولا تحرمني الجنّة ، وارحمني ، وتوفّني مسلما ، وألحقني بالصّالحين ، واكففني بالحلال عن الحرام ، وبالطّيّب عن الخبيث يا أرحم الرّاحمين.

اللهمّ خلقت القلوب على إرادتك ، وفطرت العقول على معرفتك ، فتململت الأفئدة من مخافتك ، وصرخت القلوب بالوله إليك ، وتقاصر وسع قدر العقول عن الثّناء عليك ، وانقطعت الألفاظ عن مقدار محاسنك ، وكلّت الألسن عن إحصاء نعمك ، فإذا ولجت بطرق البحث عن نعتك بهرتها حيرة العجز عن

__________________

(١) العجّاج : الماء الكثير الذي تصحبه أمواج.

(٢) الموكّل بي : يعني به الشيطان الرجيم.

٤٤

إدراك وصفك ، فهي تتردّد في التّقصير عن مجاوزة ما حدّدت لها ؛ إذ ليس لها أن تتجاوز ما أمرتها ، فهي بالاقتدار على ما مكّنتها تحمدك بما أنهيت إليها ، والألسن منبسطة بما تملي عليها ، ولك على كلّ من استعبدت من خلقك ألاّ يملّوا من حمدك ، وإن قصرت المحامد عن شكرك بما أسديت إليها من نعمك ، فحمدك بمبلغ طاقة جهدهم الحامدون ، واعتصم برجاء عفوك المقصّرون ، وأوجس بالرّبوبيّة لك الخائفون ، وقصد بالرّغبة إليك الطّالبون ، وانتسب إلى فضلك المحسنون ، وكلّ يتفيّأ في ظلال تأميل عفوك ، ويتضاءل بالذّلّ لخوفك ، ويعترف بالتّقصير في شكرك ، فلم يمنعك صدوف من صدف عن طاعتك ، ولا عكوف من عكف على معصيتك ، أن أسبغت عليهم النّعم ، وأجزلت لهم القسم ، وصرفت عنهم النّقم ، وخوّفتهم عواقب النّدم ، وضاعفت لمن أحسن ، وأوجبت على المحسن شكر توفيقك للإحسان ، وعلى المسيء شكر تعطّفك بالامتنان ، ووعدت محسنهم الزّيادة في الإحسان منك ، فسبحانك تثيب على ما بدؤه منك ، وانتسابه إليك ، والقوّة عليه بك ، والإحسان فيه منك ، والتّوكّل في التّوفيق له عليك ، فلك الحمد حمد من علم أنّ الحمد لك ، وأنّ بدءه منك ، ومعاده إليك ، حمدا لا يقصر عن بلوغ الرّضى منك ، حمد من قصدك بحمده ، واستحقّ المزيد له منك في نعمه.

اللهمّ ولك مؤيّدات من عونك ، ورحمة تحصّن بها من أحببت من خلقك ، فصلّ على محمّد وآله ، واخصصنا من رحمتك ، ومؤيّدات لطفك أوجبها للإقالات ، وأعصمها من الإضاعات ، وأنجاها من الهلكات ، وأرشدها

٤٥

إلى الهدايات ، وأوقاها من الآفات ، وأوفرها من الحسنات ، وآثرها في البركات ، وأزيدها في القسم ، وأسبغها للنّعم ، وأسترها للعيوب ، وأسرّها للغيوب ، وأغفرها للذّنوب ، إنّك قريب مجيب.

وصلّ على خيرتك من خلقك ، وصفوتك من بريّتك ، وأمينك على وحيك ، بأفضل الصّلوات ، وبارك عليهم بأفضل البركات ، بما بلّغ عنك من الرّسالات ، وصدع بأمرك ، ودعا إليك ، وأفصح بالدّلائل عليك بالحقّ المبين ، حتّى أتاه اليقين ، وصلّى الله عليه في الأوّلين ، وصلّى عليه في الآخرين ، وعلى آله وأهل بيته الطّاهرين ، واخلفه فيهم بأحسن ما خلّفت به أحدا من المرسلين يا أرحم الرّاحمين.

اللهم ولك إرادات لا تعارض دون بلوغها الغايات ، قد انقطع معارضتها بعجز الاستطاعات عن الرّدّ لها دون النّهايات ، فأيّة إرادة جعلتها إرادة لعفوك ، وسببا لنيل فضلك ، واستنزالا لخيرك ، فصلّ على محمّد وأهل بيت محمّد ، وصلها اللهمّ بدوام ، وأيّدها بتمام ، إنّك واسع الحباء ، كريم العطاء ، مجيب النّداء ، سميع الدّعاء (١) .

انتهى هذا الدعاء الشريف الذي أبدى فيه الإمام تمام التذلّل والخضوع لله تعالى ، والذي أخلص له في عبادته وطاعته كأعظم ما يكون الإخلاص.

__________________

(١) البلد الأمين : ٣٧٨ ـ ٣٨٠.

٤٦

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع والخشوع

وهذا الدعاء من غرر أدعيته وأكثرها إبداعا وخضوعا لله تعالى ويعرف بدعاء اليمانيّ لأنّه قد علّمه إلى بعض أخيار اليمن فنسب إليه وهذا نصّه :

اللهمّ أنت الملك الحقّ الّذي لا إله إلاّ أنت ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي يا غفور يا شكور.

اللهمّ إنّي أحمدك وأنت للحمد أهل على ما خصصتني به من مواهب الرّغائب ، وما وصل إليّ من فضلك السّابغ ، وما أوليتني به من إحسانك إليّ ، وبوّأتني به من مظنّة العدل ، وأنلتني من منّك الواصل إليّ ، ومن الدّفاع عنّي ، والتّوفيق لي ، والإجابة لدعائي حين اناجيك داعيا ، وأدعوك مضاما ، وأسألك فأجدك في المواطن كلّها لي جابرا ، وفي الأمور ناظرا ، ولذنوبي غافرا ، ولعوراتي ساترا ، لم أعدم خيرك طرفة عين منذ أنزلتني دار الاختبار لتنظر ما اقدّم لدار القرار ، فأنا عتيقك من جميع الآفات والمصائب في اللّوازب والغموم الّتي ساورتني فيها الهموم بمعاريض أصناف البلاء ، ومصروف جهد القضاء ، لا أذكر منك إلاّ الجميل ، ولا أرى منك غير التّفضيل ، خيرك لي شامل ، وفضلك عليّ متواتر ، ونعمتك عندي متّصلة ، وسوابق لم تحقّق حذاري بل صدّقت رجائي ، وصاحبت أسفاري ، وأكرمت أحضاري ، وشفيت أمراضي وأوصابي ، وعافيت

٤٧

منقلبي ومثواي ، ولم تشمت بي أعدائي ، ورميت من رماني ، وكفيتني مؤونة من عاداني ، فحمدي لك واصل ، وثنائي عليك دائم ، من الدّهر إلى الدّهر ، بألوان التّسبيح ، خالصا لذكرك ، ومرضيّا لك بيانع التّوحيد ، وإمحاض التّمجيد ، بطول التّعديد ، ومزيّة أهل المزيد ، لم تعن في قدرتك ، ولم تشارك في إلهيّتك ، ولم تعلّم لك ماهيّة فتكون للأشياء المختلفة مجانسا ، ولم تعاين إذا حبست الأشياء على الغرائز ، ولا خرقت الأوهام حجب الغيوب فتعتقد فيك محدودا في عظمتك ، فلا يبلغك بعد الهمم ، ولا ينالك غوص الفكر ، ولا ينتهي إليك نظر ناظر في مجد جبروتك.

ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك ، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك ، لا ينقص ما أردت أن يزداد ، ولا يزداد ما أردت أن ينقص ، ولا أحد حضرك حين برأت النّفوس.

كلّت الأوهام عن تفسير صفتك ، وانحسرت العقول عن كنه عظمتك. وكيف توصف وأنت الجبّار القدّوس ، الّذي لم تزل أزليّا دائما في الغيوب ، وحدك ليس فيها غيرك ، ولم يكن لها سواك.

حار في ملكوتك عميقات مذاهب التّفكير ، فتواضعت الملوك لهيبتك ، وعنت الوجوه بذلّ الاستكانة لك ، وانقاد كلّ شيء لعظمتك ، واستسلم كلّ شيء لقدرتك ، وخضعت لك الرّقاب ، وضلّ هنالك التّدبير في تصاريف الصّفات ، فمن تفكّر في ذلك رجع طرفه إليه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وفكره متحيّرا.

حكت هذه الفصول من دعائه الشريف مدى التجاء الإمام عليه‌السلام إلى الله تعالى

٤٨

في جميع شئونه واموره ، واعتماده عليه في كلّ ما نزل به من كوارث الأيام وخطوبها ، وأنّه عليه‌السلام يحمده على ما أولاه من النعم ، وما تفضّل عليه من دفع النقم.

كما تحدّث الإمام عليه‌السلام عن عظمة الله تعالى ، وأنّه لا يحيط بوصفه الواصفون ونعت الناعتين ، فهو فوق كلّ شيء ، وإنّ الفكر ليقف حاسرا مبهورا أمام عظمته التي لا حدّ لها ، ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ فلك الحمد متواترا متواليا متّسقا مستوثقا يدوم ولا يبيد ، غير مفقود في الملكوت ، ولا مطموس في المعالم ، ولا منتقص في العرفان.

ولك الحمد ما لا تحصى مكارمه في اللّيل إذا أدبر ، والصّبح إذا أسفر ، وفي البراري والبحار ، والغدوّ والآصال ، والعشيّ والإبكار ، وفي الظّهائر والأسحار.

وفي هذه الفقرات قدّم الإمام عليه‌السلام إلى بارئه أجمل آيات التعظيم والتكريم ، فلم يبق في قاموس الثناء كلمة إلاّ قدّمها لله تعالى ، ويأخذ الإمام في دعائه قائلا :

اللهمّ بتوفيقك قد أحضرتني الرّغبة ، وجعلتني منك في ولاية العصمة ، فلم أبرح في سبوغ نعمائك ، وتتابع آلائك ، محفوظا لك في المنعة والدّفاع ، محوطا بك في مثواي ومنقلبي ، ولم تكلّفني فوق طاقتي إذ لم ترض منّي إلاّ طاعتي ، وليس شكري ـ وإن أبلغت في المقال ، وبالغت في الفعال ـ ببالغ أداء حقّك ، ولا مكافيا لفضلك ؛ لأنّك أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت ، لم تغب ولا تغيب عنك غائبة ، ولا تخفى عليك خافية ، ولم تضلّ لك في ظلم الخفيّات ضالّة ، إنّما أمرك إذا أردت شيئا أن تقول له كن فيكون.

اللهمّ لك الحمد مثل ما حمدت به نفسك وحمدك به الحامدون ، ومجّدك

٤٩

به الممجّدون ، وكبّرك به المكبّرون ، وعظّمك به المعظّمون ، حتّى يكون لك منّي وحدي بكلّ طرفة عين وأقلّ من ذلك مثل حمد الحامدين ، وتوحيد أصناف المخلصين ، وتقديس أجناس العارفين ، وثناء جميع المهلّلين ، ومثل ما أنت به عارف من جميع خلقك من الحيوان ، وأرغب إليك في رغبة ما أنطقتني به من حمدك ، فما أيسر ما كلّفتني به من حقّك ، وأعظم ما أوعدتني على شكرك.

ابتدأتني بالنّعم فضلا وطولا ، وأمرتني بالشّكر حقّا وعدلا ، ووعدتني عليه أضعافا ومزيدا ، وأعطيتني من رزقك اعتبارا وفضلا ، وسألتني منه يسيرا صغيرا ، وأعطيتني عليه عطاء كثيرا ، وأعفيتني من جهد البلاء ، ولم تسلمني للسّوء من بلائك مع ما أوليتني من العافية ، وسوّغت من كرائم النّحل ، وضاعفت لي الفضل مع ما أودعتني من المحجّة الشّريفة ، ويسّرت لي من الدّرجة العالية الرّفيعة ، واصطفيتني بأعظم النّبيّين دعوة ، وأفضلهم شفاعة ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

اللهمّ فاغفر لي ما لا يسعه إلاّ مغفرتك ، ولا يمحقه إلاّ عفوك ، ولا يكفّره إلاّ فضلك ، وهب لي في يومي يقينا تهوّن عليّ به مصيبات الدّنيا وأحزانها بشوق إليك ، ورغبة فيما عندك ، واكتب لي عندك المغفرة ، وبلّغني الكرامة ، وارزقني شكر ما أنعمت به عليّ ، فإنّك أنت الله الواحد الرّفيع المبدئ البديع السّميع العليم ، الّذي ليس لأمرك مدفع ، ولا عن قضائك ممتنع. أشهد أنّك ربّي ، وربّ كلّ شيء ، فاطر السّماوات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، العليّ الكبير.

اللهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر ، والعزيمة على الرّشد ، والشكر على

٥٠

نعمتك ، وأعوذ بك من جور كلّ جائر ، وبغي كلّ باغ ، وحسد كلّ حاسد ، بك أصول على الأعداء ، وبك أرجو ولاية الأحبّاء مع ما لا أستطيع إحصاءه ولا تعديده من عوائد فضلك ، وطرف رزقك ، وألوان ما أوليت من إرفادك ؛ فإنّك أنت الله الّذي لا إله إلاّ أنت الفاشي في الخلق رفدك ، الباسط بالجود يدك ولا تضادّ في حكمك ، ولا تنازع في أمرك ، تملك من الأنام ما تشاء ولا يملكون إلاّ ما تريد.

قل اللهمّ مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممّن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنّك على كلّ شيء قدير. تولج اللّيل في النّهار ، وتولج النّهار في اللّيل ، وتخرج الحيّ من الميّت ، وتخرج الميّت من الحيّ ، وترزق من تشاء بغير حساب. أنت المنعم المفضل الخالق البارىء القادر القاهر المقدّس في نور القدس ، تردّيت بالمجد والعزّ ، وتعظّمت بالكبرياء ، وتغشّيت بالنّور والبهاء ، وتجلّلت بالمهابة والسّناء.

اللهمّ لك الحمد العظيم ، ولك المنّ القديم ، والسّلطان الشّامخ ، والجود الواسع ، والقدرة المقتدرة ؛ إذ جعلتني من أفضل بني آدم ، وجعلتني سميعا بصيرا ، صحيحا سويّا معافى ، لم تشغلني بنقصان في بدني ، ولم تمنعك كرامتك إيّاي وحسن صنيعك عندي وفضل إنعامك عليّ أن وسّعت عليّ في الدّنيا ، وفضّلتني على كثير من أهلها ، فجعلت لي سمعا يسمع آياتك ، وفؤادا يعرف عظمتك. وأنا بفضلك حامد ، وبجهد نفسي لك شاكر ، وبحقّك شاهد ؛ فإنّك حيّ قبل كلّ حيّ ، وحيّ بعد كلّ حيّ ، وحيّ لم ترث الحياة من حيّ ، ولم تقطع خيرك

٥١

عنّي طرفة عين في كلّ وقت ولم تنزل بي عقوبات النّقم ، ولم تغيّر عليّ دقائق العصم ، فلو لم أذكر من إحسانك إلاّ عفوك ، وإجابة دعائي حين رفعت رأسي بتحميدك وتمجيدك ، وفي قسمة الأرزاق حين قدّرت ، فلك الحمد عدد ما حفظه علمك ، وعدد ما أحاطت به قدرتك ، وعدد ما وسعته رحمتك.

اللهمّ فتمّم إحسانك إليّ فيما بقي من عمري ، كما أحسنت فيما مضى ، فإنّي أتوسّل إليك بتوحيدك ، وتمجيدك وتحميدك وتهليلك وتكبيرك وتعظيمك وبنورك ورأفتك ورحمتك وعلوّك وجمالك وجلالك وبهائك وسلطانك وقدرتك وبمحمّد وآله الطّاهرين ألاّ تحرمني رفدك وفوائدك ، فإنّه لا يعتريك لكثرة ما يتدفّق به عوائق البخل ، ولا ينقص جودك تقصير في شكر نعمتك ، ولا تفني خزائن مواهبك النّعم ، ولا تخاف ضيم إملاق فتكدي ، ولا يلحقك خوف عدم فينقص فيض فضلك.

اللهمّ ارزقني قلبا خاشعا ، ويقينا صادقا ، ولسانا ذاكرا ، ولا تؤمّني مكرك ، ولا تكشف عنّي سترك ، ولا تنسني ذكرك ، ولا تباعدني من جوارك ، ولا تقطعني من كلّ رحمتك ، ولا تؤيسني من روحك ، وكن لي أنيسا من كلّ وحشة ، واعصمني ونجني من كلّ بلاء ، فإنّك لا تخلف الميعاد.

اللهمّ ارفعني ولا تضعني ، وزدني ولا تنقصني ، وارحمني ولا تعذّبني ، وانصرني ولا تخذلني ، وآثرني ولا تؤثر عليّ ، وصلّ على محمّد وآل محمّد الطّيّبين الطّاهرين وسلّم تسليما كثيرا (١) .

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٠٦ ـ ١١١.

٥٢

وانتهى هذا الدعاء الشريف الحافل بتمجيد الله تعالى والتضرّع إليه والانقطاع إلى فضله ورحمته وطلب فيضه وإحسانه ، وهذه من سمات إمام المتّقين وسيّد العارفين الذي أترعت نفسه بتقوى الله وطاعته.

دعاؤه عليه‌السلام

في التذلّل أمام الله

قال عليه‌السلام : اللهمّ إن فههت عن مسألتي ، أو عمهت عن طلبتي فدلّني على مصالحي ، وخذ بقلبي إلى مراشدي.

اللهمّ احملني على عفوك ، ولا تحملني على عدلك (١) .

__________________

(١) الصحيفة العلوية الثانية : ١١ ـ ١٤.

٥٣

دعاؤه عليه‌السلام

في التضرّع إلى الله

ومن أدعية أمير المؤمنين عليه‌السلام في التضرّع إلى الله تعالى هذا الدعاء الجليل :

اللهمّ يا من برحمته يستغيث المذنبون ، ويا من إلى إحسانه يفزع المضطرّون ، ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون ، يا انس كلّ مستوحش غريب ، يا فرج كلّ مكروب حريب (١) ، يا عون كلّ مخذول فريد ، يا عاضد كلّ محتاج طريد ، أنت الّذي وسعت كلّ شيء رحمة وعلما ، وأنت الّذي جعلت لكل مخلوق في نعمتك سهما ، وأنت الّذي عفوه أعلى من عقابه ، وأنت الّذي رحمته أمام غضبه ، وأنت الّذي إعطاؤه أكبر من منعه ، وأنت الّذي وسع الخلائق كلّهم بعفوه ، وأنت الّذي لا يرغب في غنى من أعطاه ، وأنت الّذي لا يفرّط (٢) في عقاب من عصاه ...

وحكت هذه الكلمات عظمة الخالق العظيم الذي إليه يلجأ كلّ مكروب ، ويستغيث به كلّ محروم ، والذي وسعت رحمته كلّ شيء ، وعمّت ألطافه جميع الكائنات والمخلوقات ويستمرّ الإمام في دعائه قائلا :

وأنا يا سيّدي عبدك الّذي أمرته بالدّعاء فقال : لبّيك وسعديك ،

__________________

(١) الحريب : المسلوب المال.

(٢) لا يفرط : لا يعجل ، أو لا يتجاوز الحدّ.

٥٤

وأنا يا سيّدي عبدك الّذي أوقرت الخطايا ظهره ، وأنا الّذي أفنت الذّنوب عمره ، وأنا الّذي بجهله عصاك ولم يكن أهلا منه لذلك ، فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فأجتهد في الدّعاء ، أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء ، أم أنت متجاوز عمّن عفّر لك وجهه متذلّلا ، أم أنت مغن من شكا إليك فقره متوكّلا.

اللهمّ فلا تخيّب من لا يجد معطيا غيرك ، ولا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك.

اللهمّ لا تعرض عنّي وقد أقبلت عليك ، ولا تحرمني وقد رغبت إليك ، ولا تجبهني بالرّدّ وقد انتصبت بين يديك ، أنت الّذي وصفت نفسك بالرّحمة ، وأنت الّذي سمّيت نفسك بالعفوّ فارحمني واعف عنّي ، فقد ترى يا سيّدي فيض دموعي من خيفتك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، وانتفاض جوارحي من هيبتك ؛ كلّ ذلك حياء منك بسوء عملي ، وخجلا منك لكثرة ذنوبي ، قد كلّ لساني عن مناجاتك ، وخمد صوتي عن الدّعاء إليك ...

وحكت هذه الفقرات مدى تضرّع الإمام عليه‌السلام وتذلّله أمام الله تعالى ، وخوفه منه ، وشدّة فزعه من عقابه ، والتجاءه إليه في جميع أموره. ويستمرّ الإمام قائلا :

يا إلهي فكم من عيب سترته عليّ فلم تفضحني ، وكم من ذنب غطّيت عليه فلم تشهّر بي ، وكم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عنّي سترها ، ولم تقلّدني مكروه شنارها ، ولم تبد عليّ محرّمات سوآتها ، فمن يلتمس معايبي من جيرتي ، وحسدة نعمتك عندي ، ثمّ لم ينهني ذلك حتّى صرت إلى أسوإ ما عهدت منّي ، فمن أجهل منّي يا سيّدي برشدك ، ومن أغفل منّي عن حظّه منك ،

٥٥

ومن أبعد منّي من استصلاح نفسه حين أنفقت ما أجريت عليّ من رزقك فيما نهيتني عنه من معصيتك ، ومن أبعد غورا في الباطل ، وأشدّ إقداما على السّوء ، منّي ؛ حين أقف بين دعوتك ودعوة الشّيطان فأتّبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به ، ولا نسيان من حفظي له ، وأنا ـ حينئذ ـ موقن أنّ منتهى دعوتك الجنّة ، ومنتهى دعوته النّار ...

ذكرت هذه الفقرات ألطاف الله تعالى وعظيم نعمه على الإمام ، بل على جميع العباد ، فقد عمّتهم رحمته ورأفته وستره ، فيما يقترفون من مساوئ الأعمال التي يدفعهم إليها عدوّهم الألدّ الشيطان. ومن بنود هذا الدعاء الشريف قوله عليه‌السلام :

سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي ، وأعدّده من مكنون أمري ، وأعجب من ذلك أناتك عنّي ، وإبطاؤك عن معاجلتي ، وليس ذلك من كرمي عليك ، بل تأتّيا منك بي ، وتفضّلا منك عليّ لأن أرتدع عن خطيئتي ، ولأنّ عفوك أحبّ إليك من عقوبتي ، بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا ، وأقبح آثارا ، وأشنع أفعالا ، وأشدّ في الباطل تهوّرا ، وأضعف عند طاعتك تيقّظا ، وأغفل لوعيدك انتباها من أن احصي لك عيوبي ، وأقدر على تعديد ذنوبي ، وإنّما أوبّخ بهذا نفسي طمعا في رأفتك الّتي بها إصلاح أمر المذنبين ، ورجاء لعصمتك الّتي بها فكاك رقاب الخاطئين.

اللهمّ وهذه رقبتي قد أرّقتها الذّنوب فأعتقها بعفوك ، وقد أثقلتها الخطايا فخفّف عنها بمنّك.

اللهمّ إنّي لو بكيت حتّى تسقط أشفار عينيّ ، وانتحبت حتّى ينقطع

٥٦

صوتي ، وقمت لك حتّى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتّى ينجذع صلبي ، وسجدت لك حتّى تتفقّأ حدقتاي ، وأكلت التّراب طول عمري ، وشربت ماء الرّماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّى يكلّ لساني ، ثمّ لم أرفع طرفي إلى آفاق السّماء استحياء منك ، لما استوجبت بذلك محو سيّئة واحدة من سيّئاتي ، فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك ، وتعفو عنّي حين أستحقّ عفوك ، فإنّ ذلك غير واجب لي بالاستحقاق ، ولا أنا أهل له على الاستيجاب ؛ إذ كان جزائي منك من أوّل ما عصيتك النّار ، فإن تعذّبني فإنّك غير ظالم ...

وحوى هذا المقطع من دعاء الإمام عليه‌السلام تذلّله وخوفه وخشيته من الله تعالى ، وأنّه أهل لأن لان يتّقى من عذابه. والفصل الأخير من هذا الدعاء قوله عليه‌السلام :

إلهي فإن تغمّدتني بسترك فلم تفضحني ، وأمهلتني بكرمك فلم تعاجلني ، وحلمت عنّي بتفضّلك فلم تغيّر نعمك عليّ ، ولم تكدّر معروفك عندي ، فارحم طول تضرّعي وشدّة مسكنتي وسوء موقفي. اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وأنقذني من المعاصي ، واستعملني بالطّاعة ، وارزقني حسن الإنابة ، وطهّرني بالتّوبة ، وأيّدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وارزقني حلاوة المغفرة ، واجعلني طليق عفوك ، واكتب لي أمانا من سخطك ، وبشّرني بذلك في العاجل دون الآجل ، بشرى أعرفها ، وعرّفني له علامة أتبيّنها إنّ ذلك لا يضيق عليك في وجدك ، ولا يتكاءدك في قدرتك ، وأنت على كلّ شيء قدير (١) .

أرأيتم هذا الإيمان الوثيق بالله؟ أرأيتم هذا التضرّع أمام الله تعالى؟

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ١٨٠ ـ ١٨٢.

٥٧

دعاؤه عليه‌السلام

في الاستكانة والتذلّل أمام الله

من أدعية الإمام عليه‌السلام هذا الدعاء الشريف الذي أبدى فيه خشوعه وتذلّله وخشيته من الله تعالى وهذا نصّه :

إلهي إن حمدتك فبمواهبك ، وإن مجّدتك فبمرادك ، وإن سألتك فبقوّتك ، وإن هلّلتك فبقدرتك ، وإن نظرت فإلى رحمتك ، وإن عضضت فعلى نعمتك.

إلهي إنّه من لم يشغله الولوع بذكرك ، ولم يزوه السّفه بقربك ، كانت حياته عليه ميتة ، وميتته عليه حسرة.

إلهي تناهت أبصار النّاظرين إليك بسرائر القلوب ، وطالت أسماع السّامعين لك بخفيّات الصّدور ، فلم يلق أبصارهم ردّ ما يريدون ، وهتكت بينك وبينهم حجب الغفلة فسكنوا في نورك ، وتنفّسوا بروحك ، فصارت قلوبهم مغارس لمحبّتك ، وأبصارهم معاكف لقدرتك ، وقرّبت أرواحهم من قدسك ، فجالسوا اسمك بوقار المجالسة ، وخضوع المخاطبة ، فأقبلت إليهم إقبال الشّفيق ، وأنصتّ إليهم إنصات الرّفيق ، وأجبت لهم إجابات الأحبّاء ، وناجيتهم مناجاة الأخلاّء. فابلغ بي المحلّ الّذي إليه وصلوا ولا تترك بيني وبين ملكوت عزّك بابا إلاّ فتحته ، ولا حجابا من حجب الغفلة إلاّ هتكته ، حتّى تقيم روحي بين ضياء عرشك ، وتجعل لها مقاما نصب نورك ، إنّك على كلّ شيء قدير.

٥٨

إلهي ما أوحش طريقا لا يكون رفيقي فيه أملي فيك ، وأبعد سفرا لا يكون رجائي منه دليلي منك ، خاب من اعتصم بحبل غيرك ، وضعف ركن من استند إلى غير ركنك ، فيما معلّم مؤمّليه الأمل فيذهب عنهم كآبة الوجل ، لا تحرمني صالح العمل ، واكلأني كلاءة من فارقته الحيل ، فكيف يلحق مؤمّليك ذلّ الفقر وأنت الغنيّ عن مضارّ المذنبين؟

إلهي وإنّ كلّ حلاوة منقطعة ، وحلاوة الإيمان تزداد حلاوتها اتّصالا بك.

إلهي وإنّ قلبي قد بسط أمله فيك فأذقه من حلاوة بسطك إيّاه البلوغ لما أمّل ، إنّك على كلّ شيء قدير.

إلهي أسألك مسألة من يعرفك كنه معرفتك من كلّ خير ينبغي للمؤمن أن يسلكه ، وأعوذ بك من كلّ شرّ وفتنة أعذت منها أحبّاءك من خلقك ، إنّك على كلّ شيء قدير.

إلهي أسألك مسألة المسكين الّذي قد تحيّر في رجائه فلا يجد ملجأ ، ولا مسندا يصل به إليك ، ولا يستدلّ به عليك إلاّ بك ، وبأركانك ومقاماتك الّتي لا تعطيل لها منك ، فأسألك باسمك الّذي ظهرت به لخاصّة أوليائك فوحّدوك وعرفوك بحقيقتك أن تعرّفني نفسك لأقرّ لك بربوبيّتك على حقيقة الإيمان بك ، ولا تجعلني يا إلهي ممّن يعبد الاسم دون المعنى ، والحظني بلحظة من لحظاتك تنوّر بها قلبي بمعرفتك خاصّة ، ومعرفة أوليائك إنّك على كلّ شيء قدير (١) .

__________________

(١) بحار الأنوار ٩١ : ٩٥. ربيع الأبرار ٢ : ٢٥٣.

٥٩

دعاؤه عليه‌السلام

في الخشوع والتضرّع

من أدعية الإمام عليه‌السلام هذا الدعاء الجليل ، وفيه جميع صنوف التضرّع والتذلّل أمام الله تعالى ، وهذا نصّه :

اللهمّ إنّي أحمدك وأنت للحمد أهل على حسن صنعك إليّ وتعطّفك عليّ ، وعلى ما وصلتني به من نورك ، وتداركتني به من رحمتك ، وأسبغت عليّ من نعمتك ، فقد اصطنعت عندي يا مولاي ما يحقّ لك به جهدي وشكري لحسن عفوك ، وبلائك القديم عندي ، وتظاهر نعمائك عليّ ، وتتابع أياديك لديّ ، لم أبلغ إحراز حظّي ، ولا صلاح نفسي ، ولكنّك يا مولاي بدأتني أوّلا بإحسانك فهديتني لدينك ، وعرّفتني نفسك ، وثبّتّني في اموري كلّها بالكفاية والصّنع لي ، فصرفت عنّي جهد البلاء ، ومنعت منّي محذور القضاء ، فلست أذكر منك إلاّ جميلا ، ولم أر منك إلاّ تفضّلا.

يا إلهي كم من بلاء وجهد صرفته عنّي ، وأريتنيه في غيري ، وكم من نعمة أقررت بها عيني ، وكم من صنيعة شريفة لك عندي.

إلهي أنت الّذي تجيب عند الاضطرار دعوتي ، وأنت الّذي تنفّس عند الغموم كربتي ، وأنت الّذي تأخذ لي من الأعداء ظلامتي ، فما وجدتك ، ولا أجدك بعيدا عنّي حين اريدك ، ولا منقبضا عنّي حين أسألك ، ولا معرضا عنّي

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310