موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام42%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 128

  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26977 / تحميل: 4769
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
العربية

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة : ١٨٠

( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان :١٣

( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) آل عمران : ١٦٤

٣
٤

تقديم

١

عنى الإسلام فيما قنّنه من أرصدة تربوية بتهذيب الإنسان في سلوكه وسائر صفاته وغرائزه النفسية ؛ ليكون مواطنا صالحا ينشد العدل ويقيم الحقّ ويسعى للاصلاح الشامل لنفسه وامّته ووطنه.

إنّ نظرة الإسلام للإنسان كانت شمولية وقائمة على الاستيعاب الكامل لشؤونه النفسية ومكوّناته الذاتية ، فعالجها بصورة موضوعية ودقيقة ، فوضع لها المناهج الكاملة التي تحسم عنه جميع ألوان الانحراف والسلوك في المنعطفات التي تهوي به إلى مستوى سحيق ما له من قرار.

٢

وتمتدّ مناهج التربية الإسلامية الخلاّقة إلى أعماق النفس ودخائل الذات فتطهّرها من الأنانية والكبرياء والدجل والنفاق وغيرها من الصفات الآثمة ، كما تعقد الصلة الوثيقة بينها وبين الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، فتسمو بها إلى عالم النور ونكران

٥

الذات ، ويتميّز الإنسان بذلك على سائر الكائنات الحيّة ويكون خليفة الله تعالى في أرضه.

٣

من المؤكّد أنّ التربية الدينية الواعية القائمة على الاسس السليمة إذا سادت في الأرض وعمّت الامم والشعوب فستنعدم عن الكون جميع أفانين الظلم والجور وتسود العدالة الاجتماعية بجميع صورها ومناهجها وتتوفّر لابن آدم المجهود المكدود جميع الحقوق التي أعلنتها وأقرّتها هيئة الامم المتّحدة وغيرها من المحافل الدولية ، كحقّه في الحياة وحقّه في الحرية والعمل والمساواة وغيرها من البنود في حقوق الإنسان.

٤

أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو الدماغ المفكّر في الإنسانية وعملاقها العظيم الذي أحاط بدقائق الحياة وألمّ بطباع سائر الناس في جميع مراحل تكوينهم ، فوقف على ميولهم واتّجاهاتهم حتى صار كأحدهم ، وقد حكى ذلك بقوله :

« إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتّى عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ».

وقد وضع الإمام عليّ عليه‌السلام البرامج التربوية على وفق إحاطته الكاملة بما يسعدون وينعمون به.

٦

٥

وتتميّز المناهج التربوية التي وضع برامجها الإمام الملهم العظيم في وصاياه الخالدة لأبنائه وأعلام أصحابه بأنّها لم تستهدف ـ فقط ـ قضايا النفس وصفاتها وتجريدها من النزعات الشريرة وإقامتها على اسس سليمة من الوعي والإدراك الكامل الذي يحجبها من الالتواء في سلوكها والانحراف في مسيرتها ، وإنّما كانت شاملة لجميع مناحي حياة الإنسان والتي منها سلوكه مع أخيه الإنسان ، وأن تكون الروابط بينهما وثيقة للغاية ، فيحبّ له كما يحبّ لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، ومن المؤكّد أنّه إذا تحقّقت هذه الظاهرة على مسرح الحياة فإنّه يتكوّن منها المجتمع السليم الذي يريده الله تعالى ، وسعى النبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله لإقامته وتكوينه لتكون امّته رائدة الشعوب نحو الحياة الفضلى التي يجد فيها الإنسان جميع ما يصبو إليه من العزّة والكرامة والأمن والرخاء والسلامة من الفقر والجهل وغيرها من صور التخلّف والانحطاط.

ولم يقتصر عطاء الإمام عليه‌السلام الفكري على قضايا التربية وإنّما كان شاملا لجميع قضايا الكون والحياة ، فقد كانت له آراؤه الخالدة والتي هي من مناجم الأدب العربي ومن ذخائر الفكر الإسلامي ، وقد حفلت بها ـ باعتزاز ـ موسوعات التاريخ ومصادر الأدب العربي ، ونحن نقدّم إلى القرّاء نماذج منها في إطار هذا الكتاب مع التعليق والشرح الموجز لها. وبهذا نطوي الحديث عن هذا التقديم.

والله وليّ التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القرشي

١٥ / شهر رمضان المبارك / ١٤١٩ هـ

٧
٨

وصاياه الخالدة

٩
١٠

أمّا وصايا الإمام عليه‌السلام لأبنائه وبعض أعلام أصحابه فإنّها من اصول التربية الإسلامية الرائدة التي وضعت الاسس الرفيعة لسموّ النفس وتهذيبها وكمالها وصرفها عن مآثم هذه الحياة التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق.

إنّ وصايا الإمام عليه‌السلام دنيا من الفضائل والكمال والآداب ، ومن حقّها أن تكون منهجا للتربية العامّة في الجامعات والمعاهد في البلاد الإسلامية ليغذّى بها النشء الذي يجهل كلّ شيء عن مقومات التربية الإسلامية ، وما تنشده من القيم والمبادئ التي تصنع الحضارة الإنسانية بأروع صورها وأبدع معانيها ، وهي من أهمّ ما عنى بها الإمام عليه‌السلام فيما قنّنه في ميادين الإصلاح الاجتماعي من الاسس التربوية القائمة على كلّ ما يصلح الإنسان ، ويهديه للتي هي أقوم ونعرض لبعض وصايا هذا الإمام الملهم العظيم ، وفيما أحسب أنّ أهمّ وصاياه هي الوصية التالية :

للإمام الحسن عليه‌السلام

هذه الوصية الذهبية الخالدة قد أتحف بها الإمام عليه‌السلام ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته ، وهي تحمل أشعة من نور النبوّة والإمامة ترشد الضالّ ، وتهدي الحائر ، وتضيء العقول ، وتهذّب النفوس ، ونظرا لأهمّيتها البالغة فقد ترجمت إلى غير واحدة من اللغات ، وشرحت بعدّة شروح كان منها :

١١

١ ـ منثور الأدب الإلهي ، وهو لمحمّد صالح بن محمّد الروغني القزويني ، وهو أحد شرّاح نهج البلاغة.

٢ ـ الأخلاق المرضية في شرح الوصية.

٣ ـ هداية الامم (١) .

٤ ـ نظمها بالفارسية السيد حسن بن ابراهيم القزويني ، وهو من مشايخ السيّد بحر العلوم ، وقد طبعت في استانبول.

٥ ـ الاسس التربوية في شرح الوصية للعلاّمة الخطيب السيّد حسن القبانجي (٢) .

ونعرض ـ فيما يلي ـ النصّ الكامل لهذه الوصية التي كتبها الإمام بـ « حاضرين » التي هي بلدة في نواحي صفّين ، وذلك في حال انصرافه منها ، قال عليه‌السلام :

« من الوالد الفان ، المقرّ للزّمان (٣) ، المدبر العمر ، المستسلم للدّهر ، الذّام للدّنيا ، السّاكن مساكن الموتى ، والظّاعن عنها غدا ؛ إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك (٤) ، السّالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيّام ، ورمية المصائب ، وعبد الدّنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونصب الآفات ، وصريع الشّهوات ، وخليفة الأموات.

أمّا بعد ، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي ، وجموح (٥) الدّهر

__________________

(١) الذريعة ١٣ : ٢٢٥.

(٢) مصادر نهج البلاغة وأسانيده ـ قسم الرسائل والعهود : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٣) أي المعترف بشدائده.

(٤) أي يؤمّل البقاء والخلود في الدنيا ، وهذا لا يدركه أحد.

(٥) الجموح : الاستعصاء.

١٢

عليّ ، وإقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما ورائي ، غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي ، فصدفني رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرّح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب. ووجدتك بعضي ، بل وجدتك كلّي ، حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني ، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت ...

حكى هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام الامور التالية :

أوّلا : عرض الإمام عليه‌السلام إلى فنائه ، وإدبار عمره ؛ لأنّه في سنّ الشيخوخة ، ولا بدّ من مغادرته لدار الفناء إلى دار الخلود والبقاء.

ثانيا : أنّه حكى رغبات المولود في الدنيا ، وما يواجهه من الخطوب ، والتي منها :

١ ـ أنّه مستهدف للمصائب والمحن والخطوب.

٢ ـ أنّه عبد الدنيا ، وتاجر الغرور.

٣ ـ أنّه أسير الموت لا يدري متى سيرحل عن هذه الدنيا.

٤ ـ أنّ الإنسان في هذه الحياة تحالفه الهموم والأحزان.

٥ ـ أنّه خليفة الأموات ، فقد خلف من كان قبله ولا بدّ أن يخلفه من يأتي بعده.

ثالثا : أنّ الإمام عليه‌السلام قد أيقن بإدبار الدنيا عنه ، وإقبال الآخرة عليه ، الأمر الذي صرفه عن كلّ شيء من امور الدنيا ، وجعله يتصرّف في جميع اموره بجدّ لا لعب فيه.

١٣

رابعا : أعرب الإمام عن مدى حبّه وودّه لولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، فإنّه بعضه ، بل كلّه ، فهو بمنزلة نفسه ، فاهتمّ بأمره كما اهتمّ باموره ، فلذا وجّه إليه النصائح التالية :

قال الإمام عليه‌السلام :

فإنّي أوصيك بتقوى الله ـ أي بنيّ ـ ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله. وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به! ...

حكت هذه الكلمات الذهبية ما يقرّب الإنسان إلى الله تعالى زلفى ، ومن أوثقها تقوى الله تعالى ولزوم أمره ، وعمارة القلب بذكره ، والاعتصام بحبله ، فإنّها من موجبات القرب إلى الله تعالى ، والفوز برضاه.

ويستمر الإمام المربّي العظيم في وصيّته لولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام :

أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّره فجائع الدّنيا ، وحذّره صولة الدّهر وفحش تقلّب اللّيالي والأيّام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا! فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم. فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ؛ ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلّف.

وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال.

١٤

وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم.

وخض الغمرات للحقّ حيث كان ، وتفقّه في الدّين ، وعوّد نفسك التّصبّر على المكروه ، ونعم الخلق التّصبّر في الحقّ! وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك ، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز.

وأخلص في المسألة لربّك ، فإنّ بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهّم وصيّتي ، ولا تذهبنّ عنك صفحا ، فإنّ خير القول ما نفع. واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه ...

وحوى هذا المقطع امورا بالغة الأهمّية في تربية النفس وغيرها من وسائل الاصلاح وهي :

أوّلا ـ وسائل إصلاح النفس :

وأدلى الإمام عليه‌السلام بالوسائل التي يسيطر بها الإنسان على نفسه ، ويكبح جماحها ، وهي :

١ ـ الموعظة : لا شكّ أنّ المواعظ توجب صفاء النفس ، وهي من أهمّ الأدوية لعلاجها.

٢ ـ الزهد : إنّ الزهد في رغائب الحياة والإعراض عن ملاذّها وشهواتها يطهّر النفس من مآثم هذه الحياة.

٣ ـ الحكمة : لا شبهة أنّ الحكمة والتبصّر بها تنوّر العقول وتصفّي النفوس.

١٥

٤ ـ ذكر الموت : أمّا ذكر الموت فإنّه يذلّل النفس ، ويصدّها عن اقتراف المحارم والآثام ، ويهديها إلى الصراط المستقيم.

٥ ـ التبصّر في فجائع الدنيا : إنّ النظر والتبصّر في فجائع الدنيا وخطوبها وآلامها من أهمّ وسائل التربية الروحية التي تدعو إلى تهذيب النفس.

٦ ـ أخبار الماضين : دعا الإمام إلى النظر في تاريخ الامم الماضية وغيرها ، فإنّ الإنسان يجدهم قد انتقلوا عن هذه الدنيا ، وحلّوا ديار الغربة ، وأنّ كلّ إنسان على هذا الكوكب لا بدّ أن يلاقي نفس هذا المصير هذه بعض الوسائل التي تسمو بالنفس قد ذكرها الإمام العظيم عليه‌السلام .

ثانيا ـ فضائل وآداب :

وحوى هذا المقطع اصول الفضائل والآداب التي يسمو بها الإنسان ، والتي منها :

١ ـ الاجتناب عن القول فيما لا يعرفه الإنسان ، فإنّ الخوض فيه منقصة وجهل ؛ لأنّه قد يجيب بما خالف الواقع.

٢ ـ عدم التسرّع في الخطاب الذي لا يكلّف فيه ، فإنّ التسرّع في ذلك من ألوان الفضول.

٣ ـ ترك السلوك في طريق يخاف ضلالته ؛ لأنّه قد يقع في الضلالة التي تجرّ إلى الندم.

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ فيهما صلاح المجتمع.

٥ ـ الجهاد في سبيل الله.

٦ ـ خوض الغمرات والمصاعب لإحقاق الحقّ التفقّه في الدين ، ومعرفة أحكام الله تعالى.

١٦

٧ ـ الصبر على المكروه.

٨ ـ الالتجاء إلى الله تعالى في جميع الامور والأحوال ، فإنّ بيده العطاء والحرمان.

٩ ـ الاستخارة وهي إحالة الرأي في جميع الامور إلى الله تعالى ليكون الإنسان على بصيرة من أمره ويستمرّ الإمام الحكيم في وصيّته قائلا :

أي بنيّ! إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا ، ورأيتني أزداد وهنا ، بادرت بوصيّتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي ، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا ، فتكون كالصّعب النّفور.

وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته.

فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك ، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطّلب ، وعوفيت من علاج التّجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه ، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه ...

أعرب الإمام العظيم عليه‌السلام في حديثه أنّه قد بلغ من السنّ الذي أشرف به على عتبة الشيخوخة ، وأنّه قد ازداد وهنا وضعفا في جسمه ، فلذا بادر بتسجيل وصيّته إلى ولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، هذه الوصية الممتلئة بالحكم والتجارب والنصائح التي أحاطت بجميع شئون الحياة ووضعت لها أسمى المناهج ..

لقد بادر الإمام بوصيّته إلى ولده وهو في شرخ الشباب قبل أن يجتاز هذا السنّ ، فربّاه بحكمه وآدابه ، وأفاض عليه مكرمات نفسه ليكون نسخة تحكيه

١٧

وتمثّله ، ويأخذ الإمام المربّي في وصيّته قائلا :

أي بنيّ! إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتّى عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله (١) ، وتوخّيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدّهر ، ذو نيّة سليمة ، ونفس صافية ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره. ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة ، ورجوت أن يوفّقك الله فيه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيّتي هذه ...

يقدّم الإمام عليه‌السلام لولده الزكي في وصاياه زبدة التجارب وخلاصة النصائح التي أخذت بها الامم السابقة ، وأنّه عليه‌السلام وإن لم يكن شاهدهم إلاّ أنّه نظر بعمق وشمول إلى تاريخهم وأحوالهم ، فوقف على أسباب سعادتهم وأسباب شقائهم ، وقدّم ذلك لولده.

وكان من أهمّ ما عنى به الإمام في هذا المقطع تعليم ولده لكتاب الله تعالى

__________________

(١) النخيل : المختار المصفى.

١٨

وتفسيره والأخذ بأحكامه ومعرفة حلاله وحرامه ..

ويستمرّ الإمام في وصيّته فيقول :

واعلم يا بنيّ! أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصّالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم ، لا بتورّط الشّبهات ، وعلق الخصومات. وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرّغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة. فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك فاجتمع ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا ، فانظر فيما فسّرت لك ، وإن لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك ، وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء (١) ، وتتورّط الظّلماء. وليس طالب الدّين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل ...

من بنود هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام ما يلي :

١ ـ الوصية بتقوى الله تعالى فإنّها سبب النجاة في الدنيا والآخرة.

٢ ـ الإتيان بما فرضه الله تعالى من الواجبات وترك المحرّمات.

٣ ـ الأخذ بسيرة الصالحين والمتّقين من السلف الصالح من أهل بيت النبوّة

__________________

(١) العشواء : الضعيف البصر.

١٩

ومعدن الرسالة.

٤ ـ الاستعانة بالله تعالى في جميع الامور وطلب التوفيق.

٥ ـ ترك كلّ شبهة تولج الإنسان في الشبهات وتسلّمه إلى الضلال ويأخذ الإمام عليه‌السلام في وصيّته قائلا :

فتفهّم يا بنيّ! وصيّتي ، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفني هو المعيد ، وأنّ المبتلي هو المعافي ، وأنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النّعماء ، والابتلاء ، والجزاء في المعاد ، أو ما شاء ممّا لا تعلم ، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك ، فإنّك أوّل ما خلقت به جاهلا ثمّ علّمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر! ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلّ فيه بصرك ثمّ تبصره بعد ذلك! فاعتصم بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك ، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك ـ أي خوفك ...

أعرب الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع أنّ جميع مجريات الأحداث وشئون الكون كلّها بيد الخالق العظيم ، فهو مالك الحياة ومالك الموت ، فعلى الإنسان أن يوكل اموره إليه ، ولا يلتجأ إلى غيره ، كما أعرب عليه‌السلام عن تقلّب الدنيا ، وأنّها لم تستقرّ على حال ، فكما تري الإنسان السعادة تريه التعب والعناء والشقاء ، كما وأنّ جزاء من يعمل خيرا فيها أو شرّا يلاقيه في معاده وفي يوم حشره ..

هذا بعض ما حواه المقطع ، ويأخذ الإمام في وصيّته الحافلة بالنصائح قائلا :

واعلم يا بنيّ! أنّ أحدا لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرّسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فارض به رائدا ، وإلى النّجاة قائدا ، فإنّي لم آلك نصيحة. وإنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك ...

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الأنبياء مئة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ، خمسة منهم أولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسیٰ وعيسیٰ ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ عليّ بن أبي طالب هبة الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورث علم الأوصياء، وعلم مَن كان قبله أمّا أنّ محمّداً ورث علم مَن كان قبله من الأنبياء والمرسلين ...)(١)

والأخبار بهذه المثابة لا تُحصیٰ كثيرة(٢)

ومنها(٣) : إنّهمعليهم‌السلام اتّصفوا بما اتّصف به الأنبياء السابقون من الصفات المحمودة والأخلاق الفاضلة، والسمات الكاملة من الشرف والمجد والنجدة والكرامة والسخاوة والشجاعة والعلم والرحمة والعطوفة وغير ذلك من المناصب العالية التي بلغوا بها أعلی المدارج، ووصلوا بها إلی أسنی المعارج فصاروا بها مظاهر أسماء الله الحسنیٰ ومرايا صفاته العليا فكأنّهم هم، فمَنْ نظر إليهمعليهم‌السلام فكأنّما نظر إليهمعليهم‌السلام وقد أشار إلی ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الأعرابي والضّب بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله مَن أراد أن ينظر إلی آدم في جلالته وإلی شيث في حكمته وإلی إدريس في نباهته ومهابته، وإلی نوح في شكره لربِّه وعبادته، وإلی إبراهيم في وفائه وخلّته، وإلی موسیٰ في بغض كلّ عدوّ لله ومنابذته، وإلی عيسیٰ في حبّ كلّ مؤمن ومعاشرته، فلينظر إلی عليّ بن أبي

________________________

١ ـ راجع بصائر الدرجات : ص ١٢١، ح ١ وهذه تتمّة الحديث : «والمرسلين وعلی قائمة العرش مكتوب حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيّد الشهداء وفي زوايا العرش مكتوب عن يمين ربّها وكلتا يديه يمين عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام فهذه حجّتنا علی مَنْ أنكر حقّنا وجحدنا ميراثنا وما منعنا من كلام واماننا فأيّ حجّة تكون أبلغ من هذا»

٢ ـ راجع نفس المصدر

٣ ـ أي من الوجوه المحتملة علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثة الأنبياءعليهم‌السلام

٤١

طالب(١)

وفي حديث المفضل وسيّدنا القائمعليه‌السلام مسند ظهره بالكعبة ويقول : يا معشر الخلائق ألا ومَن أراد أن ينظر إلی آدم وشيث فها أنا آدم وشيث، ألا ومَنْ أراد أن ينظر إلی نوح وسام فها أنا ذا نوح وسام، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی إبراهيم ________________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٧، ص ٤١٨، الباب الخامس، ط بيروت، مؤسسة الوفاء

وأخرج النسائي في الخصائص ص ١٩٦ حديث ١٠٣، والحاكم في المستدرك ج ٣، ص ١٢٣، عن أبي الحمراء قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أراد أنْ ينظر إلی آدم في علمه، وإلی نوح في فهمه، وإلی إبراهيم في حلمه، وإلی يحيی بن زكريا في زهده، وإلی موسی بن عمران في بطشه فلينظر إلی عليّ بن أبي طالب»

وأيضاً أخرج أحمد بن حنبل في مسنده ج ١، ص ١٦٠ حديث ١٣٧٧ وفي الفضائل ج ٢، ص ٦٤ حديث ٩٦، عن ابن عبّاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «مَنْ أراد أنْ ينظر لإبراهيم في حلمه، وإلی نوح في حكمه، وإلی يوسف في جماله فلينظر إلی عليّ بن أبي طالب»

وأيضاً روی الديلمي في إرشاد القلوب ص ٢١٧ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «مَنْ أراد أنْ ينظر إلی نوح في عزمه، وإلی آدم في علمه، وإلی إبراهيم في حلمه، وإلی موسیٰ في فطنته، وإلی عيسی في زهده، فلينظر إلی عليّ بن أبي طالب»

وروی محمّد بن الفتّال النيشابوري في روضة الواعظين ج ١، ص ١٢٨ ط : الشريف الرضي قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر ذات يوم إلی عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وحوله جماعة من أصحابه، فقال : مَنْ أحبّ أن ينظر إلی يوسف في جماله، وإلی إبراهيم في سخائه، وإلی سليمان في بهجته، وإلی داود في قوّته فلينظر إلی هذا»

ورویٰ في نفس المصدر : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أراد أن ينظر إلی آدم في علمه، وإلی نوح في فهمه وإلی إبراهيم في حلمه، وإلی يحيی بن زكريا في زهده، وإلی موسیٰ بن عمران في بطشه، فلينظر إلی عليّ بن أبي طالب»

٤٢

وإسماعيل فها أنا ذا إبراهيم وإسماعيل، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی موسی ويوشع فها أنا ذا موسی ويوشع، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی عيسی وشمعون فها أنا ذا عيسی وشمعون، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی محمّد وأمير المؤمنين فها أنا ذا محمّد وأمير المؤمنين، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی الحسن والحسين فها أنا ذا الحسن والحسين، ألا ومَن أراد أن ينظر إلی الأئمّة من ولد الحسين فها أنا ذا الأئمّة(١) ، وهو طويل، وهذا أحد الوجوه التي يُحمل عليها ما ورد في بعض خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام من قوله : «أنا آدم الأوّل، أنا نوح الأوّل، أنا محمّد ومحمّد أنا» ونحو ذلك(٢)

________________________

١ ـ راجع حلية الأبرار للسيّد هاشم البحراني ج ٢ ص ٦٥٨، ط بيروت الأعلمي (١٤١٣ هـ)

وإليك تتمّة الرواية : « فلينظر إليّ ويسألني أنبأهما انباؤا به وبما لم ينبؤا به، ألا ومَن كان يقرء الكتب والصحف فليسمع منّي، ثمّ يبتدئ بالصحف التي أنزلها الله تعالی علی آدم وشيث فيقرؤها فتقول أمّة آدم وشيث هذه والله هي الصحف ولقد قرأها ما لم نعلمه منها وما كان خفي عنّا وما كان أُسقط منها وبُدّل وحُرِّف، ويقرء صحف نوح وصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور فيقول أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور هذه والله صحف نوح وصحف إبراهيم حقّاً وما أُسقط منها وما بُدِّل وحُرِّف منها، هذه والله التوراة الجامعة والزبور التام والإنجيل الكامل وأنّها أضعاف ما قرأنا منها

ثمّ يتلو القرآن فيقول المسلمون : هذا والله القرآن حقّاً الذي أنزله الله علی محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وما أُسقط منه وبدِّل وحرّف، لعن الله مَن أسقطه وبدّله وحرّفه ...»

٢ ـ ذكر هذه الخطبة الحافظ رجب البرسي في مشارق الأنوار ص ٣١٨، ط : قم،

٤٣

وإليك نصّ الخطبة : قالعليه‌السلام :

(أنا عندي مفاتيح الغيب، لا يعلمها بعد محمّد رسول الله إلّا أنا، أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الاُولی، أنا صاحب خاتم سُليمان، أنا وليّ الحساب، أنا صاحب الصراط والموقف، أنا قاسم الجنّة والنار بأمر ربّي، أنا آدم الأوّل، أنا نوح الأوّل، أنا آية الجبّار، أنا حقيقة الأسرار، أنا مورق الأشجار، أنا مونع الثمار، أنا مفجِّر العيون، أنا مجري الأنهار، أنا خازن العلم، أنا طور الحلم، أنا أمير المؤمنين، أنا عين اليقين، أنا حجّة الله في السماوات والأرض، أنا الراجفة، أنا الصاعقة، أنا الصيحة بالحقّ، أنا الساعة لمَن كذّب بها، أنا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، أنا الأسماء الحسنی التي أمر الله أنْ يدعیٰ بها، أنا ذلك النور الذي يُقتبس منه الهدیٰ، أنا صاحب الصور، أنا مخرج مَنْ في القبور، أنا صاحب يوم النشور، أنا صاحب نوح ومنجيه، أنا صاحب أيّوب المبتلیٰ وشافيه، أنا أقمتُ السماوات بأمر ربّي، أنا صاحب إبراهيم، أنا سرّ الكليم، أنا الناظر في الملكوت، أنا أمر الحي الذي لا يموت، أنا وليّ الحقّ علی سائر الخلق، أنا الذي لا يُبدّل القول لديّ، وحساب الخلق إليّ، أنا المفوّض إليّ أمر الخلائق، أنا خليفة الإله الخالق، أنا سرُّ الله في بلاده، وحجّته علی عباده، أنا أمر الله والروح، كما قال سبحانه وتعالی : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ، أنا أرسيت الجبال الشامخات، وفجّرتُ العيون الجاريات، أنا فارس الأشجار، ومخرج ألوان الثمار، أنا مقدّر الأقوات، أنا منشر الأموات، أنا مُنزل القطر، أنا منوّر الشمس والقمر والنجوم، أنا قيّم القيامة، أنا مقيم الساعة، أنا الواجب له من الله الطاعة أنا حيٌّ لا أموت وإذا متُّ لم أمت، أنا سرُّ الله المخزون، أنا العالم بما كان وما يكون، أنا صلاة المؤمنين وصيامهم، أنا مولاهم وإمامهم، أنا صاحب النشر الأوّل والآخر، أنا صاحب المناقب والمفاخر، أنا

٤٤

صاحب الكواكب، أنا عذاب الله الواصب، أنا مهلك الجبابرة الأول، أنا مزيل الدول، أنا صاحب الزلازل والرجف، أنا صاحب الكسوف والخسف، أنا مدمِّر الفراعنة بسيفي هذا، أنا الذي أقامني الله في الأظلّة ودعاهم إلی طاعتي فلمّا ظهرت أنكروا، فقال الله سبحانه :( فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ) ، أنا نور الأنوار، أنا حامل العرش مع الأبرار، أنا صاحب الكتب السالفة، أنا بابُ الله الذي لا يُفتح لمَن كذّب به ولا يذوق الجنّة، أنا الذي تزدحم الملائكة علی فراشي، وتعرفني عباد أقاليم الدُّنيا، أنا الذي ردّت لي الشمس مرّتين، وسلّمتْ عليَّ كرّتين، وصلّيت مع رسول الله القبلتين، وبايعتُ البيعتين، أنا صاحب بدرٍ وحُنين، أنا الطور، أنا الكتاب المسطور، أنا البحرُ المسجور، أنا البيتُ المعمور، أنا الذي دعا الله الخلائق إلی طاعتي فكفرت، وأصرّت فمُسِختْ وأجابت أمّة فنجت وأزلفت، أنا الذي بيدي مفاتيح الجنان ومقاليد النيران، أنا مع رسول الله في الأرض وفي السماء، أنا المسيح حيث لا روح يتحرّك ولا نفس يتنفّس غيري، أنا صاحب القرون الأولیٰ، أنا الصامت ومحمّد الناطق، أنا جاوزتُ بموسی البحر وأغرقتُ فرعون وجنوده، أنا أعلم هماهم البهائم ومنطق الطير، أنا الذي أجوز السماوات السبع والأرضين السبع في طرفة عين، أنا المتكلِّم علی لسان عيسی في المهد، أنا الذي يُصلّي عيسی خلفي، أنا الذي أنقلب في الصور كيف شاء الله، أنا خازن السماوات السبع والأرض بأمر ربّ العالمين، أنا القاسم بالقسط، أنا ديّان الدِّين، أنا الذي لا تُقبل الأعمال إلّا بولايته، ولا تنفع الحسنات إلّا بحبّه، أنا العالم بمدار الفلك الدوّار، أنا صاحب مكيال قطرات الأمطار ورمل القفار بإذن الملك الجبّار، ألا أنا الذي أُقتل مرّتين وأحيی مرّتين وأظهر كيف شئت، أنا محصي الخلائق وإن كثروا، أنا محاسبهم بأمر ربّي، أنا الذي عندي ألف كتاب من كتب الأنبياء، أنا الذي جحد

٤٥

وهذه الأخبار وإن أفادت الاختصاص [بالإمام] عليّعليه‌السلام ، إلّا أنّه لا فرق بينهعليه‌السلام وبين سائر الأئمّة المعصومينعليه‌السلام (١) ، فقد روی عبد الرحمٰن بن كثير عن الصادقعليه‌السلام قال:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ) (٢) ، قال: «الذين آمنوا النبيّ وأمير المؤمنينعليه‌السلام والذرية والأئمّة الأوصياءعليهم‌السلام ألحقنا بهم ذرّيتهم، ولم تنقص ذريتهم من الحجّة التي جاء بها محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليّ، وحجّتهم واحدة،

ولايتي ألف أمّة فمسخوا، أنا المذكور في سالف الزمان والخارج في آخر الزمان، أنا قاصم الجبّارين في الغابرين، ومخرجهم ومعذّبهم في الآخرين، أنا معذّب يغوث ويعوق ونسراً عذاباً شديداً، أنا المتكلِّم بكلّ لسان، أنا الشاهد لأعمال الخلائق في المشارق والمغارب، أنا محمّد ومحمّد أنا، أنا صهر محمّد، أنا المعنی الذي لا يقع عليه اسم ولا شبه، أنا باب حطّة، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»

ـ بين المعقوفتين لم يكن من الشارح وإنما وضعناه للسياق

١ ـ إنّهمعليهم‌السلام يجري لهم ما يجري للإمام عليّعليه‌السلام ، حيث روی الطبرسي في إعلام الوری ص ٣٥٥ عن أبي هاشم قال: سُئِل أبو محمّدعليه‌السلام ـ يعنـي الـعـسكـري ـ ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرجل سهمين ؟ فقالعليه‌السلام : إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا عليها نفقة، ولا يُعقل، إنّما ذلك علی الرجل، فقلتُ في نفسي : قد كان قيل : إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه المسألة، فأجابه بهذا الجواب، فأقبل أبو محمّد فقال : نعم، هذه مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد : جری لآخرنا ما جری لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء، ولرسول الله ولأمير المؤمنين فضلهما

٢ ـ الطور : ٢١

٤٦

وطاعتهم واحدة»(١)

وعن أبي الحسنعليه‌السلام قال: نحن في العلم والشجاعة سواء، وفي العطايا علی قدر ما نؤمر(٢)

ومنها(٣) : إنّ الروح الأعظم القدسي(٤) الذي كان قد تجلّی في هياكل السابقين(٥) ________________________

١ ـ راجع تفسير علي بن إبراهيم ج ٢، ص ٣٠٩، ط بيروت الأعلمي ١٩٩١ م، وبصائر الدرجات ج ٥ الباب الثامن ح ١، ص ٤٨٠

وأيضاً روی الصفّار في بصائر الدرجات الجزء العاشر، الباب الثامن، الحديث الثاني، ص ٤٨٠، عن صفوان بن يحيیٰ عن ابن مسكان عن الحرث بن النضري عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال: (سمعته يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن في الأمر والنهي والحلال والحرام نجري مجری واحد فأمّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ فلهما فضلهما)

٢ ـ راجع بصائر الدرجات ج ١٠، ص ٤٨٠، الحديث الثالث، الباب الثامن، وأصول الكافي ج ١، ص ٢٧٥، الحديث الثاني، ودفع المناواة عن التفضيل والمساواة للسيّد المحقّق الحسين بن الحسن الكركي المتوفی سنة ١٠٠١ هـ، ص ١٩٢ في الباب التاسع عشر، تحت عنوان (إنّهمعليهم‌السلام في الفضائل سواء)

٣ ـ أي من الاحتمالات علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثة الأنبياءعليهم‌السلام

٤ ـ إنّ الذي تقرّره روايات أهل البيتعليهم‌السلام هو أنّ الروح غير جبرائيلعليه‌السلام ، وهذه الروح هي تكون مع الأنبياء والأوصياء والشيخ محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار القمّي يروي في كتابه بصائر الدرجات ج ٩، ص ٤٦٤ ح ٤، عن أبي بصير قال: كنتُ مع أبي عبداللهعليه‌السلام فذكر شيئاً من أمر الإمام إذا وُلد قال: واستوجب زيادة الرّوح في ليلة القدر فقلت : جعلتُ فداك أليس الروح جبرئيل ؟

قال عليه‌السلام : جبرئيل من الملائكة، والروح خلقٌ أعظم من الملائكة، أليس الله يقول: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ

٥ ـ أي الأنبياءعليهم‌السلام

٤٧

فقدروا به علی خرق العادات وإظهار المعجزات من إحياء الأموات، وإشفاء المرضیٰ ونحو ذلك قد انتقل إلی هياكل محمّد وآله فظهرت منهم [عليهم‌السلام ] الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات(١) بل التجليات السابقة كانت بالصورة ________________________

١ ـ كما أنّ الأنبياءعليهم‌السلام قد ظهرت علی أيديهم معاجز وكرامات وبيّنات ودلائل صادقة، أيضاً الأئمّة من آل محمّدعليهم‌السلام قد ظهرت لهم معاجز فاقت معاجز الأنبياء من قبل، فالأئمّةعليهم‌السلام أنّهم يُحيون الموتی ويبرؤون الأكمة والأبرص بإذن الله، وللتفصيل في هذا المجال راجع كتاب (مدينة المعاجز) للسيّد الجليل هاشم البحراني المتوفیٰ (١١٠٩ هـ) ستجد في هذا الكتاب العجائب والغرائب من معاجز الأئمّة الأطهار ولا عجبَ ولا غرابة لمن فهم مقامهمعليهم‌السلام

وسوف ننقل شاهدين للتيمّن من كتاب بصائر الدرجات لابن فرّوخ القمّي المتوفی سنة (٢٩٠ هـ) ص ٢٦٩ ج ٦، الباب الثالث الحديث الأوّل : منها :

عن أبي بصير قال: دخلتُ علی أبي عبداللهعليه‌السلام وأبي جعفرعليه‌السلام وقلتُ لهما : أنتما ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: نعم، قلتُ : فرسول الله وارث الأنبياء عَلِمَ كلّما علموا ؟ فقال لي : نعم، فقلت : أنتم تقدرون علی أن تحيوا الموتیٰ، وتبرؤا الأكمه والأبرص ؟ فقال لي : نعم، بإذن الله، ثمّ قال: ادن منّي يا أبا محمّد فمسح يده علی عيني ووجهي، وأبصرتُ الشمس والسماء والأرض والبيوت وكلّ شيء في الدار قال : أتحبّ أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة، أو تعود كما كنت ولك الجنّة خالصاً ؟ قلت : أعود كما كنتُ، قال: فمسح علی عيني فعدتُ كما كنت

ومنها : في نفس المصدر الباب الرابع الحديث الخامس ص ٢٧٤ عن داود بن كثير الرّقي قال: حجّ رجل من أصحابنا فدخل علی أبي عبداللهعليه‌السلام فقال : فداك أبي وأُمّي أنّ أهلي قد توفّيت، وبقيتُ وحيداً فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : أفكنت تحبّها ؟ قال: نعم

٤٨

والظلّ وما كان في هذه الهياكل الشريفة إنّما هو بالحقيقة والأصل، فلذا كانت قدرتهم علی الاُمور العجيبة أشدّ وأقویٰ، وعلمهم بما كان وما يكون أكثر وأجلیٰ، بل الصادر عن السابقين(١) رشحة من رشحات جودهمعليهم‌السلام ،(٢) كما أنّ وجودهم(٣) رشحة من رشحات وجودهم، وإلی هذا المقام أشار [الإمام] عليّعليه‌السلام في بعض خطبة بقوله : أنا رافع إدريس مكاناً عليّا، أنا منطق عيسی في المهد صبيّاً، وقوله : أنا جاوزت موسی في البحر، وأغرقت فرعون وجنوده، أنا أعلم هماهم البهائم، ومنطق الطير، أنا الذي أجوز السماوات السبع والأرضين السبع في طرفة عين، أنا المتكلِّم علی لسان عيسیٰ في المهد صبيّاً، أنا الذي يصلّي عيسیٰ خلفي، أنا الذي ينقلب في الصور كيف يشاء الله، وقوله : أنا الخضر معلِّم موسی، أنا معلِّم داود وسليمان، أنا ذو القرنين، أنا تكلّمتُ علی لسان عيسیٰ في المهد، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا صاحب الناقة، أنا صاحب الرجفة، أنا صاحب الزلزلة، أنا اللوح المحفوظ، إليَّ انتهی علمُ ما فيه، أنا أنقلب في الصور كيف ما شاء الله، مَن رآهم فقد رآني، ومَنْ رآني فقد رآهم ونحن في الحقيقة نور الله الذي لا يزول ولا يتغيّر(٤)

جعلتُ فداك قال: ارجع إلی منزلك فإنّك سترجع إلی المنزل وهي تأكل شيئاً قال: فلمّا رجعتُ من حجّتي ودخلتُ منزلي رأيتها قاعدة وهي تأكل)

١ ـ يعني الأنبياءعليهم‌السلام

٢ ـ أي الأئمة عليهم السلام

٣ ـ أي وجود الأنبياءعليهم‌السلام

٤ ـ راجع مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي المتوفیٰ تقريباً في سنة ٨١٣ من الهجرة ص ٢٥٥، في فصل (معرفة الإمام بالنورانيّة)، ط : الأعلمي بيروت

٤٩

ومنها(١) : إنّ عندهم [عليهم‌السلام ] ما كان عند الأنبياء من الآلات والأدوات المختصّة بهم التي خصّهم الله بها دون سائر خلقه مثل عصا موسیٰ وعمامة هارون وخاتم سليمان والتابوت وغير ذلك ممّا ورد في الأخبار

فقد روي عن سعيد السمان قال: كنتُ عند الصادقعليه‌السلام إذ دخل عليه رجلان من الزيدية فقالا له : أفيكم إمامٌ مفترض الطاعة ؟ قال [عليه‌السلام ] : لا، فقال له : أخبرنا عنكَ الثقات أنّك تفتي وتقرّ وتقول به ونسمّيهم لك فلان وفلان وهم أهل ورع وتشمير وهم ممّن لا يكذّبون، فغضب أبو عبداللهعليه‌السلام وقال : ما أمرتهم بهذا، فلمّا رأيا الغضب في وجهه خرجا فقال لي [عليه‌السلام ] : أتعرف هذين ؟ قلتُ : نعم، هما من أهل سوقنا من الزيديّة وهما يزعمان أنّ سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند عبدالله بن الحسن، فقال [عليه‌السلام ] : كذبا لعنهما الله ولا والله ما رآه عبد الله بعينيه ولا بواحد من عينيه ولا رآه أبوه إلّا أن يكون رآه عند عليّ بن الحسين بن عليّ، وإن كانا صادقين فما علامة في مقبضه، وما أثر في موضع مضربه، وأنّ عندي لسيفَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه ولامته ومغفره فإن كانا صادقين فما علامة في درعه، وأنّ عندي لراية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المغلبة، وأنّ عندي ألواح موسیٰ وعصاه، وأنّ عندي لخاتم سليمان بن داود، وأنّ عندي الطست الذي كان يُقرّب بها موسی القربان، وأنّ عندي الاسم الذي كان إذا أراد رسول الله أن يضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلی المسلمين نشابّة، وأنّ عندي التابوت التي جاءت بها الملائكة تحمله، ومثل السلاح فينا مثل التابوت في بني إسرائيل أي أهل بيت وقف التابوت علی باب دارهم أُوتوا النبوّة، ومَن صار إليه السلاح منّا أُوتي بالإمامة، ولقد لبس أبي درع ________________________

١ ـ هذا الوجه الرابع من الوجوه المحتملة علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثة الأنبياء

٥٠

رسول الله فخطّت علی الأرض خطيطاً، ولبستها أنا فكانت وقائمنا ممّن إذا لبسها ملأها إن شاء الله(١)

فالمراد أنّ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله يرثون أمثال هذه المتروكات المعبّر عنها في بعض الأخبار بالآثار وبميراث النبوّة

فقد روي عن الباقرعليه‌السلام قال: «لمّا قضیٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نبوّته، واستكلمت أيّامه أوحی الله إليه يا محمّد قد قضيت نبوّتك، واستكملت أيّامكَ، فاجعل العلم الذي عندك والآثار والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوّة في أهل بيتك عند عليّ بن أبي طالب، فإنّي لم أقطع علم النبوّة من العقب من ذرّيتك كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيكَ آدمعليه‌السلام »(٢)

وقد روی صاحب البصائر(٣) في الجزء الرابع منه في باب ما عند الأئمّةعليهم‌السلام من سلاح رسول الله، وآيات الأنبياء مثل عصا موسیٰ وخاتم سُليمان، والطست، والتابوت والألواح وقميص آدم، جملة وافرة من الروايات توضح هذا المعنی(٤)

________________________

١ ـ أخرج هذه الرواية ابن فرّوخ الصفّار في بصائر الدرجات الجزء الرابع، ص ١٧٤، الحديث الثاني، الباب الرابع

٢ ـ الكافي : ج ٨، ص ١١٥

٣ ـ أي الشيخ المحدّث أبو جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار القمّي، من أصحاب الإمام العسكريعليه‌السلام المتوفّی ٢٩٠ من الهجرة له كتاب بصائر الدرجات في فضائل آل محمّدعليهم‌السلام

٤ ـ راجع نفس الكتاب المذكور الجزء الرابع، الباب الرابع، ص ١٧٤، ط : مكتبة السيّد المرعشي النجفي في قم حيث ذكر ثمانية وخمسين رواية في هذا الباب، وكلّها تنصّ علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثوا الأنبياءعليهم‌السلام ومن هذه الروايات :

٥١

ومنها(١) : إنّ من شأن الأئمّة الإرشاد والإبلاغ والإنذار، ووجوب طاعتهم علی الناس كما كان ذلك شأن الأنبياء [عليهم‌السلام ]، وهذا معنی كون العلماء أيضاً ورثة لهم

قال الصادقعليه‌السلام : (الفضل لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو المقدّم علی الخلق جميعاً لا يتقدّمه أحدٌ، وعليّعليه‌السلام المقدَّم بعده والمتقدِّم بين يدي عليّعليه‌السلام كالمتقدِّم بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك يجري للأئمّة من بعده واحداً بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أنْ تميد بأهلها ورابطة علی سبيل هداه لا يهتدي هادٍ من ضلالة إلّا بهم، ولا يضلّ خارج من هدی إلّا بتقصير عن حقّهم، وأمناء الله علی ما أهبط الله من علم أو عذر أو نذر، وشهداءه علی خلقه والحجّة البالغة علی مَن في الأرض، جری لآخرهم من الله مثل الذي أوجب لأوّلهم فمَن اهتدی بسبيلهم وسلّم الأمر لهم فقد استمسك بحبل الله المتين وعروة الله الوثقی)(٢)

ولا يخفی أنّ حمل الميراث المستفاد من هذه الفقرات علی جميع ما كان لهمعليهم‌السلام من الخصائص سوی مرتبة النبوّة أولی من حمله علی خصوص بعض المراتب كما يشهد له كثير من الأخبار الواردة في هذا المضمار

روی عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: (خرج أمير المؤمنين ذات ليلة علی أصحابه بعد عتمة وهم في الرحبة وهو يقول همهمة وليلة مظلمة خرج عليكم الإمام وعليه قميص آدم وفي يده خاتم سليمان، وعصا موسیعليهم‌السلام )

وروی أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: سمعته يقول: «ألواح موسیٰ عندنا، وعصا موسیٰ عندنا، ونحن ورثة النبيّين»

١ ـ هذا الوجه الخامس من الوجوه المحتملة علی أنّ الأئمّةعليهم‌السلام ورثة الأنبياء

٢ ـ راجع أصول الكافي ج ١، ص ٢٢٠، باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض، ولكن يوجد بعض التفاوت بين هذه الرواية والروايات المذكورة في الكافي

٥٢

ألا تری إلی ما رواه المفضّل الجعفي عن الصادقعليه‌السلام قال: سمعته يقول: أتدري ما كان قميص يوسف ؟ قال: قلتُ : لا، قال: إنّ إبراهيم لـمّا أوقد له النار أتاه جبرئيل بثوب من ثياب الجنّة فألبسه إيّاه فلم يضرّه معه حرّ ولا برد، فلمّا حضر إبراهيم الوفاة جعله في تميمة وعلّقها علی إسحاق، وعلّقها إسحاق علی يعقوب، فلمّا ولد يوسف علّقها عليه وكان في عضده حتّی كان من أمره ما كان فلمّا أخرج يوسف بمصر من التميمة وجد يعقوب ريحه فهو قوله :( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ ) (١) فهو القميص الذي أُنزل من الجنّة قلتُ : جعلتُ فداك فإلی مَن صار ذلك القميص ؟

فقال : إلی أهله، ثمّ قال: كلُّ نبيّ ورث علماً أو غيره فقد انتهی إلی محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته(٢)

كيف عمّم في آخره ولم يُفرّق فيه بين العلم وغيره ؟(٣)

الموضع الثالث في تفسير صفوة الله

فاعلم أنّ هذا اللفظ(٤) محتمل لكونه وصفاً لآدمعليه‌السلام ، وبدلاً، وعطف بيان ولا يرد علی الأوّل(٥) جموده، أمّا علی القول بجواز الوصف بالجامد مطلقاً

________________________

١ ـ يوسف : ٩٤

٢ ـ بصائر الدرجات، الجزء الرابع، الباب الرابع، ص ١٨٩، ح ٥٨

٣ ـ إنّ الإمام الصادقعليه‌السلام في ذيل الرواية لم يُفرّق في الإرث بين العلم وغيره

٤ ـ أي صفوة الله

٥ ـ أي علی القول بأنّ صفوة الله صفة لآدمعليه‌السلام

٥٣

فظاهر وأمّا علی القول الآخر(١) فلتأويله إلی الصفي وهو مشتقّ والعدول عنه إليه إنّما هو للمبالغة كما في زيد عدلٌ، فالمجاز في الكلمة ولكن التحقيق أنّ هذا لتصحيح اللفظ بمعنی أنّه لو كان الكلام قد جيء به علی ظاهره من دون أن يقصد به المبالغة لكان حقّه أن يؤل إلی المشتقّ وكذا تأويلهم نحو زيد عدل بذو عدول وبذلك صرّح بعض أهل البيان(٢) علی ما حكي عنه في بيت الخنساء تصف الناقة : (فإنّما هي إقبالٌ وإدبار)

قال : لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما حتّی يكون المجاز في الكلمة وإنّما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنّها تجسّمت من الإقبال والإدبار وحاصله : أنّ المجاز في أمثال ذلك عقلي لكونه في الإسناد

وكيف كان فصفوة الشيء بتثليث الحركات علی الصاد(٣) خالصه وخلاصته كالصفو إلّا أنّه بالفتح خاصّة، وصفوة الله خيرة الله أي مصطفاه ومختاره من خلقه(٤)

وفي بعض الأخبار سُمّي الصفا صفا لأنّ المصطفی آدمعليه‌السلام هبط عليه فقطع للجبل اسم من أسماء آدم(٥) ، وهبطت حوّاء علی المروة فسمّيت مروة لأنّ المرأة هبطت عليه، فقطع للجبل اسم من أسماء المرأة(٦)

________________________

١ ـ أي علی القول بأنّ صفوة الله بدل وعطف بيان

٢ ـ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز

٣ ـ أي ضمّ الصاد وفتحها وكسرها

٤ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ص ٣٤٣ ط : دار الهجرة

٥ ـ هنا سقط أثبتناه من مصدر الرواية وهو ( .عليه‌السلام ) يقول الله تعالی :( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) آل عمران : ٣٣

٦ ـ أخرجها الشيخ الصدوق في علل الشرائع ج ٢، ص ١٣٧، باب : ١٦٥ تحت عنوان

٥٤

يقال : صفا الماء إذا خلص من الكدر، والدليل علی كون آدمعليه‌السلام صفيّ الله ومصطفاه مضافاً إلی ما ذكره قوله تعالی :( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١)

وإنّما لُقِبَ(٢) عليه‌السلام بالصفوة مع عدم الاختصاص لكونه أوّل الاصفياء بحسب الظاهر وإلّا فجميع الأنبياء أصفياء الله حيث خلقهم الله من طينةٍ صافية طيّبة فكرّمهم علی سائر الخلق واختارهم من خلقه

قال [الإمام] عليّعليه‌السلام : (فاغترف جلّ جلاله من الماء العذب الفرات غرفةً بيمينه وكلتا يديه يمين فصلصلها فجمدت وقال الله : منك أخلق النبيّين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمّة المهديّين الدعاة إلی الجنّة وأتباعهم إلی يوم القيامة، ولا أسأل عمّا أفعل وهم يُسألون ...)(٣)

وإنّما صار آدمعليه‌السلام صفيّ الله، لأنّه تعالی جعل هيكله الشريف مظهراً لأنوار محمّد وآله [عليهم‌السلام ] ولذا أمر ملائكته بالسجود له(٤) تعظيماً وإكراماً لهذه الأنوار كما دلَّ عليه جملة وافرة من الأخبار(٥)

(العلّة التي من أجلها سمّي الصفا صفا والمروة مروة)

١ ـ آل عمران : ٣٣ و ٣٤

٢ ـ أي النبيّ آدمعليه‌السلام

٣ ـ البحار ج ٥، ص ٢٣٧، الباب العاشر، ط بيروت مؤسسة الوفاء

٤ ـ إشارة إلی قوله تعالی في سورة البقرة آية (٣٤) :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ )

٥ ـ قال الاسترابادي في تأويل الآيات الظاهرة في قوله تعالی من سورة البقرة آية (٥٨) :( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَـٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ

٥٥

فقد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّه قال: يا عباد الله أنّ آدم لـمّا رأی النور ساطعاً

سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) : قال الإمامعليه‌السلام ـ العسكري ـ : قال الله تعالی :( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) مثّل الله علی الباب مثال محمّد وعلي وأمرهم أن يسجدوا لله تعظيماً لذلك المثال، ويجدِّدوا علی أنفسهم بيعتهما وذكر موالاتهما، ويذكروا العهد والميثاق المأخوذين عليهم لهما( وَقُولُوا حِطَّةٌ ) أي قولوا : إنّ سجودنا لله تعظيماً لمثال محمّد وعلي، واعتقادنا لولايتهما حطّةً لذنوبنا، ومحو لسيّئاتنا ...)

وروی أبو جعفر محمّد ابن بابويه ـ الصدوق ـ رحمه‌الله في فضائل الشيعة وعنه الاسترآبادي في تأويل الآيات الظاهرة ص ٤٩٧، ط، قم، والعلّامة المجلسي في البحار ج ٢٥، ص ٢ في تأويل قوله تعالی : ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) عن محمّد بن عمّار، عن إسماعيل بن ثوية، عن زياد بن عبدالله البكائي عن سليمان الأعمش، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنّا جلوساً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أقبل إليه رجلٌ فقال : يارسول الله أخبرني عن قول الله عزّوجلّ لإبليس : ( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) مَن هم يارسول الله الذين هم أعلی من الملائكة المقرّبين ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين، كنّا في سرادق العرش نسبِّح الله فسبّحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عزّوجلّ آدم بألفي عام، فلمّا خلق الله عزّوجلّ آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يؤمروا بالسجود إلّا لأجلنا فسجدت الملائكة كلّهم أجمعون إلّا إبليس أبی أن يسجد، فقال له الله تبارك وتعالی : ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) أي من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش فنحن باب الله الذي يؤتیٰ منه، بنا يهتدي المهتدون، فمن أحبّنا أحبّه الله وأسكنه جنّته، ومَن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره، ولا يحبّنا إلّا مَن طاب مولده)

٥٦

من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلی ظهره رأی النور ولم يتبيّن الأشباح فقال : ياربّ ما هذه(١) الأنوار ؟

فقال : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلی ظهرك ولذلك أمرتُ الملائكة بالسجود لكَ إذ كنتَ وعاءً لتلك الأشباح)(٢)

فإن قيل : ترك الانتهاء يُنافي مقام الاصطفاء وقد قال:( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٣)

قلنا : قد أجابوا عن ذلك بوجوه كثيرة لا يليق بهذا المختصر

وفي بعضها أنّ النهي كان من النواهي التنزيهيّة، فعدم الانتهاء لا ينافي العصمة علی أنّه روي عن [الإمام] الرضاعليه‌السلام أنّه قال: (قال الله تعالی لهما :( لَا

________________________

١ ـ في بعض المصادر «ما هذا النور ؟»

٢ ـ أخرج الرواية الاسترآبادي في تأويل الآيات الظاهرة ص ٥١، ط، قم جامعة المدرسين، وللرواية تتمّة : «فقال آدم : ياربّ لو بيّنتها لي، فقال الله عزّوجلّ : انظر يا آدم إلی ذروة العرش، فنظر آدم إلی ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية، فرأی أشباحنا، فقال : ما هذه الأشباح ياربّ ؟

قال الله عزّوجلّ ؛ يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي، هذا محمّد وأنا الحميد المحمود في أفعالي، شققتُ اسماً من اسمي، وهذا عليّ وأنا العليّ العظيم، شققتُ له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي عمّا يعيرهم ويشينهم، وشققتُ لها اسماً من أسمائي، وهذا الحسن والحسين وأنا المحسن المجمل، شققتُ اسمهما من اسمي، هؤلاء خيار خلقي وأكرم بريتي، بهم آخذ وبهم أُعطي

٣ ـ طه : ١٢١

٥٧

تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) (١) وأشار لهما إلی شجرة الحنطة ولم يقل لهما ولا تأكلا من هذه الشجرة ولا ممّا كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة وإنّما أكلا من غيرها لمّا أن وسوس الشيطان إليهما، ثمّ قال: وكان ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار، وإنّما كان من الصغار الموهوبية التي تجوز علی الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلمّا اجتباه الله وجعله نبيّاً وكان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال: قال الله :( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) (٢) وقال :( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا (٣) ) (٤)

________________________

١ ـ البقرة : ٣٥

٢ ـ طه : ١٢١ و ١٢٢

٣ ـ آل عمران : ٣٣

٤ ـ أخرج هذه الرواية الشيخ الجليل الصدوق في كتابه عيون أخبار الرضا ج ١، ص ١٧٤ الباب الخامس عشر ط : الشريف الرضي، قم

ولكن الشارح رحمه‌الله ما أوردها بتمامها وإليك نصّها : عن عليّ بن محمّد بن الجهم، قال : حضرتُ مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسی عليهما‌السلام ، فقال له المأمون : يابن رسول الله أليس من قولك : إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال: بلی، قال: فما معنی قول الله عزّوجلّ : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالی قال لآدم : ( اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) وأشار لهما إلی شجرة الحنطة، ( فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا ممّا كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها، وإنّما أكلا من غيرها، لـمّا أن وسوس الشيطان إليهما وقال : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ الشَّجَرَةِ ) وإنّما ينهيكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها ( إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ )

٥٨

وروي أيضاً : أنّ الله خلق آدم حجّة في أرضه وخليفةً في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض ليتمّ مقادير أمر الله فلمّا أهبط إلی الأرض وجعله حجّةً وخليفةً عُصم بقوله عزّوجلّ :( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا ) (١) (٢) فتدبّر ولا تغفل

والتحقيق أنّ معاصي الأنبياء ليست من قبيل المعاصي المتعارفة المعروفة بل هي من قبيل ما أُشير إليه بقوله : (حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين)(٣) ، وقد فصّلنا هذا الإجمال وشرحنا هذا المقال في بعض رسائلنا الشريفة

ولم يكن آدم وحواء شاهداً قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، وكان ذلك من آدم قبل النبوّة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار، وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز علی الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمّا اجتباه الله وجعله نبيّاً كان معصوماً، لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عزّوجلّ :( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) وقال الله عزّوجلّ :( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )

١ ـ آل عمران : ٣٣

٢ ـ عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للصدوق ج ١، ص ١٧١، الباب الرابع عشر ط : قم، الشريف الرضي وهذه الرواية جواب لسؤالٍ وجّهه إليهعليه‌السلام عليّ بن محمّد بن الجهم بعدما سأله عن عصمة الأنبياءعليهم‌السلام ثمّ قال له : وأمّا قوله عزّوجلّ في آدم :( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) فأجابه الإمامعليه‌السلام بالرواية المذكورة في المتن

٣ ـ البحار : ج ٢٥، ص ٢٠٤، ح ١٦

٥٩

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ

وهو نوح بن لمك(١) الملقّب بشيخ الأنبياء، بنجيّ الله، لأنّ الله نجّاه من الطوفان بما أمره به من صنع السفينة كما قال:( فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ) (٢) وقصّته معروفة

وهو أحد أُولي العزم من الرُّسل، وهم علی المشهور خمسة : نوح، وإبراهيم، وموسیٰ، وعيسیٰ، ومحمّد، لأنّ كلّاً منهم أتیٰ بعزم وشريعة ناسخة لشريعة مَنْ تقدّمه(٣) ، وعن بعض أنّهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسیٰ ومحمّد

________________________

١ ـ هو نوح بن لامك بن متو شالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر (راجع قصص الأنبياء، لعبد الوهاب النجّار ص ٣٢)

٢ ـ المؤمنون : ٢٧

٣ ـ رویٰ شيخنا الصدوق في علل الشرائع ج ١، ص ١٤٩، ح ٢ باب ١٠١، ط : بيروت الأعلمي، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: «إنّما سمّي أولوا العزم أولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوحعليه‌السلام كان علی شريعته ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلی زمان إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وكلّ نبيّ كان في أيّام إبراهيم وبعده كان علی شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلی زمن موسیعليه‌السلام ، وكلّ نبي كان في زمن موسیعليه‌السلام وبعده كان علی شريعة موسیٰ ومنهاجه، وتابعاً لكتابه إلی أيّام عيسیٰعليه‌السلام وبعده كان علی منهاج عيسی وشريعته، وتابعاً لكتابه إلی زمن نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم، وهم أفضل الأنبياء والرسلعليهم‌السلام ، وشريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسخ إلی يوم القيامة ولا نبيّ بعده إلی يوم القيامة، فمن ادّعیٰ بعد نبيّنا أو أتیٰ بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ مَن سمع ذلك منه»

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128