موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام42%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 128

  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26998 / تحميل: 4776
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفي هذه الكلمات أعرب الإمام عليه‌السلام أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أنبأ عن الله تعالى بما لم ينبّئ عنه أحد قبله ، فقد أخبر عن قدرة الله تعالى اللاّمتناهية ، وعن علمه كذلك ، وعن صفاته الثبوتية والسلبية ، فهو رائد التوحيد ، وداعية الله الأكبر في الأرض ، واللازم أن يتّخذه إلى النجاة قائدا وهاديا ومرشدا. ويستمر الإمام في عرض وصيّته قائلا :

واعلم يا بنيّ! أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبدا ولم يزل.

أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية.

عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر. فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره ، وقلّة مقدرته ، وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته إلى ربّه ، في طلب طاعته ، والخشية من عقوبته ، والشّفقة من سخطه ؛ فإنّه لم يأمرك إلاّ بحسن ، ولم ينهك إلاّ عن قبيح ...

تحدّث الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع الذهبي من كلامه عن بعض قضايا التوحيد وهي :

١ ـ نفي الشريك عن الله تعالى في خلقه للأكوان ، وإحاطته التامّة بجميع شئون الموجودات ، ولو كان له تعالى شريك لأتت به رسله ورأينا آثار ملكه التي تدلّ على وجوده ، إنّه ليس هناك إلاّ إله واحد لا شريك له.

٢ ـ أنّ الله تعالى الخالق المبدع الذي لا أوّلية له ، ولا ابتداء لوجوده ، كما أنّه الآخر بلا نهاية له ، أمّا تفصيل هذه البحوث والاستدلال عليها فقد عرضت لها كتب الكلام ..

٣ ـ أنّ الخالق العظيم أعظم من أن تحيط بمعرفته القلوب والأبصار التي هي

٢١

محدودة المدارك ..

كما تحدّث الإمام في آخر المقطع عن الأوامر والنواهي التي صدرت من الشارع ، فقد ذهبت العدلية من الإمامية والمعتزلة إلى أنّ الأمر من الشارع لم يتعلّق إلاّ بشيء حسن ، فيه مصلحة تعود على العباد ، ولم ينه عن شيء إلاّ وهو قبيح وفيه مفسدة كامنة تعود بالضرر على الناس ..

ثمّ يستمر الإمام عليه‌السلام في وصيّته الخالدة قائلا :

يا بنيّ! إنّي قد أنبأتك عن الدّنيا وحالها ، وزوالها وانتقالها ، وأنبأتك عن الآخرة وما أعدّ لأهلها فيها ، وضربت لك فيهما الأمثال ، لتعتبر بها ، وتحذو عليها. إنّما مثل من خبر الدّنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب ، فأمّوا منزلا خصيبا وجنابا مريعا ، فاحتملوا وعثاء الطّريق ، وفراق الصّديق ، وخشونة السّفر ، وجشوبة المطعم ، ليأتوا سعة دارهم ، ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشيء من ذلك ألما ، ولا يرون نفقة فيه مغرما. ولا شيء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم ، وأدناهم من محلّتهم.

ومثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب ، فنبا بهم إلى منزل جديب ، فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه ، إلى ما يهجمون عليه ، ويصيرون إليه ...

تحدّث الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع عن فناء الدنيا وزوالها ، وأنّ الدار الآخرة هي دار الخلود والبقاء ، وحذّر عليه‌السلام من حبّ الدنيا والغرور بها ، وضرب لذلك بعض الأمثال الهادفة إلى الاستقامة ، ونبذ التهالك في حبّ الدنيا التي ليس وراءها

٢٢

إلاّ السراب. ويستمرّ الإمام عليه‌السلام في وصيّته قائلا :

يا بنيّ! اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك.

واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصّواب ، وآفة الألباب. فاسع في كدحك ، ولا تكن خازنا لغيرك ، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك ...

وضع الإمام المربّي عليه‌السلام في هذه الفقرات الذهبية آداب السلوك ، ومحاسن الأخلاق التي يسمو بها الإنسان ، فقد حفلت بما يلي :

١ ـ أن يجعل الإنسان نفسه ميزانا فيما بينه وبين غيره ، فيحبّ له ما يحبّ لنفسه ، ويكره له ما يكره لها ، ومن الطبيعي أنّ هذه الظاهرة الفذّة إذا سادت في المجتمع فإنّه يبلغ القمّة في كماله وآدابه.

٢ ـ التحذير من ظلم الغير ، فكما أنّ الإنسان يشجب من يعتدي عليه كذلك عليه أن يحمل هذا الشعور مع الغير.

٣ ـ على الإنسان أن يحسن للغير كما يحبّ أن يحسن إليه.

٤ ـ أن يستقبح الأعمال السيّئة التي تصدر منه كما يستقبح صدورها من الغير كما عليه أن يرضى من الناس ما يرضاه لنفسه.

٥ ـ أنّه عليه‌السلام نهى عن القول بغير علم ؛ فإنّه يؤدّي إلى المضاعفات السيّئة

٢٣

للشخص ولغيره.

٦ ـ حذّر الإمام من إعجاب الإنسان بنفسه ، فإنّه من مساوئ الرذائل التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق.

٧ ـ أنّه عليه‌السلام نهى من الافراط في جمع الأموال التي تجرّ الويل والعطب ، فإنّ من يبتلى بذلك يكون خازنا لغيره وذلك إذا فارقته الحياة ، خصوصا إذا لم يؤدّ الإنسان حقوق الله منها ، فإن الوزر يكون عليه والمهنأ بها لغيره ويأخذ الإمام عليه‌السلام في وصيّته قائلا :

واعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة ، ومشقّة شديدة ، وأنّه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد ، وقدّر بلاغك من الزّاد ، مع خفّة الظّهر ، فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك ، فيكون ثقل ذلك وبالا عليك ، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة ، فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إيّاه ، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه ، فلعلّك تطلبه فلا تجده. واغتنم من استقرضك في حال غناك ، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك ...

إنّ الإنسان إذا فكّر عن وعي لوجد أنّ الحياة الدنيا التي يعيشها إنّما هي لحظات ، ولا بدّ أن يغادرها ويرحل عنها ، وإنّ أمامه طريقا شائكا ذا مسافة بعيدة يحتاج إلى وفرة من الزاد ليوصله إلى مأمنه ، وهو العمل الصالح الذي ينجيه من عذاب الله تعالى ، هذا بعض ما حفلت به هذه الكلمات ، ولنقرأ بندا آخر من هذه الوصية. قال عليه‌السلام :

واعلم أنّ أمامك عقبة كئودا ، المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل ،

٢٤

والمبطئ عليها أقبح حالا من المسرع ، وأنّ مهبطك بها لا محالة إمّا على جنّة أو على نار ، فارتد لنفسك (١) قبل نزولك ، ووطّئ المنزل قبل حلولك ، « فليس بعد الموت مستعتب » ، ولا إلى الدّنيا منصرف ...

إنّ الإنسان أمامه عقبة كئود تحفّ بها المخاطر والأهوال والشدائد فعليه أن ينقذ نفسه فلا يقترف ما يبعده عن الله تعالى ، وعليه أن يمهّد الطريق لرضاه. ويأخذ الإمام في وصيّته قائلا :

واعلم أنّ الّذي بيده خزائن السّماوات والأرض قد أذن لك في الدّعاء ، وتكفّل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، ولم يمنعك إن أسأت من التّوبة ، ولم يعاجلك بالنّقمة ، ولم يعيّرك بالإنابة ، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى ، ولم يشدّد عليك في قبول الإنابة ، ولم يناقشك بالجريمة ولم يؤيسك من الرّحمة ، بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة ، وحسب سيّئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشرا ، وفتح لك باب المتاب ، وباب الاستعتاب ؛ فإذا ناديته سمع نداك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته على أمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره ، من زيادة الأعمار ، وصحّة الأبدان ، وسعة الأرزاق. ثمّ جعل في يديك

__________________

(١) فارتد لنفسك : أي ابعث لك رائدا من طيّبات الأعمال.

٢٥

مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنّطنّك إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة على قدر النّيّة.

وربّما أخّرت عنك الإجابة ، ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل ، وأجزل لعطاء الآمل. وربّما سألت الشّيء فلا تؤتاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفى عنك وباله ؛ فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له ...

حوى هذا المقطع بعض الامور البالغة الأهمّية وهي :

١ ـ أنّ الله تعالى قد أذن لعباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة.

٢ ـ أنّ الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده حجابا ، فقد فتح أبوابه للسائلين تفضّلا منه ورحمة.

٣ ـ أنّ الله تعالى قد تفضّل وتكرّم على عباده ففتح لهم أبواب التوبة إذا شذّوا في سلوكهم واقترفوا ما لا يرضيه ولم يعجّل لهم بالعقوبة ، ولم يفضحهم بين العباد.

٤ ـ وكان من لطف الله تعالى على عباده بأن جعل من يرتكب سيّئة تسجّل له سيّئة واحدة ، ومن يفعل حسنة تسجّل له عشر حسنات تشجيعا على عمل الخيرات والمبرّات.

٥ ـ أنّ من ألطاف الله تعالى على عباده أن جعل بأيديهم مفاتيح خزائنه ، وهو الدعاء ، فإنّه من فيوضاته تعالى على العباد ، والدعاء ربّما يجاب بالوقت ، وربّما يؤخّر لمصلحة تعود على العبد يجهلها ، وقد عرضنا إلى تفصيل ذلك في بعض أجزاء هذه الموسوعة. ويستمرّ الإمام عليه‌السلام في وصيّته قائلا :

٢٦

واعلم يا بنيّ! أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ؛ وأنّك في منزل قلعة ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ، وأنّك طريد الموت الّذي لا ينجو منه هاربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بدّ أنّه مدركه ، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيّئة ، قد كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة ، فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك ...

انّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا ، وللموت لا للبقاء ، وأنّ الموت يلاحقه حتى ينتزعه من الدنيا ، وعلى الإنسان الواعي أن يبادر للتوبة عمّا صدر منه من المعاصي قبل فوات الأوان منه ثمّ قال الإمام عليه‌السلام :

يا بنيّ! أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجم عليه ، وتفضي بعد الموت إليه ، حتّى يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك.

وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدّنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبّأك الله عنها ، ونعت هي لك عن نفسها ، وتكشّفت لك عن مساويها ، فإنّما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية يهرّ بعضها على بعض ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها.

نعم معقّلة ، وأخرى مهملة ، قد أضلّت عقولها ، وركبت مجهولها.

سروح عاهة (١) بواد وعث ، ليس لها راع يقيمها ، ولا مسيم يسيمها (٢) .

__________________

(١) السروح العاهة : هي الإبل السائبة التي ترعى الآفات.

(٢) يسيمها : أي يسرحها إلى المرعى.

٢٧

سلكت بهم الدّنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى ، فتاهوا في حيرتها ، وغرقوا في نعمتها ، واتّخذوها ربّا ، فلعبت بهم ولعبوا بها ، ونسوا ما وراءها.

رويدا يسفر الظّلام ، كأن قد وردت الأظعان ؛ يوشك من أسرع أن يلحق!

واعلم يا بنيّ أنّ من كانت مطيّته اللّيل والنّهار ، فإنّه يسار به وإن كان واقفا ، ويقطع المسافة وإن كان مقيما وادعا ...

تحدّث الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع عن الاكثار لذكر الموت والتبصّر بما بعده فإنّه يصرف الإنسان من فتن الدنيا وبوائقها ويهدي إلى الطريق المستقيم ، كما حذّر عليه‌السلام من الافتتان بما يراه الإنسان من تكالب أهل الدنيا وتصارعهم على الحصول على غنائمها فإنهم الكلاب العاوية والسباع الضارية ، يأكل القوي منهم الضعيف ، ويقهر الكبير الصغير ، فهم كالأنعام بل أضلّ سبيلا. هذا بعض ما احتوت عليه هذه الكلمات ، ويأخذ الإمام في عرض وصاياه قائلا :

وأعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنّك في سبيل من كان قبلك. فخفّض في الطّلب ، وأجمل في المكتسب ، فإنّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب (١) ؛ فليس كلّ طالب بمرزوق ، ولا كلّ مجمل بمحروم.

وأكرم نفسك عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرّغائب ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا.

ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّا. وما خير خير لا ينال

__________________

(١) الحرب : سلب المال.

٢٨

إلاّ بشرّ ، ويسر لا ينال إلاّ بعسر؟! ...

وهذه اللوحة من كلام الإمام عليه‌السلام من ذخائر الآداب الإسلامية ، وقد حفلت بما يلي :

١ ـ الإجمال في طلب الرزق ، وأنّ ليس من الفكر التهالك على طلب الرزق ، فإنّه مكتوب للإنسان ، فليس الطالب بمرزوق ولا المجمل بمحروم.

٢ ـ صيانة النفس عن كلّ دنيّة ومنقصة ، فإنّ كرامتها أغلى وأثمن من كلّ شيء.

٣ ـ أن لا يكون الإنسان عبدا لغيره ، فقد جعله الله تعالى حرّا ، والحرية من أثمن ما يملكه الإنسان في حياته ومن بنود هذه الوصية قوله عليه‌السلام :

وإيّاك أن توجف (١) بك مطايا الطّمع ، فتوردك مناهل الهلكة.

وإن استطعت ألاّ يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك ، وإنّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلّ منه ...

عرض الإمام عليه‌السلام إلى الكفّ عن الطمع الذي يورد الناس موارد الهلكة ، وعلى الإنسان أن يعتصم بالله تعالى الذي بيده جميع مجريات الأحداث ، فالتمسّك به من أثمن ما يظفر به الإنسان في حياته ومن مواد هذه الوصية قوله عليه‌السلام :

وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك.

وحفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء. وحفظ ما في يديك أحبّ إليّ من طلب ما في يدي غيرك. ومرارة اليأس خير من الطّلب إلى النّاس. والحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور. والمرء أحفظ لسرّه. وربّ ساع فيما

__________________

(١) توجف : أي تسرع.

٢٩

يضرّه! من أكثر أهجر. ومن تفكّر أبصر.

قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشّرّ تبن عنهم. بئس الطّعام الحرام! وظلم الضّعيف أفحش الظّلم. إذا كان الرّفق خرقا كان الخرق رفقا (١) . ربّما كان الدّواء داء ، والدّاء دواء. وربّما نصح غير النّاصح ، وغشّ المستنصح (٢) ...

عرض الإمام عليه‌السلام في هذه الكلمات إلى جواهر الحكمة وخلاصة العرفان والآداب ، فقد استهدفت بناء شخصيّة الإنسان على اصول الاستقامة والفضائل.

ويستمرّ الإمام المربّي في عرض وصاياه ونصائحه الذهبية قائلا :

وإيّاك والاتّكال على المنى فإنّها بضائع النّوكى ، والعقل حفظ التّجارب ، وخير ما جرّبت ما وعظك.

بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة. ليس كلّ طالب يصيب ، ولا كلّ غائب يؤوب. ومن الفساد إضاعة الزّاد ، ومفسدة المعاد. ولكلّ أمر عاقبة ، سوف ياتيك ما قدّر لك. التّاجر مخاطر ، وربّ يسير أنمى من كثير! لا خير في معين مهين ، ولا في صديق ظنين. ساهل الدّهر ما ذلّ لك قعوده (٣) ، ولا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه ...

أرأيتم هذه الحكم التي صاغها أمير البيان والتي هي منحوتة من صميم الواقع وخلاصة التجارب؟ ويقول عليه‌السلام :

__________________

(١) المراد أنّ المقام إذا كان يلزم العنف فيكون إبداله بالرفق عنفا ويكون العنف من الرفق.

(٢) المستنصح : من يطلب منه النصح.

(٣) القعود : ما يعقده الراعي من الإبل.

٣٠

وإيّاك أن تجمح بك مطيّة اللّجاج. احمل نفسك من أخيك عند صرمه (١) على الصّلة ، وعند صدوده على اللّطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدّنوّ ، وعند شدّته على اللّين ، وعند جرمه على العذر ، حتّى كأنّك له عبد ، وكأنّه ذو نعمة عليك ، وإيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله.

لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النّصيحة ، حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرّع الغيظ فإنّي لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، ولا ألذّ مغبّة (٢) .

ولن لمن غالظك ، فإنّه يوشك أن يلين لك ، وخذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظّفرين (٣) . وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما. ومن ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه ، ولا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك وبينه ، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه. ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان.

ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك ، فإنّه يسعى في مضرّته ونفعك ، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه ...

وضع الإمام الحكيم مناهج الاجتماع وقواعد الصداقة وما تستلزمه من

__________________

(١) الصرم : القطيعة.

(٢) المغبة : العاقبة.

(٣) الظفران : هنا ظفر الانتقام ، وظفر الإحسان ، والثاني أحلى.

٣١

الأخلاق والآداب ، وهذه النصائح من أثمن ما اثر عن علماء الأخلاق والاجتماع.

ولنستمع إلى بعض فصول هذه الوصية الخالدة ، يقول عليه‌السلام :

واعلم يا بنيّ! أنّ الرّزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك ، فإن أنت لم تأته أتاك. ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى! إنّما لك من دنياك ، ما أصلحت به مثواك ، وإن كنت جازعا على ما تفلّت من يديك ، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك. استدلّ على ما لم يكن بما قد كان ، فإنّ الأمور أشباه ؛ ولا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه ، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب ، والبهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب. اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر وحسن اليقين. من ترك القصد (١) جار والصّاحب مناسب (٢) ، والصّديق من صدق غيبه (٣) . والهوى شريك العمى ، وربّ بعيد أقرب من قريب ، وقريب أبعد من بعيد ، والغريب من لم يكن له حبيب.

من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه ، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له.

وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه. ومن لم يبالك (٤) فهو عدوّك. قد يكون اليأس إدراكا ، إذا كان الطّمع هلاكا. ليس كلّ عورة تظهر ، ولا كلّ فرصة تصاب ، وربّما أخطأ البصير قصده ، وأصاب الأعمى رشده.

__________________

(١) القصد : الاعتدال.

(٢) الصاحب مناسب : أي يراعى فيه ما يراعى في النسب.

(٣) المراد مراعاة حقّ الصديق في حال غيبته.

(٤) من لم يبالك : أي لم يهتمّ بأمرك.

٣٢

أخّر الشّرّ فإنّك إذا شئت تعجّلته ، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. من أمن الزّمان خانه ، ومن أعظمه أهانه. ليس كلّ من رمى أصاب. إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان. سل عن الرّفيق قبل الطّريق ، وعن الجار قبل الدّار ...

وحوت هذه البنود المشرقة آيات محكمات من الوصايا القيّمة ، والنصائح الرفيعة التي هي من ذخائر الحكمة ومن مناجم الآداب ، والتي لم يؤثر مثلها من أحد من عظماء الدنيا سوى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد وضعت المناهج الكاملة لحسن السلوك ، ولما يسمو به ويسعد به هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان ولنقرأ البند الأخير من هذه الوصية ، قال عليه‌السلام :

إيّاك أن تذكر من الكلام ما يكون مضحكا ، وإن حكيت ذلك عن غيرك.

وإيّاك ومشاورة النّساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن (١) ، وعزمهنّ إلى وهن.

واكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ ، فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ ، وإن استطعت ألاّ يعرفن غيرك فافعل. ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ، فإنّ المرأة ريحانة ، وليست بقهرمانة (٢) . ولا تعد بكرامتها نفسها ، ولا تطمعها في أن تشفع لغيرها. وإيّاك والتّغاير في غير موضع غيرة (٣) ، فإنّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم ، والبريئة إلى الرّيب.

واجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به ، فإنّه أحرى ألاّ يتواكلوا

__________________

(١) الأفن : ضعف الرأي.

(٢) القهرمان : الذي يحكم في الامور ويتصرّف فيها بأمره.

(٣) التغاير : إظهار الغيرة على المرأة بسوء الظنّ فيها من غير موجب.

٣٣

في خدمتك (١) . وأكرم عشيرتك ، فإنّهم جناحك الّذي به تطير ، وأصلك الّذي إليه تصير ، ويدك الّتي بها تصول.

استودع الله دينك ودنياك ، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة ، والدّنيا والآخرة ، والسّلام » (٢) .

وانتهت هذه الوصية وهي حافلة بالقيم الكريمة ، والمثل العليا ، والنصائح الرفيعة التي لم يؤثر نظيرها عن أي خليفة من خلفاء المسلمين ، وقد جاءت معبّرة عن مثل الإمام عليه‌السلام وطاقاته العلمية التي أضاءت سماء الإسلام.

وصيّة اخرى لولده الإمام الحسن عليه‌السلام

وأوصى الإمام عليه‌السلام ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام بهذه الوصية :

اوصيك أي بنيّ! بتقوى الله ، وإقام الصّلاة لوقتها ، وإيتاء الزّكاة عند محلّها ، وحسن الوضوء ؛ فإنّه لا صلاة إلاّ بطهور ، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة ، واوصيك بغفر الذّنب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرّحم ، والحلم عند الجهل ، والتّفقّه في الدّين ، والتّثبّت في الأمر ، والتّعاهد للقرآن ، وحسن الجوار ، والأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش كلّها في كلّ ما عصي الله فيه » (٣) .

__________________

(١) يتواكلوا : أي يتّكل بعضهم على بعض في خدمتك.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٣ : ٣٧ ـ ٥٧.

(٣) نهج السعادة ١ : ١٥١.

٣٤

وصيّته

للإمام الحسين عليه‌السلام

« يا بنيّ! اوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ فى الرّضى والغضب ، والقصد فى الغنى والفقر ، وبالعدل على الصّديق والعدوّ ، وبالعمل في النّشاط والكسل ، والرّضى من الله في الشّدّة والرّخاء.

وحفلت هذه الفقرات بجميع القيم الكريمة ، والمثل الإنسانية ، وقد غرسها في أعماق سيّد الشهداء وأبي الأحرار لتكون منهجا له في حياته ، ويأخذ الإمام في وصيّته قائلا :

واعلم أي بنيّ! إنّه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره.

ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته. ومن سلّ سيف البغي قتل به.

ومن حفر بئرا لأخيه وقع فيها. ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته. ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره. ومن كابد الامور عطب. ومن اقتحم الغمرات غرق.

ومن اعجب برأيه ضلّ. ومن استغنى بعقله زلّ. ومن تكبّر على النّاس ذلّ. ومن سفه عليهم شتم. ومن دخل مداخل السّوء اتّهم. ومن خالط الأنذال حقّر. ومن جالس العلماء وقّر. ومن مزح استخفّ به.

ومن اعتزل سلم. ومن ترك الشّهوات كان حرّا. ومن ترك الحسد كانت له المحبّة عند النّاس.

٣٥

أرأيتم هذه الوصايا القيّمة التي تسمو بالإنسان ، وتجعله في مصاف الملائكة! وحسبها عظمة أنّها وصايا إمام المتّقين وسيّد العارفين ويأخذ الإمام في وصيّته قائلا :

يا بنيّ! عزّ المؤمن غناه عن النّاس. والقناعة مال لا ينفد. ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير. ومن علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما ينفعه. العجب ممّن خاف العقاب ورجا الثّواب فلم يعمل. الذّكر نور.

والغفلة ظلمة. والجهالة ضلالة. والسّعيد من وعظ بغيره. والأدب خير ميراث. وحسن الخلق خير قرين.

يا بنيّ! رأس العلم الرّفق ، وآفته الخرق. ومن كنوز الإيمان الصّبر على المصائب.

والعفاف زينة الفقر ، والشّكر زينة الغنى. ومن أكثر من شيء عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطاؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قلّ ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النّار.

يا بنيّ! لا تؤيس مذنبا ، فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير ، وكم من مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صائر إلى النّار. من تحرّى الصّدق خفّت عليه الامور.

يا بنيّ! كثرة الزّيارة تورث الملالة.

يا بنيّ! الطّمأنينة قبل الخبرة ضدّ الحزم. وإعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله.

أرأيتم هذه الحكم التي تفجّرت من أمير البيان ، وهي تبني صرحا للأخلاق والآداب؟ وتؤسّس مناهج التربية التي ترفع مستوى الإنسان ، وتجعله خليفة الله

٣٦

في أرضه؟ ويستمر الإمام في وصيّته قائلا :

يا بنيّ! كم من نظرة جلبت حسرة! وكم من كلمة جلبت نعمة.

لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا كرم أعلى من التّقوى. ولا معقل أحرز من الورع. ولا شفيع أنجح من التّوبة. ولا لباس أجمل من العافية.

ولا مال أذهب للفاقة من الرّضى بالقوت. ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجّل الرّاحة وتبوّأ خفض الدّعة. الحرص مفتاح التّعب ومطيّة النّصب وداع إلى التّقحّم في الذّنوب والشّرّ جامع لمساوي العيوب وكفاك أدبا لنفسك ما كرهته من غيرك. لأخيك مثل الّذي عليك. ومن تورّط في الامور من غير نظر في الصّواب فقد تعرّض لمفاجأة النّوائب. التّدبير قبل العمل يؤمنك النّدم. من استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطأ. الصّبر جنّة من الفاقة. في خلاف النّفس رشدها. السّاعات تنتقص الأعمار. ويل للباغين من أحكم الحاكمين وعالم بضمير المضمرين. بئس الزّاد للمعاد العدوان على العباد. في كلّ جرعة شرقة ، وفي كلّ اكلة غصص. لا تنال نعمة إلاّ بفراق اخرى. ما أقرب الرّاحة من التّعب! والبؤس من النّعيم! والموت من الحياة! فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته وبخّ بخّ لعالم علم فكفّ ، وعمل فجدّ ، وخاف التباب (١) فأعدّ واستعدّ ، إن سئل أفصح ، وإن ترك سكت ، كلامه صواب وصمته من غير عيّ جواب.

والويل كلّ الويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان واستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره ، من لانت كلمته وجبت محبّته ، من لم يكن له حياء

__________________

(١) التباب : الهلاك والخسران ، ومنه قوله تعالى : ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ) .

٣٧

ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة ، لا تتمّ مروءة الرّجل حتّى لا يبالي أيّ ثوبيه لبس ، ولا أيّ طعاميه أكل ... » (١) .

وأنت ترى هذه الوصية قد تمثّلت بها جميع القيم التربوية والأخلاقية التي تكون منهجا لحياة فضلى تتوفّر فيها آداب السلوك ومحاسن الفضائل.

__________________

(١) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ١ : ٤٩ ـ ٥١ ، نقلا عن الإعجاز والإيجاز : ص ٣٣.

٣٨

وصاياه

لأبنائه

أوصى الإمام عليه‌السلام أبناءه بهذه الوصية التي رسم فيها سلوكهم مع المجتمع ، قال عليه‌السلام :

« يا بنيّ! عاشروا النّاس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم وإن متّم بكوا عليكم » (١) .

وهذه الوصية تدعو إلى تعامل الإنسان مع المجتمع معاملة كريمة وذلك بمواساة الناس في أحزانهم ومسرّاتهم ، والبرّ بضعيفهم وفقيرهم. ومن الطبيعي أنّ هذه السيرة توجب أن يحتلّ المتّصف بها قلوب الناس وعواطفهم.

وأوصى الإمام أبناءه بهذه الوصية حينما ضربه ابن ملجم عليه لعنة الله ، قال عليه‌السلام :

« عليكم بتقوى الله وطاعته ، ولا تأسوا على ما صرف عنكم منها ـ أي من الدنيا ـ وانهضوا إلى عبادة ربّكم ، وشمّروا عن ساق الجدّ ، ولا تثاقلوا إلى الأرض ، وتقرّوا بالخسّ ، وتبوءوا بالذّلّ.

اللهمّ اجمعنا وإيّاهم على الهدى ، وزهّدنا وإيّاهم في الدّنيا ،

__________________

(١) تذكرة الخواص ـ ابن الجوزي : ١٥٢.

٣٩

واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الاولى ... » (١) .

دعا الإمام في هذه الوصية أبناءه إلى عبادة الله تعالى وطاعته ، وأن يعيشوا في هذه الحياة عيشة كريمة عارية من الذلّ والعبودية.

__________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٢ : ٢٥١ ، نقلا عن ابن قتيبة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128