موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 128

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 128
المشاهدات: 25460
تحميل: 4118


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25460 / تحميل: 4118
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 6

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
العربية

حكى هذا المقطع تحريف اليهود والنصارى لما انزل على أنبيائهم فزادوا ونقصوا حتى تشوّهت شريعة موسى وعيسى ، واستحقّوا بذلك اللعنة والمقت من الله تعالى ، كما حكى هذا المقطع حسد ابن آدم لأخيه ، وقد ألقاه الحسد في شرّ عظيم فقتل أخاه فكان جزاؤه الخلود في نار جهنّم.

يقول عليه‌السلام :

يا كميل ، نحن والله الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون ..

يا كميل ، إنّ الله كريم حليم عظيم رحيم دلّنا على أخلاقه وأمرنا بالأخذ بها وحمل النّاس عليها ، فقد أدّيناها غير متخلّفين وأرسلناها غير منافقين ، وصدّقناها غير مكذّبين وقبلناها غير مرتابين ، لم يكن لنا والله! شياطين نوحي إليها ، وتوحي إلينا كما وصف الله تعالى قوما ذكرهم الله عزّ وجلّ بأسمائهم في كتابه ( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (1) .

عرض الإمام عليه‌السلام إلى أهل بيت النبوّة ومعدن الحكمة ، المتّقين المحسنين ، وأنّهم أدّوا رسالة الله تعالى على الوجه الأكمل ، لعباده فلم يقصروا ولم يتوانوا في أدائها. يقول عليه‌السلام :

يا كميل ، نحن الثّقل الأصغر ، والقرآن الثّقل الأكبر ، وقد أسمعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجمعهم فنادى الصّلاة جامعة يوم كذا وكذا ، وأيّام سبعة كذا وكذا فلم يتخلّف أحد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : معاشر النّاس! إنّي مؤدّ عن ربّي عزّ وجلّ ، ولا مخبر

__________________

(1) الأنعام : 112.

٦١

عن نفسي ، فمن صدّقني فقد صدّق الله ، ومن صدّق الله أثابه الجنان ، ومن كذّبني كذّب الله عزّ وجلّ ، ومن كذّب الله أعقبه النّيران ، ثمّ ناداني فصعدت فأقامني دونه ، ورأسي إلى صدره والحسن والحسين عن يمينه وشماله ، ثمّ قال : معاشر النّاس! أمرني جبرئيل عن الله عزّ وجلّ أنّه ربّي وربّكم أن اعلمكم أنّ القرآن هو الثّقل الأكبر ، وأنّ وصيّي هذا وابناي من خلفهم من أصلابهم أوصيائي ، وهم الثّقل الأصغر ، يشهد الثّقل الأكبر للثّقل الأصغر ، ويشهد الثّقل الأصغر للثّقل الأكبر ، كلّ واحد منهم ملازم لصاحبه غير مفارق له حتّى يردا إلى الله فيحكم بينهما وبين العباد.

يا كميل ، فإذا كنّا كذلك فعلام يتقدّمنا من تقدّم ، وتأخّر عنّا من تأخّر؟

يا كميل ، قد أبلغهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة ربّه ونصح لهم ولكن لا يحبّون النّاصحين.

يا كميل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي قولا والمهاجرون والأنصار متوافرون يوما بعد العصر يوم النّصف من شهر رمضان وهو قائم على قدميه فوق منبره ، عليّ منّي ، وابناي منه ، والطّيّبون منّي ، وأنا منهم ، وهم الطّيّبون بعد امّهم ، وهم سفينة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هوى ، الناجي في الجنّة ، والهاوي في لظى.

يا كميل ، الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

يا كميل ، علام يحسدوننا والله أنشأنا قبل أن يعرفونا ، فتراهم بحسدهم إيّانا عن ربّنا يزيلوننا؟

٦٢

وأضاف الإمام قائلا :

يا كميل ، نحن والله! الحقّ الّذي قال الله عزّ وجلّ : ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) .

عرض الإمام في هذا المقطع إلى فضل أهل البيت صلوات الله عليهم وسموّ مكانتهم عند الله تعالى ، وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّهم سفن النجاة وأمن العباد ...

وبهذا نطوي البحث عن معظم وصيّة الإمام عليه‌السلام لتلميذه العالم كميل بن زياد النخعي ، وهي من ذخائر الوصايا الإسلامية (1) ، وينتهي بنا الحديث عن بعض وصاياه التربوية التي عالجت الكثير من مشاكل المجتمع والفرد ووضعت الاسس التربوية السليمة لإصلاح الإنسان.

__________________

(1) بحار الأنوار 77 : 266 ـ 276.

٦٣
٦٤

مواعظه

٦٥
٦٦

أمّا مواعظ الإمام عليه‌السلام فإنّها تجلو القلوب ، وتهذّب البصائر ، وتسمو بالإنسان إلى أسمى مراتب الكمال ، وكان لها التأثير البالغ في نفوس العارفين والمتّقين ، كان منهم همّام ، وهو من خيار أصحاب الإمام في عبادته وتقواه ، فقد طلب من الإمام أن يصف له المتّقين والصالحين ، فتثاقل من إجابته لعلمه بما تتركه في دخائل نفسه من أثر قد يقضي عليه ، وكرّر همام الطلب فاستجاب له الإمام فوصفهم بأبلغ وصف وأروع بيان ، وحكى له واقع عبادتهم وطاعتهم لله تعالى ، فأثر خطاب الإمام في نفس همّام ، وشهق شهقة وتوفّي ، وهكذا كانت مواعظ الإمام بلسما لقلوب المتّقين والمنيبين ، ونحن نسجّل بعض مواعظه :

حال الإنسان في الدنيا

وصف الإمام عليه‌السلام وصفا دقيقا وملمّا لحياة الإنسان في الدنيا ، قال عليه‌السلام :

إنّما المرء في الدّنيا غرض تنتصل فيه المنايا ، ونهب للمصائب ، ومع كلّ جرعة شرق. وفي كلّ أكلة غصص. ولا ينال العبد فيها نعمة إلاّ بفراق اخرى ، ولا يستقبل يوما من عمره إلاّ بهدم آخر من أجله. فنحن أعوان الحتوف ، وأنفسنا تسوقنا إلى الفناء ؛ فمن أين نرجو البقاء وهذا اللّيل والنّهار لم يرفعا من شيء شرفا إلاّ أسرعا الكرّة في هدم ما بنيا ، وتفريق ما جمعا؟! فاطلبوا الخير وأهله ، واعلموا أنّ خيرا من الخير معطيه ،

٦٧

وشرّا من الشّرّ فاعله ... » (1) .

وفي هذه الكلمات المشرقة إيقاظ للنفوس التي فتنت بحبّ الدنيا وتحذير لها من غرورها وآثامها ، فإنّ الإنسان مهما بلغ من متع الدنيا من المال والجاه فإنّه غرض لنصول المنايا ، وهدف للمصائب والكوارث ، وأيامه معدودة فلا ينقضي عنه يوم إلاّ نقص من عمره.

اتّباع الهوى

حذّر الإمام عليه‌السلام من اتّباع الهوى وطول الأمل ، لقد جهد الإمام عليه‌السلام على إرشاد الناس ووعظهم وتحذيرهم من الوقوع في متاهات سحيقة من مآثم هذه الحياة.

قال عليه‌السلام : « إنّ أخوف ما أخاف عليكم : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ».

طوبى للزاهدين في الدنيا

روى نوف البكالي وهو من خيار أصحاب الإمام عليه‌السلام قال : رأيت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خرج في غلس الليل ناظرا إلى النجوم ، فقال له :

« يا نوف ، أراقد أنت أم رامق؟ ».

ـ بل رامق يا أمير المؤمنين :

« يا نوف طوبى للزّاهدين في الدّنيا ، الرّاغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن شعارا (2) ، والدّعاء دثارا ، ثمّ قرضوا (3) الدّنيا قرضا على منهاج المسيح

__________________

(1) ذيل الأمالي 2 : 54.

(2) الشعار : ما يلي البدن من الثياب.

(3) أي مزّقوا الدنيا على طريقة المسيح عليه‌السلام في العبادة.

٦٨

عليه‌السلام .

يا نوف ، إنّ الله تعالى أوحى إلى عيسى أن مر بني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأيد نقيّة ، فإنّي لا أستجيب لأحد منهم ، ولا لأحد من خلقي عنده مظلمة ... » (1) .

وحفلت هذه الوصية بالدعوة إلى الزهد في الدنيا ، وعدم الاندفاع إلى مباهجها ، فإنّها وما فيها من متع ورغبات إنّما هي ظلّ زائل لا قرار لها ، والخلود والبقاء إنّما هو في الدار الآخرة التي أعدّها الله للمتّقين والصالحين من عباده.

الزهد في الدنيا

وزهد الإمام في الدنيا ، وأقبل على الله تعالى بعواطفه ومشاعره ، وكان يدعو بهذا الدعاء لوعظ العامّة ، قال عليه‌السلام :

« اللهمّ إنّي أسألك سلوا عن الدّنيا ، ومقتا لها ، فإنّ خيرها زهيد ، وشرّها عتيد ، وصفوها يتكدّر ، وجديدها يخلق ، وما فات فيها لم يرجع ، وما نيل فيها فتنة إلاّ من أصابته منك عصمة ، وشملته منك رحمة ، فلا تجعلني ممّن رضي بها ، واطمأنّ إليها ، ووثق بها ، فإنّ من اطمأنّ إليها خانته ، ومن وثق بها غرّته » (2) .

وحكت هذه الكلمات مدى عزوف الإمام عليه‌السلام عن الدنيا ومقته لمباهجها ، فليس فيها متعة يصبو إليها إمام المتّقين وسيّد العارفين سوى إقامة الحقّ ، وتأسيس معالم العدل.

__________________

(1) حلية الأولياء 1 : 79.

(2) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ـ باب الدعاء : 274.

٦٩

موعظته لرجل شيّع جنازة وهو يضحك

وشيّع الإمام عليه‌السلام جنازة فرأى رجلا يضحك ، فساءه ذلك ، ووعظه بهذه الكلمات المشرقة ، قال عليه‌السلام :

« كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب ، وكأنّ الّذي نرى من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون! نبوّئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم ، كأنّا مخلّدون بعدهم ثمّ قد نسينا كلّ واعظ وواعظة ، ورمينا بكلّ جائحة (1) !! » (2) .

إنّ الموت أكبر واعظ للإنسان لو كان يملك فكره ، لكنّه لم يحفل به ، وكثيرون من الناس في أثناء مسيرتهم في تشييع الموتى يتعاطون أحاديث الدنيا ، ولا يتّعظون بالموت ، فكأنّه قد كتب على غيرهم.

مع رجل يذمّ الدنيا

سمع الإمام عليه‌السلام رجلا يذمّ الدنيا ، ولم يكن ذمّه عن واقع وإيمان ، فقال عليه‌السلام له :

« أيّها الذّامّ للدّنيا ، المغترّ بغرورها ، المخدوع بأباطيلها! أتغترّ بالدّنيا ثمّ تذمّها؟ أنت المتجرّم عليها ، أم هي المتجرّمة عليك (3) ؟ متى استهوتك ، أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى؟ كم علّلت بكفّيك ، وكم مرّضت بيديك! تبتغي لهم

__________________

(1) الجائحة : الآفة.

(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 4 : 28.

(3) التجرّم : الذنب.

٧٠

الشّفاء ، وتستوصف لهم الأطبّاء ، غداة لا يغني عنهم دواؤك ، ولا يجدي عليهم بكاؤك.

لم ينفع أحدهم إشفاقك ، ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنه بقوّتك! وقد مثّلت لك به الدّنيا نفسك (1) ، وبمصرعه مصرعك.

إنّ الدّنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله.

اكتسبوا فيها الرّحمة ، وربحوا فيها الجنّة. فمن ذا يذمّها وقد آذنت ببينها (2) ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ؛ فمثّلت لهم ببلائها البلاء ، وشوّقتهم بسرورها إلى السّرور؟! راحت بعافية ، وابتكرت بفجيعة ، ترغيبا وترهيبا ، وتخويفا وتحذيرا ، فذمّها رجال غداة النّدامة (3) ، وحمدها آخرون يوم القيامة.

ذكّرتهم الدّنيا فتذكّروا ، وحدّثتهم فصدّقوا ، ووعظتهم فاتّعظوا ... » (4) .

تحدّث الإمام عليه‌السلام عن الدنيا وأنّها دار زوال وفناء ، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتن بها ، والسعيد من خشي ربّه ، وعمل صالحا واهتدى فإنّها تكون دار تجارة وربح له.

__________________

(1) المعنى : أنّ الدنيا قد جعلت الهالك قبلك مثالا لنفسك.

(2) المراد : أنّ الدنيا قد أعلمت أهلها ببينها ، أي بزوالها وفنائها.

(3) يعني : أهل الدنيا ذمّوها عند ما أصبحوا نادمين على ما فرّطوا فيها.

(4) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 4 : 31 ـ 32.

٧١

ما بعد الموت

ووصف الإمام عليه‌السلام الحالة الراهنة للإنسان بعد موته ، قال عليه‌السلام :

« فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (1) ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب! ولقد بصّرتم إن أبصرتم ، وأسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن اهتديتم ، وبحقّ أقول لكم : لقد جاهرتكم العبر ، وزجرتم بما فيه مزدجر. وما يبلّغ عن الله بعد رسل السّماء إلاّ البشر » (2) .

حكت هذه الكلمات القوّة البالغة لحالة الإنسان بعد وفاته ، وما يعانيه من الكوارث والمصائب من جرّاء ما اقترفه في دار الدنيا من الآثام والذنوب.

إدبار الدنيا

ومن مواعظه الخالدة هذه الموعظة التي تحدّث فيها عن إدبار الدنيا ، والدعوة إلى العمل الصالح ، قال عليه‌السلام :

« أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنّ الآخرة قد أشرفت باطّلاع ، ألا وإنّ اليوم المضمار ، وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة (3) ، والغاية النّار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته! ألا عامل لنفسه قبل

__________________

(1) وهلتم : أي خفتم.

(2) نهج البلاغة 1 : 57.

(3) السبقة : هي الغاية التي يجب السباق إليها.

٧٢

يوم بؤسه! ألا وإنّكم في أيّام أمل من ورائه أجل ، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ، ولم يضرره أجله. ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمله ، وضرّه أجله. ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة ، ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها ، ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل ، ومن لا يستقم به الهدى ، يجرّ به الضّلال إلى الرّدى. ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزّاد. وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا ».

وعلّق الشريف الرضي على هذا المقطع من كلامه عليه‌السلام بقوله :

أقول : إنّه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ، ومن قوله عليه‌السلام : « ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة والغاية النّار » فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرّا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله عليه‌السلام : « والسّبقة الجنّة ، والغاية النّار » فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل : « السّبقة النّار » كما قال : « السّبقة الجنّة » ، لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار ، نعوذ بالله منها! فلم يجز أن يقول : « والسّبقة النّار » بل قال : « والغاية النّار » ؛ لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ، ومن يسره ذلك ، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا ، فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال الله تعالى : ( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ، فتأمل ذلك. فباطنه عجيب ، وغوره بعيد لطيف. وكذلك أكثر كلامه عليه‌السلام (1) .

__________________

(1) نهج البلاغة 1 : 71 ـ 73.

٧٣

تصرّم الدنيا

خطب الإمام عليه‌السلام أصحابه بهذه الخطبة البليغة وقد وعظهم بها ، وحذّرهم من غرور الدنيا وفتنها وشرورها ، قال عليه‌السلام :

« ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت ، وآذنت بوداع وتنكّر معروفها ، وأدبرت حذّاء (1) ، فهي تحفز بالفناء سكّانها ، وتحدر بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة (2) ، أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع (3) . فأزمعوا عباد الله الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد.

فو الله لو حننتم حنين الولّه العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتّل الرّهبان ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيّئة أحصتها كتبه ، وحفظتها رسله ، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه.

والله لو انماثت قلوبكم انمياثا (4) ، وسالت عيونكم من رغبة إليه أو

__________________

(1) الحذاء : السرعة.

(2) السملة : بقيّة الماء في الحوض.

(3) التمزّز : الامتصاص قليلا قليلا. الصديان : العطشان.

(4) انماثت : أي ذابت.

٧٤

رهبة منه دما ، ثمّ عمّرتم في الدّنيا ، ما الدّنيا باقية ، ما جزت أعمالكم عنكم ـ ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم ـ أنعمه عليكم العظام ، وهداه إيّاكم للإيمان » (1) .

إنّ مواعظ الإمام عليه‌السلام تنفذ إلى أعماق النفوس ودخائل القلوب لأنّها من إمام المتّقين وسيّد الواعظين فلم يفه بنصيحة أو موعظة إلاّ طبّقها على نفسه الشريفة قبل أن يذيعها إلى الناس.

المبادرة إلى الأعمال الصالحة

ومن مواعظه الجليلة هذه الخطبة الحافلة بالدعوة إلى تقوى الله تعالى ، والتزوّد من أعمال الخير ، قال عليه‌السلام :

« واتّقوا الله عباد الله ، وبادروا آجالكم بأعمالكم ، وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم ، وترحّلوا فقد جدّ بكم (2) ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم (3) ، وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا ، وعلموا أنّ الدّنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سدى وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النّار إلاّ الموت أن ينزل به. وإنّ غاية تنقصها اللّحظة ، وتهدمها السّاعة ، لجديرة بقصر المدّة (4) .

وإنّ غائبا يحدوه الجديدان : اللّيل والنّهار ، لحريّ بسرعة الأوبة.

__________________

(1) نهج البلاغة 1 : 101 ـ 102.

(2) فقد جدّ بكم : أي أسرع بكم إلى الرحيل عن هذه الدنيا.

(3) فقد أظلّكم : أي قرب منكم حتى كأنّ له ظلّ قد ألقاه عليكم.

(4) المراد : أنّ كلّ لحظة تمرّ بالإنسان فإنّها تنقص حياته وتقرّبه إلى الدار الآخرة.

٧٥

وإنّ قادما يقدم بالفوز أو الشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة. فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ، ما تحرزون به أنفسكم غدا ، فاتّقى عبد ربّه ، نصح نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته ، فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشّيطان موكّل به ، يزيّن له المعصية ليركبها ، ويمنّيه التّوبة ليسوّفها (1) ، إذا هجمت منيّته عليه ، أغفل ما يكون عنها.

فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة ، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشّقوة ،! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تبطره (2) نعمة ، ولا تقصّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة » (3) .

وأنت ترى في هذه الكلمات من صنوف الوعظ والإرشاد ما لا نجده في كلام أي واعظ ، فقد حفلت بالدعوة إلى الإسراع إلى طاعة الله ، والاجتناب عن معاصيه والتبصّر بما يواجهه الإنسان في قبره من السؤال عن أعماله في دار الدنيا ، فإن كانت حسنة لاقى مصيره المشرق ، وإن كانت سيّئة عادت عليه بالعذاب والشقاء.

صفة الدنيا

وصف الإمام عليه‌السلام الدنيا وصفا رائعا ودقيقا ، قال عليه‌السلام :

ما أصف من دار أوّلها عناء! وآخرها فناء! في حلالها حساب ،

__________________

(1) يسوّفها : أي يؤجّلها.

(2) تبطره : أي تطغيه.

(3) نهج البلاغة 1 : 109 ـ 111.

٧٦

وفي حرامها عقاب. من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته (1) ، ومن قعد عنها واتته ، ومن أبصر بها بصّرته ، ومن أبصر إليها أعمته.

علّق الشريف الرضي على هذه الكلمات البليغة بقوله :

أقول : وإذا تأمل المتأمل قوله عليه‌السلام : « ومن أبصر بها بصّرته » وجد تحته من المعنى العجيب ، والغرض البعيد ، ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره ، ولا سيّما إذا قرن إليه قوله : « ومن أبصر إليها أعمته » فإنه يجد الفرق بين « أبصر بها » و« أبصر إليها » واضحا نيرا ، وعجيبا باهرا! (2) .

وصفه للموت وما بعده

من خطبه البالغة الأهمّية في الوعظ والإرشاد هذه الخطبة العجيبة التي سمّيت بالغراء ، وفيها وصف رائع لحالة الإنسان وشئون حياته ، وما يعقب من صحّته وسقمه وموته ، وغير ذلك ممّا يجري عليه ، انظروا إلى هذه الخطبة ، قال عليه‌السلام :

« اوصيكم عباد الله بتقوى الله الّذي ضرب لكم الأمثال ، ووقّت لكم الآجال ، وألبسكم الرّياش ، وأرفع لكم المعاش (3) ، وأحاطكم بالإحصاء (4) ، وأرصد لكم الجزاء ، وآثركم بالنّعم السّوابغ ، والرّفد

__________________

(1) ومن ساعاها فاتته : المراد أنّه من جدّ في طلب الدنيا فاتته ، أي سبقته ، فإنّه كلّما نال منها شيئا فتحت له أبواب الأمل فيها.

(2) نهج البلاغة 1 : 130 ـ 131.

(3) أرفع لكم : أي أوسع لكم.

(4) أحاطكم بالإحصاء : أي أحصى بدقّة أعمالكم.

٧٧

الرّوافع (1) ، وأنذركم بالحجج البوالغ ، فأحصاكم عددا ، ووظّف لكم مددا ، في قرار خبرة ، ودار عبرة ، أنتم مختبرون فيها ، ومحاسبون عليها. فإنّ الدّنيا رتق (2) مشربها ، ردغ (3) مشرعها ، يونق (4) منظرها ، ويوبق مخبرها. غرور حائل ، وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل ، حتّى إذا أنس نافرها ، واطمأنّ ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنيّة (5) قائدة له إلى ضنك المضجع ، ووحشة المرجع ، ومعاينة المحلّ ، وثواب العمل.

وأضاف الإمام قائلا :

فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حواني الهرم؟ وأهل غضارة الصّحّة إلاّ نوازل السّقم؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء؟ مع قرب الزّيال (6) ، وأزوف الانتقال ، وعلز الفلق (7) ، وألم المضض ، وغصص الجرض (8) وتلفّت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء ، والأعزّة والقرناء! فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النّواحب (9) ، وقد غودر في محلّة الأموات

__________________

(1) الروافع : هي الامور الواسعة.

(2) الرتق : الكدر.

(3) الردغ : كثرة الطين.

(4) يونق : يعجب.

(5) أوهاق المنية : أي حبالها.

(6) الزيال : المفارقة.

(7) علز الفلق : شدّته وصرامته.

(8) الجرض : الريق.

(9) النواحب : النائحات.

٧٨

رهينا ، وفي ضيق المضجع وحيدا ، قد هتكت الهوامّ جلدته ، وأبلت النّواهك جدّته ، وعفت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه ، وصارت الأجساد شحبة بعد بضّتها ، والعظام نخرة بعد قوّتها ، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها موقنة بغيب أنبائها ، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سيّئ زللها! أو لستم أبناء القوم والآباء ، وإخوانهم والأقرباء؟ تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قدّتهم ، وتطئون جادّتهم؟! فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة في غير مضمارها! كأنّ المعنيّ سواها ، وكأنّ الرّشد في إحراز دنياها.

واعلموا أنّ مجازكم على الصّراط ومزالق دحضه ، وأهاويل زلله ، وثارات أهواله ؛ فاتّقوا الله عباد الله تقيّة ذي لبّ شغل التّفكّر قلبه ، وأنصب الخوف بدنه ، وأسهر التّهجّد غرار نومه ، وأظمأ الرّجاء هواجر يومه ، وظلف الزّهد شهواته ، وأوجف الذّكر بلسانه ، وقدّم الخوف لإبانه » (1) .

وحفلت هذه المواعظ بجميع ألوان النصح والإرشاد ليستقيم الإنسان في سلوكه ، ولا يندفع وراء التيارات العاطفية والشهوات النفسية ليكون بمأمن من عذاب الله وغضبه ، وفي آخر هذه الخطبة فصول مروعة من حياة الإنسان ، وما يعقبها من الفناء والرحيل عن هذه الدنيا.

__________________

(1) نهج البلاغة 1 : 133 ـ 141.

٧٩

الاتّعاظ بالعبر

ومن خطبة له يعظ فيها أصحابه جاء فيها :

« فاتّعظوا عباد الله بالعبر النّوافع ، وانتفعوا بالذّكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة ، وانقطعت منكم علائق الأمنيّة ، ودهمتكم مفظعات الأمور ، والسّياقة إلى الورد المورود ، فـ ( كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) (1) : سائق يسوقها إلى محشرها ؛ وشاهد يشهد عليها بعملها » (2) .

وفي هذه الكلمات دعوة إلى الاتّعاظ بالعبر وما أكثرها ، وهي لو تبصّرها الإنسان ووعاها لما اقترف الجرائم والموبقات وهام في ميادين الرذائل والآثام.

رفض الدنيا

ومن مواعظه هذه الخطبة التي حذّر فيها من التهالك على حبّ الدنيا التي ليست إلاّ سرابا يحسبه الضمآن ماء ، فما هي إلاّ لحظات من عمر الزمن حتى يتركها الإنسان ويذهب إلى قبره ، قال عليه‌السلام :

« عباد الله ، أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم وإن لم تحبّوا تركها ، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبّون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه (3) ، وأمّوا علما (4)

__________________

(1) ق : 21.

(2) نهج البلاغة 1 : 148.

(3) السفر ـ بالفتح ـ : جماعة المسافرين.

(4) أمّوا : أي قصدوا.

٨٠