موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام42%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 128

  • البداية
  • السابق
  • 128 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26982 / تحميل: 4772
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٦

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
العربية

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة : ١٨٠

( وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) لقمان :١٣

( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) آل عمران : ١٦٤

٣
٤

تقديم

١

عنى الإسلام فيما قنّنه من أرصدة تربوية بتهذيب الإنسان في سلوكه وسائر صفاته وغرائزه النفسية ؛ ليكون مواطنا صالحا ينشد العدل ويقيم الحقّ ويسعى للاصلاح الشامل لنفسه وامّته ووطنه.

إنّ نظرة الإسلام للإنسان كانت شمولية وقائمة على الاستيعاب الكامل لشؤونه النفسية ومكوّناته الذاتية ، فعالجها بصورة موضوعية ودقيقة ، فوضع لها المناهج الكاملة التي تحسم عنه جميع ألوان الانحراف والسلوك في المنعطفات التي تهوي به إلى مستوى سحيق ما له من قرار.

٢

وتمتدّ مناهج التربية الإسلامية الخلاّقة إلى أعماق النفس ودخائل الذات فتطهّرها من الأنانية والكبرياء والدجل والنفاق وغيرها من الصفات الآثمة ، كما تعقد الصلة الوثيقة بينها وبين الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، فتسمو بها إلى عالم النور ونكران

٥

الذات ، ويتميّز الإنسان بذلك على سائر الكائنات الحيّة ويكون خليفة الله تعالى في أرضه.

٣

من المؤكّد أنّ التربية الدينية الواعية القائمة على الاسس السليمة إذا سادت في الأرض وعمّت الامم والشعوب فستنعدم عن الكون جميع أفانين الظلم والجور وتسود العدالة الاجتماعية بجميع صورها ومناهجها وتتوفّر لابن آدم المجهود المكدود جميع الحقوق التي أعلنتها وأقرّتها هيئة الامم المتّحدة وغيرها من المحافل الدولية ، كحقّه في الحياة وحقّه في الحرية والعمل والمساواة وغيرها من البنود في حقوق الإنسان.

٤

أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو الدماغ المفكّر في الإنسانية وعملاقها العظيم الذي أحاط بدقائق الحياة وألمّ بطباع سائر الناس في جميع مراحل تكوينهم ، فوقف على ميولهم واتّجاهاتهم حتى صار كأحدهم ، وقد حكى ذلك بقوله :

« إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتّى عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ».

وقد وضع الإمام عليّ عليه‌السلام البرامج التربوية على وفق إحاطته الكاملة بما يسعدون وينعمون به.

٦

٥

وتتميّز المناهج التربوية التي وضع برامجها الإمام الملهم العظيم في وصاياه الخالدة لأبنائه وأعلام أصحابه بأنّها لم تستهدف ـ فقط ـ قضايا النفس وصفاتها وتجريدها من النزعات الشريرة وإقامتها على اسس سليمة من الوعي والإدراك الكامل الذي يحجبها من الالتواء في سلوكها والانحراف في مسيرتها ، وإنّما كانت شاملة لجميع مناحي حياة الإنسان والتي منها سلوكه مع أخيه الإنسان ، وأن تكون الروابط بينهما وثيقة للغاية ، فيحبّ له كما يحبّ لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، ومن المؤكّد أنّه إذا تحقّقت هذه الظاهرة على مسرح الحياة فإنّه يتكوّن منها المجتمع السليم الذي يريده الله تعالى ، وسعى النبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله لإقامته وتكوينه لتكون امّته رائدة الشعوب نحو الحياة الفضلى التي يجد فيها الإنسان جميع ما يصبو إليه من العزّة والكرامة والأمن والرخاء والسلامة من الفقر والجهل وغيرها من صور التخلّف والانحطاط.

ولم يقتصر عطاء الإمام عليه‌السلام الفكري على قضايا التربية وإنّما كان شاملا لجميع قضايا الكون والحياة ، فقد كانت له آراؤه الخالدة والتي هي من مناجم الأدب العربي ومن ذخائر الفكر الإسلامي ، وقد حفلت بها ـ باعتزاز ـ موسوعات التاريخ ومصادر الأدب العربي ، ونحن نقدّم إلى القرّاء نماذج منها في إطار هذا الكتاب مع التعليق والشرح الموجز لها. وبهذا نطوي الحديث عن هذا التقديم.

والله وليّ التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القرشي

١٥ / شهر رمضان المبارك / ١٤١٩ هـ

٧
٨

وصاياه الخالدة

٩
١٠

أمّا وصايا الإمام عليه‌السلام لأبنائه وبعض أعلام أصحابه فإنّها من اصول التربية الإسلامية الرائدة التي وضعت الاسس الرفيعة لسموّ النفس وتهذيبها وكمالها وصرفها عن مآثم هذه الحياة التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق.

إنّ وصايا الإمام عليه‌السلام دنيا من الفضائل والكمال والآداب ، ومن حقّها أن تكون منهجا للتربية العامّة في الجامعات والمعاهد في البلاد الإسلامية ليغذّى بها النشء الذي يجهل كلّ شيء عن مقومات التربية الإسلامية ، وما تنشده من القيم والمبادئ التي تصنع الحضارة الإنسانية بأروع صورها وأبدع معانيها ، وهي من أهمّ ما عنى بها الإمام عليه‌السلام فيما قنّنه في ميادين الإصلاح الاجتماعي من الاسس التربوية القائمة على كلّ ما يصلح الإنسان ، ويهديه للتي هي أقوم ونعرض لبعض وصايا هذا الإمام الملهم العظيم ، وفيما أحسب أنّ أهمّ وصاياه هي الوصية التالية :

للإمام الحسن عليه‌السلام

هذه الوصية الذهبية الخالدة قد أتحف بها الإمام عليه‌السلام ولده الزكي الإمام الحسن عليه‌السلام سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته ، وهي تحمل أشعة من نور النبوّة والإمامة ترشد الضالّ ، وتهدي الحائر ، وتضيء العقول ، وتهذّب النفوس ، ونظرا لأهمّيتها البالغة فقد ترجمت إلى غير واحدة من اللغات ، وشرحت بعدّة شروح كان منها :

١١

١ ـ منثور الأدب الإلهي ، وهو لمحمّد صالح بن محمّد الروغني القزويني ، وهو أحد شرّاح نهج البلاغة.

٢ ـ الأخلاق المرضية في شرح الوصية.

٣ ـ هداية الامم (١) .

٤ ـ نظمها بالفارسية السيد حسن بن ابراهيم القزويني ، وهو من مشايخ السيّد بحر العلوم ، وقد طبعت في استانبول.

٥ ـ الاسس التربوية في شرح الوصية للعلاّمة الخطيب السيّد حسن القبانجي (٢) .

ونعرض ـ فيما يلي ـ النصّ الكامل لهذه الوصية التي كتبها الإمام بـ « حاضرين » التي هي بلدة في نواحي صفّين ، وذلك في حال انصرافه منها ، قال عليه‌السلام :

« من الوالد الفان ، المقرّ للزّمان (٣) ، المدبر العمر ، المستسلم للدّهر ، الذّام للدّنيا ، السّاكن مساكن الموتى ، والظّاعن عنها غدا ؛ إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك (٤) ، السّالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيّام ، ورمية المصائب ، وعبد الدّنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونصب الآفات ، وصريع الشّهوات ، وخليفة الأموات.

أمّا بعد ، فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي ، وجموح (٥) الدّهر

__________________

(١) الذريعة ١٣ : ٢٢٥.

(٢) مصادر نهج البلاغة وأسانيده ـ قسم الرسائل والعهود : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٣) أي المعترف بشدائده.

(٤) أي يؤمّل البقاء والخلود في الدنيا ، وهذا لا يدركه أحد.

(٥) الجموح : الاستعصاء.

١٢

عليّ ، وإقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما ورائي ، غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي ، فصدفني رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرّح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب. ووجدتك بعضي ، بل وجدتك كلّي ، حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني ، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت ...

حكى هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام الامور التالية :

أوّلا : عرض الإمام عليه‌السلام إلى فنائه ، وإدبار عمره ؛ لأنّه في سنّ الشيخوخة ، ولا بدّ من مغادرته لدار الفناء إلى دار الخلود والبقاء.

ثانيا : أنّه حكى رغبات المولود في الدنيا ، وما يواجهه من الخطوب ، والتي منها :

١ ـ أنّه مستهدف للمصائب والمحن والخطوب.

٢ ـ أنّه عبد الدنيا ، وتاجر الغرور.

٣ ـ أنّه أسير الموت لا يدري متى سيرحل عن هذه الدنيا.

٤ ـ أنّ الإنسان في هذه الحياة تحالفه الهموم والأحزان.

٥ ـ أنّه خليفة الأموات ، فقد خلف من كان قبله ولا بدّ أن يخلفه من يأتي بعده.

ثالثا : أنّ الإمام عليه‌السلام قد أيقن بإدبار الدنيا عنه ، وإقبال الآخرة عليه ، الأمر الذي صرفه عن كلّ شيء من امور الدنيا ، وجعله يتصرّف في جميع اموره بجدّ لا لعب فيه.

١٣

رابعا : أعرب الإمام عن مدى حبّه وودّه لولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، فإنّه بعضه ، بل كلّه ، فهو بمنزلة نفسه ، فاهتمّ بأمره كما اهتمّ باموره ، فلذا وجّه إليه النصائح التالية :

قال الإمام عليه‌السلام :

فإنّي أوصيك بتقوى الله ـ أي بنيّ ـ ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله. وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به! ...

حكت هذه الكلمات الذهبية ما يقرّب الإنسان إلى الله تعالى زلفى ، ومن أوثقها تقوى الله تعالى ولزوم أمره ، وعمارة القلب بذكره ، والاعتصام بحبله ، فإنّها من موجبات القرب إلى الله تعالى ، والفوز برضاه.

ويستمر الإمام المربّي العظيم في وصيّته لولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام :

أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّره فجائع الدّنيا ، وحذّره صولة الدّهر وفحش تقلّب اللّيالي والأيّام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا! فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم. فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ؛ ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلّف.

وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال.

١٤

وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم.

وخض الغمرات للحقّ حيث كان ، وتفقّه في الدّين ، وعوّد نفسك التّصبّر على المكروه ، ونعم الخلق التّصبّر في الحقّ! وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك ، فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ، ومانع عزيز.

وأخلص في المسألة لربّك ، فإنّ بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهّم وصيّتي ، ولا تذهبنّ عنك صفحا ، فإنّ خير القول ما نفع. واعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه ...

وحوى هذا المقطع امورا بالغة الأهمّية في تربية النفس وغيرها من وسائل الاصلاح وهي :

أوّلا ـ وسائل إصلاح النفس :

وأدلى الإمام عليه‌السلام بالوسائل التي يسيطر بها الإنسان على نفسه ، ويكبح جماحها ، وهي :

١ ـ الموعظة : لا شكّ أنّ المواعظ توجب صفاء النفس ، وهي من أهمّ الأدوية لعلاجها.

٢ ـ الزهد : إنّ الزهد في رغائب الحياة والإعراض عن ملاذّها وشهواتها يطهّر النفس من مآثم هذه الحياة.

٣ ـ الحكمة : لا شبهة أنّ الحكمة والتبصّر بها تنوّر العقول وتصفّي النفوس.

١٥

٤ ـ ذكر الموت : أمّا ذكر الموت فإنّه يذلّل النفس ، ويصدّها عن اقتراف المحارم والآثام ، ويهديها إلى الصراط المستقيم.

٥ ـ التبصّر في فجائع الدنيا : إنّ النظر والتبصّر في فجائع الدنيا وخطوبها وآلامها من أهمّ وسائل التربية الروحية التي تدعو إلى تهذيب النفس.

٦ ـ أخبار الماضين : دعا الإمام إلى النظر في تاريخ الامم الماضية وغيرها ، فإنّ الإنسان يجدهم قد انتقلوا عن هذه الدنيا ، وحلّوا ديار الغربة ، وأنّ كلّ إنسان على هذا الكوكب لا بدّ أن يلاقي نفس هذا المصير هذه بعض الوسائل التي تسمو بالنفس قد ذكرها الإمام العظيم عليه‌السلام .

ثانيا ـ فضائل وآداب :

وحوى هذا المقطع اصول الفضائل والآداب التي يسمو بها الإنسان ، والتي منها :

١ ـ الاجتناب عن القول فيما لا يعرفه الإنسان ، فإنّ الخوض فيه منقصة وجهل ؛ لأنّه قد يجيب بما خالف الواقع.

٢ ـ عدم التسرّع في الخطاب الذي لا يكلّف فيه ، فإنّ التسرّع في ذلك من ألوان الفضول.

٣ ـ ترك السلوك في طريق يخاف ضلالته ؛ لأنّه قد يقع في الضلالة التي تجرّ إلى الندم.

٤ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ فيهما صلاح المجتمع.

٥ ـ الجهاد في سبيل الله.

٦ ـ خوض الغمرات والمصاعب لإحقاق الحقّ التفقّه في الدين ، ومعرفة أحكام الله تعالى.

١٦

٧ ـ الصبر على المكروه.

٨ ـ الالتجاء إلى الله تعالى في جميع الامور والأحوال ، فإنّ بيده العطاء والحرمان.

٩ ـ الاستخارة وهي إحالة الرأي في جميع الامور إلى الله تعالى ليكون الإنسان على بصيرة من أمره ويستمرّ الإمام الحكيم في وصيّته قائلا :

أي بنيّ! إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا ، ورأيتني أزداد وهنا ، بادرت بوصيّتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي ، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا ، فتكون كالصّعب النّفور.

وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته.

فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك ، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطّلب ، وعوفيت من علاج التّجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه ، واستبان لك ما ربّما أظلم علينا منه ...

أعرب الإمام العظيم عليه‌السلام في حديثه أنّه قد بلغ من السنّ الذي أشرف به على عتبة الشيخوخة ، وأنّه قد ازداد وهنا وضعفا في جسمه ، فلذا بادر بتسجيل وصيّته إلى ولده الإمام الحسن عليه‌السلام ، هذه الوصية الممتلئة بالحكم والتجارب والنصائح التي أحاطت بجميع شئون الحياة ووضعت لها أسمى المناهج ..

لقد بادر الإمام بوصيّته إلى ولده وهو في شرخ الشباب قبل أن يجتاز هذا السنّ ، فربّاه بحكمه وآدابه ، وأفاض عليه مكرمات نفسه ليكون نسخة تحكيه

١٧

وتمثّله ، ويأخذ الإمام المربّي في وصيّته قائلا :

أي بنيّ! إنّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتّى عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله (١) ، وتوخّيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدّهر ، ذو نيّة سليمة ، ونفس صافية ، وأن أبتدئك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره. ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة ، ورجوت أن يوفّقك الله فيه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيّتي هذه ...

يقدّم الإمام عليه‌السلام لولده الزكي في وصاياه زبدة التجارب وخلاصة النصائح التي أخذت بها الامم السابقة ، وأنّه عليه‌السلام وإن لم يكن شاهدهم إلاّ أنّه نظر بعمق وشمول إلى تاريخهم وأحوالهم ، فوقف على أسباب سعادتهم وأسباب شقائهم ، وقدّم ذلك لولده.

وكان من أهمّ ما عنى به الإمام في هذا المقطع تعليم ولده لكتاب الله تعالى

__________________

(١) النخيل : المختار المصفى.

١٨

وتفسيره والأخذ بأحكامه ومعرفة حلاله وحرامه ..

ويستمرّ الإمام في وصيّته فيقول :

واعلم يا بنيّ! أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصّالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا ، والإمساك عمّا لم يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم ، لا بتورّط الشّبهات ، وعلق الخصومات. وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرّغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة. فإن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك فاجتمع ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا ، فانظر فيما فسّرت لك ، وإن لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك ، وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء (١) ، وتتورّط الظّلماء. وليس طالب الدّين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل ...

من بنود هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام ما يلي :

١ ـ الوصية بتقوى الله تعالى فإنّها سبب النجاة في الدنيا والآخرة.

٢ ـ الإتيان بما فرضه الله تعالى من الواجبات وترك المحرّمات.

٣ ـ الأخذ بسيرة الصالحين والمتّقين من السلف الصالح من أهل بيت النبوّة

__________________

(١) العشواء : الضعيف البصر.

١٩

ومعدن الرسالة.

٤ ـ الاستعانة بالله تعالى في جميع الامور وطلب التوفيق.

٥ ـ ترك كلّ شبهة تولج الإنسان في الشبهات وتسلّمه إلى الضلال ويأخذ الإمام عليه‌السلام في وصيّته قائلا :

فتفهّم يا بنيّ! وصيّتي ، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفني هو المعيد ، وأنّ المبتلي هو المعافي ، وأنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها الله عليه من النّعماء ، والابتلاء ، والجزاء في المعاد ، أو ما شاء ممّا لا تعلم ، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك ، فإنّك أوّل ما خلقت به جاهلا ثمّ علّمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر! ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلّ فيه بصرك ثمّ تبصره بعد ذلك! فاعتصم بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك ، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك ـ أي خوفك ...

أعرب الإمام عليه‌السلام في هذا المقطع أنّ جميع مجريات الأحداث وشئون الكون كلّها بيد الخالق العظيم ، فهو مالك الحياة ومالك الموت ، فعلى الإنسان أن يوكل اموره إليه ، ولا يلتجأ إلى غيره ، كما أعرب عليه‌السلام عن تقلّب الدنيا ، وأنّها لم تستقرّ على حال ، فكما تري الإنسان السعادة تريه التعب والعناء والشقاء ، كما وأنّ جزاء من يعمل خيرا فيها أو شرّا يلاقيه في معاده وفي يوم حشره ..

هذا بعض ما حواه المقطع ، ويأخذ الإمام في وصيّته الحافلة بالنصائح قائلا :

واعلم يا بنيّ! أنّ أحدا لم ينبئ عن الله سبحانه كما أنبأ عنه الرّسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فارض به رائدا ، وإلى النّجاة قائدا ، فإنّي لم آلك نصيحة. وإنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظري لك ...

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الجغرافيين العرب لم يتّفقوا على رأيٍ واحدٍ بصدده.

فالمقدسي المعروف بالبشاري يقول: (أمّا جبل اللكام، فإنّه أعمر جبال الشام، وأكبرها وأكثرها ثماراً، وهو اليوم بِيَد الأرمن، وطرسوس ورائه، وأنطاكية دونه)(1) .

أمّاالاصطخري فيذكر: (وكورة الشام إنّما هي من حدّ فلسطين، وحدّ الشام، وثغور الجزيرة جبل اللكام، وهو الفاصل بين الثغرين، وجبل اللكام داخل في بلد الروم، وينتهي إلى نحو مئتي فرسخ، ويظهر في بلاد الإسلام من مرعش والهارونية وعين زربة فيسمّى لكام، إلى أن يجاوز اللاذقية ثمّ تسمّى بهراء وتنوخ، إلى حمص ثمّ تسمّى جبل لبنان)(2) .

وياقوت الحموي يقول: (اللكام وهو الجبل المشرف على أنطاكية، وبلاد ابن ليون والمصيصة وطرسوس، وتلك الثغور)(3) .

وفي لبنان توجد النصيرية في شمال عكار(4) ، وفي وادي التيم(5) ، كما توجد في جبال الظنيين.

ويقولابن الوردي : (أحاطت عساكر الشام بجبال الظنيين المنيعة، وكانوا عصاة مارقين، وترجّلوا عن الخيل، وصعدوا في تلك الجبال من كل جانب، وقتلوا وأسّروا جميع مَن فيها من النصيرية)(6) .

ولم يحدّد ابن الوردي مكان وجود هذه الجبال، ونعتقد أنّه المقصود بجبال الظنيين هو جبل الضنية أو الظنية، الواقع إلى الشمال من بشري.

يقولأنطوان شكر الله حيدر: (وهذا الجبل يحمِل إلى هذا اليوم اسم الجماعة الشيعية التي استقرّت به، وهي الضنية أو الظنية على الأصحّ، وهو

____________________

(1) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.

(2) كتاب الأقاليم.

(3) معجم البلدان: الجزء5، ص22.

(4) أحد الآباء اليسوعيين: مختصر تاريخ سورية ولبنان.

(5) الدكتور محمد علي مكي: لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني.

(6) تتمة المختصر في أخبار البشر.

٤١

الاسم الذي أُطلق على عدد من الفِرق الباطنية، وبخاصة الإسماعيلية)(1) .

وبهذا المعنى كتبَ الشيخ طه الولي (وكان آل عمار على مذهب الشيعة الإمامية، وقد امتدّ سلطانهم حتى شملت - بالإضافة إلى طرابلس - مناطق عكار، والضنية، وبلاد جبيل، والبترون، وما تزال الجبال المطلّة على طرابلس من جهة الشرق تحمل حتى اليوم اسم (الضنية)، والضاد هنا حلّت مكان الظاء، وهذه الكلمة أُطلقت في الماضي على هذه الجبال ؛ لأنّ أهلَها كانوا يُعرفون آنذاك باسم الظنية، وهو الاسم الذي اشتهروا به ؛ لأنّهم كانوا على مذهب الشيعة، الذين يقولون بالظنّ والتأويل في تفسير أحكام الشريعة الإسلامية، الواردة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة)(2) .

وتوجد النصيرية أيضاً في العراق، في الشرطة، وهي كما يذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان: (كورة كبيرة من أعمال واسط، بينها وبين البصرة، لكنّها عن يمين المنحدر إلى البصرة).

كما توجد في بعض أجزاء شمال فلسطين.

أمّا في البلاد الأوروبية، فتوجد النصيرية في كلٍّ من: تركيا، واليونان، وبلغاريا، وألبانيا السفلى.

وبنتيجة الهجرة، توطّنت جماعات كثيرة منهم في أمريكا الجنوبية، وبشكلٍ خاص في الأرجنتين والبرازيل.

____________________

(1) مجلّة الحوادث: العدد 1143 تاريخ 29/9/1987.

(2) جريدة اللواء، العدد 3381، تاريخ 29/6/1980.

٤٢

عقائدُ النصيرية

ذهبت أقوال المؤرّخين حول عقائد النصيرية في كلّ اتجاه، واختلطت الأقوال اختلاطاً عجيباً، وتشابكت وبَلَغ تشابكها حدّاً استحالَ معه إيجاد نقطة تلاقٍ واحدة، ما بين قول وقول، وبالتالي أصبحت معرفة ما هو حقيقي، وما هو موضوع مدسوس من أشقّ الأمور على الباحث.

وليس بخافٍ أنّ اصطلاح (نصيرية) ظهرَ في عدد كثُرت فيه الفتن، والانقسامات والميول، والأهواء والنزعات، والمذاهب الفلسفية، والعداوات المذهبية، كما كثر فيه الدسّ والاختلاق والتحريف، وتزييف الحقائق وتشويهها.

وأوّل ما يلاحظ أنّ عقائد النصيرية - كما وردتنا - مأخوذة كلّها من خصوم هذا المذهب، ولم نرَ أيّاً من المؤرّخين مَن ذَكر اسم كتابٍ واحدٍ من كتب النصيرية، أو ذَكر اسم رجلٍ واحدٍ من رجالاتها.

ولمـّا كان أخذ المذهب من خصومه مغامرة جريئة، تحتاج إلى كثيرٍ من التحرّي والدقّة، لذلك فإنّنا تعامَلنا مع مختلف الأقوال بمنتهى الحيطة والحذر، ووقفنا عند كلّ نقطة، وحاولنا جهد المستطاع إرجاع الأشياء إلى أُصولها، ولا غنى عن القول: إنّه لابدّ عند البحث عن عقائد النصيرية من التمييز ما بين نوعين من الكتابات:

٤٣

الأوّل: كتابات المؤرّخين الأقدَمين.

الثاني: كتابات المؤرّخين المحدَثين، ثمّ المعاصرين، وهناك اختلافُ كبير، بين هذين النوعين من الكتابات.

ونحن في هذا الفصل، سنتكلّم عن عقائد النصيرية كما تحدّث عنها القدماء، ثمّ كما تحدّث عنها المحدّثون، ثمّ كما تحدّث عنها رجالات العلويين وشيوخهم، وكما تظهر في كتاباتهم وأشعارهم.

٤٤

النصيريةُ عند الأقْدمين

كان ما كتَبه حمزة بن علي (ت 433هـ)، أحد مؤسّسي المذهب الدرزي، في رسالته المسمّاة(الرسالة الدامغة في الردّ على النصيري)، أوّل إشارة وصَلت إلينا عن عقائد النصيرية.

وهذه الرسالة جاءت ردّاً على كتاب(الحقائق وكشف المحجوب) ، الذي ألّفه شخصٌ من النصيرية لم نعرف اسمه، أثارتهُ - على ما يبدو - دعوى القائلين بتأليه الحاكم، فصنّفَ كتابه للتشنيع عليهم، والطعن في مقالتهم، كما يُفهم ممّا أورده حمزة في رسالته، لم يكن لهذا الفاسق النصيري - لعنة المولى عليه - بُغية غير الفساد في دين مولانا جلّ ذِكره، ودين المؤمنين، ودين مولانا لا ينفسد أبداً.

لذلك رأينا حمزة يُحذّر من قبول كلام هذا النصيري، مُعلناً أنّ (مَن قَبِل كلامه عَبَد إبليس، واعتقد التناسخ، وحلّل الفروج، واستحلّ الكذب والبهتان).

ومن خلال ردّ حمزة على (النصيري) قارنَ بين أقوال النصيرية، وأقوال القائلين بإلوهية الحاكم، موضّحاً حقيقة أقوال مؤلّهة الحاكم، من ذلك مثلاً قوله: (مَن اعتقدَ التناسخ مثل النصيرية المعنوية، في علي بن أبي طالب وعَبَده - خسرَ الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين).

وقوله: (ثمّ إنّه إذا ذكرَ علياً يقول: علينا سلامه ورحمته، وإذا ذكرَ مولانا جلّ ذكره يقول: علينا سلامه. فيطلب الرحمة من المفقود المعدوم

٤٥

ويجحد الموجود الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته، ولا يكون في الكفر أعظم من هذا، فصحّ عند الموحّد العارف بأنّ الشرك الذي لا يُغفر أبداً (هو): بأن يُشرك بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جلّ ذكره، ويقول: علي مولانا الموجود، ومولانا هو علي، لا فرق بينهما، والكفر ما اعتقدهُ هذا الفاسق من العبادة في علي بن أبي طالب والجحود لمولانا جلّ ذكره).

وإلى جانب اتّهام حمزة بن علي النصيرية، باعتقادهم التناسخ، وعبادة علي بن أبي طالب، فقد اتّهمهم بأمورٍ أخلاقية تنال من سمعتهم وشرفهم، من ذلك: (إنّ النصيريين لا يُحرّمون القتل ولا السرقة، ولا الكذب ولا الافتراء، ولا الزنا حتى ولا اللواطة، ولا يحجب عريقو النصيرية نساءهم وبناتهم عن بعضهم، ولا يعبأون بكلّ ما يمكن حدوثه بين الرجال والنساء، وإلاّ فلا يكمل إيمانهم).

وكان هذا الاتّهام ردّاًَ على اتّهام النصيريين، القائلين بإلوهية الحاكم بأنّ (جميع ما حرّموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا والفاحشة، فهو مطلق للعارف والعارفة)، ونحن لا نستطيع أن نطمئن إلى صحة اتّهامات كل واحدٍ منهما إلى الآخَر ؛ لأنّ الدافع إليها خلاف عقائدي شديد، فلا عجب إذاً أن يَصمَ كلٌ منهما الآخَر بأقبح وأشنع التّهم ؛ للحطّ من مقامه.

وأوّل مَن تنبّه إلى بطلان الاتّهامات التي كالَها حمزة بن علي إلى النصيرية، صاحبا (ولاية بيروت)، رفيق التميمي، ومحمد بهجت، إذ قالا: (لعلّ هذه الاتّهامات مختلَقة، إذ لا يُعثر في كتب النصيرية، ولا في أغانيهم أدنى إشارة تدلّ على صحتها، وقد أجمعَ كلّ مَن احتكّ بهذه الطائفة واختبرها أنْ لا صحة لوجود تلك الرذائل الأخلاقية فيهم، ولعلّ مؤلّف الرسالة الدامغة استهجنَ من النصيريين عدم الاحتجاب فضربَ أخماسه بأسداسه، وتشفّى منهم بهذه التّهمة المشينة).

وقد تناسى المؤرّخون كتاب النصيري، وتمسّكوا بكل ما جاء في رسالة حمزة التي ذاعت وانتشرت، وكانت نقطة الانطلاق لكلّ مَن يريد أن يطعن في أخلاقيات النصيرية.

٤٦

ومن القدماء الذين أشاروا إلى شيء من عقائد النصيرية أيضاً، المعرّي في (اللزوميات)، بقوله:

يا آكِلَ التُفّاحِ لا تَبعَدَن

وَلا يُقِم يَومُ رَدىً ثاكِلَك

قالَ النُصَيريُّ وَما قُلتُهُ

فَاِسمَع وَشَجِّع في الوَغى ناكَلَك

قَد كُنتَ في دَهرِكَ تُفّاحَةً

وَكانَ تُفّاحُكَ ذا آكِلَك

وَحَرفَ هاجٍ لُحتَ فيما مَضى

وَطالَما تَشكُلُهُ شاكَلَك

وفي(رسالة الغفران) عند حديثه عن التناسخ، إذ قال: (وتؤدّي هذه النحلة إلى التناسخ، وهو مذهبٌ عتيقٌ يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشيعة، نسأل الله التوفيق والكفاية، وينشد لرجلٍ من النصيرية:

أعَجَبي أمنّا لصرف الليالي

جعلتْ أختَنا سكينة قاره

فازجري هذه السنانير عنها

واتركيها وما تضمّ الغراره

وقال آخَرٌ منهم:

تبارك الله كاشفَ المِحن

فقد أرانا عجائب الزمن

حمار شيبان شيخُ بلدتنا

صيّره جارنا أبو السكن

بدّل من مَشيته بحلته

مَشيته في الحزام والرسن

وهذه الأبيات - التي رواها المعرّي عن اثنين من النصيرية لم يسمِّهما - لا تعطينا أيّة فكرة عن مذهب النصيرية، وهي تفيد السخرية والدعابة لا أكثر.

وأوّل مَن تعرّض للحديث عن النصيرية - من كتّاب الفِرق - الشهرستاني في(الملل والنحل) ، وجميع الذين كَتبوا عن الفِرق الإسلامية من قَبله، وهم: ابن قتيبة (ت 276هـ)، النوبختي (ت: 288هـ)، الأشعري القمي (ت: 301هـ)، أحمد بن حمدان الرازي (ت 332هـ)، الأشعري (ت 324هـ)، البلخي (ت: 340هـ)، المسعودي (ت 346هـ)، الملطي (ت 377هـ)، البغدادي (ت: 429هـ)، لم يأتِ

٤٧

أيٌ منهم على ذكر للنصيرية، والشهرستاني عندما تكلّم عن النصيرية، لم يتكلّم عنها لوحدها، وإنّما تكلّم عنها وعن الإسحاقية معاً، معتبراً إيّاهما فرقة واحدة، قال:

(النصيرية والإسحاقية من جملة غلاة الشيعة، ولهم جماعة ينصرون مذهبهم، ويذبّون عن أصحاب مقالاتهم، وبينهم خلافٌ في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت).

قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمرٌ لا ينكره عاقل، أمّا في جانب الخير فكظهور جبريلعليه‌السلام ببعض الأشخاص والتصوّر بصورة أعرابي، والتمثّل بصورة البشر، وأمّا في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشرّ بصورته، وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلّم بلسانه.

فكذلك نقول: إنّ الله تعالى ظهرَ بصورة أشخاص، ولمـّا لم يكن بعد رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) شخص أفضل من علي (رضي الله عنه) وبعده أولاده المخصوصون، وهُم خيرُ البريّة، فظهرَ الحقّ بصورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم، فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم، وإنّما أثبتنا الاختصاص لعليعليه‌السلام دون غيره ؛ لأنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى، فيما يتعلّق بباطن الأسرار.

قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (أنا أحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر)، وعن هذا كان قتال المشركين إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وقتال المنافقين إلى علي (رضي الله عنه)، ومن هذا شبّهه بعيسى بن مريمعليه‌السلام فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (لولا أن يقولَ الناس فيكَ ما قالوا في عيسى بن مريم عليه السلام لقلتُ فيكَ مقالاً)، وربّما أثبتوا له شركة في الرسالة ؛ إذ قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): (فيكم مَن يقاتل على تأويله، كما قاتلتُ على تنزيله، ألا وهو خاصف النعل).

فعِلم التأويل، وقتال المنافقين، ومكالمة الجن، وقلع باب خيبر لا بقوّة جسدانية، من أوّل الدليل على أنّ فيه جزءاً إلهياً وقوّة ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته وخلق بِيَده وأمر بلسانه. وعن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، قال: (كنّا أظلّة على يمين العرش، فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا)، فتلك الظِلال وتلك الصور التي تُنبئ عن الظِلال هي

٤٨

 حقيقته، وهي مشرقة بنور الربّ، إشراقاً لا ينفصل عنها، فسواء كانت في هذا العالَم أو في ذلك العالم، وعن هذا قال علي (رضي الله عنه): (أنا مِن أحمد كالضوء من الضوء، لا فرق بين النورين، إلاّ أنّ أحدهما سابقٌ، والثاني لاحقٌ به تالٍ له).

قالوا: وهذا يدلّ على نوع من الشركة، فالنصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، والإسحاقية أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة، ولهم اختلافات أُخرى لا نذكرها.

وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية....).

وتستوقفنا في هذا النص الملاحظات التالية:

1 - لم يذكر الشهرستاني أسماء أصحاب مقالة النصيرية والإسحاقية، كما أنّه لم يَنسب أيّاً من الفرقتين إلى شخصٍ معيّن بالذات.

2 - ذكرَ للبيانية مقالة تشبه مقالة النصيرية شبهاً كاملاً، هي: (أتباع بيان بن سمعان التميمي، قال: حلّ في علي جزء إلهي، واتّحد بجسده، فبه كان يعلم الغيب ؛ إذ أخبرَ عن الملاحم وصحّ الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: (والله، ما قلعتُ باب خيبر بقوّة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوّة رحمانية ملكوتية بنور ربّها مضيئة).

3 - إذا تأمّلنا قوله: (وقد نجزت الفِرق الإسلامية وما بقيت إلاّ فرقة الباطنية)، وقارنّاه بما ذكره عن الإسماعيلية (وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنّما لزمَهم هذا اللقب لحُكمهم بأنّ لكلّ ظاهر باطناً، ولكلّ تنزيل تأويل، ولهُم ألقابٌ كثيرة، سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمّون الباطنية، والقرامطة، والمزدكية، وبخراسان التعليمية، والملحدة...) تبيّن لنا أنّ النصيرية غير القرامطة والباطنية، وأنّه لا رابطة تجمع ما بينهم وبين هؤلاء.

4 - يُفهم من كلامه: أنّ مقالة الإسحاقية هي ذاتها مقالة النصيرية، والخلاف ما بينهما محصور فقط في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة أهل البيت، وأنّ النصيرية أمْيَل إلى تقرير الجزء الإلهي، بينما الإسحاقية

٤٩

أمْيَل إلى تقرير الشركة في النبوّة.

لكنّه أوقَع نفسه في تناقضٍ كبير، حينما ذكر للإسحاقية مقالة تختلف تماماً مع ما تقدّم بيانه ؛ وذلك عند حديثه عن الكرامية، قال:

(أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام،... وهُم طوائف بَلَغ عددهم اثنتي عشرة فرقة، وأصولها ستة: العابدية، والتونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية، ولكلّ واحدٍ منهم رأي، إلاّ أنّه لمـّا لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين، بل عن سفهاء اغتام جاهلين، لم نفردها مذهباً، وأوردنا مذهب صاحب المقالة، وأشرنا إلى ما يتفرّع منه.

نصّ أبو عبد الله على أنّ معبوده على العرش استقراراً، وعلى أنّه بجهة فوق ذاتاً، وأطلقَ عليه اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمّى عذاب القبر: إنّه أحَدي الذات، أحَدي الجوهر، وإنّه مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوّز الانتقال، والتحوّل، والنزول،... وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه....

ومن مذهبهم جميعاً: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى، ومن أصلهم: أنّ ما يحدث في ذاته فإنّما يحدث بقدرته، وما يحدث مبايناً لذاته فإنّما يحدث بواسطة الأحداث... ويفرّقون بين الخلق والمخلوق، والإيجاد والموجود والموجِد، وكذلك بين الإعدام والمعدوم.....

وزعموا أنّ في ذاته سبحانه حوادث كثيرة، مثل: الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، والكتب المنزلة على الرسلعليهم‌السلام ، والقصص والوعد والوعيد والأحكام، ومن ذلك المـُسمعات والمـُبصرات فيما يجوز أن يُسمع ويُبصر، والإيجاد والإعدام هو القول والإرادة، وذلك قوله (كُن) للشيء الذي يريد كونه، وإرادته لوجود ذلك الشيء، وقوله للشيء كُن، صورتان.

وعلى قول الأكثرين منهم: الخلق عبارة عن القول والإرادة.

ومن أصلهم: أنّ الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء، حتى يستحيل عدمها.

ومن أصلهم: أنّ المـُحدث إنّما يحدث في ثاني حال ثبوت الأحداث بلا فصل، ولا أثَر للأحداث في حال بقائه.

ومن أصلهم: أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى أمر

٥٠

التكوين، وإلى ما ليس أمر التكوين،..... وممّا أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى عالِم بعلم، قادر بقدرة، حيٌّ بحياة، شاءٍ بمشيئة، وجميع هذه الصفات صفات قديمة أزلية قائمة بذاته.

واتّفقوا على أنّ العقل يحسّن ويقبّح قبل الشرع، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل.

وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال.

وقالوا في الإمامة: إنّها تثبت بإجماع الأمّة، دون النصّ والتعيين كما قال أهل السنّة، إلاّ أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين.

ومذهبهم الأصلي: اتّهام علي (رضي الله عنه) في الصبر على ما جرى مع عثمان (رضي الله عنه) والسكوت عنه، وذلك عرق نزع).

وإزاء هذا التناقض بتنا لا نعلم أيّ القولين هو الصحيح. وتزداد حيرتنا إذا عَلمنا أنّ كتّاب الفِرق، نقلوا عن الإسحاقية كلاماً يختلف جذرياً، عمّا أوردهُ الشهرستاني.

فالخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) يذكر(1) :

(سمعتُ أبا القاسم عبد الواحد بن علي الأسدي يقول: إسحاق بن محمد بن أبان النخعي الأحمر كان خبيث المذهب، رديء الاعتقاد، يقول: إنّ علياً هو الله جلّ جلاله وأعز، قال: وكان أبرص، فكان يطلي البرص بما يُغيّر لونه فسمّي الأحمر لذلك، قال: وبالمدائن جماعة من الغلاة يُعرفون بالإسحاقية، يُنسبون إليه.

سألتُ بعض الشيعة ممّن يعرف مذاهبهم، ويخبر أحوال شيوخهم عن إسحاق، فقال: لي مثل ما قاله عبد الواحد بن علي سواء.

وقال: لإسحاق مصنّفات في المقالة المنسوبة إليه، التي يعتقدها الإسحاقية، ثمّ وقَع إليّ كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من تصنيفه، في الردّ على الغلاة، وكان النوبختي هذا من متكلّمي الشيعة الإمامية، فذكرَ أصناف مقالات الغلاة، إلى أن قال: وقد كان ممّن جوَّد الجنون في الغلو في عصرنا، إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر، وكان ممّن يزعم

____________________

(1) المجلّد 6، ص380.

٥١

أنّ علياً هو الله، وأنّه يظهر في كلّ وقت، فهو الحسن في وقت الحسن، وكذلك هو الحسين، وهو واحد، وأنّه هو الذي بعثَ بمحمد (صلّى الله عليه وسلّم)، وقال في كتابٍ له: لو كانوا ألْفاً لكانوا واحداً.

وكان راوية للحديث، وعمل كتاباً ذَكر أنّه كتاب التوحيد، فجاء فيه بجنون وتخليط لا يتوهّمان، فضلاً مَن يدلّ عليهما، وكان ممّن يقول: باطن صلاة الظهر محمد (صلّى الله عليه وسلّم) ؛ لإظهاره الدعوة، قال: ولو كان باطنها هو هذه التي هي الركوع والسجود، لم يكن لقوله: ( إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر ) يعني أنّ النهي لا يكون إلاّ من حي قادر.

وعن الإسحاقية، قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): (قالوا: إنّ النبوّة متّصلة إلى يوم القيامة، وكلّ مَن يعلم علم أهل البيت فهو نبي).

فخر الدين الرازي في(اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين) ، يسمّي الإسحاقية (الإسجافية) ويقول عنها: (ويزعمون أنّ الله تعالى كان يحلّ في علي في بعض الأوقات، وفي اليوم الذي قلعَ علي باب خيبر كان الله تعالى قد حلّ فيه).

5 - ما تجدر الإشارة إليه: أنّ الشهرستاني كان يتلاعب في الأقوال، ويورد النصّ بصيغة بعيدة عن الحقيقة، مثال ذلك قوله: (عن هذا قالوا: كان هو موجوداً قبل خلق السموات والأرض، قال...)، بحيث يُفهم من صيغة هذا الكلام: أنّ قائله هو جماعة النصيرية أو الإسحاقية، مع أنّ الحقيقة خلاف ذلك، وعبارة (كان هو موجوداً قبل خلق السماوات والأرض)... ليست من كلام النصيرية أو الإسحاقية، وإنّما هي نصّ حديث شريف، جاء في كتاب(غاية المرام) للعلاّمة البحريني، عن(فرائد السمطين)، و(مسند أحمد)، و(فضائل الخوارزمي) ، و(مناقب الخطيب) أنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، قال: ( كنتُ أنا وعلي نوراً بين يدي الله تعالى، قبل أن يخلق الخلق، فلمّا خلقَ آدم ركّبَ ذلك النور في صلبه، فلم يزل في شيء واحد حتى أفرق في صلب عبد المطلب).

وهو حديث مشهور ذكره المعري في قصيدته ذات المطلع:

٥٢

علّلاني فإنّ بيضَ الأماني

فنيتُ والزمان ليس بفانِ

يقول:

أحَد الخمسة الذين هُم الأغراض

في كلّ منطقٍ والمعاني

والشخوص الذين خَلقن ضياء

قبل خلق المِرّيخ والميزان

قبل أن تُخلق السماوات أو تؤمر

أفلاكهنّ بالدوران ...

هذا التلاعب في الأقوال من قِبَل الشهرستاني، يجعلنا نتساءل: هل كان الشهرستاني يختلق الأقوال ويحرِّفها؟ لا نستبعد ذلك، وهو على كلّ حال متّهم في عقيدته، وفي نزاهته، وفي أمانته العلمية.

يقول معاصره أبو محمد الخوارزمي: (ولولا تخبّطه في الاعتقاد، ومَيله إلى هذا الإلحاد لكانَ هو الإمام، وكثيراً ما كنّا نتعجّب من وفور فضله وكمال عقله، وكيف مالَ إلى شيء لا أصل له، واختارَ أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً، ونعوذ بالله من الخذلان والحرمان من نور الإيمان)(1) ، ومثل هذا الكلام عن الشهرستاني يروي السبكي في(طبقات الشافعية) .

ويذكر ظهير الدين البيهقي في(تاريخ حكماء الإسلام): إنّ الشهرستاني كان يصنّف تفسيراً ويؤّول الآيات على قوانين الشريعة والحكمة وغيرها، فلمّا قيل له: هذا عدول عن الصواب، امتلأَ من ذلك غضباً.

وكان ممّن جرَحوا الشهرستاني أيضاً، عبد الحسين أحمد الأميني في (الغدير)، الذي سجّلَ عليه كثيراً من المآخذ والسقطات ؛ وذلك في تعليقه على قول الشهرستاني: (اختلفَ الشيعة بعد موت علي بن محمد العسكري أيضاً، فقال قوم: بإمامة جعفر بن علي، وقال قوم: بإمامة الحسن بن علي، وكان لهم رئيس يقال له علي بن فلان الطاحن، وكان من أهل الكلام، قوّى أسباب جعفر بن علي،

____________________

(1) ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة شهرستان.

٥٣

وأمالَ الناس إليه، وأعانه فارس بن حاتم بن ماهويه ؛ وذلك أنّ محمداً قد مات، وخلّف الحسن العسكري، قالوا: امتحنّا الحسن ولم نَجِد عنده عِلماً، ولقّبوا مَن قال بإمامة الحسن الحمارية، وقوّوا أمر جعفر بعد موت الحسن، واحتجّوا بأنّ الحسين مات بلا خلف، فبطلت إمامته ؛ لأنّه لم يعقّب، والإمام لا يكون إلاّ ويكونَ له خلفٌ وعَقب، وحاز جعفر ميراث الحسن بعد دعوةٍ ادّعاها عليه، أنّه فعلَ ذلك من صلب جواريه وغيره، وانكشفَ أمرهم عند السلطان والرعية وخواصّ الناس وعوامّهم، وتشتّتت كلمة مَن قال بإمامة الحسن، وتفرّقوا أصنافاً كثيرة، فثبتت هذه الفرقة على إمامة جعفر، ورجع إليهم كثير ممّن قال بإمامة الحسن، منهم الحسن بن علي بن فضّال، وهو من أجَلّ أصحابهم وفقهائهم، كثير الفقه والحديث، ثمّ قالوا بعد جعفر، بعلي بن جعفر، وفاطمة بنت علي أخت جعفر، وقال قومٌ: بإمامة علي بن جعفر دون فاطمة السيدة، ثمّ اختلفوا بعد موت علي وفاطمة اختلافاً كثيراً).

فكان ردّ الأميني على هذا الكلام: (ليتَ شِعري متى وقعَ الخلاف في الإمامة بين الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، وبين أخيه جعفر، الذي ادّعى الإمامة بعد وفاة أخيه؟ ومَن هو علي بن فلان الطاحن، الذي قوّى أسباب جعفر، وأمالَ الناس إليه؟! ومتى خُلق؟! ومتى مات؟ ولستُ أدري أي هي بن بي هو؟ وهل وجَد لنفسه مقيلاً في مستوى الوجود؟

أنا لا أدري والشهرستاني لا يدري والمنجّم أيضاً لا يدري، وكيف أعانَ جعفراً فارس بن حاتم بن ماهويه، وقد قتلهُ جنيد بأمر والده الإمام علي الهاديعليه‌السلام ، ومَن هو محمد الذي خَلف الإمام الحسن العسكري؟! أهو الإمام محمد الجواد؟! ولم يَخلف إلاّ ابنه الإمام الهادي سلام الله عليه، أو هو أبو جعفر محمد بن علي صاحب البقعة المعظّمة بمقربة بلد، وقد مات بحياة أبيه الطاهر والإمامة مستقرّة لوالده، ومتى كان إماماً أو مدّعياً الإمامة حتى يخلف غيره عليها؟! ومَن هؤلاء الذين امتحنوا الحسن الزكي العسكري فلم يجدوا عنده عِلماً؟! ثمّ وجدوه في جعفر، الذي لم يُعرف عنه شيء غير أنّه ادّعى الإمامة باطلاً بعد أخيه؟!

٥٤

وقصارى ما عندنا: أنّه أدرَكته التوبة، ولم يوجد له ذكر بعلم أو ترجمة في أيّ من الكتب، ولا نَشرت عنه كتب الأحاديث شيئاً من علومه المدّعاة له عند الشهرستاني، لو صدقت الأوهام، وهذا الحسن العسكريعليه‌السلام تجده في التراجم والمعاجم من الفريقين مذكوراً بالعلم والثقة، وملأ كتب العلم والحديث تعاليمه ومعارفه، ومَن هُم الذين لقّبوا أتباع الحسنعليه‌السلام بالحمارية؟!

نعم، أهل بيت النبوّة محسودون في كل وقت، فكان يحصل لكلّ منهم في وقته مَن يسبّه حسداً، ويسبّ أتباعه، لكن لا يذهب لقباً له أو لأشياعه، وإنّما يتدهور في مهوى الضعة.

ومتى كان الحسن بن علي بن فضّال في عهد الإمام الحسن العسكري؟! حتى يرجع عنه جعفر إلى جعفر، وقد توفّي ابن فضّال سنة 221 ونطفة الحسن وجعفر بعدُ لم تنعقد، وقبل أن يبلغ الحُلم والدهما الطاهر الإمام الهادي المتولّد سنة 212هـ، ومَن ذا الذي ذَكر للإمام الهادي بنتاً اسمها فاطمة؟! حتى يقولَ أحدٌ بإمامتها ؛ فإنّ الإمامعليه‌السلام لم يُخلّف من الذكور إلاّ الحسن والحسين وجعفراً، ومن الإناث إلاّ عليّة، باتّفاق المؤرّخين).

ومهما يكن من أمر، فإنّ لظهور الروحاني بالجسد الجسماني، أدلّة كثيرة في الكتاب والسنّة، قال تعالى في سورة مريم:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً... ) .

وفي السنّة عن عمر (رحمه الله)، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ذات يوم، إذ طلعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلسَ إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم) فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبِرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن

٥٥

 استطعتَ إليه سبيلاً) قال: صدقتَ. فعجبنا له، يسأله ويصدّقه!.

قال: فأخبِرني عن الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبهُ ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه).

قال: صدقتَ.

قال: فأخبِرني عن الإحسان؟

قال: (أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

قال: فأخبِرني عن الساعة؟

قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

قال: فأخبِرني عن إماراتها؟

قال: (أن تلد الأمَة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

ثمّ انطلقَ، فلبثتُ مليّاً، ثمّ قال: (يا عمر، أتدري مَن السائل؟)، قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنّه جبريل، أتاكم يعلّمكم دينكم) (رواه مسلم، متن الأربعين النووية، الحديث الثاني).

فنحن إذاً لا نستطيع أن نُنزّل كلام الشهرستاني منزلة اليقين ونعطيه الحجّية المطلقة، وعلينا أن نتعامل معه بمنتهى الحذر، وأن نضعه في غربال التدقيق والتمحيص. ومع ذلك، فإنّ ما كُتب عن النصيرية في مرحلة ما بعد الشهرستاني لا يتلاقى مع ما كَتبه الشهرستاني، ولا في نقطةٍ واحدة، مثال ذلك: ما رواه ابن الأثير في (الكامل) عند حديثه عن الشلمغاني ومذهبه، قال(1) : (وكان مذهبهُ أنّه إله الآلهة، يحقّ الحقّ. وأنّه الأوّل القديم الظاهر الباطن الرازق التام، الموما إليه بكلّ معنى. وكان يقول: إنّ الله سبحانه وتعالى يحلّ في كل شيء على قدر ما يحتمل، وإنّه خلقَ الضدّ ليدلّ على المضدود، فمِن ذلك أنّه حلّ في آدم لمـّا خلقهُ، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدّ لصاحبه ؛ لمضادّته إيّاه في معناه، وأنّ الدليل على الحقّ أفضل من الحق، وأنّ الضد أقرب الشيء من شبهه، وأنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في جسد ناسوتي ظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو، وأنّه لمـّا غابَ آدم ظهرَ اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلمّا غابَ منهم واحد ظهرَ مكانه آخَر. وفي

____________________

(1) حوادث سنة 322هـ.

٥٦

خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة. ثمّ اجتمعت اللاهوتية في إدريس وإبليسه، وتفرّقت بعدهما، كما تفرّقت بعد آدم. واجتمعت في نوحعليه‌السلام وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما. واجتمعت في إبراهيمعليه‌السلام وإبليسه نمرود، وتفرّقت لمـّا غابا. واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرّقت بعدهما. واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمّا غابا تفرّقت في تلامذة عيسى وأبالستهم. ثمّ اجتمعت في علي بن أبي طالب وإبليسه.

ثمّ إنّ الله يظهر في كلّ شيء، وكلّ معنى، وإنّه في كلِ أحَد، بالخاطر الذي يخطر بقلبه، فيتصوّر له ما يغيب عنه، حتى كأنّه يشاهده. وإنّ الله اسم لمعنى، وإنّ مَن احتاج الناس إليه فهو إله ؛ ولهذا المعنى يستوجب كل أحَد أن يسمّى إلهاً. وإنّ كل أحَد من أشياعه يقول: إنّه ربّ لِمَن هو دون درجته، وإنّ الرجلَ منهم يقول: أنا ربٌّ لفلان، وفلان ربٌّ لفلان، وفلان ربُّ ربّي، حتى يقع الانتهاء إلى ابن أبي القراقر، فيقول: أنا ربُّ الأرباب، لا ربوبية بعده، ولا يُنسب الحسن والحسين (رضي الله عنهما) إلى علي (كرم الله وجهه) ؛ لأنّ مَن اجتمعت له الربوبية لا يكون له ولَد ولا والد.

وكانوا يسمّون موسى ومحمداً (صلّى الله عليه وسلّم) الخائنين ؛ لأنّهم يدّعون أنّ هارون أرسلَ موسى، وعلياً أرسلَ محمداً، فخاناهما.

ويزعمون أنّ علياً أمهلَ محمداً عدد سِنين أصحاب الكهف، فإذا انقضت هذه المدّة - وهي ثلاثمئة وخمسون سنة - انتقلت الشريعة، ويقولون: إنّ الملائكة كلّ مَن مَلَك نفسه وعرفَ الحق، وإنّ الجنة مَعرفتهم وانتحال مذهبهم، والنار الجهل بهم والعدول عن مذهبهم.

ويعتقدون تَرك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات، ولا يتناكحون بعقدٍ، ويبيحون الفروج، ويقولون: أن يمتحنَ الناس بإباحة فروج نسائهم، وإنّه يجوز أن يجامع الإنسان مَن يشاء من ذوي رحمه، وحَرَم صديقه وابنه، بعد أن يكون على مذهبه، وأن لابدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ؛ ليولج النور فيه، ومَن امتنعَ عن ذلك قُلب في الدَّور الذي يأتي بعدَ هذا العالَم امرأة ؛ إذ كان من مذهبهم التناسخ.

وكانوا يعتقدون إهلاك الطالبيين والعباسيين (تعالى الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً)، وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيرية، ولعلّها هي هي ؛ فإنّ النصيرية يعتقدون في ابن

٥٧

الفرات ويجعلونه رأساً في مذهبهم...).

وإذا كان ابن الأثير شبّه مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، وصرّح: (لعلّها هي هي) ؛ فإنّ الحقيقة خلاف ما يزعمه، والأدلّة على ذلك كثيرة، منها:

1 - الشلمغاني مات قتلاً سنة 322هـ، واصطلاح النصيرية - كما رأينا - ظهرَ لأوّل مرّة في مطلع المئة الرابعة.

2 - ياقوت الحموي - الذي نقلَ ابن الأثير عنه - لم يقُل: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ولم ترد على لسانه كلمة نصيرية(1) .

وكذلك فإنّ جميع المؤرّخين الذين كتبوا عن الشلمغاني: كالمسعودي (ت 345هـ)، وابن النديم (ت 385هـ)، والبغدادي (ت 429هـ)، والأسفرايني (ت 471هـ)، وابن الجوزي (ت 597هـ)، والحموي (ت 626هـ)، وابن خلّكان (ت 681هـ)، وأبي الفداء (ت 732هـ)، واليافعي اليمني (ت 768هـ)، والسيوطي (ت 911هـ)، وابن العماد (ت 1089هـ)، والمؤلّف المجهول، لم يقُل أيّ منهم: إنّ مقالة الشلمغاني تشبه مقالة النصيرية، ومنهم مَن جاء قبل ابن الأثير، ومنهم بعده.

3 - ما وردنا من أخبار عن مقالة النصيرية على لسان الشهرستاني، لا يأتلف مع ما ذكره ابن الأثير.

4 - ثمّة أقوال أوردها ابن الأثير على أنّها من مذهب الشلمغاني، قرأناها في كتب الفِرق منسوبة إلى القرامطة، كالقول بالتناسخ وإباحة نساء بعضهم لبعض، والقول بالناسوت في اللاهوت، وإسقاط فرائض العبادات.

يقول الملطي في(التنبيه والرد) عن القرامطة: (وقومٌ منهم يقولون

____________________

(1) إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: الجزء الأوّل، ص (296) تحت عنوان (إبراهيم بن أبي عون).

٥٨

بتناسخ الروح، وهم يقولون: بالناسوت في اللاهوت، على قول النصارى سواء، وزعموا أنّ نساء بعضهم حلال لبعض، وكذلك أولادهم وأبدانهم، مباحة من بعضهم لبعض، لا تحظير بينهم ولا منع...).

وفي كُتب الفِرق: أنّ فرقة المخمِّسة هي التي تقول: إنّ الله حلّ في خمسة أشخاص.

وذكرَ البغدادي في (الفَرق بين الفِرق) عند حديثه عن الشريعية: أنّ الشريعي هو الذي زعمَ أنّ الله تعالى حلّ في خمسة أشخاص، وهُم: النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وزعموا أنّ هؤلاء الخمسة آلهة، ولها أضداد خمسة.

ولم يقُل أيُّ أحدٍ من كتّاب الفِرق: إنّ المخمسة، أو الشريعية هي النصيرية، أو أنّ مقالتها تشبه مقالة النصيرية.

5 - على رأي الشلمغاني، كما ذكرَ ابن الأثير: يوجد أربابٌ عديدون على شكلٍ هَرَمي، رأسه الشلمغاني (ربّ الأرباب، لا ربوبية بعده)، بينما مقالة النصيرية - كما ذكرَ الشهرستاني -: أنّ في عليعليه‌السلام جزءٌ إلهي وقوةٌ ربّانية، أو يكون هو الذي ظهرَ الإله بصورته.

6 - ولنا أن نتساءل: مَن هو (ابن الفرات) الذي قال ابن الأثير: إنّ النصيرية يعتقدون فيه، ويجعلونه رأساً في مذهبهم، وما مقام هذا الكلام هنا؟!

ابن الأثير لم يُصرّح باسمه، وكُتب التاريخ ذكرتْ لنا أسماءً كثيرةً من بني الفرات، منهم: علي بن محمد بن موسى بن الفرات وزير المقتدر، وأسد بن الفرات فاتح صقلية، وإسحاق بن الفرات قاضي ديار مصر، وجعفر بن الفضل بن الفرات، والفضل بن جعفر بن موسى بن الفرات، وأحمد بن الفرات، والمحسن بن فرات، ووثيمة بن الفرات، وعمر بن الفرات.

وكتّاب الفِرق ذَكروا اثنين من بني الفرات:

الأوّل : هو عمر بن الفرات، والفرقة التي تُنسب إليه تسمّى بالعمرية، على ما يذكر الحافظ رجب البرسي

٥٩

في(مشارق أنوار اليقين) . والثاني : هو محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، الذي كان يقوّي أسباب النميري، على ما روى النوبختي في(فِرق الشيعة) .

ويميل ذهننا إلى الظنّ بأنّ المقصود هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات، وزير المقتدر ؛ لأنّ ابن الأثير في أخبار سنة اثنتي عشرة وثلاثمئة - عند ذكره اعتراض أبي طاهر القرمطي الحاج في طريق مكّة - قال: (انقلبت بغداد واجتمعَ حرم المأخوذين إلى حرم المنكوبين، الذين نكبهم ابن الفرات، وجعلنَ ينادين: القرمطي الصغير أبو طاهر قَتل المسلمين في طريق مكّة، والقرمطي الكبير ابن الفرات قَتل المسلمين ببغداد،... فقال له نصر الحاجب: ومَن الذي سَلّم الناس إلى القرمطي غيرك ؛ لِمَا يجمع بينكما من التشيّع والرفض).

7 - وأخيراً نشير إلى أنّ البغدادي في(الفَرق بين الفِرق) أطلقَ على الفرقة التي تُنسب إلى الشلمغاني، اسم العذاقرية، وذكرها مرّتين: مرّة عند حديثه عن مذاهب المشبّهة وأصنافهم، ومرّة ثانية عند ذكر أصناف الحلولية، وفي المرّتين لم يذكر أنّ مقالة الشلمغاني أو العذاقرية، تشبه مقالة النصيرية، ولم يشِر إلى وجود أيّة صلة ما بين العذاقرية والنصيرية.

ما دام الأمر كذلك، لماذا شبّه ابن الأثير مقالة الشلمغاني بمقالة النصيرية، واعتبرها هي نفسها؟!

الجواب برأينا ؛ لأنّ الشلمغاني اتُّهم بالرفض، وهذا ما يُفهم من أقوال المؤرّخين: (أظهر الرفض)، و(دعا إلى الرفض)، و(إنّ زعيم الرافضة الحسين بن روح أظهرَ شأنه)، وكذلك لِمَا نُقل عنه من قول: (إنّ الله عزّ وجل إذا حلّ في هيكل ناسوتي أظهرَ من القدرة والمعجزة ما يدلّ على أنّه هو).

***

[تغيُّر وتبدُّل أقوال النصيرية بحسب مؤرِّخي الفِرق:

أ - فتواى ابن تيميَّة. ]

وممّا يسترعي الانتباه: أنّه كلمّا تقدّمنا في الزمن، وجَدنا أقوال النصيرية تتغيّر وتتبدّل عند كتّاب الفِرق والمؤرّخين، بحيث تختلف هذه

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128