موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٧

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام25%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 143

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
  • البداية
  • السابق
  • 143 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61253 / تحميل: 5315
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ٧

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٥ - عقيدتنا في الله تعالى

نعتقد: أنّ الله تعالى واحد احد ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، هو الاَوّل والآخر، عليم، حكيم، عادل، حي، قادر، غني، سميع، بصير. ولا يوصف بما تُوصف به المخلوقات؛ فليس هو بجسم ولا صورة، وليس جوهراً ولا عرضاً، وليس له ثقل أو خفة، ولا حركة أو سكون، ولا مكان ولا زمان، ولا يشار إليه(١) ؟. كما لا ندَّ له، ولا شبه، ولا ضدّ، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم يكن له كفواً أحد، لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار.

ومن قال بالتشبيه في خلقه، بأن صوَّر له وجهاً ويداً وعيناً، أو أنّه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنّه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، أو نحو ذلك(٢) ، فانّه

____________________

(١) روي عن الامام عليعليه‌السلام قوله في جواب ذعلب: «لم أكن بالذي اعبد رباً لم أره» ثم أردف قائلاً في وصف الله تعالى: «ويلك لم تره العيون بمشاهدة الاَبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. ويلك يا ذعلب، إنّ ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللّطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسّة، قائل لا باللّفظ، هو في الاَشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شيء فلا يقال شيء فوقه، وأمام كل شيء فلا يقال له أمام، داخل في الاَشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج».

التوحيد للصدوق: ٣٠٤ - باب حديث ذعلب - ، أمالي الصدوق: ٢٨٠ المجلس الخامس والخمسون، بحار الاَنوار: ٤/٢٧.

(٢) كقول الكرامية (إنّه تعالى في جهة فوق)!!

=

٢١

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

راجع: الفرق بين الفرق: ١٣١، الملل والنحل: ١/ ٩٩، وكذلك الأشاعرة في الإبانة في اصول الديانة: ٣٦ - ٥٥، وكذلك الوهابية رسالة العقيدة الحموية لإبن تيمية: ١/ ٤٢٩، الهدية السنية : ٩٧، والرسالة الخامسة منها لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبدالوهاب.

وكذلك القول بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين! كما حكم الصوفية قال العارف البلجرامي في كتابه «سبحة المرجان»:

انما الخلق المظهر الباري

هو في كل جزئه ساري

وقال الآخر منهم:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

ويراجع ديوان الشيخ ابن الفارض، كما في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك ومطلعها:

سقتني حميا الحب راحة مقلتي

وكأسي محيا من عن الحسن جلت

وقصيدته اليائية، مطلعها:

سائق الأضعان يطوي البيد طي

منعما عرج على كثبان طي

ورسائل الشيخ عطار وغيرها كثير.

ذكر العلامة الحلي معقبا على هذه الخرافات بقوله: (فانظرو إلى هؤلاء المشايخ الذين يتبركون بمشاهدهم كيف اعتقادهم في ربهم، وتجويزهم تارة الحلول واخرى الاتحاد، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء) إلى أن قال: (ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسينعليه‌السلام وقد صلوا المغرب سوى شخص واحد منهم كان جالسا لم يصل، ثم صلوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص، فقال: وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟ أيجوز ان يجعل بينه وبين الله حاجباً؟ فقلت: لا فقال: الصلاة حاجب بين العبد والرب) نهج الحق: ٥٨.

يراجع: مناقب العارفين للافالكي، وأسرار التوحيد: ١٨٦، والأنوار في كشف الاسرار للشيخ روزبهان البقلي، والمجلد الثاني من احياء العلوم للغزالي.

٢٢

بمنزلة الكافر به، جاهل بحقيقة الخالق المنزَّه عن النقص، بل كل ما ميّزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا - على حد تعبير الامام الباقرعليه‌السلام (١) - وما أجلّه من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

وكذلك يلحق بالكافر من قال: إنّه يتراءى لخلقه يوم القيامة(٢) ، وإن

____________________

(١) انظر بحار الاَنوار: ٦٩/٢٩٣ ح٢٣، المحجة البيضاء: ١/٢١٩.

(٢) حيث حكم الاَشاعرة بأنّ الله تعالى يتراءى لخلقه. راجع: الابانة في أصول الديانة لاَبي الحسن الاَشعري: ٥ و٦، الملل والنحل: ١/٨٥ إلى ٩٤، وحاشية الكستلي المطبوع في هامش شرح العقائد للتفتازاني: ٧٠، اللوامع الالهية: ٨٢ و٩٨.

ويضيف البغدادي: (وأجمع أهل السنة على أنّ الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل، ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر). الفرق بين الفرق: ٣٣٥ - ٣٣٦.

وباستثناء المجسّمة الذين زعموا أنّ أهل المحشر كافة سيرونه - تعالى عن ذلك - يوم القيامة نصب أعينهم باتصال اشعّتها بجسمه، ينظرون إليه لا يمارون كما لا يمارون في الشمس والقمر ليس دونهما سحاب.. فإنّ محل النزاع منحصر في أنّ رؤية الباري تعالى هل هي ممكنة مع تنزيهه؟ أم هي مع التنزيه ممتنعة مستحيلة؟ فالاَشاعرة ذهبوا إلى الاَول وذهبنا نحن - تبعاً لائمتناعليهم‌السلام - إلى الثاني.

راجع - للتفصيل: كتاب كلمة حول الرؤية للاِمام السيد عبد الحسين شرف الدين؛ فقد أوفى الغرض بمناقشة هذه المسألة واستعراضها باسلوب رصين.

هذا كله بالاضافة إلى ما ورد من الاَحاديث - المزعومة - التي ذكرت بأن الله خلق آدم على صورته، وأنّ له جوارح مشخصة، كالاَصابع والساق والقدم، وأنّ في ساقه علامة يعرف بها، وأنّه يضع قدمه في جهنّم يوم القيامة لتكف عن النهم فتقول: قط! قط!، وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يراه - سبحانه - فيقع ساجداً، وأنّ الله يهبط يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم، وأنّ المسلمين يرون ربّهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رؤيته. وغيرها الكثير؛ لاحظ: صحيح البخاري: ٨/٦٢، ٩/١٥٦، وصحيح مسلم: ٤/٢١٨٣ وغيرها، سنن ابن ماجه: ١/٦٤، مسند أحمد: ٢/٢٦٤ وغيرها، الموطأ: ١/٢١٤ ح٣٠، أصل الشيعة وأصولها - مقدمة المحقّق - هامش ص ٢٤.

٢٣

نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان؛ فان أمثال هؤلاء المدّعين جمدوا على ظواهر الاَلفاظ في القرآن الكريم أو الحديث، وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم. فلم يستطيعوا أن يتصرَّفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

٢٤

٦ - عقيدتنا في التوحيد

ونعتقد: بأنّه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنّه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب - ثانياً - توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأنّ صفاته عين ذاته - كما سيأتي بيان ذلك - وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية؛ فهو في العلم والقدرة لا نظير له، وفي الخلق والرزق لا شريك له، وفي كلّ كمال لا ندَّ له.

وكذلك يجب - ثالثاً - توحيده في العبادة؛ فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه، وكذا إشراكه في العبادة في أيّ نوع من أنواع العبادة؛ واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات.

ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك، كمن يرائي في عبادته ويتقرَّب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الاَصنام والاَوثان، لا فرق بينهما(١) .

____________________

(١) يذكر الشيخ المظفرقدس‌سره في محاضراته الفلسفية قوله: (في بحثنا الالهي نخطو خطوات ونجتاز مراحل:

١ - المرحلة الاولى: في إثبات أصل واجب الوجود.

٢ - المرحلة الثانية: بعد ثبوت أصل واجب الوجود لا بدّ أن يكون هو صرف الوجود.

٣ - المرحلة الثالثة: بعد ثبوت المرحلتين ننتقل إلى وحدانيته؛ لاَنّه إذا ثبت أنّه صرف الوجود فلا بد أن يكون واحداً؛ لاَنّ صرف الشيء لا بدّ أن يكون واحداً، وإلاّ لم يكن صرف الشيء، وإذا كان عارياً من كل حد فلا يعقل أن يتعدّد؛ لاَنّ الاَشياء إنّما تتمايز بالحدود.

فالتوحيد لا ينحصر في الاعتقاد بوحدة واجب الوجود وأنه صرف الوجود، بل هو تعالى واحد في خلقه وفيضه، فكل الاَشياء من فيضه وتجليات لنوره).

ثم يذكر الشيخقدس‌سره برهانا للقدماء على التوحيد، وملخصه: ( العالم واحد فلا

=

٢٥

أمّا زيارة القبور وإقامة المآتم، فليست هي من نوع التقرُّب إلى غير الله تعالى في العبادة - كما توهّمه بعض من يريد الطعن في طريقة الامامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها(١) - بل هي من نوع التقرُّب إلى الله تعالى

____________________

=

بد أن يكون الخالق واحدا؛ فهناك تلازم بين وحدة الخالق ووحدة المخلوق - وهو العالم - بحيث لو فرض وجود عالمين لفرض وجود إلهين اثنين، وهو مقولة: الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

ثم يشير عند شرحه لخطبة التوحيد المشهورة للامام عليعليه‌السلام عند قولهعليه‌السلام : «وكمال توحيده الاخلاص له»: والفكرة العامية للاخلاص هو الاخلاص بالعبادة، ولكن هذا المعنى لا يترتب على ما قبله، ولا ينسجم مع ما بعده؛ فالاخلاص يعني تنزيه من كل النقائص، ومن كل شيء يقدح في كونه واجب الوجود، فهو أعم من الاخلاص في العمل والعبادة، فالتوحيد لا يكون توحيداً حقيقياً إلا إذا وحدته من جميع الجهات في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته أيضاً، فالاخلاص له يعني التوحيد من جميع الجهات، وتنزيهه عن الشريك من جميع النواحي إلى آخره).

يراجع: الفلسفة الاسلامية؛ محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره على طلاب كلية الفقه في النجف الاشرف، الدرس العاشر: ٩١، والدرس الحادي عشر: ٩٣، والدرس الرابع عشر: ١٠٣.

(١) وفي هذه العبارة التي ذكرها المصنفقدس‌سره إشارة إلى الشبهة التي أثارها بعض خصوم الشيعة حول زيارة القبور وأشاعوا انّها محرّمة. واعتمدوا في ذلك على الحديث النبوي الذي نقله النسائي في سننه، ولفظه «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»: ٤/٩٥. ونقله أيضاً بنفس اللفظ: كنز العمال: ١٦/٣٨٨ ح٤٥٠٣٩. وذكره أيضاً ابن ماجه في سننه، ولكن بلفظ مختلف هو: «لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّارت القبور»: ١/٥٠٢ باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور، ح١٥٧٤ و ١٥٧٥ ، ١٥٧٦. ولا يخفى ما في متن الحديثين من تفاوت واضطراب؛ فلفظ زائرات يختلف عن زوّارت - بصيغه المبالغة - وكذلك عدم ورود الزيادة التي ذكرها النسائي اضافة إلى ذلك، ذكر هذا الحديث كل من محمد ناصر الدين الاَلباني في: سلسلة الاَحاديث الضعيفة: ١/٢٥٨ ح٢٢٥، وكذلك ابن عدي في: الكامل في الضعفاء: ٥/١٦٩٨ بدون ذكر الزيادة الموجودة في سنن النسائي.

=

٢٦

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

هذا من ناحية المتن، أما بالنسبة إلى السند، ففي سند هذا الحديث: عبدالوارث بن سعيد وأبو صالح - على رواية النسائي وراوية ابن ماجه الاولى - وعبدالله بن عثمان وعبدالرحمن بن بهمان - على رواية ابن ماجه الثانية - وهؤلاء يمكن الاطلاع على احوالهم مما يلي: -

١- عبدالوارث بن سعيد: قال عنه ابن حبان: كان قدرياً. وقال ابن أبي خيثمة: وكان يرمى بالقدر. وقال الساجي: كان قدرياً ذم لبدعته، وقال ابن معين: كان يرى القدر ويظهره. ذكر ذلك في تهذيب التهذيب: ٦/ ٣٩١ - ٣٩٢.

٢ - أبو صالح: وهو مردد بين ميزان البصري وبين باذام مولى ام هاني. والمرجح عند أهل الرجال والحديث أنه باذام. وباذام هذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ١/ ٣٦٤ - ٣٦٥ أنه قال فيه أحمد: كان ابن مهدي قد ترك حديثه، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقال زكريا بن أبي زائدة، كان الشعبي يمر بأبي صالح فيأخذ باذنه فيهزها ويقول: ويلك تفسر القرآن وأنت لا تحفظ القرآن، وقال ابن المديني عن القطان عن الثوري: قال الكلبي قال لي أبو صالح: كلما حدثتك كذب. ونقل ابن الجوزي عن الازدي أنه قال: كذاب.

هذا ما ذكره تهذيب التهذيب. أما في سلسلة الأحاديث الضعيفة فبعد أن ذكر الحديث ورجح أن أبو صالح هذا هو باذام قال: (وأبو صالح هذا مولى ام هانئ بنت أبي طالب، واسمه باذان ويقال: باذام. وهو ضعيف عند جمهور النقاد ولم يوثقه أحد إلا العجلي وحده. بل كذبه اسماعيل بن أبي خالد والأزدي، ووصمه بعضهم بالتدليس وقال الحافظ في «التقريب»: ضعيف مدلس. وهو ضعيف عند ابن الملقن وعبد الحق الأشبيلي). سلسلة الأحاديث الضعيفة: ١/ ٢٥٨.

٣- عبدالله بن عثمان: قال النسائي: ثقة، وقال مرة: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: كان يخطئ ‎ وقال عبدالله بن الدورقي عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية. وقال: ابن خثيم ليس بالقوي علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث. ذكره تهذيب التهذيب: تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

٤- عبدالرحمن بن بهمان: وهذا قال فيه ابن المديني: لا نعرفه. كما نقله عنه في تهذيب التهذيب: ٦/ ١٣٥.

هذا هو حال سند هذا الحديث وحال متنه، ويضاف إلى ذلك أنه معارض بأخبار أخر

=

٢٧

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

____________________

=

كثيرة أحسن منه متناً وأقوى سنداً؛ فقد جاء من الأحاديث التي تحث على زيارة قبر النبي العديد العديد منها ما في كنز العمال: ١٥/ ٦٥١ ح ٤٢٥٨٢ - ٤٢٥٨٤، وكذا في جزئه الخامس / ١٣٥ ح ١٢٣٦٨ - ١٢٣٧٣، وكذلك ما جاء في السنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٥ باب زيارة قبر النبي، وأما في زياره القبور بصورة عامة فلا حظ: كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ الفصل الثالث في زيارة القبور وفي الاحاديث من ٤٢٥٥١ إلى ٤٢٥٥٨، والسنن الكبرى للبيهقي: ٥/ ٢٤٩ باب زيارة القبور التي في بقيع الغرقد، وباب زيارة قبور الشهداء. وكذا في سنن ابن ماجه: ١/ ٥٠٠ باب ما جاء في زيارة القبور. وغير هذه المصادر الكثير الكثير مما يقصر هذا الموضع عن عدها. ولو سلمنا صحة الحديث السابق - جدلا - ومقاومته ومعارضته لكل هذه الأحاديث الصحيحة القوية، فان هذا الأحاديث يمكن أن نعتبرها ناسخة له إذا لا حظنا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالاخرة» ذكره كنز العمال: ١٥/ ٦٤٦ ح ٤٢٥٥٥ وغيره كثير. هذا كله بالاضافة إلى إجماع المسلمين على جواز زيارة القبور، بل رجحانها واستحبابها، وقيام السيرة على ذلك منذ عهد النبي، فقد ذكر البيهقي في سننه الكبرى وغيره بأنه كلما كانت ليلة عائشة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون» ذكره في الجزء: ٥/ ٢٤٩، وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب زيارة قبور المشركين، وأبو داود في سننه في زيارة القبور ح٣٢٣٤، وبن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. بالاضافة إلى الاحاديث المتكاثرة التي تذكر بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم عائشة الدعاء عند زيارة القبور. ولو تجاوزنا هذا كله ورجعنا إلى الحديث الذي اعتمدوه ولا حظناه - بغض النظر عن كل ما قدمناه - فلن نجد فيه الدلالة التي ذكروها بل قد استفاد الكثير من المحدثين والفقهاء كراهة زيارة القبور بالنسبة للنساء فقط لا غير، وإليك نص العبارة التي ذكرها البيهقي في سننه الكبرى: ٤/ ٧٨، فقد قال: (إن فاطمة بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده ثم قال: وقد روينا في الحديث الثابت عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مر بامرأة عند قبر وهي تبكي فقال: «اتقي الله واصبري» وليس في الخبر أنه نهاها عن الخروج إلى المقبرة، وفي ذلك تقوية لما روينا

=

٢٨

بالاعمال الصالحة، كالتقرُّب إليه بعيادة المريض، وتشييع الجنائز، وزيارة الاخوان في الدين، ومواساة الفقير.

فإنّ عيادة المريض - مثلاً - في نفسها عمل صالح يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى، وليس هو تقرُّباً إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته، وكذلك باقي أمثال هذه الاَعمال الصالحة التي منها: زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الاِخوان.

أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الاَعمال الصالحة الشرعية، فذلك يثبت في علم الفقه، وليس هنا موضع إثباته(١) .

____________________

=

عن عائشة إلا أن اصح ما روي ذلك صريحا حديث أم عطية وما يوافقه من الأخبار، فلو تنزهن عن اتباع الجنائز والخروج إلى المقابر وزيارة القبور كان أبرأ لدينهن). انتهى كلامه. وحديث أم عطية هو: قالت نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا: السنن الكبرى: ٤/ ٧٧ قال: وأخرجه مسلم في الصحيح من وجهين عن هشام. سنن ابن ماجه ١/ ٥٠٢ ح ١٥٧٧.

ولزيادة الاطلاع والتوضيح راجع: كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب، للسيد محسن الأمين العاملي.

(١) وعلى سبيل المثال نذكر ما ورد في السنة والسيرة للنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله حول رجحان أمثال هذه الاَعمال الصالحة؛ منها ما رواه البخاري في صحيحه في باب فضائل أصحاب النبي: ٤/٢٠٤ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» وكذلك ندب النبي إلى البكاء على حمزة فقال: «على مثل حمزة فلتبك البواكي» راجع: طبقات ابن سعد: ٢/٤٤، ومغازي الواقدي: ١/٣١٧، ومسند أحمد: ٢/٤٠. وذكر النسائي في سننه، كتاب الجنائز باب زيارة قبور المشركين، وابو داود في سننه في زيارة القبور ح ٣٢٣٤ وابن ماجه في سننه في باب ما جاء في زيارة قبور المشركين: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر اُمه فبكى وأبكى من حوله.

وكذلك صح بكاء الزهراءعليها‌السلام على أبيها وبكاء زينب بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام على أخويها الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وقال الامام الصادقعليه‌السلام : «قال الحسينعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى» كامل الزيارات: ١٠٨.

وقالعليه‌السلام : «نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد

=

٢٩

والغرض؛ إنّ إقامة هذه الاَعمال ليست من نوع الشرك في العبادة - كما يتوهمه البعض - وليس المقصود منها عبادة الاَئمّة، وإنّما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوب ) (١) .

فكلّ هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع إستحبابها، فإذا جاء الانسان متقرِّباً بها إلى الله تعالى، طالباً مرضاته، استحقّ الثواب منه، ونال جزاءه.

____________________

=

في سبيل الله». بحار الأنوار: ٤٤/ ٢٧٨ ح٤.

وقال الامام الرضاعليه‌السلام : «من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» أمالي الصدوق: المجلس السابع عشر.

(١) الحج ٢٢: ٣٢.

٣٠

٧ - عقيدتنا في صفاته تعالى

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات الجمال والكمال - كالعلم، والقدرة، والغنى، والاِرادة، والحياة - هي كلّها عين ذاته، ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلاّ وجود الذات؛ فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا إثنينيه في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكماليّة.

نعم، هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها؛ لاَنّه لو كانت مختلفة في الوجود - وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات - للزم تعدّد واجب الوجود، ولانثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد(١) .

وأمّا الصفات الثبوتية الاضافية - كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية - فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية، وهي القيّومية

____________________

(١) يشير الشيخ المظفرقدس‌سره إلى هذا المعنى بقوله: -

(أمّا القول بالاعتبار الذي معناه أنّ الصفات لا واقع خارجي لها، فنحن نعتبر هذا الكلام غير صحيح؛ لاَنّ الله تعالى وصف نفسه بأنّه عليم حكيم قادر هو محض القدرة والعلم والحياة، لا أنّه ذات لها القدرة والعلم والحياة، ولكن هذه الصفات متغايرة بالمفهوم الذي يفهم منه لدى الذهن؛ لاَنّها ألفاظ غير مترادفة، فتغايرها اعتباري مفهومي فقط، فلا تغاير في الصفات وجوداً، ولا من حيث الحيثيّة، ولا تعددها اعتباري كما ذكروا، بل هناك تعدد مفهومي يحكي عن حقيقة هو كلّ الحقائق. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «فمن وصفه فقد عدّه..» أليس هو قد وصفه بصفات كثيرة؟! ولكنه يعني أنّ من وصفه بصفات زائدة على الذات، بحيث يوجب تعدد الذات وتعدّد القدماء، ويخرج عن كونه واجب الوجود).

الفلسفة الاسلامية محاضرات الشيخ المظفرقدس‌سره : ١٠٢.

٣١

لمخلوقاته، وهي صفة واحدة تنتزع منها عدّة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات.

وأمّا الصفات السلبية التي تسمّى بصفات الجلال، فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد هو سلب الامكان عنه؛ فإنّ سلب الاِمكان لازمه - بل معناه - سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون، والثقل والخفّة، وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص.

ثمّ إنّ مرجع سلب الاِمكان - في الحقيقة - إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات الثبوتية الكمالية، فترجع الصفات الجلالية (السلبية) آخر الاَمر إلى الصفات الكمالية (الثبوتية) ، والله تعالى واحد من جميع الجهات، لا تكثّر في ذاته المقدّسة، ولا تركيب في حقيقة الواحد الصمد.

ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية؛ لمّا عزّ عليه أن يفهم كيف أنّ صفاته عين ذاته، فتخيّل أنّ الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب؛ ليطمئنّ إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثّرها، فوقع بما هو أسوأ؛ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود، ومحض الوجود، والفاقدة لكلّ نقص وجهة إمكان، جعلها عين العدم ومحض السلب(١) ، أعاذنا الله من شطحات الاَوهام، وزلاّت الاَقلام.

____________________

(١) في كلام المصنّفقدس‌سره إشارة إلى ما ذهب إليه الشيخ الصدوققدس‌سره في قوله: (كلّما وصفنا الله تعالى من صفات ذاته فإنّما نريد بكل صفة منها نفي ضدّها عنه عز وجل. ونقول: لم يزل الله عز وجل سميعاً بصيراً عليماً حكيماً قادراً عزيزاً حياً قيوماً واحداً قديماً. وهذه صفات ذاته.

ولا نقول: إنّه عز وجل لم يزل خلاّقاً فاعلاً شائياً مريداً راضياً ساخطاً رازقاً وهاباً متكلماً؛ لاَنّ هذه صفات أفعاله، وهي محدثة لا يجوز أن يقال: لم يزل الله موصوفاً بها) الاعتقادات: ٨.

=

٣٢

كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أنّ صفاته الثبوتية زائدة على ذاته؛ فقال بتعدّد القدماء، ووجود الشركاء لواجب الوجود، أو قال بتركيبه - تعالى عن ذلك -(١) .

____________________

=

الاعتقادات: ٨.

ولا يخفى أن هذا يعني أنه يمكن انطباق عدة سلوب على موضوع واحد؛ فمعنى الحياة هو عدم الموت، ومعنى العلم عدم الجهل، ومعنى القدرة عدم العجز.. وهكذا، وهذه اسلوب يمكن انطباقها على ذات واحدة، فيتبين أن الله - تعالى عن ذلك - هو مجموعة اسلوب، ويعقب الشيخ المظفر على ذلك بقوله: (نحن نحترم الشيخ الصدوق - كمحدث وناقل - فاذا تحدث عن مثل هذه الامور فلا نقبل آراءه. فنحن نريد أن نقول: أنه لا تعدد حقيقي، ولا من حيث الحيثية، ولا تعدد اعتباري؛ لأن التعدد من ناحية الاعتبار ومن ناحية الحيثية لا قيمة له، فالفكرة التي نؤمن بها يعرب عنها الفارابي بقوله : (هو عالم من حيث قادر ، وقادر من حيث هو حي ، وحي من حيث هو عالم ..) إن هذه الصفات ليس فيها تعدد حقيقي ولا تعدد حيثية ؛ لان جهة العلم ليست غير جهة الحياة ، فالتعدد الذي نتصوره هو بالمفهوم الذي يحكي عن حقيقة ، وتعددها عين وحدتها نحن نقول : انه عالم من حيث هو قادر ، وهو حيثيات واقعية ولكن لا بمعنى ان لها وجودات مستقلة ، بل بمعنى ان نفس الوجود هو بنفسه العلم وهو بنفسه القدرة لا ان القدرة موجودة بذلك الوجود لتكون حيثية مقابلة لتلك الحيثية ، فهذه الصفات وان كانت حقيقة وواقعية ففي عين تعددها هي واحدة ، وتعدد هذه المفاهيم يكشف عن معنى حقيقي ولكن ليس هناك تعدد حتى بالمعنى ، وهذا العمق في هذا القول هو الذي غاب عن أفكار أصحاب الاقوال السابقة ) لاحظ : الفلسفة الاسلامية للمظفر : ١٠١ - ١٠٢. راجع : تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد ٤١، وكذلك : مطارح النظر في شرح الباب الحادي عشر للشيخ صفي الدين الطريحي : الفصل الثالث : ١٣١- ١٦٢.

(١) نجد أنّ الشيخ المؤلف قد اوضح هذه المسألة من حيث أنّ الاَقوال فيها كما يلي: -

١ - الصفات زائدة على الذات، ولكنها لازمة لها أي واجبة الوجود أيضاً، هذا قول الاَشاعرة.

٢ - قول الكرامية بأنّ الصفات زائدة على الذات ولكنها غير لازمة لها؛ لاَنّها لو كانت

=

٣٣

قال مولانا أمير المؤمنين وسيِّد الموحّدينعليه‌السلام : «وكمالُ الاِخلاصِ لهُ نفيُ الصِفاتِ عنهُ؛ لشهادةِ كلِّ صفةٍ أَنَّها غيرُ المَوصوفِ، وشهادةِ كلِّ موصوفٍ أنَّه غيرُ الصفةِ، فمَنْ وَصَفَ الله سبحانه فَقدْ قرنَهُ، ومَنْ قرنَهُ فَقدْ ثنّاهُ، ومَنْ ثنّاهُ فَقدْ جزّأَهُ، ومن جزّأَهُ فَقدْ جَهِلَهُ...»(١) .

____________________

=

لازمة لكانت واجبة الوجود وحينئذٍ يلزم تعدد واجب الوجود.

٣- وقول بأن وجود الصفات نفس وجود الذات أي متحدة بالوجود مع تعدد الحيثية، كتعدد حيثيات صفات الانسان ، فالنفس في وحدتها كل القوى أي وجودا.

٤- وقول بأن هذا التعدد اعتباري ، أي ليس هناك تعدد في الوجود ولا في الحيثيات ، وإنما يعتبرها الذهن ، ومنشأ الاعتبار هو نفس الذات.

فهذه الأقوال جميعا لا نرتضيها ؛ لأنها كلها غير صحيحة ، وإنما نشأ الخلط في دقة النظر في فهم عينية الصفات للذات.

الأشاعرة لم يفهموا معنى عينية الصفات للذات وظنوا أن معنى ذلك أنه تعالى لا صفات له ، والكرامية قالوا : إن الصفات لو كانت ملازمة للزم تعدد واجب الوجود ، والقائلون بتعدد الحيثيات قالوا بأن هذا لا يثلم عقيدة التوحيد ، والقائلون بالاعتبار قالوا : إن القول بتعدد الحيثيات غير معقول.

الفلسفة الاسلامية للشيخ المظفر : ١٠٠.

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١ (من كلام لهعليه‌السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والاَرض)، الاحتجاج: ٢/٤٧٣ ح١١٣.

٣٤

٨ - عقيدتنا في العدل

ونعتقد: أنّ من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنّه عادل غير ظالم، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه؛ يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين، ولا يكلِّف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون(١) .

ونعتقد: أنّه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح؛ لاَنّه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح، مع فرض علمه بحسن الحسن، وقبح القبيح، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرّر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم؛ لا بدّ أن يكون فعله مطابقاً للحكمة، وعلى حسب النظام الاَكمل(٢) .

____________________

(١) العدل هو الجزاء على العمل بقدر المستحق عليه، والظلم هو منع الحقوق، والله تعالى عدل كريم جواد متفضل رحيم قد ضمن الجزاء على الاعمال والعوض على المبتدئ من الآلام، ووعد التفضل بعد ذلك بزيادة من عنده، فقال تعالى( لِلّذينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزيادة ) يونس ١٠: ٢٦. فخبّر أنّ للمحسنين الثواب المستحق وزيادة من عنده، وقال:( مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِهَا ) يعني له عشر أمثال ما يستحق عليها،( وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فِلا يُجزَى إلاّ مِثْلَها وَهُم لا يُظلَمون ) الانعام ٦: ١٦٠. يريد أنّه لا يجازيه بأكثر مما يستحقه، ثم ضمن بعد ذلك العفو ووعد بالغفران. فقال سبحانه( وإنّ ربّك لَذو مَغفِرةٍ للنَّاسِ على ظلمهم ) الرعد ١٣: ٦. وقال سبحانه:( إنّ الله لا يَغْفِر أن يُشركَ بِهِ ويَغفر مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشاءُ ) النساء ٤: ٤٨... وقد أمر الله تعالى بالعدل ونهى عن الجور فقال تعالى:( إنَّ الله يأمُر بِالعَدلَ والاِحْسن ) النحل ١٦: ٩٠.

تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد: ١٠٣.

(٢) وتعتبر الشيعة الامامية العدل من أصول الدين وليس هو في الحقيقة اصلاً مستقلاً، بل هو

=

٣٥

فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فانّ الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور:

١ - أن يكون جاهلاً بالأمر، فلا يدري أنّه قبيح.

٢ - أن يكون عالماً به، ولكنّه مجبور على فعله، وعاجز عن تركه.

٣ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولكنه محتاج إلى فعله.

٤ - أن يكون عالماً به، وغير مجبور عليه، ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له تشهّياً وعبثاً ولهواً.

وكل هذه الصور محال على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه وهو محض الكمال، فيجب أن نحكم أنه منزَّه عن الظلم وفعل ما هو قبيح.

____________________

=

مندرج في نعوت الحق ووجوب وجوده المستلزم لجامعيّته لصفات الجمال والكمال فهو شأن من شؤون التوحيد، ولكن الاَشاعرة لما خالفوا العدلية - وهم المعتزلة والامامية - فانكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا: ليس الحسن إلاّ ما حسّنه الشرع وليس القبح إلاّ ما قبحه الشرع، وأنه تعالى لو خلد المطيع في جهنم والعاصي في الجنة لم يكن قبيحاً؛ لاَنّه يتصرف في ملكه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفْعَل وَهُم يُسْئَلُونَ ) الانبياء ٢١: ٢٣. أمّا العدلية فقالوا: انّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلاّ تأكيداً وارشاداً، والعقل يستقل بحسن بعض الاَفعال وقبح البعض الآخر ويحكم بأنّ القبيح محال على الله تعالى؛ لاَنّه حكيم وفعل القبيح مناف للحكمة وتعذيب المطيع ظلم والظلم قبيح وهو لا يقع منه تعالى.

وبهذا أثبتوا لله صفة العدل وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة الى خلاف الاشاعرة.

والعدلية بقاعدة الحسن والقبح العقليين اثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللطف ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة ، وعليها بنوا أيضا مسألة الجبر والاختبار التي هي من معضلات المسائل.

للتفصيل راجع : أصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء : ٢٣٠.

مطارح النظر للشيخ الطريحي : الفصل الرابع ١٦٤.

٣٦

غير أن بعض المسلمين جوَّز عليه تعالى فعل القبيح(١) - تقدَّست أسماؤه - فجوَّز أن يعاقب المطيعين، ويدخل الجنّة العاصين، بل الكافرين، وجوَّز أن يكلِّف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه، ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوَّز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة، بحجّة أنّه( لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسئَلونَ ) (٢) .

فربُّ أمثال هؤلاء الذين صوَّروه على عقيدتهم الفاسدة: ظالم، جائر، سفيه، لاعب، كاذب، مخادع، يفعل القبيح ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وهذا هو الكفر بعينه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه:( وَمَا اللهُ يُريدُ ظُلْماً للعِبَادِ ) (٣) .

وقال:( وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (٤) .

وقال:( وَمَا خَلَقْنَا الْسَّمواتِ والاَرضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ) (٥) .

وقال:( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ والاِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (٦) .

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً.

____________________

(١) والى ذلك ذهبت الاَشاعرة بقولهم إنّ الله تعالى قد فعل القبائح بأسرها من أنواع الظلم والشرك والجور والعدوان ورضي بها وأحبّها - جل عن ذلك سبحانه وتعالى -. ولتفصيل هذه الاَفكار الباطلة يراجع: نهج الحق للعلامة الحلّي: ٨٥، شرح العقائد وحاشيتة للكستلي: ١٠٩ و١١٣، الملل والنحل: ١/٨٥، ٨٨، ٩١، الفصل لابن حزم: ٣/٦٦ و٦٩، شرح التجريد للقوشجي: ٣٧٣.

(٢) الانبياء ٢١: ٢٣.

(٣) غافر ٤٠: ٣١.

(٤) البقرة ٢: ٢٠٥.

(٥) الدخان ٤٤: ٣٨.

(٦) الذاريات ٥١: ٥٦.

٣٧

٩ - عقيدتنا في التكليف

نعتقد: أنّه تعالى لا يكلِّف عباده إِلاّ بعد إقامة الحجّة عليهم(١) ، ولا

____________________

(١) لا بد من معرفة أنّ حقيقة التكليف تعني: إرادة المريد من غيره ما فيه كلفة ومشقة. فيكون عندئذ المرجع هو الارادة، بقرينة ما ذكر في التعريف من الكلفة والمشقة. وأردف السيد الشريف المرتضى علم الهدى بعد ذلك بقوله - مصحّحاً القول: إنّ التكليف لا يحسن إلاّ بعد اكمال العقل ونصب الادلّة -: (وأنه تعالى اكمل العقول وحصل سائر الشروط فلا بد من أن يكلِّف، وهذا يدل على أن التكليف غير التعريف ). وقد بحث علماؤنا مباحث التكليف بصورة مستفيضة ذاكرين وجوه المراد بالتكليف وتعلقها بالمكلِّف والمكلَّف وصفات المكلف، والغرض من هذا التكليف، والوجه المجرى به إليه، وما الافعال التي يتناولها، وما المكلِّف الذي كلف هذه الاَفعال، وبأي شيء مختص من الصفات حتى يحسن أو يجب تكليفه. والمعلوم أنّ هذا الموضوع هو من بحوث الارادة الذي استحق من المتكلمين عناية وعنواناً مفرداً على أثر الاختلاف العظيم بين العلماء وزعماء المذاهب في المشيئة الالهية المذكورة في آيات الذكر الحكيم وتعلقها بأمور غير مرضية لديه سبحانه، ثمّ في تأويلها بوجوه لا تخلو عن التكلّف في الاَكثر وأهمّها الآية ١٤٨ من سورة الاَنعام( سَيقوُل الّذين أشركُوا لو شاءَ الله ما أشركْنَا ولا آباؤُنَا ولا حَرّمنا مِنْ شَيء كَذلِكَ كذّبَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأسَنَا قُلْ هَل عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبعونَ إلاّ الظَنَّ وإنْ أَنْتُمْ إلاّ تخرُصُون ) والآية ٢٠ من سورة الزخرف:( وَقالُوا لَو شَاءَ الرّحمنُ ما عبدنهُمْ مَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلمٍ إنْ هم إلاّ يَخرُصوُنَ ) وآيات كثيرة توهم تعلق إرادة الخالق بما يستقبحهُ المخلوق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن هذا يبدو أنّ شيخنا المظفرقدس‌سره أفرد عنواناً مستقلاً للتكليف سطر فيه ما يمكن أن يختصر نظرية الامامية في هذا الباب، ذلك أنّ مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام لها موقف واضح معروف يؤكّد على تنزيه الرب الكريم سبحانه وتقديسه عن كل ما هو قبيح أو شبه قبيح وشدة استنكارها بتعلّق مشيئة الله أو إرادته بشرك أو ظلم أو فاحشة قط، فضلاً عن فعله أو خلق فعله أو الاَمر به؛ إذ كل ذلك سيقع خلافاً لحكمته وعدله وفضله.

=

٣٨

يكلِّفهم إلاّ ما يسعهم ما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون؛ لاَنّه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصِّر في التعليم.

أمّا الجاهل المقصِّر في معرفة الاَحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى، ومعاقَب على تقصيره؛ إذ يجب على كلّ إنسان أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من الاَحكام الشرعية(١) .

____________________

=

ومحصلة القول ما ذكره الشيخ المفيد بقوله: إنّ الله تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الاَفعال، ولا يشاء إلاّ الجميل من الاعمال، ولا يريد القبائح، ولا يشاء الفواحش - تعالى الله عمّا يقول المبطلون علواً كبيرا- :

قال الله تعالى :( وما الله يريد ظلماً للعباد ) غافر ٤٠ : ٣١.

وقال تعالى :( يريد الله بكم اليسرة ولا يريد بكم العسر ) البقرة ٢ : ١٨٥.

وقال تعالى :( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) النساء ٤ : ٢٦.

وقال تعالى :( والله يرريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماُ ) النساء ٤: ٢٧.

وقال تعالى :( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا ) النساء ٤: ٢٨. فخبر سبحانه أنه لا يريد بعباده العسر بل يريد بهم اليسر ، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال ، ويريد التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم ، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب اليه الضالون المفترون على الله الكذب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كلبيرا.

لاحظ : الذخيرة للسيد المرتضى : ١٠٥، تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد : المجلد ٥ من مصنفات الشيخ المفيد : ٤٨-٥١.

(١) ويدلّ عليه ما ورد في كتاب الله تعالى من قوله:( فَسْئَلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) النحل ١٦: ٤٣ وقوله تعالى:( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّين ولُينذرِوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعوا إليْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرون) التوبة ٩: ١٢٢.

ويدلّ عليه أيضاً قول الامام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن قوله تعالى:( قلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ ) الانعام ٦: ١٤٩. فقالعليه‌السلام : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالماً؟ فان قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت

=

٣٩

ونعتقد: أنّه تعالى لا بدَّ أن يكلِّف عباده، ويسنَّ لهم الشرائع، وما فيه صلاحهم وخيرهم؛ ليدلّهم على طرق الخير والسعادة الدائمة، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عمّا فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم، وإن علم أنّهم لا يطيعونه؛ لاَنّ ذلك لطف ورحمة بعباده، وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير ممّا يعود عليهم بالضرر والخسران، والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته، وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته، ويستحيل أن ينفك عنه.

ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرّدين على طاعته، غير مناقدين إلى أوامره ونواهيه.

____________________

=

جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصم، فتلك الحجة البالغة». الاَمالي للشيخ الطوسي: ٩ ح١٠/١٠. ونقله عنه: البحار: ٢/٢٩ ح١٠.

والحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام : (عليكم بالتفقه في دين الله ، ولا تكونوا أعرابا ؛ فانه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله اليه يوم القيامة ولم يزك له عملا .)الكافي :١/٢٤ ح٧.

كما ورد في الرسائل العملية للعلماء الأعلام : يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو التي في معرض ابتلائه لئلا يقع - لولا التعلم - في مخالفة تكليف إلزامي متوجه اليه عند طروهما لاحظ منهاج الصالحين للسيد السيستاني : العبادات / مسألة ١٩ص١٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

البشارة بمولد الإمام زين العابدين عليه‌السلام

عند اقتران الإمام الحسين عليه‌السلام بالسيّدة الجليلة شاه زنان بارك الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده قائلا :

« يا أبا عبد الله ، ليلدنّ لك منها غلام خير أهل الأرض » (١) .

وفعلا فقد تحقّق ما أخبر عنه الإمام عليه‌السلام ، فقد ولدت لولده الحسين عليه‌السلام سيّد الساجدين وتاج البكّائين زين العابدين صاحب رسالة الحقوق ، والتي هي من أذخر الرسائل الحقوقية ، والصحيفة السجّادية وهي إنجيل آل محمّد (٢) .

__________________

(١) الأحاديث الغيبية ٢ : ١٧٦.

(٢) قد ذكرنا مفصّلا عن حياة الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في كتابنا : حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام في مجلّدين.

١٢١

مقتل الإمام الرضا عليه‌السلام

عن النعمان بن سعد قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسّمّ ظلما ، اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم ابن عمران موسى عليه‌السلام ، ألا فمن زاره في غربته غفر الله عزّ وجلّ له ذنوبه ما تقدّم منها وما تأخّر ... » (١) .

لقد تحقّق ما أخبر به عليه‌السلام فقد رزق الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام بالإمام الرضا ، والذي هو أثرى شخصية عرفها التأريخ بعلومه ومعارفه في زمانه ؛ إذ فتك به المأمون العباسي بالسمّ بعد ما غرّبه عن الأوطان فمضى عليه‌السلام شهيدا محتسبا (٢) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٥٨.

(٢) قد ذكرنا عن حياته مفصلا في كتابنا : حياة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ، في مجلّدين.

١٢٢

مدينة بغداد

اجتاز الإمام عليه‌السلام على أرض بغداد ، فقال عليه‌السلام :

« ما تدعى هذه الأرض؟ ».

فقالوا له : بغداد.

قال : « نعم ، تبنى هاهنا مدينة » ، وذكر أوصافها (١) .

وتحقّق ذلك ، فقد بنيت بغداد وازدهرت في العصر العباسي ، فكانت عاصمة الدنيا ، وذكر الرواة أنّ الحسن بن ذكوان الفارسي التقى بالإمام ، وطلب منه أن يدعو الله له.

فقال له الإمام : « إنّك ستعمّر ، وتحمل إلى مدينة يبنيها رجل من بني عمّي العبّاس تسمّى بغداد ، ولا تصل إليها ، وتموت بموضع يقال له المدائن ».

فكان كما قال عليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٢٢.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٣٠٧.

١٢٣

عدد ملوك بني العبّاس

وكان ممّا أخبر به الإمام عليه‌السلام أنّه عدد ملوك بني العباس الذين يحكمون العالم الإسلامي ، قال عليه‌السلام :

« ويل هذه الامّة من رجالهم الشّجرة الملعونة الّتي ذكرها ربّكم تعالى ، أوّلهم خضراء وآخرهم هزماء ، ثمّ يلي بعدهم أمر أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رجال : أوّلهم أرأفهم ، وثانيهم أفتكهم ، وخامسهم كبشهم ، وسابعهم أعلمهم ، وعاشرهم أكفرهم ، يقتله أخصّهم به ، وخامس عشرهم كثير العناء ، قليل الغناء ، وسادس عشرهم أقضاهم للذمم ، وأوصلهم للرّحم ، كأنّي أرى ثامن عشرهم تفحص رجلاه في دمه بعد أن يأخذه جنده بكظمه ، من ولده ثلاث رجال : سيرتهم سيرة الضّلال ، الثّاني والعشرون منهم الشّيخ الهرم ، تطول أعوامه ، وتوافق الرّعيّة أيّامه ، السّادس والعشرون منهم يشرد الملك منه شرود النّقنق (١) ، ويعضده الهزرة المتفيهق ، لكأنّي أراه على جسر الزّوراء قتيلا ، ذلك بما قدّمت يداك ، وإنّ الله ليس بظلاّم للعبيد » (٢) .

__________________

(١) النّقنق : جمعه نقانق ، ذكر النّعامة.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٢.

١٢٤

وأوضح المجلسي بنود هذه الخطبة قال :

« إنّ أوّلهم ـ أي أوّل بني العبّاس ـ هو السفاح كان أرأفهم (١) .

وأنّ ثانيهم هو المنصور كان أفتكهم ، أي أجرأهم ، وأشجعهم ، وأكثرهم قتلا للناس خدعة وغدرا.

وأنّ خامسهم وهو الرشيد كان كبشهم ؛ إذ لم يستقرّ ملك أحد منهم كاستقرار ملكه ، وأنّ سابعهم وهو المأمون كان أعلمهم ، واشتهار وفور علمه من بينهم يغني عن البيان.

وأنّ عاشرهم وهو المتوكّل أكفرهم بل أكفر الناس كلّهم أجمعين لشدّة نصبه وإيذائه لأهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم وسائر الخلق ، وأنّ من قتله كان من غلمانه الخاصّة.

وأنّ خامس عشرهم المعتمد على الله أحمد بن المتوكّل ، وهو وإن كان زمان خلافته ثلاث وعشرين سنة لكن كان في أكثر زمانه مشتغلا بحرب صاحب الزنج وغيره ، فلذا وصفه عليه‌السلام بكثرة العناء.

وسادس عشرهم المعتضد بالله رأى في النوم رجلا أتى دجلة فمدّ يده إليها ، فاجتمع مائها فيها ، ثمّ فتح كفّه ففاض الماء ، فسأل المعتضد أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أنا عليّ بن أبي طالب إذا جلست على سرير الخلافة فأحسن إلى أولادي ، فلمّا وصلت إليه الخلافة أحبّ العلويّين وأحسن إليهم ، فلذا وصفه عليه‌السلام بقضاء العهد وصلة الرحم.

وثامن عشرهم هو جعفر الملقّب بـ المقتدر بالله ، وخرج مونس الخادم من جملة عسكره ، وأتى الموصل واستولى عليه ، وجمع عسكرا ورجع وحارب

__________________

(١) أي أرأفهم من بين ملوك بني العباس على العلويّين.

١٢٥

المقتدر في بغداد ، وانهزم عسكر المقتدر ، وقتل هو في المعركة ، واستولى على الخلافة من بعده ثلاثة من أولاده ، الراضي بالله محمّد بن المقتدر ، والمتّقي بالله إبراهيم بن المقتدر ، والمطيع لله فضل بن المقتدر.

وأمّا الثاني والعشرون منهم فهو المكتفي بالله عبد الله ، وادّعى الخلافة بعد مضي إحدى وأربعين سنة من عمره ـ سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة ـ ، واستولى أحمد ابن بويه في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة على بغداد ، وأخذ المكتفي وسمل عينه وتوفّي في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.

ويقال : إنّه كانت أيام خلافته سنة وأربعة أشهر.

ويحتمل أن يكون من خطأ المؤرّخين أو رواة الحديث بأن يكون في الأصل الخامس والعشرون أو السادس والعشرون ، فالأوّل هو القادر بالله أحمد بن إسحاق ، وقد عمّر ستا وثمانين سنة ، وكانت مدّة خلافته إحدى وأربعين سنة ، والثاني القائم بأمر الله كان عمره ستّا وسبعين سنة وخلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر.

ويحتمل أن يكون عليه‌السلام إنّما عبّر عن القائم بأمر الله بالثاني والعشرين لعدم اعتداده بخلافة القاهر بالله ، والراضي بالله والمقتدر بالله والمكتفي بالله لعدم استقلالهم وقلّة أيام خلافتهم.

فعلى هذا يكون السادس والعشرون الراشد بالله ، فإنّه هرب في حماية عماد الدين الزنجي ، ثمّ قتله بعض الفدائيّين ، فقد قتل في أصفهان.

ويحتمل أن يكون المراد بالسادس والعشرين المستعصم ، فإنّه قتل كذلك وهو آخرهم ، وإنّما عبّر عنه كذلك مع كونه السابع والثلاثين منهم لكونه السادس والعشرين من عظمائهم ، لعدم استقلال كثير منهم وكونهم مغلوبين للمماليك والأتراك.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد السادس والعشرون من العباس وأولاده ، فإنّهم

١٢٦

اختلفوا في أنّه هل هو الرابع والعشرون من أولاد العباس أو الخامس والعشرون منهم ، وعلى الأخير يكون بانضمام العباس السادس والعشرون وعلى الأخيرين يكون مكان يعضده يقصده » (١) .

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

١٢٧

فتنة الزنج

من الأحداث الجسام التي أخبر عن وقوعها الإمام عليه‌السلام هي فتنة صاحب الزنج ، فقد زعم أنّه علي بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، وقد احتفّ به الزنج ، ووعدهم بالتحرير والظفر بأموال الدولة وتسخيرها لمصالحهم ، فانصاعوا له ، والتفّوا حوله ، وقد تحدّث المؤرّخون عن تفصيل الحادثة والفتوحات التي تمّت له ، وإلى ما جرى عليه.

وعلى أي حال فلنستمع إلى ما قاله الإمام عليه‌السلام في وصف جيشه وإلى الدمار الذي حلّ في البلاد من جرائمهم ، قال عليه‌السلام :

« يا أحنف ، كأنّي به ـ أي بصاحب الزنج ـ وقد سار بالجيش الّذي لا يكون له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النّعام ».

أشار الإمام عليه‌السلام إلى أوصاف جيش صاحب الزنج ، وأنّهم في منتهى التدريب العسكري ، لا غبار لهم ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، وهذه الأوصاف أروع ما توصف به الجيوش المنظّمة التي بلغت الذروة في تدريبها.

ثمّ عرض الإمام عليه‌السلام إلى ما تعانيه البلاد من الدمار والخراب من ذلك الجيش قال عليه‌السلام :

« ويل لسكككم العامرة والدّور المزخرفة الّتي لها أجنحة كأجنحة

١٢٨

النّسور ، وخراطيم كخراطيم الفيلة ، من أولئك الّذين لا يندب قتيلهم ، ولا يفقد غائبهم ... » (١)

وقد عانت البلاد الإسلامية أقسى ألوان المحن والخطوب من جيش صاحب الزنج ، فقد تهدّمت الدور وتخرّبت المزارع وتدهور الاقتصاد العامّ ، وكان ذلك في سنة ٢٥٥ ه‍ ، وقد ذكرت مصادر التاريخ تفصيل تلك الأحداث المروعة المؤسفة.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ١٢٥.

١٢٩

حكومة بني بويه

أخبر الإمام عليه‌السلام عن حكومة بني بويه فقال :

« ويخرج من ديلمان بنو الصّيّاد (١) ، ثمّ يستشري أمرهم حتّى يملكوا الزّوراء ، ويخلعوا الخلفاء ... ».

فقام شخص وقال : كم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟

فقال عليه‌السلام : « مائة ـ أي مائة عام ـ أو تزيد قليلا ».

واستطرد الإمام عليه‌السلام في ذكرهم قائلا :

« والمترف ابن الأجذم يقتله ابن عمّه على دجلة ... ».

أشار عليه‌السلام إلى عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسين ، وكان معزّ الدولة أقطع اليد ، قطعت يده لنكوصه في الحرب ، وكان ابنه مترفا صاحب لهو وشرب ، قتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمّه بقصر الجصّ على دجلة ، وسلب ملكه ، فأما خلعهم للخلفاء فإنّ معزّ الدولة خلع المستكفي ، وأقام عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، وخلع الطائع ورتّب مكانه القادر ، وكانت مدّة ملكهم كما أخبر به الإمام عليه‌السلام (٢) .

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد : كان أبوهم يصيد السمك ، ويتقوّت به هو وعياله ، فأخرج من ولده ملوكا ثلاثة ، ونشر رايتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.

١٣٠

دولة المغاربة

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه‌السلام ظهور دولة للعلويّين بالمغرب العربي بقيادة أبي عبد الله المهدي ، وهو أوّل ملوكهم ، قال عليه‌السلام :

« ثمّ يظهر صاحب القيروان الغضّ البضّ ، ذو النّسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجّى بالرّداء » (١) .

قال ابن أبي الحديد : « كان عبيد الله المهدي أبيض ، مترفا ، مشربا بحمرة ، رخص البدن تار (٢) الأطراف ، وذو البداء هو إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، وهو المسجّى بالرداء ؛ لأنّ أباه سجّاه بردائه لمّا مات ، وأدخل عليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته ، وتزول عنهم الشبهة في أمره » (٣) .

ومن المؤسف أنّه لم تؤمن بموت إسماعيل كوكبة من الشيعة وهم الإسماعيلية ، فقد اعتقدوا بحياته ، وأنّه ارتفع إلى السماء كما ارتفع السيّد المسيح.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.

(٢) التار : الممتلئ جسمه ريا.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٩.

١٣١

الثورة في طبرستان

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام عليه‌السلام ظهور ثورة طبرستان يقوم بها بعض السادة كالناصر والداعي وغيرهما ، قال عليه‌السلام :

« وإنّ لآل محمّد بالطّالقان لكنز سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حتّى يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله » (١) .

وتحقّق ذلك ، فقد ثار هؤلاء السادة الأعلام في طالقان رافعين شعار الإسلام ، ومتبنّين الدعوة إلى حكم القرآن.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٧ : ٤٨.

١٣٢

حكومة القرامطة

وأخبرنا الإمام عن القرامطة الفئة الضالّة التي لا عهد لها بالإسلام. قال عليه‌السلام فيهم :

« ينتحلون لنا الحبّ والهوى ، ويضمرون لنا البغض والقلى ، وآية ذلك قتلهم ورّاثنا ، وهجرهم أحداثنا » (١) .

ظهرت القرامطة على مسرح الحياة الإسلامية ، فأشاعت الفساد والقتل والنهب والدمار ، وقد أحلّت ما حرّم الله تعالى ، وحرّمت ما أحلّ الله ، وهي كالشيوعية في تعاليمها ومروقها من الدين ، وقد استباحوا قتل السادة العلويّين ، فقد قتلوا كوكبة من أعلامهم ذكر أسماءهم أبو الفرج الأصفهاني (٢) .

وقد عرفوا بالنصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، فقد اجتاز أبو الطاهر سليمان بن الحسن الجنابي ، وهو من أعلامهم على مدينة النجف الأشرف وعلى مدينة كربلاء المقدّسة ، ولم يعرج على زيارة المرقدين المكرّمين (٣) .

__________________

(١) المصدر السابق ١٠ : ١٤.

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٤٥٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ١٤.

١٣٣

التتر

من المغيّبات التي أخبر عنها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والتي تحقّقت بعد مئات من السنين هي المحنة الكبرى التي امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا ، وهي افول الخلافة الإسلامية ، وانطواء حكم بني العباس الذين أسرفوا في اقتراف ما حرّم الله ، فقد كانت لياليهم الحمراء حافلة بالخمور والمجون ، ولم يكن للإسلام حكم واقعي وإنّما صورة حكم.

وعلى كلّ حال فقد زحف التتر إلى احتلال عاصمة الإسلام بغداد ، وسقطت بذلك الدولة الإسلامية العظمى ، وقد أمعنوا في قتل الأبرياء وإشاعة الخوف والارهاب بين المسلمين ، وعمدوا إلى تدمير المعالم الإسلامية في المدينة ، وكان من أفجعها تدمير المكتبة المستنصرية التي كانت تضمّ مئات آلاف الكتب ، فالقيت في حوض دجلة ، وبذلك فقد خسر العالم الإسلامي أهمّ ثرواته الفكرية والعلمية.

ولنستمع إلى ما قاله الإمام عليه‌السلام في وصف التتر ، وما يلحقونه في بلاد المسلمين من الدمار الشامل قال عليه‌السلام :

« كأنّي أراهم قوما كأنّ وجوههم المجانّ المطرّقة (١) ، يلبسون السّرق (٢)

__________________

(١) المجان : جمع مجن ـ بكسر الميم ـ : الترس ، سمّي مجنا لأنّه مستتر به.

(٢) السرق : شقق الحرير.

١٣٤

والدّيباج ، ويعتقبون (١) الخيل العتاق. ويكون هناك استحرار قتل حتّى يمشي المجروح على المقتول ، ويكون المفلت أقلّ من المأسور! » (٢) .

وانبرى بعض أصحاب الإمام قائلا له : لقد اعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ...

فتبسّم الإمام عليه‌السلام وقال له :

« يا أخا كلب ، ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ـ يعني أنّه مستقى ومستمدّ من أخيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. وإنّما علم الغيب علم السّاعة ، وما عدّده الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ، فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النّار حطبا ، أو في الجنان للنّبيّين مرافقا. فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ (٣) عليه جوانحي » (٤) .

وقد أوضح الإمام عليه‌السلام العلم الذي عنده إنّما هو مستمدّ من أخيه وابن عمّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه ليس بعلم الغيب الذي لم يطّلع عليه أحد سوى الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة.

__________________

(١) يعتقبون الخيل : أي يجتنبونها لينتقلوا من غيرها إليها.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٤.

(٣) تضطم : أي تجتمع عليها جوانح صدري.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ٢١٥.

١٣٥

وعلى أي حال فقد تحقّق ما أخبر به الإمام عليه‌السلام ، فقد احتلّ الجناة التتر مدينة بغداد ، وسقطت بذلك الدولة الإسلامية ، وقد أمعن الغزاة في قتل الأبرياء وعاثوا فسادا في الأرض.

ومن المؤكّد أنّ السبب في هذه المأساة الخالدة سوء السياسة العباسية ، الذين اقترفوا كلّ ما حرّم الله ، ولم يؤثر عن الكثيرين منهم إلاّ الفسق والفجور ومناجزة المصلحين ، ومعاداة أهل البيت عليهم‌السلام والامعان في قتلهم ومطاردة شيعتهم وأنصارهم ، وبذلك فقد فتحوا الطريق لهولاكو في غزو بغداد والقضاء على الدولة الإسلامية.

١٣٦

الفتن بعد وفاته

وأحاط الإمام عليه‌السلام أصحابه بما يحدث بعد وفاته من الفتن والخطوب ، قال عليه‌السلام :

« وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفي من الحقّ ، ولا أظهر من الباطل ، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله ؛ وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ، ولا أنفق (١) منه إذا حرّف عن مواضعه ؛ ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر! فقد نبذ الكتاب حملته ، وتناساه حفظته ؛ فالكتاب يومئذ وأهله طريدان منفيّان ، وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو.

فالكتاب وأهله ـ وهم أهل البيت ـ في ذلك الزّمان في النّاس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا معهم! لأنّ الضّلالة لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا.

فاجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة ، كأنّهم أئمّة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره (٢) . ومن قبل ما مثّلوا بالصّالحين كلّ مثلة ، وسمّوا

__________________

(١) أنفق : أي أروج.

(٢) الزبر : الكتابة.

١٣٧

صدقهم على الله فرية ، وجعلوا في الحسنة عقوبة السّيّئة » (١) .

وتحقّقت هذه الخطوب بعد وفاة الإمام عليه‌السلام ، فقد آل الحكم إلى معاوية ، ومن بعده إلى بني مروان ، ولم يألوا جهدا في محاربة الإسلام ، والبغي والقتل لحماته ، وقد جمد الكتاب ، وساد المنكر ، وراج الباطل ، وأقبل الناس على مآثم الحياة ، واقتراف الرذائل ، وأعرب عليه‌السلام عن ذلك في حديث آخر قال عليه‌السلام :

« وأخذوا ـ أي الناس ـ يمينا وشمالا ظعنا في مسالك الغيّ ، وتركا لمذاهب الرّشد. فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد ، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد. فكم من مستعجل بما إن أدركه ودّ أنّه لم يدركه. وما أقرب اليوم من تباشير غد! » (٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة : ٦٣ ، الخطبة ١٤٧.

(٢) نهج البلاغة : ٦٤ ، الخطبة ١٥٠.

١٣٨

أحداث آخر الزمان

وتحدّث باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا يحدث في آخر الزمان من الفتن والبلاء ، وقد أدلى بذلك في كثير من المناسبات والتي منها :

١ ـ قال عليه‌السلام :

« يأتي على النّاس زمان لا يقرّب فيه إلاّ الماحل ، ولا يظرّف فيه إلاّ الفاجر ، ولا يضعّف فيه إلاّ المنصف ، يعدّون الصّدقة فيه غرما ، وصلة الرّحم منّا ، والعبادة استطالة على النّاس! فعند ذلك يكون السّلطان بمشورة النّساء ، وإمارة الصّبيان ! » (١)

إنّ البشرية تكون في قوس النزول ، وفي منتهى الانحطاط إذا سارت فيها هذه الامور التي تفضّل ببيانها الإمام.

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلاّ رسمه ، ومن الإسلام إلاّ اسمه ، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء ، خراب من الهدى ، سكّانها وعمّارها شرّ أهل الأرض ، منهم تخرج الفتنة ، وإليهم تأوي

__________________

(١) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ٦٤٧.

١٣٩

الخطيئة ؛ يردّون من شذّ عنها فيها ، ويسوقون من تأخّر عنها إليها. يقول الله تعالى : فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران ، وقد فعل ، ونحن نستقيل الله عثرة الغفلة » (١) .

إنّ الإسلام العظيم الذي ارتضاه الله دينا لجميع البشرية أينما كانوا لا صلاح ولا سعادة ولا استقرار من دونه ، وقد يأتي زمان على المسلمين فينحرفون عنه ، ولا يبقى منه إلاّ اسمه ، وذلك أسوأ الأزمان وأكثرها قتاما.

٣ ـ قال عليه‌السلام :

« يأتي على النّاس زمان عضوض (٢) ، يعضّ الموسر فيه على ما في يديه ولم يؤمر بذلك ، قال الله سبحانه ( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) . تنهد فيه الأشرار ، وتستذلّ الأخيار ، ويبايع المضطرّون ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع المضطرّين » (٣) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض الملاحم والمغيّبات التي أدلى بها الإمام عليه‌السلام ، وقد تحقّقت على مسرح الحياة ، وبها نطوي الحديث عن هذا الكتاب الذي هو جزء من موسوعة حياته.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ١٨٣.

(٢) العضوض : الشديد.

(٣) نهج البلاغة ـ قصار الحكم ٤ : ٤٦١.

١٤٠

141

142

143