الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154521 / تحميل: 6633
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « 1 / 51 » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: 2 / 275 ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / 352، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: 1 / 531 ».

قال في جمهرة الأمثال « 2 / 376 »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: 1 / 630، والمستقصى للزمخشري / 334، وطبقات الأطباء: 1 / 154: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: 1 / 172، والتذكرة الحمدونية / 1497، وتاريخ دمشق: 19 / 189 ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

1. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / 395: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

1. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

2. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

3. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

4. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: 36 ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / 364 ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / 414: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

2. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « 4 / 10 » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « 18 / 199 » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: 2 / 119، والقلقشندي في معالم الخلافة: 1 / 232، والأبشيهي في المستطرف: 2 / 874، وغيرهم، وغيرهم .

3. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « 1 / 502 »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

4. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

5. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « 1 / 499 »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

6. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / 320: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

7. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / 267 ».

وفي الخرائج: 1 / 402: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / 539: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: 1 / 412: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

8. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / 322: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الفصل الخامس:

خطة المتوكل لإبادة أهل البيت (ع) وشيعتهم

كان المتوكل يبغض أسلافه لحبهم علياً (ع)

قال ابن الأثير في الكامل « ٧ / ٥٦ »: « وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق، في محبة علي وأهل بيته!

وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي، وعمر بن فرج الرخجي، وأبوالسمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة.

وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم، والإساءة إليهم. ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع حسناته، وكان من أحسن الناس سيرة، ومنع الناس من القول بخلق القرآن، إلى غير ذلك من المحاسن ».

وهذا وغيره يدل على أن سياسة المتوكل في بغض أهل البيت (ع) لم تكن عابرة، بل كانت عن عمد وإصرار، وتخطيط!

١٠١

أرسل المتوكل الرُّخَّجِي المتوحش والياً على الحجاز!

قال أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البِرِّ بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً! حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر!

إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم، ووجه بمال فرقه فيهم، وكان يؤثرمخالفة أبيه في جميع أحواله، ومضادة مذهبه ».

أقول: لاحظ الإنحطاط الذي وصل اليه عمر الرخجي غلام المتوكل، حيث حبس آل الرسول (ص) في المدينة، ومنع من يحتاج منهم الى الطعام والشر ـ اب أن يطلب مساعدة أحد، ثم كان يعاقب من يساعده بعقاب شديد وغرامة كبيرة!

وهو بذلك يتعمد إفقارهم وإذلالهم ليموتوا جوعاً!

وقد دفع ذلك عدداً منهم الى الثورة في هذا البلد وذاك، لأن المسلمين يثقون بهم ولا يثقون بالعباسيين، ومنهم من يبذل نصرته ودمه للعلويين.

ومعنى: كان القميص بين عدد من العلويات أنه قد يوجد مجموعة نساء في بيت، ليس عندهن ثياب وافية للصلاة بعددهن، فيتبادلن الثوب للصلاة فتصلي فيه واحدة بعد الأخرى، ثم يجلسن للعمل بثيابهن غير الساترة!

١٠٢

قال البيومي في الإمامة وأهل البيت « ٣ / ١٩٣ »: « وهكذا شرَّع من يسمونه أمير المؤمنين المتوكل على الله، أن تقبع العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات، يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة، وأن تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج، بين الإماء والعبيد ».

اضطهد المتوكل الشيعة في مصر

في البيان للمقريزي « ١ / ٣٩ »: « ظلت مصر ملجأً آمناَ لآل علي بن أبي طالب إلى أن جاء زمن المتوكل العباسي، وكان يبغض العلويين، فأمر واليه في مصر بإخراج آل علي بن أبي طالب منها، فأخرجوا من الفسطاط إلى العراق في عام ٢٣٦، ثم نقلوا إلى المدينة في العام نفسه، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية ».

وقال البلاذري في أنساب الأشراف: ٣ / ١٣٧، ونحوه الطبري: ٦ / ٤١٦: « كان إدريس بن عبد الله بن حسن في وقعة فخ مع الحسين بن علي، فهرب في خلافة الهادي إلى مصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن منصور، الذي يعرف بالمسكين، وكان واضح يتشيع، فحمله على البريد إلى المغرب ».

وفي المواعظ للمقريزي « ٤ / ١٥٩ »: « ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختلي أمير مصر، وفرق فيهم الأموال ليتجملوا بها، وأعطى كل رجل ثلاثين ديناراً، والمرأة خمسة عشر ديناراً، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوال منها، واستتر من كان

١٠٣

بمصر على رأي العلوية، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلاً من الجند في شئ وجب عليه، فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درة « ضربة » ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجندي مائة سوط، فضربها، وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين!

وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنه بويع له، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقر على جمع من الناس بايعوه، فضرب بعضهم بالسياط، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب، إلى العراق في شهر رمضان. ومات المتوكل في شوال ».

وفي النجوم الزاهرة « ٢ / ٣٠٩ »: « يزيد بن عبد الله بن دينار « والي مصرسنة ٢٤٢ » تتبع الروافض بمصر وأبادهم، وعاقبهم، وامتحنهم، وقمع أكابرهم، وحمل منهم جماعة إلى العراق على أقبح وجه. ثم التفت إلى العلويين فجرت عليهم منه شدائد من الضيق عليهم، وأخرجهم من مصر ».

واضطهد والي مصر محمد بن الفَرَج

في تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك، فوجه كتاباً في حمله، وقبضت

١٠٤

أموالهما، وكان ذلك في سنة ٢٣٣، وكان عمر محبوساً ببغداد، ومحمد محبوساً بسر من رأى، فأقاما سنتين ».

وقال الطبري « ٧ / ٣٤٧ »: « فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده وكتب في قبض ضياعه وأمواله وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار ».

أقول: كان محمد بن الفرج (رحمه الله) عالماً تقياً مؤلفاً، ويظهر أن سبب قبوله ولاية مصر أن المتوكل جعل ولايتها لابنه المنتصر فولاه عليها.

ولا بد أن يكون محمد استأذن الإمام الهادي (ع) لأنه ملتزم بطاعته، ومكانته عنده جليلة، وقد أرسل اليه ينبهه الى الإستعداد لغضب المتوكل!

ففي الكافي « ١ / ٥٠٠ » عن النوفلي قال: « قال لي محمد بن الفرج: إن أبا الحسن (ع) كتب إليه: يا محمد أجمع أمرك وخذ حذرك. قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ما كتب إلي حتى ورد عليَّ رسولٌ حملني من مصر مقيداً، وضَرَبَ على كل ما أملك « صادره »! وكنت في السجن ثمان سنين.

ثم ورد عليَّ منه (ع) في السجن كتاب فيه: يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي. فقرأت الكتاب فقلت: يكتب إليَّ بهذا وأنا في السجن، إن هذا لعجب! فما مكثت أن خُلِّيَ عني، والحمد لله ».

١٠٥

وفي الإرشاد « ٢ / ٣٠٤ »: « وروى أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبويعقوب قال: رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا، وقد استقبل أبا الحسن (ع) فنظر إليه نظراً شافياً، فاعتل محمد بن الفرج من الغد، فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علته، فحدثني أن أبا الحسن (ع) قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجاً تحت رأسه، قال: فكُفِّنَ فيه والله ».

أقول: ترجمنا لمحمد رضي الله عنه في سيرة الجواد (ع) وكان من كبار أصحاب الأئمة (ع). وأخوه عمر من أشد النواصب، وعلاقتهما مع ذلك جيدة!

واضطهد المتوكل قاضي قضاة مصر

روت مصادر التاريخ أن المتوكل أمر بإهانة قاضي قضاة مصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث، بحجة أنه أكل أموال الناس، والسبب أمر آخر!

ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي « ١ / ٢٥٣ »: « وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث، وأن يضربه ويطوف به على حمار! ففعل ونعمَ ما فعل، فإنه كان ظالماً من رؤوس الجهمية، وولي القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك وبعد تمنُّع، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطاً ليرد المظالم إلى أهلها ».

لكن الظاهر خلافاً للسيوطي أن سبب عزله أنه حكم لخصم وكيل أم المتوكل، وحكم بوراثة أبناء البنات، فنقم عليه المتوكل، لأنه يجب أن يحكم دائماً لوكلاء الخليفة ومن يتعلق به! ويجب أن يحكم بوراثة العم والعصبة، لأن العباسيين

١٠٦

يعتبرون الحكم بوراثة أبناء البنات حكماً بوراثة الحسن والحسين (ع) لخلافة النبي (ص) دون عمه العباس، ولذلك يحكمون بوراثة العشيرة!

قال ابن حجر في كتابه: رفع الإصر عن قضاة مصر « ١ / ١٢١ »: « خوصم إلى الحارث في دار من دور السيدة أم الخليفة فحكم على وكيلها، فأخرج الدار من يده ودفعها للخصم، فكتب بذلك الوكيل إلى العراق، فجاء كتاب الفضل بن مروان إلى أمير مصر ينكر على الحارث ذلك ويقول في كتابه: إن الحارث لم يزل معروفاً بالإنحراف عن السلطان والمباعدة لأسبابه، فتُكلمه أن مقام وكلاء جهة أمير المؤمنين في ضياعها ودورها ومستغلاتها بمصر، مقامُ من يحوطها.

ويأمرُ برد الدار التي كانت في أيديهم لهم، كما كانت قبل حكمه فيها، وترك النظر في شئ مما في أيدي وكلائها بما يوهن أمرهم!

وتأمره بالتقدم إلى الحارث، بعدم التعرض إلى النظر في شئ يتعلق بأمير المؤمنين وبمنعه من ذلك إن حاوله. وكتب في ربيع الآخر سنة أربعين ومائتين.

ولم يزل الحارث على طريقته حتى حكم في دار الفيل، وهي دار أبي عثيم مولى مسلمة بن مخلد، وكان تحبيسها في سنة ثلاث وتسعين. وأصل ذلك أن جماعة من قضاة مصر منهم توبة والفضل بن فضالة والعمري وهارون الزهري أخرجوا وتاجاً مولى أبي عثيم من الحبس « الوقف » لأن صاحب الحبس لم يسمه في كتاب تحبيسه. ثم آل الاستحقاق إلى محمد بن ناصح مولى أبي عثيم، وإلى عزة بنت عمرو بن رافع مولى ابن عثيم، فتوفيت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد

١٠٧

الصمد المعروف بابن السائح، فخاصمهم فيها فأخرجهم الزهري، وحكم بإخراج بني البنات من العقب.

فلما ولي محمد بن أبي الليث فسخ حكم الزهري ودفع نصيبها إلى بني السائح. فلما ولي الحارث بن مسكين فسخ حكم ابن أبي الليث، وأخرج بني السائح فخرج إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد بن السائح، إلى العراق فتظلم من الحارث ورفع قصته إلى المتوكل، فأمر بإحضار الفقهاء فحضروا، واتفقوا على تخطئة الحارث في الحكم المذكور، وتناولوه بألسنتهم!

وكان الفقهاء الذين نظروا في قضية الحارث على رأي الكوفيين، وحكم الحارث إنما هوعلى رأي المدنيين، وبلغ ذلك الحارث ما جرى هناك من ذكره، فخشي من العزل، فبادر بكتاب إلى العراق يستعفي، فصادف وصول كتابه عقب أمر المتوكل بعزله، فكتب إليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قاضي العراق: إن كتابك وصل باستعفائكم فأنهيت كتابك إلى أمير المؤمنين وأنك تستعفي مما تقلدته من القضاء، فأمر أيده الله بإجابتك إلى ذلك وإعفائك إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً بما أدى إلى موافقة فراقك في العمل بحسب ذلك موفقاً. وكتب المتوكل إلى أمير مصر يزيد بن عبد الله بن الأغلب بالنظر في قضية ابن السائح، فجمع أهل البلد من الفقهاء والشيوخ، وكان ورود الكتاب عليه بالصرف في يوم الجمعة لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين ».

١٠٨

أقول: العجب من بعض الرواة كالذهبي والسيوطي، حيث ذموا الحارث بن أبي الليث وجعلوه جهمياً، ظالماً آكلاً أموال الناس، وإنما ذنبه أنه خالف هوى المتوكل في بعض أحكامه، فغضب عليه المتوكل، وقلده الرواة!

قال الذهبي في سيره « ٩ / ٤٤٦ » : « وبعث المتوكل إلى نائبه بمصر فحلق لحية قاضي القضاة محمد بن أبي الليث وضربه، وطوف به على حمار في رمضان وسجن، وكان ظلوماً جهمياً، ثم ولي القضاء الحارث بن مسكين، فكان يضربه كل حين عشرين سوطاً ليؤدي ما وجب عليه، فإنا لله ».

وقال ابن حجر: « فكانوا يحضرون محمد بن أبي الليث كل يوم بين يدي الحارث، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج عما يجب عليه من الحقوق، فأقام على ذلك أياماً ثم أشير عليه بتركه. وقيل له إنه لا ينبغي للقاضي فعل ذلك لقبحه، فصرفه ».

وواصل المتوكل اضطهاد ابن أبي الليث، فصادر أمواله وأموال أقاربه، ولو كانت مهمة لذكروها. وحمله الى بغداد ومات فيها سنة ٢٥٥ . « تاريخ بغداد « ٢ / ٢٩١ ».

واضطهد أحد تجار بغداد

وذكر الطبري في تاريخه قصة وجيه في بغداد، قتله المتوكل بتهمة شتم الشيخين، والمرجح أنه كان معارضاً للمتوكل أومحباً لأهل البيت (ع)، فقد كانت قصته بعد غضب أهل بغداد لهدم قبر الحسين (ع) وكتابتهم شتم المتوكل على الجدران، فيظهر أن السلطة دبرت له هذه التهمة، وقتله الخليفة هذه القتلة!

١٠٩

قال الطبري « ٧ / ٣٧٥ »: « وفيها « سنة ٢٤١ » ضُرِب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، صاحب خان عاصم ببغداد ضرب فيما قيل ألف سوط. وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه، أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، وسبعة عشر رجلاً، شهاداتهم فيما ذكر مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله! فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى:

بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك. وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم وإكفارهم ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق وغير ذلك، مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وتثبتك في أمر أولئك الشهود، وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عُدِّل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله، بما قد نفذ إليه مما يشبه ما عنده أبقاه الله من نصرة دين الله وإحياء سنته، والإنتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حداً في مجمع الناس

١١٠

حد الشتم، وخمس مائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فإن مات ألقيَ في الماء من غير صلاة، ليكون ذلك ناهياً لكل ملحد في الدين خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا، قد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم، لما ضُرب تُرك في الشمس حتى مات ثم رُمِيَ به في دجلة ».

أقول: آل عاصم عائلة كوفية من بني ضبة، سكن بعضهم في بغداد، وفيهم من أصحاب الأئمة (ع)، وعرف منهم العاصمي وكيل الإمام المهدي (ع).

وقد يكون منهم هذا الشهيد ابن عاصم، الذي قتله المتوكل بافتراء عليه، فقد ترجم علماؤنا لعدة رجال من آل عاصم.

قال الشيخ في الفهرست / ٧٣: « أحمد بن محمد بن عاصم، أبو عبد الله، وهو ابن أخي علي بن عاصم المحدث، ويقال له العاصمي، ثقة في الحديث سالم الجنبة، أصله الكوفة سكن بغداد، وروى عن شيوخ الكوفيين. وله كتب ».

وروى الحاكم في المستدرك « ٣ / ٣٩٤ »: « حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن عاصم بن بلال الضبي الشهيد، ثنا أحمد بن محمد بن علي بن رزين، ثنا علي بن خشرم، ثنا أبو مخلد عطاء بن مسلم، ثنا الأعمش، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا صفين مع علي رضي الله عنه ». لكن وصف الشهيد قد يكون لشخص في السند لا يوافق قتله زمن المتوكل. وكذا قول الحاكم في « ٣ / ٤٦٥ »:

١١١

« فحدثنيه أبو عبد الله، محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عاصم الشهيد، رضي الله عنه ». ولذلك نتوقف فيه.

نجَّى أهل الدينور أنفسهم من شر المتوكل

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان « ١ / ٣٥١ »: « كان بالدينور « غرب إيران من جهة العراق » شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له: بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور الى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض، ويسبون الصحابة ويشتمون السلف.

فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا، والفرقة التي تجالسه. فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه، وكان صديقاً لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه، همَّهُ ذلك وشقَّ عليه، فاستدعى بشراً وأقرأه ما كوتب به في أمره، وأمر أصحابه فقال له بشر: عندي في هذا رأيٌ إن استعملته كنت غير مستبطأ فيما أُمرت به، وكنت بمنجاة مما أنت خائف عليَّ منه.

قال: وما هو؟ قال: بالدينور شيخ خفاف إسمه بشر، ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف، وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فَسُرَّ العامل بقوله وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه، ووصل الباء بما صارت به فاء، فكان أخبره عن بشر

١١٢

الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة، وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة! وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولَوَوْهُ بحقه، واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشراً هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء، ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستسلم إليهم، ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة، وحملوه على ما تقدم من السنة، ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعه في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم، فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته!

فأنفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقديم الخفاف أمام القوم، والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة، ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين، ويحسم الإشتغال بالبحث عن هذه القصة ويتخلص من هذه الثلاثة.

فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم فأمر أن يجَلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية، ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك.

١١٣

وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين فقُدِّموا إليه يَقْدَمُهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف؟ فقال: نعم. فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة، وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شئ أنكره، فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع إليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً. قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ما تقول في السلف؟ فقال: لعن الله السلف. فقال له عبيد الله: ويلك أتدري ما تقول! قال: نعم، لعن الله السلف! فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين سله الثالثة، فإن أقام على هذا فاضرب عنقه، فقال له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف قد خَرَّبَ بيتي وأبطل معيشتي، وأتلف مالي، وأفقرني، وأهلك عيالي!

قال: وكيف؟ قال: أنا رجل أسلف الأَكَرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير إليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فإذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي، وامتنعوا من توفيتي مالي.

ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي ويحلفون بالله لا يعاودون مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه

١١٤

وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي، فقد اختلَّت حالي، وافتقرت عيالي!

قال: فسمع ضحك عال من وراء السبيبة، وخرج الخادم فقال: إستحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم! فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم، فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجانٌّ محتالون، وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصي الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فينبغي أن نتولى الكلام نحن ونسلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علماً ويحيط به خبراً، وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم.

فقالوا: إفعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله؟ قلنا: علي بن أبي طالب، فقال الخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا، فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي. فقلنا: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه، ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه.

ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا رحمة الله على أبي بكر نقول فيه خيراً، قال فما تقولون في عمر؟ قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه. قال: ولمَ؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى. قال فسمعنا من وراء السبيبة

١١٥

ضحكاً أعلى من الضحك الأول، ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل أتبعهم صلة، فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هوأحق بهذه الصلة وإليها أحوج. وانصرفوا ».

أقول: هذا يدل على نهاية نصب المتوكل، بحيث إذا جاءه خبر عن شيخ له جماعة يدرسون عنده ويتبعون مذهب أهل البيت (ع)، يبادر الى البطش بهم!

كان مسجد براثا مركزاً للشيعة قبل بغداد!

ذكرنا في سيرة الإمام الكاظم (ع) أن مسجد براثا أسسه أمير المؤمنين (ع) في عودته من حرب الخوارج سنة ٣٨، وأنه كان مركزاً للشيعة قبل تأسيس بغداد، وكانت الكرخ بلدة فيها شيعة. ثم أسس المنصور بغداد بين براثا والكرخ.

قال في معجم البلدان: ١ / ٣٦٢: « بُرَاثا: بالثاء المثلثة والقصر: محلةٌ كانت في طرف بغداد في قِبْلة الكرخ وجنوبي باب مُحَوِّل وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة ».

وفي أمالي الطوسي / ١٩٩، عن الإمام الباقر (ص) قال: « إن أمير المؤمنين (ص) لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس: إنها الزوراء، فسيروا وجَنِّبوا عنها فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة، فلما أتى موضعاً من أرضها قال: ما هذه الأرض؟ قيل أرض بحرا، فقال: أرض سباخ، جنبوا ويَمِّنوا. فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له: يا راهب، أَنْزِلُ هاهنا؟ فقال له الراهب: لا تنزل هذه الأرض بجيشك. قال: ولمَ؟ قال: لأنه لا ينزلها إلا نبي أووصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله، هكذا نجد في كتبنا.

١١٦

فقال له أمير المؤمنين: فأنا وصي سيد الأنبياء (ص) وسيدُ الأوصياء. فقال له الراهب: فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد؟ قال له أمير المؤمنين: أنا ذلك. فنزل الراهب إليه فقال: خذ عليَّ شرائع الإسلام، إني وجدت في الإنجيل نعتك وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى (ص)! فقال أمير المؤمنين (ص): قف ولا تخبرنا بشئ ثم أتى موضعاً فقال: إلكزوا هذه، فلكزه برجله (ص) فانبجست عين خرارة، فقال: هذه عين مريم التي انبعثت لها!

ثم قال: إكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي (ص): على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا! فنصب أمير المؤمنين (ص) الصخرة وصلى إليها، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دَعْوِة « مسافة قريبة » ثم قال: أرض براثا، هذا بيت مريم (ع) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء (ع) »!

وفي مناقب آل أبي طالب: ٢ / ١٠٠: « قال أمير المؤمنين: فاجلس يا حُبَاب، قال: وهذه دلالةٌ أخرى، ثم قال: فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً، فبنى حباب الدير مسجداً، ولحق أمير المؤمنين (ص) إلى الكوفة، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين (ص)، فعاد حباب إلى مسجده ببراثا ».

ومن ذلك اليوم والى عصرنا الحاضر، صار مسجد براثا مركزاً علمياً وعبادياً واجتماعياً للشيعة، ومَعْلَماً من معالم بغداد.

١١٧

وقد شهد في العصور المختلفة حملات وحشية من السلطة، ومن الحنابلة المتطرفين الذين أسس حزبهم المتوكل.

وتقدم أن ابن عقدة (رحمه الله) كان يأتي من الكوفة الى بغداد، فيملي أحاديثه على المسلمين في مسجد براثا. وأن النواصب أتباع المتوكل اعتدوا عليه وحبسوه!

وقد شهدت بغداد ومسجد براثا خاصة أنواعاً من اضطهاد السلطة للشيعة.

قال ابن طاووس في الملاحم والفتن / ٢٦٠: « قال السليلي مصنف الكتاب: فرأيت مسجد براثا وقد هدمه الحنبليون، وحفروا قبوراً فيه، وأخذوا أقواماً قد حفر لهم قبور فغلبوا أهل البيت ودفنوهم فيه، إرادةَ تعطيل المسجد وتصييره مقبرة، وكان فيه نخل فقطع، وأحرق جذوعه وسقوفه! وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة , فعطل من سنته الحج، وقد كان خرج سليمان بن الحسن يعني القرمطي في أول هذه السنة، فقطع على الحاج وقتلهم وعطل الحاج، ووقع الثلج ببغداد فاحترق نخلهم من البرد فهلك. فأخبرني مولاي ناقد أن أبا عمرو قاضي بغداد قال له: احترق لي بقرية على ثلاث فراسخ ببغداد يقال لها صرصر مائة ألف نخلة. قال السليلي: فأي شأن أحسن، وأي أمر أوضح من هذا ».

أقول: ما تقدم إنما هو نماذج من ظلم المتوكل للشيعة في البلاد، فتصور!

١١٨

الفصل السادس:

هدم المتوكل قبر الإمام الحسين (ع)

عقدة المتوكل من الإمام الحسين (ع) وزواره

١. في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره، يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كَرَبَ قبر الحسين (ع) وعَفَّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله، أوأنهكه عقوبة!

فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء وقد شاهد ذلك، قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين (ع) وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان، فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين. فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست، واستصفى أملاكها.

١١٩

وبعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج وكان يهودياً فأسلم، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه، وإخراب كل ما حوله، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله، نحومائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه! وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه.

فحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط شيئاً من الطيب!

فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها كشئ من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع.

فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة، حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات، وأعدناه إلى ما كان عليه ».

أقول: الأشناني المذكور من أعلام العامة، فهو يدل على التأثير الواسع لهدم قبر الحسين (ع) على السنة أيضاً، وقد كان عمر الأشناني يومها خمس عشرة سنة.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477