الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154548 / تحميل: 6636
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وقال: « ذكرت كلام ثلاثة من المؤرخين، الأول منهم وهو إمامهم ابن جرير الطبري ولم يذكر شيئاً من النصب، بل نقل عملاً عظيماً من أعمال جدي الخليفة المتوكل الجليلة في نصرة العقيدة والسنة، وهو هدم ما بني على قبر سيد شباب أهل الجنة الحسين رضي الله عنه، وقد ذكرنا هذا ضمن جهوده في نصرة العقيدة والسنة في كتابنا عقيدة بني العباس »!

يقصد أن الطبري لم يَذكر عنه شيئاً من نصب المتوكل، وكأن الطبري عندما ذكر هدمه لقبر الحسين (ع) كان يمدحه بذلك ويثبت حبه للحسين (ع)!

ثم احتج باضطراب كلام إمامه الذهبي، قال: وقد اضطرب كلامه في هذا، فمرة يقول: وكان في المتوكل نصب. ومرة يقول: وكان معروفاً بالنصب. ومرة قال: ولم يصح عنه النصب. فلذلك كان لابد من الرجوع لما يذكرونه من قصص وحوادث يستدلون بها على نصبه رحمه الله تعالى وحاشاه!

هكذا يتصور هذا الوهابي أنه بجرة قلم يجعل المتوكل تقياً، ويمحو عنه فحشاءه ومنكراته، ونصبه وعداوته لأهل البيت (ع)!

وقد دلس في كلام الذهبي وغيَّبه، فلاحظ ما قاله الذهبي لتعرف أنهم يُغيبون حتى كلام أئمتهم بسبب هواهم وتعصبهم!

قال الذهبي في سيره « ١٨ / ٥٥٢ »: « ويروى أن المتوكل نظر إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك، هما، أو الحسن والحسين قال: قنبر، يعني مولى علي، خير منهما. قال: فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى كاد يهلك، فبقي

١٦١

يوما ومات. ومنهم من قال: حمل ميتاً في بساط، وبعث إلى ابنه بديته. وكان في المتوكل نُصب بلا خلاف ».

وقال في سيره « ١٣ / ١٨ »: « ويروى أن المتوكل نظر إلى ابنيه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك: هما أو الحسن والحسين؟ فقال: بل قنبر، فأمر الأتراك فداسوا بطنه فمات بعد يوم. وقيل: حمل ميتاً في بساط. وكان في المتوكل نصب، نسأل الله العفو. مات سنة أربع وأربعين ومئتين ».

وقال في سيره « ١٢ / ٢٥ »: « وفي سنة ست وثلاثين هدم المتوكل قبر الحسين رضي الله عنه، فقال البسامي أبياتاً منها:

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

وكان المتوكل فيه نصبٌ وانحراف، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور، وأمر أن يزرع، ومنع الناس من انتيابه ».

وقال في سيره « ١٢ / ١٣٦ »: « عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني نصر بن علي أخبرني علي بن جعفر بن محمد، حدثني أخي موسى، عن أبيه، عن أبيه، عن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة. قلت: هذا حديث منكر جداً.

ثم قال عبد الله بن أحمد: لما حدث نصر بهذا، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: الرجل من أهل السنة ولم يزل به

١٦٢

حتى تركه. وكان له أرزاق فوفرها عليه موسى. قال أبو بكر الخطيب عقيبه: إنما أمر المتوكل بضربه، لأنه ظنه رافضياً. قلت: والمتوكل سني لكن فيه نصب، وما في رواة الخبر إلا ثقةٌ ما خلا علي بن جعفر، فلعله لم يضبط لفظ الحديث، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم من حبه وبث فضيلة الحسنين ليجعل كل من أحبهما في درجته في الجنة، فلعله قال: فهو معي في الجنة. وقد تواتر قوله (ع): المرء مع من أحب. ونصرُ بن علي، فمن أئمة السنة الأثبات ».

لاحظ أن الذهبي صحح الحديث، لكن مع تخفيف بعض ألفاظه، وحكم بنُصب المتوكل في عدة موارد ونصوص!

وقال الذهبي في تاريخه: ١٧ / ١٨: « أمر المتوكل بهدم قبر السيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهدم ما حوله من الدور، وأن تعمل مزارع. ومنع الناس من زيارته وحُرث وبقي صحراء! وكان معروفاً بالنصب، فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، دعبل وغيره ».

وفي سير أعلام النبلاء: ١٢ / ٣٥: « وعفَّى قبر الشهيد الحسين وما حوله من الدور، فكتب الناس شتم المتوكل على الحيطان، وهجته الشعراء كدعبل وغيره ».

أما قوله: ولم يصح عنه النصب، الذي حاول هذا الوهابي أن يتشبث به، فجاء في سيره « ١٢ / ٤١ »: « وقيل: لم يصح عنه النصب، وقد بكى من وعظ علي بن محمد العسكري العلوي، وأعطاه أربعة آلاف دينار. فالله أعلم ».

١٦٣

وقال في سيره « ٩ / ٤٤٨ »: « وبويع المنتصر من الغد بالقصر الجعفري يوم خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، وقيل: لم يصح عنه النصب، وقد بكى من وعظ علي بن محمد العسكري العلوي، وأعطاه أربعة آلاف دينار، فالله أعلم ».

فما زال مع مدحه يحكم بأنه ناصبي، ويذكر نفي نصبه بقيلَ، ولا يقبله.

وقال في تاريخه « ١٨ / ١٩٩ »: « ورد أن بعضهم رآه في النوم فقال له: ما فعل الله بك قال: غفر لي بقليل من السنة أحييتها. وقد كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشرب، فلعله رُحم بالسنة ولم يَصح عنه النصب ».

فهو يقول: قيل إن المتوكل نجا في الآخرة حسب هذا المنام، فإن صح ذلك فربما كانت نصرته للسنة توجب غفران انهماكه في الشهوات.

ثم يقول: أما قضية نُصبه فلا تغفر بذلك، فإن صح هذا المنام وكان حجة، فلعل أخبار نصبه الثابتة لم تكن صحيحة. فهو احتمال مطلق في مقابل اليقين!

فاعجب لمن يتشبثون باحتمال في مقابل يقين، وبمنام رؤيَ في مقابل حق مبين!

١٦٤

الفصل الثامن:

ثورات العلويين بعد هدم قبر الحسين (ع)

اضطهد المتوكل العلويين فاتجهوا الى الثورة

قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « لما وليَ المتوكل تفرق آل أبي طالب في النواحي، فغلب الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد علي طبرستان ونواحي الديلم. وخرج بالري: محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين، يدعوإلى الحسن بن زيد، فأخذه عبد الله بن طاهر فحبسه بنيسابور، فلم يزل في حبسه حتى هلك وكان ممن خرج معه عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

ثم خرج من بعده بالري: أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين

ابن علي بن أبي طالب، يدعوإلى الحسين بن زيد.

وخرج الكوكبي، وهوالحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

ولهؤلاء أخبار قد ذكرناها في الكتاب الكبير، لم يحمل هذا الكتاب إعادتها لطولها، ولأنا شرطنا ذكر خبر من قتل منهم، دون من خرج فلم يقتل ».

أقول: المتأمل في تاريخ الإسلام يجد أن الثورات بعد النبي (ص) كلها علوية، وغيرها تقليدٌ لها، أوسرقةٌ منها. فأول الثائرين على القرشيين أهل السقيفة: هو

١٦٥

علي (ع) ثم ولده الحسين (ع) سنة ستين للهجرة، ثم ولده زيد بن علي رضي الله عنه في الكوفة سنة ١٢١للهجرة، ثم واصل ثورته ابنه يحيى بن زيد رضي الله عنه في خراسان، ثم ورثها الحسنيون والعباسيون حتى أسقطوا الدولة الأموية سنة ١٣٢ هجرية. وتواصلت ثورات العلويين ضد ظلم العباسيين، وتوزعت على بلاد مختلفة، كما رأيت في نص أبي الفرج، وقد حفل بها كتابه: مقاتل الطالبيين.

وقد انتشر العلويون في بلاد العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، فظهرت ثوراتهم في اليمن ومصر وإفريقيا والمغرب غرباً، وإيران وما وراء النهر شرقاً.

وقد حاول المأمون أن ينهي ثورات العلويين، بإعطاء ولاية عهده شكلياً للإمام الرضا (ع)، فخفت ثوراتهم في زمنه، لكنها لم تنتهِ.

وكانت سياسة المأمون وبعده المعتصم والواثق لينة نسبياً مع أهل البيت (ع) لأنها سمحت برواية فضائلهم في الإسلام، لكنها في نفس الوقت عملت لقتل أئمتهم المعصومين (ع) واستعملت الشدة والقمع مع الثائرين منهم.

ثم جاء المتوكل بسياسة العداء لأهل البيت (ع) فنقم عليه عامة المسلمين لهدمه قبر الحسين (ع)، وكتبوا شتمه على جدران بغداد.

واندفع بعض العلويين الى الثورة في عصره، ولا يتسع المجال لتأريخ الثورات العلوية في عهد المتوكل، لكن نشير الى أن نجاح بعضها كثورة الحسنيين في المغرب والزيديين في شمال إيران، أوجد جواً عاماً في بغداد، مؤيداً لأهل البيت ومستنكراً للظلم العباسي.

١٦٦

وقد تصاعد هذا الجو حتى جاءت قوة آل بُويَه العسكرية الشيعية مقابل القوة التركية العباسية، وسيطرالبويهيون على بغداد سنة ٣٢٠ هجرية، وصار الخليفة العباسي بيدهم. وكان ذلك بعد ثمانين عاماً من هدم قبر الحسين (ع). واستمر حكم البويهيين الشيعة أكثر من قرن حتى نشأت قوة الأتراك السلاجقة، فسيطروا على بغداد سنة ٤٤٧، وعاد الخليفة العباسي الى أيدي الأتراك السنة.

الموجة الشعبية المؤيدة للإمام الهادي (ع)

اتفق المؤرخون على ثلاث ظواهر حدثت في الأمة بسبب هدم المتوكل لقبر الحسين (ع)، وكلها تدل على تعاطف الناس مع العلويين والإمام الهادي (ع)!

أولاها: أن شتم المتوكل كتب على جدران بغداد، وقد ذكرذلك عامة المؤرخين ولم يذكروا نص هذه الشتائم، ولا أن الدولة استطاعت أن تعاقب عليها.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / ٣٧٤: « أمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته وخُرِّبَ وبقيَ صحراء. وكان المتوكل معروفاً بالتعصب فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، فمما قيل في ذلك ».

وقال الذهبي في تاريخه: ١٧ / ١٨: « أمر المتوكل بهدم قبر السيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهدم ما حوله من الدور، وأن تعمل مزارع. ومنع الناس من زيارته وحُرث وبقي صحراء! وكان معروفاً بالنصب، فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، دعبل وغيره ».

١٦٧

وفي سير أعلام النبلاء: ١٢ / ٣٥: « وعفَّى قبر الشهيد الحسين وما حوله من الدور، فكتب الناس شتم المتوكل على الحيطان، وهجته الشعراء كدعبل وغيره ».

وفي طبقات الشافعية: ٢ / ٥٤: « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وحُرث وبقي صحراء فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه دعبل وغيره من الشعراء ».

وقال التنوخي في نشوار المحاضرة: ٦ / ٣٢١: « كان المتوكل معروفاً بالنصب، أمر في السنة ٢٣٦ بهدم قبر الحسين فكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان، وقال البسامي ». ونحوه الصفدي في الوافي: ١١ / ١٠٢، والنجوم الزاهرة: ٢ / ٢٨٣.

والظاهرة الثانية: أن أحمد بن حنبل كان من جماعة المتوكل، لكن لما جاءت الى المتوكل إخبارية بأن أحمد خبَّأَ علوياً في بيته وهو يأخذ له البيعة ليثور، سارع بإرسال قوة وفتشوا بيت أحمد بن حنبل حتى غرف النساء والبئر وغيرها!

وهذا يدل على أن موجة التأييد للعلويين والكره للمتوكل كانت قوية الى حد أن المتوكل احتمل أن يكون صاحبه ابن حنبل وقع تحت تأثيرها ودخل فيها!

والظاهرة الثالثة: التعاطف العلني مع الثوار العلويين، ويكفي مثالاً لذلك أن البغداديين منعوا السلطة من صلب رأس العلوي الثائر يحيى بن عمر (رحمه الله).

١٦٨

قال الطبري « ٧ / ٤٢٨ »: « ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر « والي بغداد » أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك وكثروا وتذمروا!

وتولى إبراهيم الديزج نصبه لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حُطَّ ورُدَّ إلى بغداد لينصب بها بباب الجسرفلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله، لكثرة من اجتمع من الناس! وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره ».

لذلك تعاظم تأييد الناس للإمام الهادي (ع) حتى: « كتب بُرَيْحَة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما، فإنه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير ». « إثبات الوصية: ١ / ٢٣٢ ».

من الثورات العلوية في زمن المتوكل

ثورة يحيى بن عمر:

قال المسعودي في مروج الذهب: ٤ / ٦٣: « ظهر في هذه السنة وهي سنة ثمان وأربعين ومائتين بالكوفة: أبوالحسن يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الطيار، وأمه فاطمة بنت الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الطيار. وقيل إن ظهوره كان بالكوفة سنة خمسين ومائتين، فقُتل وحمُل رأسه إلى بغداد وصُلب، فضج الناس من ذلك لما كان في نفوسهم من المحبة له، لأنه استفتح أموره بالكَفِّ عن

١٦٩

الدماء، والتوَرُّع عن أخذ شئ من أموال الناس، وأظهر العدل والإنصاف، وكان ظهوره لذلٍّ نزل به، وجفوةٍ لحقته، ومحنةٍ نالته من المتوكل وغيره من الأتراك. ودخل الناس الى محمد بن عبد الله بن طاهر « القائد العباسي والي بغداد » يهنئونه بالفتح، ودخل فيهم أبوهاشم الجعفري، وهوداود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، بينه وبين جعفر الطيار ثلاثة آباء، ولم يكن يعرف في ذلك الوقت أقعد نسباً في آل أبي طالب وسائر بني هاشم وقريش منه، وكان ذا زهد وورع ونسك وعلم، صحيح العقل سليم الحواس منتصب القامة، وقبره مشهور وقد أتينا على خبره وما روي عنه من الرواية عن أبيه ومن شاهد من سلفه في كتاب حدائق الأذهان في أخبار آل النبي (ص)، فقال لابن طاهر: أيها الأمير إنك لتُهَنَّأُ بقتل رجل لوكان رسول الله (ص) حياً لعُزِّيَ به!

فلم يجبه محمد، وخرج من داره وهويقول: يا بني طاهر البيتين.

وقد كان المستعين أمر بنصب الرأس، فأمر ابن طاهر بإنزاله لما رأى من الناس وما هم عليه، وفي ذلك يقول أبوهاشم الجعفري:

يا بني طاهرٍ كُلُوه وبِيًّا

إنَّ لحمَ النبيِّ غَيْرُ مَرِيِّ

إن وتراً يكون طالبُهُ اللهُ

لوِتْرٌ بالفوْتِ غَيْرُ حَرِيِّ

وقد رُثيَ أبوالحسين يحيى بن عمر بأشعار كثيرة، وقد أتينا على خبر مقتله وما رثي به من الشعر في الكتاب الأوسط.

وكان يحيى دَيِّناً كثير التعطف والمعروف على عوام الناس، باراً بخواصهم، واصلًا لأهل بيته، مؤثراً لهم على نفسه، مُثقَلَ الظهر بالطالبيات، يجهد نفسه

١٧٠

ببرّهن والتحنن عليهن، لم تظهر له زلة، ولا عرفت له خِزْيَة. ومما رثي به ما قاله فيه أحمد بن طاهر الشاعر، من قصيدة طويلة:

سلامٌ على الإسلام فهومودِّعٌ

إذا ما مضى آلُ النبيِّ فودَّعُوا

فَقَدْنا العُلا والمجدَ عند افتقادهم

وأضحت عروشُ المكرمات تَضعضع

أتجمع عَيْنٌ بين نومٍ ومضجعٍ

ولابن رسول الله في التربِ مضجع

فقد أقفَرَتْ دار النبيِّ محمدٍ

من الدين والإسلام فالدارُ بلْقَعُ

وقُتِّل آلُ المصطفى في خلالها

وبُدِّدَ شملٌ منهمُ ليس يجمع

ألم ترَ آلَ المصطفى كيف تصطفي

نفوسَهُمُ أمُّ المنون فتتبع

بني طاهر واللؤم منكم سجيةٌ

وللغدر منكم حاسرٌ ومُقنَّعُ

قواطعكم في الترك غير قواطعٍ

ولكنها في آل أحمد تقطع

لكم كل يوم مشربٌ من دمائهم

وغُلَّتها من شربها ليس تُنْقَعُ

رماحُكُمُ للطالبيينَ شُرَّعٌ

وفيكم رماحُ الترك بالقتل شُرَّع

لكم مرتعٌ في دار آل محمَّدٍ

وداركمُ للترك والجيش مرتع

أخِلْتم بأن الله يرعى حقوقكم

وحقُّ رسول الله فيكم مضيع

وأضحوا يُرَجُّون الشفاعة عنده

وليس لمن يرميه بالوِتْرِ يَشفع

ولما قُتل يحيى جزعت عليه نفوس الناس جزعاً كثيراً، ورثاه القريب والبعيد، وحزن عليه الصغير والكبير، وجزع لقتله الملئ والدنئ، وفي ذلك يقول بعض شعراء عصره ومن جزع على فقده:

بكت الخيلُ شَجْوَها بعد يحيى

وبَكاهُ المهنَّدُ المصقولُ

وبكتهُ العراقُ شرقاً وغرباً

وبكاهُ الكتابُ والتنزيلُ

والمصلَّى والبيتُ والركنُ والحِجْرُ

جميعاً لهم عليه عويل

١٧١

كيف لم تسقط السماء علينا

يوم قالوا: أبوالحسين قتيلُ

وبنات النبيِّ يندبن شَجْواً

مُوجَعاتٍ دموعُهُنَّ تسيل

ويؤبِّنَّ للرزية بدراً

فقدُهُ مفظعٌ عزيزٌ جليل

قَطَّعت وجهه سيوف الأعادي

بأبي وجههُ الوسيمُ الجميل

وليحيى الفتى بقلبي غليلٌ

كيف يؤذى بالجسم ذاك الغليل

قَتْلُه مُذْكِرٌ لقتل عليٍّ

وحسينٍ ويومَ أودى الرسول

فصلاة الإله وقفاً عليهم

ما بكى مُوجَعٌ وحَنَّ ثَكُول

وكان ممن رثاه علي بن محمد بن جعفر العلوي الِحمَّاني الشاعر، وكان ينزل بالكوفة في حِمَّان، فأضيف اليهم، فقال:

يا بقايا السَّلَف الصا

لح وَالتَّجْرِ الرَّبِيحْ

نحنُ للأيامِ من

بينِ قَتيلٍ وجريحْ

خاب وجهُ الأرضِ كَمْ

غَيَّبَ من وَجْهٍ صبيحْ

آهِ من يومك ما أَوْ

دَاهُ للقلبِ القَريحْ

وفيه يقول:

تضَوَّع مسكاً جانب القبر إذ ثوى

وما كان لولا شِلوُه يَتَضَوَّعُ

مصارعُ فتيانٍ كرامٍ أعزةٍ

أتيحَ ليحيى الخيرِ منهنَّ مَصْرَعُ

ومما رثى به علي بن محمد أيضاً أبا الحسين يحيى بن عمر فأجاد فيه، وافتخر على غيرهم من قريش، قوله:

لعمري لئن سُرَّتْ قريشٌ بِهَلْكِهِ

لما كانَ وقَّافاً غداةَ التَّوَقُّفِ

فإن ماتَ تلقاءَ الرماح فإنهُ

لمن معشرٍ يَشْنَوْنَ موتَ التترف

فلا تشمتوا فالقوم من يبقَ منهم

على سنن منهم مقام المخلف

١٧٢

لهم معكم إما جدعتم أنوفكم

مقامات ما بين الصَّفا والمعرَّف

تراثٌ لهم من آدمٍ ومحمدٍ

الى الثقلين من وصاياً ومِصحف »

وروى الطبري ثورة يحيى بن عمر بنحوما رواها المسعودي، وجاء فيها « ٧ / ٤٢٥ »: « ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله ..

نالته ضيقة شديدة ولزمه دين ضاق به ذرعاً فلقى عمر بن فرج وهويتولى أمر الطالبيين عند مقدمه من خراسان، أيام المتوكل فكلمه في صلته فأغلظ عليه عمر القول، فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه فحُبس، فلم يزل محبوساً إلى أن كفل به أهله، فأطلق بشخص إلى مدينة السلام « بشرط السكن في بغداد » فأقام بها بحال سيئة، ثم صار إلى سامرا فلقي وصيفاً في رزقٍ يُجرى له، فأغلظ له وصيف في القول وقال: لأي شئ يجرى على مثلك! فانصرف عنه، فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشئ مما عزم عليه، وأنه عرض عليه الطعام وتبين فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل وقال: إن عشنا أكلنا!

قال: فتبينت أنه قد عزم على فتكةٍ. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملاً عليها، من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع يحيى بن عمر جمعاً كثيراً من الأعراب وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد ...

فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها فأخذ ما فيه، والذي وجد فيه ألفا دينار وزيادة شئ، ومن الورق

١٧٣

سبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين، وأخرج جميع من كان فيهما وأخرج عمالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي، وكان في عداد الشاكرية، فضربه يحيى بن عمر ضربة على قصاص شعره في وجهه أثخنته فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدواب والمال. ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها وتبعته جماعة من الزيدية ثم أقام بالبستان فكثر جمعه.

فوجه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب، وضم إليه من ذوي البأس والنجدة من قواده جماعة وجماعة من خاصة الخراسانية ومضى يحيى بن عمر نحوالكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالاً شديداً، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب ..

ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية، ودعا إلى الرضا من آل محمد، وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد، ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره.

وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لاديانة لهم فانهزم رجالة أهل الكوفة وأكثرهم عُزَّلٌ بغير سلاح ضعيفي القوى خلقان الثياب، فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وعليه جوشن تَبَّتِي، وقد تقطر به البرذون فنزل إليه فذبحه وأخذ رأسه وجعله في

١٧٤

قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب أخي عبد الرحمن بن الخطاب، إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وادعى قتله غير واحد ...

ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد ونصب رأسه بباب العامة بسامرا ثم حُطَّ ورُدَّ إلى بغداد ليُنصب بها بباب الجسر، فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله، لكثرة من اجتمع من الناس ».

قصيدة ابن الرومي في رثاء يحيى العلوي

روى أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٤٢٠، ثورة يحيى بن عمر بشئ من التفصيل، ومما جاء فيه: « كان خرج في أيام المتوكل إلى خراسان فرده عبد الله بن طاهر، فأمر المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخجي فسُلم إليه، فكلمه بكلام فيه بعض الغلظة فرد عليه يحيى وشتمه، فشكى ذلك إلى المتوكل، فأمر به فضُرب درراً، ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان، فمكث على ذلك مدة، ثم أطلق فمضى إلى بغداد فلم يزل بها حيناً حتى خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد (ص).

وكان رضي الله عنه رجلاً فارساً شجاعاً، شديد البدن مجتمع القلب، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله. كان مقيماً ببغداد، وكان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وكان ربما سخط على العبد أوالأمة من حشمه، فيلوي العمود في عنقه، فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله يحيى رضي الله عنه.

قال أبوالفرج: حدثني أحمد بن عبيد الله قال: حدثني أبوعبدالله بن أبي الحصين: أن يحيى بن عمر بما أراد الخروج بدأ فزار قبر الحسين (ع) وأظهر لمن حضره من

١٧٥

الزوار ما أراده، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب، ومضى فقصد شاهي فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة ليلاً، وجعل أصحابه ينادون: أيها الناس أجيبوا داعي الله، حتى اجتمع إليه خلق كثير ..

ثم وصف معاركه وشهادته وقال: ولم يتحقق أهل الكوفة قتل يحيى، فوجه إليهم الحسين بن إسماعيل أبا جعفر الحسني يعلمهم أنه قد قتل، فشتموه وأسمعوه ما يكره وهموا به وقتلوا غلاماً له، فوجه إليهم أخاً كان لأبي الحسن يحيى بن عمر من أمه يعرف بعلي بن محمد الصوفي من ولد عمر بن علي بن أبي طالب، وكان رجلاً رفيقاً مقبولاً، فعرف الناس قتل أخيه فضجوا بالبكاء والصراخ والعويل وانصرفوا، وانكفأ الحسين بن إسماعيل إلى بغداد ومعه رأس يحيى بن عمر. فلما دخل بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ويقولون: إن يحيى لم يقتل، ميلاً منهم إليه، وشاع ذلك حتى كان الغوغاء والصبيان يصيحون في الطرقات: ما قتل وما فر، ولكن دخل البر!

وقد كان خرج مع يحيى بن عمر جماعة من وجوه أهل الكوفة وأولى الفضل منهم، فسمعت بعض مشايخنا من الكوفيين يذكر وهومحمد بن الحسين، أن أبا محمد عبد الله بن زيدان البجلي خرج معه معلماً، وكان أحد فرسان أصحابه.

وقد لقيته أنا وكتبت عنه، وكنت أرى فيه من الحذر والتوقى من كثير من الناس ما يدل على صدق ما ذكر عنه. وما بلغني أن أحداً ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب، رُثِيَ بأكثر مما رثيَ به يحيى، واتفق في وقت مقتله

١٧٦

عدة شعراء مجيدون للقول، أولوا هوى في هذا المذهب، إلا أنني ذكرت بعض ذلك، كراهية الإطالة.

فمنه قول علي بن العباس الرومي يرثيه، وهي من مختار ما رُثيَ به، بل إن قلت إنها عين ذلك والمنظور إليه، لم أكن مبعداً، لولا أنه أفسدها بأن جاوز الحد وأغرق في النزع، تعدى المقدار بسب مواليه من بني العباس، وقوله فيهم من الباطل مالا يجوز ثم أوردها أبو الفرج وهي مئة وعشرة أبيات، نختار منها:

أمامك فانظر أيَّ نهيجك تنهج

طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ

ألا أيهذا الناسُ طالَ ضريرُكم

بآل رسول الله فاخشوا أوارتجوا

أكلُّ أوانٍ للنبيِّ محمدٍ

قتيل زكي بالدماء مضرَّج

تبيعون فيه الدين شر أئمة

فلله دين الله قد كاد يُمْرَج

بني المصطفى كم يأكلُ الناس شِلوَكم

لبلواكمُ عما قليلٍ مُفَرِّجُ

أما فيهمُ راعٍ لحق نبيهِ

ولا خائفٌ من ربه يتحرجُ

أبَعْدَ المكَنَّى بالحسين شهيدكم

تضاءُ مصابيحُ السماء فتُسرج

لنا وعلينا لا عليه ولا لهُ

تسجسجُ أسرابُ الدموع وتَنْشُجُ

وكيف نبكِّي فائزاً عند ربه

له في جنان الخلد عيشٌ مخرفج

فإلا يكن حياٌ لدينا فإنه

لدى الله حيٌّ في الجنان مزوج

وقد نال في الدنيا سناءً وصيةً

وقام مقاماً لم يقمه مزلَّج

أبيتُ إذا نام الخليُّ كأنما

تبطَّنَ أجفاني سيالٌ وعوسج

أيحيى العلا لهفي لذكراك لهفهُ

يباشر مكواها الفؤاد فينضج

أحين تراءتك العيون جلاءها

وأقذاءها أضحت مراثيك تنسج

١٧٧

بنفسي وإن فات الفداء بك الردى

محاسنك اللاتي تمخُّ فتنهج

لمن تستجد الأرض بعدك زينةً

فتصبحُ في أثوابها تتبرج

سلامٌ وريحانٌ وروحٌ ورحمةٌ

عليك وممدودٌ من الظل سجسجُ

ولا بَرِحَ القاعُ الذي أنت جارُه

يرفُّ عليه الأقحوانُ المفلج

ألا أيها المستبشرون بيومه

أظلت عليكم غمةٌ لا تُفَرَّجُ

أكلكم أمسى اطمأن مهاده

بأن رسول الله في القبر مزعج

فلا تشمتوا وليخسأ المرء منكم

بوجه كأن اللون منه اليرندج

كدأب علي في المواطن قبله

أبي حسن والغصن من حيث يخرج

كأني به كالليث يحمي عرينه

وأشباله لا يزدهيه المهجهج

كأني أراهُ والرماح تنوشُهُ

شوارعُ كالأشطان تُدلى وتُخلج

كأني أراهُ إذ هوى عن جواده

وعُفر بالترب الجبين المشجج

أجنوا بني العباس من شنآنكم

وشدوا على ما في العياب واشرجوا

وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم

فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا

نظارٌ لكم إن يرجع الحق راجع

إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا

على حين لا عذري لمعتذريكم

ولا لكم من حجة الله مخرج

فلا تلقحوا الآن الضغائن بينكم

وبينهم إن اللواقح تنتج

غررتم إذا صدقتم أن حالةً

تدوم لكم والدهر لونان أخرج

لعل لهم في منطوى الغيث ثائراً

سيسمو لكم والصبح في الليل مولج

بمجر تضيق الأرض من زفراته

له زجل ينفي الوحوش وهزمج

يؤيده ركنان ثبتان: رجلة

وخيل كإرسال الجراد وأوثج

عليها رجال كالليوث بسالة

بأمثالهم بثنى الأبي فيعنج

١٧٨

تدانوا فما للنفع فيهم خصاصة

تنفسه عن خيلهم حين ترهج

محضتكم نصحي وإني بعدها

لأعنق فيما ساءكم وأهملج

مهْ لا تعادوا غرة البغي بينكم

كما يتعادى شعلة النار عرفج

أفي الحق أن يمسوا خماصاً وأنتم

يكاد أخوكم بطنه يتبعج

تمشون مختالين في حجراتكم

ثقال الخطا أكفالكم تترجرج

وليدهم بادي الطوى ووليدكم

من الريف ريان العظام خدلج

تذودونهم عن حوضهم بسيوفكم

ويشرع فيه أرتبيل وأبلج

فقد ألجمتهم خيفة القتل عنكم

وبالقوم جاج في الحيازم حوج

بنفسي الأولى كظتهم حسراتكم

فقد علزوا قبل الممات وحشرجوا

ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم

كلابكم منها بهيم وديزج

وعيرتموهم بالسواد ولم يزل

من العرب المحاص أخضر أدعج

ولكنكم زرق يزين وجوهكم

بني الروم ألوان من الروم نعج

لئن لم تكن بالهاشميين عاهة

لما شكلكم تالله إلا المعلهج

بآية ألا يبرح المرء منكم

يكب على حر الجبين فيعفج

يبيت إذا الصهباء روت مشاشه

يساوره علج من الروم أعلج

فيطعنه في سبة السوء طعنة

يقوم لها من تحته وهو أفحج

لذاك بني العباس يصبر مثلكم

ويصبر للموت الكمي المدجج

فهل عاهة إلا كهذي وإنكم

لأكذب مسؤول عن الحق يلهج

أبى الله إلا أن يطيبوا وتخبثوا

وأن يسبقوا بالصالحات ويفلجوا

وإن كنتم منهم وكان أبوكم

أباهم فإن الصفو بالرنق يمزج

أروني امرأ منهم يزن بأبنة

ولا تنطقوا البهتان والحق أبلج

لعمري لقد أغرى القلوب ابن طاهر

ببغضائكم ما دامت الريح تنأج

١٧٩

وإني على الاسلام منكم لخائف

بوائق شتى بابها الآن مرتج

وفي الحزم أن يستدرك الناس أمركم

وحبلهم مستحكم العقد مدمج

نظارٌ فإن الله طالب وتره

بني مصعب لن يسبق الله مدلج

لعل قلوباً قد أطلتم غليلها

ستظفر منكم بالشفاء فتثلج

« وهي في ديوان ابن الرومي: ١ / ٥٦ »

ملاحظات

١. من فوائد انتقال الخليفة الى سامراء وغيابه عن بغداد أن أهل بغداد تنفسوا الحرية، فكانوا يجهرون بتأييدهم للثائر العلوي، وإذا أمر الخليفة بصلب رأسه في بغداد، اعترضوا عليه وتجمهروا، فاضطر الوالي أن يخالف أمر الخليفة!

٢. من الطبيعي في هذا الجو الموالي لأهل البيت (ع) أن يخاف المتوكل إذا وصل اليه خبرٌ بأن شخصية من العلويين موجودٌ في بغداد، وأنه يأخذ البيعة ليثور، وأنه مختبئ في بيت أحمد بن حنبل!

قال الذهبي في تاريخه « ١٨ / ٨٤ »: « رفع إلى المتوكل أن أحمد بن حنبل ربَّصَ « خبأ » علوياً في منزله، وأنه يريد أن يُخرجه ويُبايع عليه ولم يكن عندنا علم وقال ابن الكلبي « آمر السر ـ ية »: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحُلِّفَكَ. قال: فأحْلفه بالطلاق ثلاثاً أن ما عنده طَلِبَةُ أمير المؤمنين. قال: وفتشوا منزل أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشوا النساء والمنازل، فلم يروا شيئاً ولم يحسوا بشئ: ورد الله الذين كفروا بغيظهم . فكتب بذلك إلى المتوكل فوقع منه موقعاً حسناً، وعلم أن أبا عبد الله مكذوب عليه ».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477