الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام8%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 160860 / تحميل: 7272
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢٤. وأشهد أنك أوفيت بعهد الله تعالى، وأن الله تعالى موف بعهده لك، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً: والمقصود به عهد الله الذي أعطاه علي (ع) لرسول الله (ص) في مرض وفاته أن يصبر على ما يرتكب في حقه وحق زوجته وأولاده. من ذلك ما رواه في الكافي « ١ / ٢٨١ »: « فقال أمير المؤمنين: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد سمعت جبرئيل يقول للنبي: يا محمد عرفه أنه تنتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط. قال أمير المؤمنين: فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي، وقلت: نعم قبلت ورضيت، وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومُزق الكتاب وهُدمت الكعبة وخُضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط، صابراً محتسباً أبداً، حتى أُقدم عليك ».

٢٥. وأشهد أنك أمير المؤمنين حقاً: فقد ثبت عندنا أن هذا اللقب سمى الله به علياً (ع) ثم أخذه الآخرون، ففي الكافي « ١ / ٤١١ »: أن الإمام الصادق (ع) قال: « ذاك إسمٌ سمى الله به أمير المؤمنين (ع)، لم يُسَمَّ به أحدٌ قبله، ولا يتسمى به بعده إلا كافر ». وقيل إن الكافر في مثل هذا الحديث بمعنى كافر النعمة.

٢٦. الذي نطق بولايتك التنزيل: كقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . والآية نص في ولاية علي (ع)، لفظها عام ومصداقها خاص، فهوالذي تصدق بخاتمه وهو راكع، والواو في: وهم راكعون، حالية، ولا يصح كونها عاطفة.

٢٨١

٢٧. وأخذ لك العهد على الأمة بذلك الرسول (ص): في مثل قوله (ص): « هذا وليكم من بعدي، فإن أطعتموه رشدتم ». « الكافي: ١ / ١٥٣ ». وقوله (ص) لبريدة: « لا تقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهووليكم بعدي ». « مسند أحمد: ٥ / ٣٥٦ ».

٢٨. وأشهد أنك وعمك وأخاك، الذين تاجرتم الله بنفوسكم فأنزل الله فيكم: ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوالْفَوْزُ الْعَظِيمُ. التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني النيسابوري « ٢ / ٦ »: « عن عبد الله بن عباس في قول الله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه: يعني علياً وحمزة وجعفر. منهم من قضى نحبه: يعني حمزة وجعفراً. ومنهم من ينتظر: يعني علياً كان ينتظر أجله والوفاء لله بالعهد والشهادة في سبيل الله ».

٢٩. أشهد يا أمير المؤمنين أن الشاك فيك ما آمن بالرسول الأمين، وأن العادل بك غيرك عادل عن الدين القويم: فمن ثبت عنده أن النبي (ص) أعطى لعلي (ع) هذه المكانة، وأنه لاينطق عن الهوى، فكيف يرد قول رسول الله (ص) ويكفر به.

والذي ينحرف عن ولايته ويتولى غيره من الأنداد، فقد انحرف عن الدين القويم الذي أكمله الله بولايته بحكم قوله: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) .

٢٨٢

٣٠. وأشهد أنك المعني بقول العزيز الرحيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ: ومعنى هذه الفقرة واضح.

٣١. وأشهد أنك لم تزل للهوى مخالفاً، وللتقى محالفاً، وعلى كظم الغيظ قادراً، وعن الناس عافياً، وإذا عصي الله ساخطاً، وإذا أطيع الله راضياً، وبما عهد الله إليك عاملاً: هذا بيانٌ لحالة الثبات والصمود في موقف أمير المؤمنين (ع) وهي صفة صاحب الدين والمبدأ. وقد عرف بذلك (ع) في الحرب والسلم، والشدة والرخاء.

٣٢. وأشهد أنك ما اتقيتَ ضارعاً، ولا أمسكتَ عن حقك جازعاً: وهذا بيانٌ لسياسته (ع) مع أهل السقيفة، فقد كان يلين وقت اللين ويشتد وقت الشدة، ويقيم الحجة بالبرهان، وهوفي ذلك ينفذ أمر النبي (ص).

قال (ع): « أخبرني رسول الله (ص) بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله (ص) أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت ». « كتاب سليم بن قيس / ٢١٥ ».

٣٣. وأشهد أنك يا أمير المؤمنين جاهدت في الله حق جهاده، حتى دعاك الله إلى جواره: روى النسائي في خصائص علي (ع) / ٤٠، والحاكم: ٣ / ١٢٢، وصححه على شرط الشيخين، عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً ننظر رسول الله (ص) فخرج الينا قد انقطع شسع نعله فرمى به إلى علي (ع) فقال: إن منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، قال أبوبكر: أنا؟ قال: لا. قال عمر: أنا؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل ».

٢٨٣

٣٤. السلام عليك يا أمير المؤمنين، عبدت الله مخلصاً، وجاهدت في الله صابراً لا تحفل بالنوائب، ولا تهن عند الشدائد، ولا تحجم عن محارب. أفِكَ من نسب غير ذلك، وافترى باطلاً عليك: وهذه باقة من صفاته (ع) في الجهاد والسياسة. وقد رد في آخرها ما يحاوله أعداؤه وفي طليعتهم المتوكل أن يفتروا عليه غير ذلك.

٣٥. وأنت أول من آمن بالله وصلى له، وجاهد وأبدى صفحته في دار الشرك، والأرض مشحونةٌ ضلالةً، والشيطانُ يعبد جهرةً: وهذا وصفٌ لشجاعته (ع) في مرحلة مكة قبل إسلام الناس، ثم عندما كانوا يبتعدون بأنفسهم عن النبي (ص)!

ففي السنوات الثلاث الأولى لم يكن أحد مسلماً غير بضعة من بني هاشم، وقد هاجَ زعماء المشركين وعملوا ليل نهار لقتل النبي (ص) فكان عليٌّ (ع) مهموماً في حراسته ليله ونهاره، مع أبيه، وعمه حمزة، وأخيه جعفر.

وبعد الثلاث سنوات كان حصار الشعب، وكان يوجد بعض المسلمين، لكنهم لم يسدوا فراغاً ولا وقفوا في منع خطر أوضرر. وقد ادعوا بعد ذلك لبعضهم بطولات، لكن اعترفوا بأنهم لم يوصلوا صاع حنطة الى النبي (ص) في الشعب! وأن ثقل الأمور طوال كان على عاتق بني هاشم، وأمير المؤمنين (ع) خاصة.

وقد رووا أن أبا بكر أجاره ابن الدغنة سيد الأحابيش، وأن عمر أجاره العاص بن وائل، أما علي (ع) فلم يستجر بأحد، وكان مضرب المثل في خدمته لرسول الله (ص) والدفاع عنه، وتحديه لأعدائه!

٣٦. وأنت القائل لاتزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرعاً. اعتصمتَ بالله فعززتَ:

٢٨٤

فبَيَّنَ بهذه الفقرة أن سبب شجاعته درجةُ اعتصامه وعبوديته لله تعالى.

٣٧. أشهد شهادة حق، وأقسم بالله قسم صدق أن محمداً وآله صلوات الله عليهم سادات الخلق وأنه القائل لك: والذي بعثني بالحق ما آمن بي من كفر بك:

ويؤيد هذه الشهادة النبوية أحاديث متعددة نص بعضها على أفضلية بني هاشم على غيرهم، ونص بعضها على أن عترة النبي (ص) لا يقاس بهم أحد.

ففي مناقب أحمد لابن الجوزي / ١٦٣: « سمعت عبد الله بن حنبل يقول: حدث أبي بحديث سفينة فقلت: يا أبة ما تقول في التفضيل؟قال: في الخلافة أبوبكر وعمر وعثمان. فقلت فعلي بن أبي طالب؟ قال: يا بني علي بن أبي طالب من أهل البيت لا يقاس بهم أحد ».

وفي الرياض النضرة للطبري « ٢ / ٢٧٥ »: « قال رجل لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن: فعلي كرم الله وجهه؟ قال ابن عمر: علي من أهل البيت لا يقاس بهم، علي مع رسول الله في درجته، إن الله عز وجل يقول: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ، فاطمة مع رسول الله في درجته، وعلي مع فاطمة الزهراء ».

٣٨. مولاي، فضلك لا يخفى، ونورك لا يُطفى، وإن من جحدك الظلوم الأشقى: أهم هذه الصفات أنه (ع) حجة الله على خلقه، وله أدلته من القرآن والسنة. ولعن مستحلي حرمة العترة اقتداء بالنبي (ص) لأنه قال: « خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والتارك لسنتي، والمكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمستأثر بالفئ، والمستحل له ». « الكافي: ١ / ٢٩٣ ».

٢٨٥

« ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله، والتارك لسنتي، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والمستحل لحرم الله ». « الحاكم: ٢ / ٥٢٥ وصححه ».

٣٩. وأشهد أنك ما أقدمتَ، ولا أحجمت، ولا نطقت، ولا أمسكتَ، إلا بأمر من الله ورسوله (ص): وقد رووا أن خالد بن الوليد بعث بريدة يشتكي على علي للنبي (ص)، قال بريدة: « فوقعت في علي حتى فرغت، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً لم أره غضب مثله إلا يوم قريظة والنضير، فنظر إلى فقال: يا بريدة أحب علياً فإنما يفعل ما أمر به! فقمت وما من الناس أحد أحب إلى منه ». « أوسط الطبراني: ٥ / ١١٧، ومجمع الزوائد: ٩ / ١٢٩، وتاريخ دمشق: ٤٢ / ١٩١، وفي رواية أخرى فيه: « قال له: أنافقت بعدي يا بريدة »!

٤٠. وأنت ولي الله وأخورسوله، والذابُّ عن دينه، والذي نطق القرآن بتفضيله: قال الله تعالى: وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً. دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً . « النساء: ٦٨ ـ ٦٩ ». وجهاد علي (ع) بين يدي رسول الله (ص) كافٍ لتفضيله على كافة الصحابة خاصة الفارين في الحروب، لكن القرشيين عَصَبُوا دماء مشركيهم الذين قتلهم النبي (ص) بعلي (ع) لأنه كبير بني هاشم، وانتقموا من النبي (ص) بشخص علي! ومن انتقامهم أنهم جعلوا الجهاد الدعوة الى الإسلام وليس القتال. فعلي مقاتل وليس مجاهداً، وفلان وفلان مجاهدون ولو لم يقاتلوا! وقد استمات الفخر الرازي لإثبات هذا التزييف القرشي، فقال إن أبا

٢٨٦

بكر جاهد بالدعوة الى الإسلام، وعلي قاتل فقط! قال في تفسيره « ١١ / ٩ »: « وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي « ص » وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل، ولا شك أن الأول أفضل »!

٤١. أشهد أنك المخصوص بمدحة الله، المخلص لطاعة الله، لم تبغ بالهدى بدلاً، ولم تشرك بعبادة ربك أحداً، وإن الله تعالى استجاب لنبيه (ص) فيك دعوته:

ففي كمال الدين / ٢٨٥، قال رسول الله (ص) لعلي (ع): « أخبرني ربي جل جلاله أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك، فقلت: يا رسول الله ومن شركائي من بعدي؟ قال: الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه وبي، فقال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فقلت: يا رسول الله ومن هم؟قال: الأوصياء مني إلى أن يردوا علي الحوض كلهم هاد مهتد، لايضرهم من خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه، بهم تنصر أمتي وبهم يمطرون وبهم يدفع عنهم البلاء ويستجاب دعاؤهم ».

٤٢. فلما أشفق من فتنة الفاسقين واتقى فيك المنافقين، أوحى الله رب العالمين: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. فوضع على نفسه أوزار المسير، ونهض في رمضاء الهجير فخطب فأسمع، ونادى فأبلغ:

ومعنى عصمة الله لنبيه (ص) في الآية أن يعصمه من ارتداد أمته، ولا يصح تفسيرها بغير ذلك، كما بينا في كتاب: تفسير آيات الغدير الثلاث.

٢٨٧

٤٣. فما آمن بما أنزل الله فيك على نبيه إلا قليل، ولا زاد أكثرهم إلا تخسيراً، ولقد أنزل الله تعالى فيك من قبل وهم كارهون: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) ..

٤٤. السلام عليك يا أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأول العابدين ..

٤٥. أنت مطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً لوجه الله لا تريد منهم جزاء ولا شكوراً وأنت الكاظم للغيظ، والعافي عن الناس، والله يحب المحسنين. وأنت الصابر في البأساء والضراء وحين البأس ..

وهذه صفات ثابتةٌ لأمير المؤمنين (ع) دون مخالفيه، وقد روتها مصادر الجميع.

٤٦. والله تعالى أخبر عما أولاك من فضله بقوله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. وقد ورد تفسيرها بأمير المؤمنين (ع).

٤٧. وأنت المخصوص بعلم التنزيل، وحكم التأويل، ونصر ـ الرسول، ولك المواقف المشهورة، والمقامات المشهورة، والأيام المذكورة، يوم بدر ويوم الأحزاب:

وقد روى المؤرخون أن المسلمين قتلوا نصف قتلى بدر من عتاة المشركين، وقتل علي (ع) وحده نصفهم. وحاول القرشيون بعدها أن يطمسوا بطولة علي (ع)!

قال عمر بن عبد العزيز كما في شرح النهج: ٤ / ٥٨: « كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان، ونحن نلعن علياً، فكره ذلك ودخل المسجد، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني، حتى أحسست

٢٨٨

منه بذلك، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي، فقلت له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بنى، أنت اللاعن علياً منذ اليوم؟ قلت: نعم، قال: فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم! فقلت: يا أبت، وهل كان علي من أهل بدر؟ فقال: ويحك! وهل كانت بدر كلها إلا له! فقلت: لا أعود، فقال: الله أنك لا تعود! قلت: نعم، فلم ألعنه بعدها.

ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهوحينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه، حتى يأتي إلى لعن علي فيجمجم، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم ».

٤٨. ويوم أُحُد: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ: وأنت تذود المشركين عن النبي (ص) ذات اليمين وذات الشمال:

وقد وصف الله تعالى فرار المسلمين في أحُد في نحو ستين آية إذ تركوا نبيهم (ص) لسيوف المشركين، وثبت معه أول الأمر أبو دجانة ونسيبة بنت عمارة وعلي (ع) فجرح الأولان وبقي عليٌّ (ع) وحده، فقاتل هو والنبي حتى وقع النبي (ص) في حفرة واجتمع المشركون ليقتلوه، فكشفهم علي (ع) وأمر جبرئيل النبي (ص) أن يقعد في ظل الصخرة، وأن يقاتل علي (ع) وحده، فواصل رد حملاتهم عن النبي (ص) حتى نصره الله، وقرر المشركون أن ينسحبوا!

٤٩. ويوم حنين على ما نطق به التنزيل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. « التوبة: ٢٥ » والمؤمنون أنت ومن يليك:

٢٨٩

وقد انهزم في حنين جميعاً وكانوا اثني عشر ألفاً! ونكثوا بيعتهم تحت الشجرة في الحديبية على أن لايفروا! وثبت مع النبي (ص) بنوعبد المطلب ومعهم أيمن بن أم أيمن فقط، فقاتل النبي (ص) قتال الأبطال، ورتب علي (ع) بني هاشم لحماية النبي (ص)، وحمل على هوازن وكانوا عشرين ألفاً، وكان يقصد قادتهم واحداً بعد الآخر، حتى قتل أربعين من حمَلَة الرايات! وكان يأسر بعضهم ويأتي بهم فيضعهم عند رسول الله (ص)! وقد أقسم ابن هشام في السيرة « ٤ / ٨٩٦ » فقال: « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله ». وكان علي (ع) هو الذي أسرهم وكتَّفهم !

٥٠. ويوم خيبر إذ أظهر الله خَوَرَ المنافقين، وقطع دابرَ الكافرين، والحمد لله رب العالمين: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً:

وكان النبي (ص) فتح القسم الأول من خيبر واسمه: النطاة، وترك فيه علياً (ع) يرتب أموره، وجاء الى القسم الآخر واسمه: الكتيبة، والفاصلة بينهما بضعة كيلومترات، فحاصر حصونها وأهمها: القموص، والسلالم والوطيح، حاصرها أكثر من عشرين يوماً، وكان يرسل المسلمين بقيادة الصحابة المعروفين فيرجعون منهزمين، وقد وبخهم الله تعالى بقوله: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً.

ثم قال الصحابة أرسل الى علي (ع) فأرسل اليه النبي (ص) وجاء وكان أرمد العينين، فشافاه رسول الله (ص) بريقه، وقال فيه كلمته المعروفة.

٢٩٠

قال ابن هشام « ٣ / ٧٩٧ »: « بعث أبا بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر، فقاتل فرجع ولم يك فتح، وقد جَهِدَ! ثم بعث الغد عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يك فتح، وقد جَهِدَ! فقال رسول الله (ص): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرار! فدعا رسول الله علياً وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. يقول سلمة: فخرج والله بها يأنج، يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فما رجع حتى فتح الله على يديه ».

٥١. مولايَ، أنت الحجة البالغة، والمحجة الواضحة، والنعمة السابغة، والبرهان المنير، فهنيئاً لك ما آتاك الله من فضل، وتباً لشانئك ذي الجهل شهدتَ مع النبي (ص) جميع حروبه ومغازيه، تحمل الراية أمامه، وتضرب بالسيف قدامه ...

٥٢. وكم من أمرٍ صدَّك عن إمضاء عزمك فيه التُّقى، واتبع غيرك في نيله الهوى ولقد أوضحت ما أشكل من ذلك لمن توهم وامترى، بقولك صلى الله عليك: قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجْهَ الحيلة، ودونها حاجزٌ من تقوى الله، فيدعها رأيَ العين، وينتهز فرصتها من لا جريحة له في الدين!صدقتَ وخسر المبطلون:

وهذه ميزة سامية لأمير المؤمنين (ع) على غيره، في إصراره على طهارة الوسي لة والهدف، فهدفه إعادة العهد النبوي، وتثبيت قيم الإسلام، حتى لوكان فيها خسارة سياسية عليه. وقد انتقد سياسة الغدر ومخالفة قيم الإسلام، فقال « نهج البلاغة: ١ / ٩٢ »: « ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة! ما لهم قاتلهم الله. قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجهَ

٢٩١

الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين ».

وقال (ع) « الكافي: ٨ / ٢٤ »: « وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية تصفية العمل أشد من العمل، وتخليص النية من الفساد، أشد على العاملين من طول الجهاد. هيهات لولا التقى لكنت أدهى العرب ».

٥٣. وإذ ماكرك الناكثان فقالا: نريد العمرة، فقلت لهما: لعمري ما تريدان العمرة لكن الغدرة، وأخذت البيعة عليهما، وجددت الميثاق فجدا في النفاق، فلما نبهتهما على فعلهما أغفلا وعادا، وما انتفعا، وكان عاقبة أمرهما خسرا.

٥٤. ثم تلاهما أهل الشام فسرت إليهم بعد الإعذار ..

٥٥. مولاي، بك ظهر الحق وعدوك عدوالله، جاحدٌ لرسول الله (ص)، يدعو باطلاً ويحكم جائراً، ويتأمر غاصباً، ويدعوحزبه إلى النار ..

٥٦. وعلى من سلَّ سيفه عليك وسللت عليه سيفك يا أمير المؤمنين ..

٥٧. والأمر الأعجب والخطب الأفظع بعد جحدك حقك، غصب الصديقة الزهراء سيدة النساء فدكاً ..

٥٨. قال الله جل وعز: ( إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ ) ، فاستثنى الله تعالى نبيه المصطفى وأنت يا سيد الأوصياء من جميع الخلق ..

٥٩. ثم أفرضوك سهم ذوي القربى مكراً، وأحادوه عن أهله جوراً ..

٢٩٢

روى النسائي في سننه « ٧ / ١٢٨ »: « أن نجدة الحروري حين خرج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن تراه؟ قال: هو لنا لقربى رسول الله (ص) قسمه رسول الله لهم، وقد كان عمر عرض علينا شيئاً رأيناه دون حقنا، فأبينا أن نقبله، وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم، ويقضي عن غارمهم، ويعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك ».

٦٠. وأشبهت في البيات على الفراش الذبيح (ع) إذ أجبت كما أجاب ..

٦١. ثم محنتك يوم صفين، وقد رُفعت المصاحف حيلةً ومكراً ..

٦٢. صلوات الله عليك غاديةً ورائحةً، وعاكفة وذاهبة وفي مدح الله تعالى لك غنى عن مدح المادحين وتقريظ الواصفين، قال الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.

٦٣. ولما رأيتَ أنك قد قاتلت الناكثين والقاسطين والمارقين، وصدقك رسول الله وعده (ص) فأوفيت بعهده، قلت: أما آن أن تخضب هذه من هذه ..

٦٤. اللهم العن قتلة أنبيائك وأوصياء أنبيائك بجميع لعناتك، وأصْلِهِمْ حَرَّ نارك، والعن من غصب وليك حقه وأنكر عهده، وجحده بعد اليقين والإقرار ..

٦٥. اللهم صل على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين وآله الطاهرين، واجعلنا بهم متمسكين وبموالاتهم ».

٢٩٣

الإمام الهادي (ع) يطلق ( إلياذة ) الشيعة في الأئمة (ع)

١. الزيارة الجامعة نَصٌّ فريدٌ أملاه الإمام علي الهادي (ع) على موسى بن عمران النخعي، عندما قال له: علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً، إذا زرتُ واحداً منكم. فعلمه هذه الزيارة التي عرفت بالزيارة الجامعة.

وتقع في نحوعشر صفحات، وتتضمن أهم صفات الأئمة من أهل البيت (ع) ومكانتهم ومقامهم عند الله تعالى.

ومنذ صدورها، أخذت مكانتها الخاصة عند علماء الشيعة ومتدينيهم، فهم يتلونها في مشاهدهم ومساجدهم وحسينياتهم وبيوتهم، لأنها تعبر عن عقيدتهم في أئمتهم (ع)، فهي بحق ملحمة عقيدة المسلم الشيعي، وأنشودته المحببة الى وجدانه، وقصيدته العصماء التي يحب أن يلقيها في مديحهم.

فهي جديرة بأن يتأملها من أراد معرفة عقيدة الشيعة في أئمتهم (ع)، وأن يدرسها الشيعي ليتفهم مكانة نبيه وأئمته المعصومين (ع) عند الله تعالى.

٢. أملى الإمام الهادي هذه الملحمة بلغةٍ لا يجيدها إلا أهل البيت (ع) الذين هم أفصح من نطق بالضاد، وأقدر من تمكن من قيادها، وأبرع معماريها.

تقرأ في هذه الزيارة مثل هذه الفقرة: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرسالة، وخزانَ العلم، ومنتهى

٢٩٤

الحلم، وأصولَ الكرم، وقادةَ الأمم، وأولياءَ النعم، وعناصرَ الأبرار، ودعائمَ الأخيار، وساسةَ العباد، وأركانَ البلاد، وأبوابَ الإيمان، وأمناءَ الرحمن، وسلالةَ النبيين، وصفوةَ المرسلين، وعترةَ خِيَرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته.

وهذه الفقرة: السلام على محالِّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله ..

فتَبْهُرُك قدرة معمارها على بناء العبارة العربية، وخبرته في انتقاء الكلمات من أسفاطها كما ينتقي الخبير جواهره، وتبهرك خيوط ربطه وحروف التعدية التي يشد بها الأفعال والأسماء والحروف، فتتقابل الكلمات والفقرات وتتناغم.

هذا، ولايتسع المجال لوصف خصائص التعبير والمضمون في الزيارة الجامعة.

٣. في شخصية النبي والإمام سرٌّ وهيام: سِرٌّ هو ارتباط المعصوم بربه، ومدده منه. وهيامُ المؤمنين به، إيماناً وحباً وطاعةً. كما تجد ذلك في سيرتهم (ع) وفي تعامل المؤمنين معهم، وتتعرف عليه في الزيارة الجامعة.

وقد كان ذلك حقيقة من عهد النبي (ص)، ففي أمالي الصدوق / ٤١٤: « قال رسول الله (ص): لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله وعترتي أحب إليه من عترته، وذاتي أحب إليه من ذاته ».

وفي الكافي « ٨ / ٧٨ » قال الإمام الصادق (ع): « كان رجل يبيع الزيت وكان يحب رسول الله (ص) حباً شديداً. كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله (ص)، وقد عرف ذلك منه فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه ».

٢٩٥

٣. بَلَّغ النبي (ص) أمته أن الله تعالى أعطى الأئمة من عترته (ع) السر من بعده وأمرأمته أن تحبهم معه، لكن قريشاً عملت ضد العترة، لأن خلافة النبي برأيها يجب أن تكون لبطون قريش، وليس لعترة النبي (ص).

واتهمت قريش أنصار العترة النبوية بأنهم يغالون في النبي (ص) وفيهم، ويدَّعون أنهم يعلمون الغيب، وكانو يسمونهم: عُبَّاد محمد (ص)!

وقد قال لهم أبو بكر في المدينة وسهيل بن عمرو في مكة، بعد وفاة النبي (ص): « من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات ». « مسند أحمد « ٦ / ٢٢٠ ».

٤. يتصور البعض أن المشكلة في قضية أهل البيت (ع) هي الغلو، لكن الغلو محصور في حفنة ألَّهوا أهل البيت والعياذ بالله، وقد حسم الأئمة (ع) الموقف منهم، وكَفَّرُوا كل من ألَّه مخلوقاً، أوأشركه مع الله تعالى.

بل المشكلة تقصير المسلمين في حق أهل البيت (ع)، وإعراضهم عنهم ورفعهم مخالفيهم وظالميهم مقابلهم! وقد حاربت قريش بعد النبي (ص) من أحبهم وكأنه ارتكب جريمة، ووصفوه بالضلال والغلو، والكفر! كما قال الكميت (رحمه الله):

وطائفةٌ قد كَفَّرَتْنِي بِحُبِّكُمْ

وطائفةٌ قالوا مسئٌ ومذنبُ

فما ساءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ

ولا عيبُ هاتيكَ التي هيَ أعْيَبُ

يعيبونني من خِبِّهم وضلالهمْ

على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابيٌّ هواهُ ورأيهُ

بذلك أدعى فيهم وألقب

فلا زلت منهم حيث يتهمونني

ولا زلت في أشياعكم أتقلب

وأحمل أحقاد الأقارب فيكم

ويُنْصَبُ لي في الأبعدين فأنصب

٢٩٦

بخاتمكم غصباً تجوز أمورهم

فلم أرَ غصباً مثله حين يغصب

فقل للذي في ظِلِّ عمياءَ جُونَةٍ

ترى الجور عدلاً أين لا أينَ تذهب

بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سنةٍ

ترى حبهم عاراً عليَّ وتَحْسِبُ

فَمَا لِيَ إلَّا آلَ أحمدَ شيعةٌ

وماليَ إلا مذهبَ الحق مذهبُ

٥. لم تستطع الحكومات القرشية المتعاقبة أن تبعد الأمة عن العترة النبوية، فكانت لهم شيعة يؤمنون بهم، وتنامى وجودهم رغم الإضطهاد.

وكان الناس في كل جيل يشاهدون أنواع الكرامات والمعجزات لأمير المؤمنين والصديقة الزهراء والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي، والحسن العسكري والإمام المهدي، صلوات الله عليهم. وترويها مصادرهم.

وقد رووا أن عَتَّاباً القائد قال للإمام الهادي (ع): « الناس يقولون إنك تعلم الغيب، وقد تبينتُ من ذلك خَلَّتين ». « مناقب آل أبي طالب: ٣ / ٥١٥ ».

وقال تلميذ الطبيب بختيشوع عن الإمام الهادي (ع): « إن كان مخلوق يعلم الغيب فهو ». « دلائل الإمامة / ٤١٨ ».

ظاهرة النصب والغلو في أهل البيت (ع)

اختلفت الأمة في عليٍّ والأئمة من عترة النبي (ص)، من تكفيرهم الى تأليههم! قال الشهرستاني في الملل والنحل « ١ / ٢٧ »: « كان علي رضي الله عنه مع الحق والحق معه، وظهر في زمانه الخوارج عليه، مثل الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي

٢٩٧

التميمي، وزيد بن حصين الطائي، وغيرهم. وكذلك ظهر في زمانه الغلاة في حقه مثل عبد الله بن سبأ، وجماعة معه. ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة وصدق فيه قول النبي (ص): يهلك فيه اثنان: محبٌّ غالٍ، ومبغض قالٍ ».

أما الوسطية بين التكفير والتأليه، فهي عند الإمام الهادي (ع) الإيمان بصفاتهم التي نصت عليها الزيارة الجامعة. ولذلك كان موقف الأئمة (ع) شديداً ممن غلوا فيهم وألهوهم، ومن أنقصونهم حقهم، أو صادروه وأعطوه لغيرهم!

فمذهب أهل بيت النبوة (ع) هو الوحي النقي، وهو بنقائه ينفي عنه تقصير المقصرين، وغلو الغالين، وادعاء الكذابين، نفياً بَتاً لا لبسَ فيه!

وقد سجلت المصادر مواقف الأئمة (ع) الحاسمة ممن ادعى لهم الألوهية، أو الشراكة مع الله تعالى، أو النبوة، أو الحلول. فهؤلاء الغلاة أعشت أبصارهم معجزات الأئمة (ع)، وبدل أن تكون سبباً لتعميق إيمانهم بالله تعالى، ضاقت عقولهم عن عظمة الله عز وجل وعطائه لأوليائه، وسوَّل لهم الشيطان أن الله تعالى حلَّ فيهم، معاذ الله!

موقف أمير المؤمنين (ع) من الذين ألَّهُوه

في مناقب آل أبي طالب « ١ / ٢٢٧ »: « أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال: أنت هو، فقال له ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب! فلما أبى حبسه واستتابه ثلاثة أيام فأحرقه بالنار! وروي أن سبعين رجلاً

٢٩٨

من الزط أتوه (ع) بعد قتال أهل البصرة يدعونه إلهاً بلسانهم وسجدوا له قال لهم: ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم! فأبوا عليه فقال: فإن لم ترجعوا عما قلتم فيَّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم، قال: فأبوا فخدَّ لهم أخاديد وأوقد ناراً فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه، فيقذفه في النار، ثم قال:

إني إذا أبصرتُ أمراً منكرا

أوقدتُ ناراً ودعوتُ قنبرا

ثم احتفرتُ حُفَراً فحُفَرا

وقنبرٌ يخطم خطماً منكرا ».

والصحيح أنه (ع) حبسهم واستتابهم، فحفر لهم حُفَراً مثقوبة على بعضها ودخَّنَ عليهم، فلم يرجع بعضهم فقتلهم.

قال ابن عبد البر في التمهيد « ٥ / ٣١٧ »: « فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً، وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا، فاستتابهم واستأنى وتوعدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها طمعاً في رجوعهم فأبوا فحرقهم ». ونحوه فتح الباري: ١٢ / ٢٣٨، وتاريخ الذهبي: ٣ / ٦٤٣، وأنساب السمعاني: ٥ / ٤٩٨، ورجال الطوسي: ١ / ٢٨٨.

موقف الإمام الصادق (ع) من الذين ألَّهُوه

في رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٧ »: « عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله: يا أبا محمد إبرأ ممن يزعم أنا أرباب، قلت: برئ الله منه، قال: إبرأ ممن يزعم أنا أنبياء. قلت: برئ الله منه ».

وفي أصل زيد الزراد / ٤٦، قال: « لما لبى أبو الخطاب بالكوفة وادعى في أبي عبد الله (ع) ما ادعى، دخلت على أبي عبد الله مع عبيد بن زرارة فقلت له: جعلت

٢٩٩

فداك لقد ادعى أبو الخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً! إنه لبى: لبيتُك جعفر لبيك معراج! وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسريَ به إليك، فلما هبط إلى الأرض من ذلك دعا إليك، ولذلك لبى بك!

قال: فرأيت أبا عبد الله (ع) قد أرسل دمعته من حماليق عينيه وهو يقول: يا رب برئت إليك مما ادعى فيَّ الأجدع عبد بني أسد! خشع لك شعري وبشرى، عبدٌ لك ابن عبد لك، خاضع ذليل. ثم أطرق ساعة في الأرض كأنه يناجي شيئاً ثم رفع رأسه وهو يقول: أجل أجل، عبدٌ خاضعٌ خاشعٌ ذليلٌ لربه، صاغرٌ راغمٌ، من ربه خائف وجل. لي والله ربٌّ أعبده لا أشرك به شيئاً!

ماله أخزاه الله وأرعبه، ولا آمن روعته يوم القيامة. ما كانت تلبية الأنبياء هكذا ولا تلبية الرسل، إنما لبيتُ: بلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك »!

وفي رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٤ »: « ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فأشهد بالله أنه كافرٌ فاسقٌ مشرك. وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً، ثم قال: أماوالله إني لأنفس على أجساد أُصْلِيَتْ معه النار ».

موقف الإمام الكاظم (ع) من الذين ألَّهُوه

ففي رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٧ »: « فقال يحيى: جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان الله سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت! قال ثم قال: لاوالله، ما هي إلا وراثة عن رسول الله (ص) ».

٣٠٠

موقف الإمام الرضا (ع) من الذين ألَّهُوه

وكذلك موقف الإمام الرضا (ع): ففي معجم رجال الحديث « 18 / 135 »: « قال أبو الحسن الرضا (ع): آذاني محمد بن الفرات، آذاه الله وأذاقه الله حر الحديد، آذاني لعنه الله ما آذى أبو الخطاب لعنه الله جعفر بن محمد (ع) بمثله، وما كذب علينا خطابي مثل ما كذب محمد بن الفرات، والله ما من أحد يكذب علينا إلا ويذيقه الله حر الحديد. قال محمد بن عيسى: فأخبراني وغيرهما: أنه ما لبث محمد بن الفرات إلا قليلاً حتى قتله إبراهيم بن شكلة، أخبث قتلة ».

وفي الإعتقادات للصدوق / 99: « كان الرضا (ع) يقول في دعائه: اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. اللهم من زعم أننا أربابٌ فنحن إليك منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن إليك منه براء، كبراءة عيسى من النصارى ».

موقف الإمام الهادي (ع) من الذين ألَّهُوه

ففي رجال الطوسي « 2 / 805 »: « قال نصر بن الصباح: الحسن بن محمد المعروف بابن بابا، ومحمد بن نصير النميري، وفارس بن حاتم القزويني. لعن هؤلاء الثلاثة عليُّ بن محمد العسكري (ع). وذكر أبو محمد الفضل بن شاذان في بعض كتبه أن من الكذابين المشهورين: ابن بابا القمي. قال سعد: حدثني العبيدي قال: كتب إلي العسكري (ع) ابتداءً منه: أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي فأبرأ منهما، فإني محذرك وجميع مواليَّ، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله،

٣٠١

مستأكليْن يأكلان بنا الناس، فتَّانيْن مؤذييْن آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً. يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً وأنه باب! عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك! يا محمد إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة ».

ونلاحظ أن أغلب هؤلاء المذمومين الملعونين على لسان الأئمة (ع) كانوا شخصيات في عصرهم، وبعضهم كان يساندهم خلفاء أو وزراء! وقد زاد عددهم في زمن الإمام الهادي (ع) الى نحو عشرين شخصاً. وكان له منهم مواقف حاسمة!

وسوف نأتي على خبرهم في سيرة الإمام الحسن العسكري (ع).

سند الزيارة الجامعة وشروحها

1. بحث علماؤنا سند الزيارة الجامعة ووثاقة رواتها، وتوقف بعضهم في موسى بن عمران النخعي، ووثقه بعضهم لوروده في سند كتاب كامل الزيارة، الذي نص مؤلفه أنه لايروي إلا عن ثقات، ووثقه السيد الخوئي لأنه ورد في سند علي بن إبراهيم القمي في تفسيره. ووثقه آخرون لأنه راوي أحاديث عمه الحسين بن يزيد النوفلي، وشيخه إسماعيل بن أبي زياد السكوني، وقد عمل الأصحاب بروايات السكوني، فيكون عملهم توثيقاً له الخ.

والصحيح أنه يكفي في توثيق موسى بن عمران، رواية كامل الزيارة عنه، فكيف إذا ضم الى ذلك بقية الأدلة والمؤشرات.

٣٠٢

وقد تعجبت من تشكيك المحقق الميرزا النوري (رحمه الله) في رواية الصدوق « مستدرك الوسائل: 11 / 171 » واعتماده رواية الكفعمي المرسلة! وقد كفانا الرد عليه السيد الخوئي (قدس سره) « معجم رجال الحديث: 17 / 347 ».

بل لا يحتاج الأمر عندي الى بحث السند بعد أن بلغ المتن مستوى من العلو والتميز بحيث يجزم من له خبرة بالعربية والقرآن والسنة، بأنه صادر من معدن العلم النبوي، وأن الرواة لو اجتمعوا على أن يضعوا مثله لما استطاعوا!

ويكفي لتصديق ما ذكرنا أن تتأمل في فقراتٍ من هذه الزيارة الفريدة.

إنها نوعٌ من الكلام الشامخ، تعيا عن غوره الأذهان، وتعجز عن أبعاده العقول، وتكل عنه المشاعر، وتنوء بحمله الصدور.

وكذلك هي لغة أهل البيت ومقاماتهم صلوات الله عليهم، فالأولى بمن صَعُبَ عليه شئ من معانيها أن لا يتعجل بنفيه، فلعل المشكلة في فهمه لا في النص.

2. للزيارة الجامعة بعض الشروح، من أوسعها شرح الشيخ أحمد الأحسائي (رحمه الله) وهومكتوب بلغة خاصة ومَشرب خاص، قلَّ من يستوعبه ويجزم بمقصوده.

ومن أحدث الشروح كتاب آية الله السيد الميلاني دام ظله، وقد رأيت منه مجلداً وهوشرح جيد نافع، جزى الله مؤلفه خيراً.

وينبغي الإلفات الى أن الزيارة الجامعة في عمقها وجمالها من نوع تعبير الصحيفة السجادية، وأنها مع الشروح الموجودة لها تحتاج الى شروح أخرى، تركز على أبعادها البلاغية، والفكرية، والكلامية المقارنة، والإجتماعية السياسية.

٣٠٣

نص الزيارة الجامعة

قال الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) « 1 / 304 »: « حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه، ومحمد بن أحمد السناني، وعلي بن عبد الوراق، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتَّب، قالوا: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، وأبوالحسين الأسدي قالوا: حدثنا محمد بن إسماعيل المكي البرمكي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي قال: قلت لعلي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع): علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرتُ واحداً منكم، فقال: إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين، وأنت على غسل. فإذا دخلت ورأيت القبر فقف وقل: الله أكبر ثلاثين مرة.

ثم امش قليلاً وعليك السكينة والوقار، وقارب بين خطاك، ثم قف وكبر الله عز وجل ثلاثين مرة. ثم ادْنُ من القبر وكبر الله أربعين مرة، تمام مئة تكبيرة، ثم قل:

السلام عليكم يا أهلَ بيت النبوة، وموضعَ الرسالة، ومختلفَ الملائكة، ومهبطَ الوحي، ومعدنَ الرسالة، وخزانَ العلم، ومنتهى الحلم، وأصولَ الكرم، وقادةَ الأمم وأولياءَ النعم، وعناصرَ الأبرار، ودعائمَ الأخيار، وساسةَ العباد، وأركانَ البلاد، وأبوابَ الإيمان، وأمناءَ الرحمن، وسلالةَ النبيين، وصفوةَ المرسلين، وعترةَ خِيرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته.

السلام على أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأعلام التقى، وذوي النهى، وأولي الحجى، وكهف الورى، وورثة الأنبيا، والمثل الأعلى، والدعوة الحسنى، وحجج الله على أهل الآخرة والأولى، ورحمة الله وبركاته.

٣٠٤

السلام على محالِّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله، ورحمة الله وبركاته.

السلام على الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضات الله، والمستقرين في أمر الله ونهيه، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه، وعباده المكرمين، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ورحمة الله وبركاته.

السلام على الأئمة الدُّعاة، والقادة الهُداة، والسادة الوُلاة، والذادة الحُماة، أهلِ الذكر وأولي الأمر، وبقيةِ الله، وخيرته، وحزبه، وعيبة علمه، وحجته، وصراطه، ونوره، وبرهانه، ورحمة الله وبركاته.

أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كما شهد الله لنفسه، وشهدت له ملائكته وأولوالعلم من خلقه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ورسوله المرتضى، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولوكره المشركون.

وأشهد أنكم الأئمة الراشدون، المهديون المعصومون، المكرمون المقربون، المتقون الصادقون، المصطفوْن المطيعون لله، القوَّامون بأمره، العاملون بإرادته، الفائزون بكرامته، اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه، واختاركم لسره، واجتباكم بقدرته، وأعزكم بهداه، وخصكم ببرهانه، وانتجبكم لنوره، وأيدكم بروحه، ورضيكم خلفاءَ في أرضه، وحججاً على بريته، وأنصاراً لدينه وحفظةً لسره، وخزنةً لعلمه ومستودعاً لحكمته، وتراجمةً لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلاء على صراطه. عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس، وأذهب عنكم الرجس، وطهركم تطهيرا.

٣٠٥

فعظمتم جلاله، وكبَّرتم شانَه، ومجَّدتم كرمه، وأدَمْتُم ذكره، ووكَّدتم ميثاقه، وأحكمتم عقدَ طاعته، ونصحتم له في السر والعلانية، ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلتم أنفسكم في مرضاته، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم في الله حق جهاده، حتى أعلنتم دعوته، وبينتم فرائضه، وأقمتم حدوده، ونشرتم شرائع أحكامه، وسننتم سنته، وصرتم في ذلك منه إلى الرضا، وسلمتم له القضا، وصدقتم من رسله من مضى. فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم، ومنكم وإليكم، وأنتم أهله ومعدنه.

وميراث النبوة عندكم، وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم، وفصل الخطاب عندكم، وآيات الله لديكم، وعزائمه فيكم، ونوره وبرهانه عندكم، وأمره إليكم.

من والاكم فقد والى الله، ومن عاداكم فقد عادى الله، ومن أحبكم فقد أحب الله، ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله.

أنتم السبيلُ الأعظم، والصراطُ الأقوم، وشهداءُ دار الفناء، وشفعاءُ دار البقاء، والرحمةُ الموصولة، والآيةُ المخزونة، والأمانةُ المحفوظة، والبابُ المبتلى به الناس، من أتاكم نجا، ومن لم يأتكم هلك، إلى الله تدعون، وعليه تدلون، وبه تؤمنون، وله تسلمون، وبأمره تعملون، وإلى سبيله ترشدون، وبقوله تحكمون.

سَعِدَ والله من والاكم، وهلك من عاداكم، وخاب من جحدكم، وضل من فارقكم وفاز من تمسك بكم، وأمِنَ من لجأ إليكم، وسَلِمَ من صدَّقكم، وهُدِيَ من اعتصم بكم. من اتبعكم فالجنة مأواه، ومن خالفكم فالنارُ مثواه، ومن جحدكم كافر، ومن حاربكم مشرك، ومن رد عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم.

٣٠٦

أشهد أن هذا سابق لكم فيما مضى، وجارٍ لكم فيما بقي، وأن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة، طابت وطهرت، بعضها من بعض. خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحْدِقِين، حتى منَّ علينا فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلاتنا عليكم وما خصنا به من ولايتكم طِيباً لخَلقنا، وطهارةً لأنفسنا، وتزكيةً لنا، وكفارةً لذنوبنا، فكنا عنده مُسْلِمين بفضلكم، ومعروفين بتصديقنا إياكم.

فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين، وأعلى منازل المقربين، وأرفع درجات أوصياء المرسلين، حيث لا يلحقه لاحق، ولا يفوقه فائق، ولا يسبقه سابق، ولا يطمع في إدراكه طامع، حتى لا يبقى ملكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل، ولا صديقٌ ولا شهيدٌ، ولا عالمٌ ولا جاهل، ولا دنيٌّ ولا فاضل، ولا مؤمنٌ صالح، ولا فاجرٌ طالح، ولا جبارٌ عنيد، ولا شيطانٌ مريد، ولا خلقٌ فيما بين ذلك شهيد، إلا عَرَّفَهُمْ جلالة أمركم، وعِظَمَ خَطَرِكُم، وكِبَر شأنكم، وتمام نوركم، وصِدق مقاعدكم، وثبات مقامكم، وشرف محلكم ومنزلتكم عنده، وكرامتكم عليه وخاصتكم لديه، وقرب منزلتكم منه.

بأبي أنتم وأمي، وأهلي ومالي وأسرتي، أشهد الله وأشهدكم أني مؤمن بكم وبما آمنتم به. كافرٌ بعدوكم وبما كفرتم به، مستبصرٌ بشأنكم وبضلالة من خالفكم، موالٍ لكم ولأوليائكم، مبغضٌ لأعدائكم ومعاد لهم، وسلمٌ لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، محقق لما حققتم، مبطل لما أبطلتم، مطيع لكم، عارفٌ بحقكم، مقرٌّ بفضلكم، محتملٌ لعلمكم، محتجبٌ بذمتكم، معترفٌ بكم، مؤمنٌ بإيابكم، مصدقٌ برجعتكم، منتظرٌ لأمركم، مرتقبٌ لدولتكم، آخذٌ بقولكم، عاملٌ بأمركم، مستجيرٌ بكم، زائرٌ لكم عائذٌ بكم، لائذٌ بقبوركم، مستشفعٌ إلى الله عز وجل بكم، ومتقربٌ بكم إليه، ومقدمُكم أمام طلبتي وحوائجي وإرادتي، في كل أحوالي وأموري، مؤمنٌ بسركم

٣٠٧

وعلانيتكم، وشاهدكم وغائبكم، وأولكم وآخركم، ومفوضٌ في ذلك كله إليكم، ومسلِّمٌ فيه معكم، وقلبي لكم مؤمن، ورأيي لكم تبع، ونصرتي لكم معدة، حتى يحيي الله تعالى دينه بكم، ويردكم في أيامه، ويظهركم لعدله، ويمكنكم في أرضه.

فمعكم معكم لا مع عدوكم، آمنت بكم، وتوليت آخركم بما توليت به أولكم، وبرئت إلى الله تعالى من أعدائكم، ومن الجبت والطاغوت، والشياطين وحزبهم الظالمين لكم، والجاحدين لحقكم، والمارقين من ولايتكم، والغاصبين لإرثكم، الشاكين فيكم، المنحرفين عنكم، ومن كل وليجة دونكم، وكل مُطاعٍ سواكم، ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار.

فثبتني الله أبداً ما حييت على موالاتكم ومحبتكم ودينكم، ووفقني لطاعتكم، ورزقني شفاعتكم، وجعلني من خيار مواليكم، التابعين لما دعوتم إليه، وجعلني ممن يقتص آثاركم، ويسلك سبيلكم، ويهتدي بهداكم، ويحشر في زمرتكم، ويَكِرُّ في رجعتكم، ويُمَلَّكُ في دولتكم، ويُشَرَّفُ في عافيتكم، ويُمَكَّنُ في أيامكم، وتقر عينه غداً برؤيتكم.

بأبي أنتم وأمي، ونفسي وأهلي ومالي، من أراد الله بدأ بكم، ومن وحده قبل عنكم، ومن قصده توجه إليكم، مواليَّ، لا أحصي ثناءكم، ولا أبلغ من المدح كنهكم، ومن الوصف قدركم، وأنتم نور الأخيار، وهداة الأبرار، وحجج الجبار.

بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا باذنه، وبكم يُنَفِّسُ الهمَّ، وبكم يكشف الضرَّ، وعندكم ما تنزل به رسله، وهبطت به ملائكته، وإلى جدكم بعث الروح الأمين. آتاكم الله ما يؤت أحداً من العالمين، طأطأ كل شريف لشرفكم، وَبَخَعَ كل متكبر لطاعتكم، وخضع كل جبار

٣٠٨

لفضلكم، وذلَّ كل شئ لكم، وأشرقت الأرض بنوركم، وفاز الفائزون بولايتكم، بكم يسلك إلى الرضوان، وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن.

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، ذِكْرُكُم في الذاكرين، وأسماؤكم في الأسماء وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس، وآثاركم في الآثار، وقبوركم في القبور. فما أحلى أسماءكم، وأكرم أنفسكم، وأعظم شأنكم، وأجل خطركم، وأوفى عهدكم. كلامكم نورٌ، وأمركم رشدٌ، ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير، وعادتكم الإحسان، وسجيتكم الكرم، وشأنكم الحق والصدق والرفق، وقولكم حُكم وحَتم، ورأيكم علم وحلم وحزم، إن ذكر الخير كنتم أوله، وأصله، وفرعه، ومعدنه، ومأواه، ومنتهاه.

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، كيف أصف حسن ثنائكم، وكيف أحصي جميل بلائكم، وبكم أخرجنا الله من الذل، وفرج عنا غمرات الكروب، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار.

بأبي أنتم وأمي ونفسي، بموالاتكم علمنا الله معالمَ ديننا، وأصلح ما كان فسد من دنيانا، وبموالاتكم تمت الكلمة، وعظمت النعمة، وائتلفت الفرقة، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة، ولكم المودة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود عند الله تعالى، والمكان المعلوم، والجاه العظيم، والشأن الرفيع، والشفاعة المقبولة.

ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا.

٣٠٩

ياوليَّ الله، إن بينى وبين الله ذنوباً لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحقِّ من ائتمنكم على سره، واسترعاكم أمرَ خلقه، وقَرَنَ طاعتكم بطاعته، لمَّا استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي، إني لكم مطيع، من أطاعكم فقد أطاع الله، ومن عصاكم عصى الله، ومن أحبكم فقد أحب الله، ومن أبغضكم فقد أبغض الله.

اللهم إني لو وجدت شفعاءَ أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك، أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم، وبحقهم، وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم، إنك أرحم الراحمين ».

فهرس أولي للزيارة الجامعة

تتكون الزيارة الجامعة من الفصول التالية:

الفصل الأول: مراسم الزيارة ومقدماتها:

وهي الإغتسال للزيارة، والتشهد عند الوصول الى الباب، والتكبيرمئة مرة أثناء الدخول الى مشهد المعصوم (ع).

الفصل الثاني: التسليمات الخمس على الأئمة (ع):

السلام الأول: فيه تسع عشرة صفة للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة » الى قوله: « وعترة خيرة رب العالمين ».

السلام الثاني: فيه عشر صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى » الى قوله: « وحجج الله على أهل الآخرة والأولى ».

٣١٠

السلام الثالث: فيه سبع صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على محال معرفة الله » الى قوله: « وذرية رسول الله ».

السلام الرابع: فيه سبع صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على الدعاة إلى الله » الى قوله: « وهم بأمره يعملون ».

السلام الخامس: فيه أربع عشرة صفة للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على الأئمة الدعاة والقادة الهداة » الى قوله: « وصراطه ونوره وبرهانه ».

الفصل الثالث: التشهد والشهادة للأئمة (ع):

وهوتشهد لله تعالى بالوحدانية، ولرسوله (ص) بالرسالة، وشهادةٌ بإمامة الأئمة (ع) ومقاماتهم وسيرتهم، وقد تضمن أكثر من مئة صفة لهم (ع).

وتتكون الشهادة لهم من خمس فقرات:

الفقرة الأولى، الشهادة بما أعطاهم الله من نعم:

من قوله: « وأشهد أنكم الأئمة الراشدون » الى قوله: « وطهركم تطهيرا ».

الفقرة الثانية، أنهم قابلوا نعم الله بالطاعة والعبودية:

من قوله: « فعظمتم جلاله وكبَّرْتم شَانَهُ » الى: « وصدقتم من رسله من مضى ».

الفقرة الثالثة، أنهم (ع) ميزان الهدى والضلال والنجاة والهلاك:

من قوله: « فالراغب عنكم مارق » الى قوله: « ومن رد عليكم فهوفي أسفل درك ».

الفقرة الرابعة، في وحدة نور النبي والأئمة (ع) في عالم الخلق والحجة:

٣١١

من قوله: « أشهد أن هذا سابقٌ لكم فيما مضى وجار لكم فيما بقي ». الى قوله: « فكنا عنده مسلمين بفضلكم، ومعروفين بتصديقنا إياكم ».

الفقرة الخامسة، الدعاء للأئمة (ع) أن يبلغ الله فيهم هدفه:

من قوله: « فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين » الى قوله: « وخاصتكم لديه ».

الفقرة السادسة، الشهادة لله بولايتهم (ع) والبراءة من أعدائهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي » الى قوله: « ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار ».

الفصل الرابع: في أنهم (ع) الطريق الى الله تعالى دون غيرهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، من أراد الله بدأ بكم » الى قوله: « وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن ».

الفصل الخامس: أن الله منَّ على البشر فجعل فيهم النبي وآله (ص):

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي » الى قوله: « إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ».

الفصل السادس: بيان نعمة النبي والأئمة (ع) على شيعتهم ومحبيهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي » الى قوله: « سبحان ربنا ».

الفصل السابع: الإستشفاع والتوسل الى الله تعالى بالنبي والأئمة (ع):

من قوله: « ياولي الله إن بينى وبين الله ذنوباً » الى قوله: « وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم ».

٣١٢

الفصل الثاني عشر:

شخصيات عاصرت الإمام الهادي (ع)

قضاة القضاة

قاضي القضاة يحيى بن أكثم:

كتبنا له ترجمة مختصرة في سيرة الإمام الجواد (ع)، وقلنا إنه شاب خراساني مولى لبني تميم، أُعجب به المأمون واختاره من خاصته، ثم أرسله قاضياً على البصرة وشكا منه أهل البصرة لافتضاحه باللواط، فلم يقبل منهم المأمون، ثم زادت شكواهم بأنه أفسد أولادهم، فأخذه المأمون الى البلاط في بغداد.

قال المسعودي في مروج الذهب « 3 / 434 »: « فرُفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه، فقال المأمون: لوطعنوا عليه في أحكامه قُبِل ذلك منهم! قالوا: يا أمير المؤمنين قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر، واستفاض ذلك عنه، وهوالقائل يا أمير المؤمنين، في صفة الغلمان وطبقاتهم ومراتبهم وفي أوصافهم وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط، أن المأمون أمره أن يفرض لنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أموره، ففرض أربع مائة غلام مُرْداً، اختارهم حسان الوجوه فافتضح بهم، وقال في ذلك راشد بن إسحاق، يذكر ما كان من أمر يحيى ».

٣١٣

قال في وفيات الأعيان « 1 / 85 »: « قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قِبَل المأمون في آخر سنة 202، وهوحَدَث سِنُّهُ نيف وعشرون.

فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى: إختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي، فاختار منهم عشرين، فيهم ابن أبي دؤاد ».

وفي تاريخ بغداد « 14 / 201 »: « وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً، وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هوعليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه، حتى قلده قضاء القضاء، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً، إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه، إلا يحيى بن أكثم، وابن أبي دؤاد ».

وفي تاريخ اليعقوبي « 2 / 465 »: « وشى يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم ».

ولم تنفع احتياطات المأمون، فغلب بعده أخوه المعتصم على ابنه الضعيف العباس وأخذ منه الخلافة، وكان أول ما فعله المعتصم أن عزل يحيى بن أكثم، ونصب بدله صديقه ابن أبي دؤاد، ونقل الخلافة من أولاد المأمون الى أولاده، فتولاها ابنه الواثق، ثم أخوه المتوكل!

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان « 1 / 85 »: « ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم ».

٣١٤

وكان المأمون طلب من يحيى بن أكثم أن يختار له ندماء خاصين، فاختار له مجموعة منهم ابن أبي دؤاد، الذي فاق ابن أكثم وتسلط على المأمون، ثم دبَّر الخلافة للمعتصم وقتل ابن المأمون، ثم دبرها للواثق، وبعده للمتوكل.

وحكم ابن أبي دؤاد نحوعشرين سنة، في خلافة المعتصم والواثق وقسم من خلافة المتوكل، ثم غضب عليه المتوكل فعزله وأعاد خصمه ابن أكثم، وأيد ذلك أحمد بن حنبل، لأن ابن أكثم كان يتقرب اليهم بالقول بعدم خلق القرآن.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد « 14 / 201 »: « سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام الله، فمن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه »!

قال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 14 »: « وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى بن أكثم، فأُشخص الى سر من رأى وولي قضاء القضاة، وسخط على أحمد بن أبي دُواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد، وكان على القضاء، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وجوهراً بأربعين ألف دينار، وأحضر إلى بغداد ».

وفي تاريخ بغداد « 1 / 314 »: « عزل المتوكل أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد ووليها يحيى بن أكثم لسبع بقين من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ».

لكن لم يطل رضا المتوكل على ابن أكثم، ففي الكامل لابن الأثير « 7 / 75 »: « في هذه السنة « 240 » عَزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة »!

٣١٥

ومات ابن أكثم سنة 242، عن عمر امتد ثلاثاً وثمانين سنة، وامتلأ بالفتاوى المخالفة للشرع، وبأحكامٍ بالقتل والحبس ومصادرة الأموال، شملت ألوف المسلمين. وكانت أكبر جرائمه أن الحجة تمت عليه بإمامة الرضا والجواد والهادي (ع)، فكتمها وأمر بكتمانها، ثم شارك في قتلهم!

قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد:

وقد كتبنا له ترجمة مختصرة أيضاً في سيرة الإمام الجواد (ع)، وقلنا إنه حكم الأمة الإسلامية بلا منازع نحوعشرين سنة، حتى غضب عليه المتوكل. ولم يكن سلوكه أفضل من سلوك ابن أكثم، بل كان أشد نُصباً وعداوةً لأهل البيت (ع).

روى في تاريخ بغداد « 1 / 314 » عن محمد بن يحيى الصولي قال: « كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد ويستحي أن ينكبه، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق، وعقد الأمر له والقيام به من بين الناس. فلما فُلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أول ما ولي المتوكل الخلافة، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ووكل بضياعه وضياع أبيه. ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم، وحَدَّرَهم إلى بغداد، وولى يحيى بن أكثم.

ومات أبوالوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً ».

٣١٦

أقول: سبحان مغير الأحوال، فقد كان ابن أبي دؤاد مطيعاً لسيده ابن أكثم، فاختاره نديماً للمأمون فصارت له عنده مكانة، وأراد إزاحة ابن أكثم فلم يستطع.

ثم وضع خطة للمعتصم فسرق الخلافة من ابن أخيه المأمون، فصار المعتصم خليفة وصار ابن أبي دؤاد مدبر المملكة، وحاكمها المطلق!

لقد عمل هذان القاضيان بقواعد سياسة القصور ومكائدها، بالخبث، والتجسس والتآمر، والتزلف، والتزييف، والكذب، والنفاق، والخديعة، والتلاعب بأحكام الله تعالى، ومفاهيم الدين، وقتل الخصم بالسم، وبأي طريقة ممكنة! كل ذلك من أجل البقاء في منصب، أوالحصول عليه، أوشفاء غيض، أو إثبات الذات، وإرضاء غرورها وكبريائها. أعاذنا الله وعباده المؤمنين.

قاضي القضاة ابن أبي الشوارب:

كان محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب كبير أسرة أبي الشوارب، وهو أموي من ذرية أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس.

كان محدثاً معروفاً في البصرة، وفيه ميلٌ الى التشيع، وقد أحضره المتوكل الى سامراء، فاتفق مع زميله إبراهيم التيمي أن لا يقبلا القضاء، فنكث التيمي!

قال في تاريخ بغداد « 6 / 148 »: « أشخص إبراهيم بن محمد التيمي ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، فلما حضرا دار المتوكل أمر بإدخال ابن أبي الشوارب، فلما دخل عليه قال: إني أريدك للقضاء. فقال: يا أمير المؤمنين لا أصلح له. فقال: تأبون يا بنى أمية إلا كبراً! فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي كبر، ولكني لا

٣١٧

أصلح للحكم. فأمر بإخراجه! وكان هو وإبراهيم التيمي قد تعاقدا أن لا يتولى واحد منهما القضاء، فدعا بإبراهيم فقال له المتوكل: إني أريدك للقضاء، فقال: على شريطة يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: أن تدعولي دعوة فإن دعوة الإمام العادل مستجابة! فولاه ».

أقول: لقد وفى ابن عبد الملك بعهده، لكن إبراهيم التيمي نكث، ثم تزلف الى المتوكل وطلب منه أن يدعوله، لأن دعاء الإمام العادل مستجاب!

ثم نجح المتوكل في إقناع الحسن بن أبي الشوارب، ونصبه قاضي القضاة.

قال في تاريخ بغداد « 7 / 422 »: « الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، القرشي ثم الأموي: وليَ القضاء بسر من رأى في أيام جعفر المتوكل وبعده ».

وقال الذهبي في سيره « 11 / 104 »: « لما ولي ولده الحسن بن أبي الشوارب القضاء تخوف عليه، وقال: يا حسن: أعيذ وجهك الحسن من النار ».

وقال في تاريخ بغداد « 5 / 251 »: « قال أبوالعلاء: فيرى الناس أن بَركة امتناع محمد بن عبد الملك دخلت على ولده، فوليَ منهم أربعة وعشرون قاضياً، منهم ثمانية تقلدوا قضاء القضاة، آخرهم أبوالحسن أحمد بن محمد بن عبد الله، وما رأينا مثله جلالة ونزاهة وصيانة ».

أقول: كيف يكون منصب القضاء مذموماً وتركه فضيلة، ثم يكون نعمةً على أولاده ببركة تركه له! فالأصح أن يقال إنه ترك القضاء، وتورط فيه أولاده. وقد رووا عنه

٣١٨

أنه كان يمدح المتوكل بأنه رد الدين وأحياه. « الأنساب: 3 / 465 » لكن امتناعه عن القضاء، يدل على الجو العام الذي يرى منصب القضاء منصب ظلم!

وسبب وصفه بالتشيع: أن جده عتاب بن أسيد الأموي محسوب على بني هاشم لأنه كان والي مكة من قبل النبي (ص) فكرهته قريش عندما بايعت أبا بكر، وحسبته على بني هاشم، ثم مات مسموماً.

ولعل السبب الأهم: ما رواه عنه الموفق الخوارزمي في المناقب / 316 في فضل علي (ع): « عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن جعفر بن سليمان الضبعي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ قال: سئل سلمان الفارسي عن علي بن أبي طالب وفاطمة، فقال سمعت رسول الله (ص) يقول: عليكم بعلي بن أبي طالب، فإنه مولاكم فأحبوه، وكبيركم فاتبعوه، وعالمكم فأكرموه، وقائدكم إلى الجنة فعززوه، وإذا دعاكم فأجيبوه، وإذا أمركم فأطيعوه أحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي جلت عظمته ».

وما رواه عنه الصدوق في معاني الأخبار / 118: « عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي، عن ابن سليمان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كنت عند علي بن أبي طالب في الشهر الذي أصيب فيه وهوشهر رمضان فدعا ابنه الحسن ثم قال: يا أبا محمد أعل المنبر فاحمد الله كثيراً وأثن عليه واذكر جدك رسول الله (ص) بأحسن الذكر، وقل: لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله عبداً أبق من مواليه، لعن الله غنماً ضلت عن الراعي. وانزل! فلما فرغ من خطبته ونزل، اجتمع الناس إليه

٣١٩

فقالوا: يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا الجواب. فقال: الجواب على أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين: إني كنت مع النبي (ص) في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى، فاجتذبها فضمها إلى صدره ضماً شديداً، ثم قال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: أنا وأنت أبَوَا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل: آمين، قلت: آمين.

ثم قال: أنا وأنت مَوْلَيَا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل: آمين، قلت: آمين.

ثم قال: أنا وأنت رَاعِيَا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل: آمين.

قال أمير المؤمنين: وسمعت قائليْن يقولان معي: آمين، فقلت: يا رسول الله ومن القائلان معي: آمين؟ قال: جبرئيل وميكائيل (ع) ».

أقول: يبدو أن محمد بن عبد الملك تأثر بابن عمه الأموي خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، وكان من كبار شيعة أمير المؤمنين (ع)، وقد وقف أيام السقيفة هو وأحد عشر مهاجراً وأنصارياً، وواجهوا أبا بكر وعمر بشدة وخطبوا. وكان خالد من أبطال الإسلام، وقد ترجمنا له في: قراءة جديدة في الفتوحات.

أما أولاد محمد بن عبد الملك، فلم يكونوا مثل أبيهم، وسيأتي ذكر بعضهم في سيرة الإمام الهادي، والإمام الحسن العسكري (ع).

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477