الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154396 / تحميل: 6629
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (1) .

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجل: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) (2) .

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب، وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (3) ، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________________

(1) الجاثية: 18.

(2) النحل: 2.

(3) السجدة: 24.

١٦١

الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر اللَّه ونواهيه هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان هو دالّا على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع اللَّه تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن؛ الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

١٦٢

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (1) .

والذي يتّضح ممَّا ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم‌السلام ، فالعبد ينقاد ويفد على اللَّه تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2) .

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالى، كما أخضع اللَّه عزَّ وجلَّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ مَن يتسنَّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الانقياد والخضوع والطاعة له.

____________________

(1) النساء: 83.

(2) المائدة: 55 - 56.

١٦٣

وحيث إن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلّا بالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى اللَّه تعالى في العبادات إلّا بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم‌السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن مَن يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه بطاعته وامتثال أمره، عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاثة وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى اللَّه تعالى إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاثة التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك، لَمَا قرن اللَّه تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلى التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس؛ الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه‌السلام .

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

١٦٤

مِنْكُمْ ) (1) التي حكمت بوجوب الطاعة، هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجل في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم‌السلام .

وما ورد من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أُطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت؛ والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________________

(1) النساء: 59.

١٦٥

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد رفع اللَّه عزّ وجل ذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنه باسمه في مجمل العبادات التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان؛ من حيث محوريَّتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (1) ، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم‌السلام (2) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (3) ؛ تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا يقبل اللَّه صلاة إلّا بطهور والصلاة عليّ) (4) . وقد بيّن النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: (قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) (5) ، كذلك يستحبّ الصلاة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور (6) . ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________________

(1) لاحظ: النووي، المجموع، ج3، ص460 وما بعد.

(2) الشيخ الطوسي، النهاية، ص89.

(3) الرافعي، فتح العزيز، ج3، ص504، والنووي، المجموع، ج3، ص467 وغيرهم.

(4) سنن الدارقطني، ج1، ص348.

(5) صحيح البخاري، ج4، ص118، والوسائل، أبواب الدعاء، ب 36.

(6) المجموع، ج3، ص499.

١٦٦

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته - التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها - على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى اللَّه تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالى، أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك، فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك، لَمَا كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، بخلاف صلاة المسلمين؛ حيث يقرن فيها اسم النبيِّ الأكرم إلى جانب ذكر اللَّه تعالى.

وقد قُرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى، غير الصلاة، باستحباب الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ (1) ، واستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذبح الهدي أو الأضحية (2) ، وقد جعلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (3) .

____________________

(1) الأم، الشافعي، ج2، ص171.

(2) المجموع، النووي، ج8، ص412.

(3) روضة الطالبين، النووي، ج1، ص530.

١٦٧

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام (1) ، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي - نقلاً عن النووي في شرح الوسيط - في كتابه الفقهي فتح المعين (2) ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّا توجّه وتوسّل بهم عليهم‌السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل. وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السُّنَّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قال: (الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله) (3) .

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا يزال الدعاء محجوباً حتَّى يصلَّى عليَّ وعلى أهل بيتي) (4) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول

____________________

(1) نفس المصدر، ص640.

(2) فتح المعين، ج1، ص280.

(3) لسان‏ الميزان، ابن حجر، ج4، ص53، وابن ‏إسحاق الحاكم، شعار أصحاب ‏الحديث، ص64.

(4) الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص38.

١٦٨

اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم) (1) .

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث قال: (إن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً. فقال له: يارسول اللَّه، إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل. فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزَّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه‌السلام : لا يسأل اللَّه عزّ وجل إلّا بدأ بالصلاة على محمّد وآله) (2) .

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالى ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عجّل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجل والثناء عليه، ثم يصلّي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء) (3) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليسأل؛ فإنه أجدر أن ينجح) (4) . قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5) .

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق، علّق معالقه، وملأ قدح ماء. فإن كانت له

____________________

(1) الأمالي، الطوسي، ص215.

(2) الكافي، ج2، ص493.

(3) سنن أبي داود، ج1، ص333، ح1481.

(4) الطبراني، المعجم الكبير، ج9، ص156.

(5) مجمع الزوائد، ج10، ص155.

١٦٩

حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره) (1) .

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء) (2) .

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (مَن دعا ولم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع الدعاء) (3) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (إذا كانت لك إلى اللَّه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (4) .

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه‌السلام قال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي، فإن الصلاة على النبي مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعض) (5) .

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، مَن كانت له إليكم حاجة، فسألكم بمَن تحبّون أجبتم

____________________

(1) الصنعاني، المصنف، ج2، ص216.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، ص66.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(3) وسائل الشيعة، ج7، ص94 - 93، ح8829.

(4) المصدر، ص97، ح8840.

(5) المصدر، ص96، ح8836.

١٧٠

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبيَّ وولييَّ، فمَن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمَن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه؛ وكيف أردّ دعاء مَن سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظَمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمَن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الإجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ) (1) .

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات، بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزَّ وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّا عن سبيلهم عليهم‌السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل؛ وهو اقتران الصلاة على النبي وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني ، وهو كذلك اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته. فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّا بإتمامه والفراغ منه، جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) وسائل الشيعة، ص102، ح8850.

١٧١

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيُّها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن اللَّه تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجل والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي ذكر للَّه تعالى، ونداءه نداء للباري عزّ وجل؛ وليس ذلك إلّا لكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالى.

إذن؛ طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبي لنيل مقامات القرب في الصلاة، التي هي قربان كلّ تقي، موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالى، فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالى في التوجّه إليه عزّ وجل شرك؟!

وهل هذا إلّا طمس لمعالم الشهادة الثانية؟

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجل في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة؛ حيث إن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلّا اللَّه

١٧٢

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّا لكون اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلى ربّه مفتاحُها وباب الولوج إليها اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقروناً باسم اللَّه تعالى.

ولو كان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك، لََمَا أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولَمَا أمر اللَّه عزّ وجل بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّا بالهجرة إلى اللَّه ورسوله، فلكي تصحَّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى اللَّه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال اللَّه عزّ وجل: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (1) .

والذي يتحصَّل من هذه الشواهد وغيرها أن اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أهل بيته عليهم‌السلام اقترن باسم اللَّه تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه وعلى آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة، وآخر قنوت الصلاة، وفي صلاة

____________________

(1) النساء: 100.

١٧٣

الجنائز، وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الفراغ من التلبية، وعند استلام الحجر، وعند الوقوف على قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه، وبعد الفراغ من الوضوء، وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة، وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلى غير ذلك من المواطن.

وقد ذُكر أيضاً للصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

1 - أنها سبب لغفران الذنوب.

2 - أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

3 - أنها سبب لشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

5 - أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

6 - أنها سبب لقضاء الحوائج.

7 - أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

8 - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

9 - أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

10 - أنها سبب لطيب المجلس.

11 - أنها سبب لنفي الفقر.

12 - أنها سبب لنفي البخل.

١٧٤

13 - أنها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

14 - أنها تُنجي من نتن المجلس.

15 - أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

16 - أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

17 - أنها سبب لإبقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

18 - أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19 - أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

20 - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

21 - أنها سبب لمحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبد.

22 - أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

23 - أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده.

إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لِمَا تقدَّم من قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) .

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

____________________

(1) المائدة: 35.

١٧٥

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجل.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّا أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد اللَّه تعالى، فالغاية القصوى هو اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الذي يُقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل، وهو اللَّه تبارك وتعالى.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ (وابتغو) أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ (إليه) مرتبط بالوسيلة، لا بـ (ابتغو)، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخرى:

إن فعل (وابتغو) عمل في لفظ (الوسيلة) كمفعول به، وأمَّا لفظ (إليه)، فليس متعلّقاً بـ (ابتغو)، وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة)؛ إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأنَّ التوسّل والوسيلة هو إلى اللَّه تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه؛ وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث إن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى اللَّه تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى اللَّه عزّ وجل ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جل ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى اللَّه تعالى.

١٧٦

ومن ذلك يظهر أن مقتضى مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلى الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة، إني أتوجّه بك إلى اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي. فيوجّه الخطاب والنداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كوسيلة إلى اللَّه عزّ وجل، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالى فقط من دون التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلى الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالى من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالى.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث إن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولا بدِّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى اللَّه عزّ وجل، ومعنى (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذٍ للاقتراب من اللَّه تعالى؛ لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

١٧٧

قرب اللَّه وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجل؛ لأن اللَّه تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (1) ، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لِمَا تقدّم من كون اللَّه تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.

إذن؛ القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف؛ فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

____________________

(1) ق: 16.

١٧٨

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلى اللَّه تعالى من حيث الكمالات؛ إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى، والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجل، ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجل، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة اللَّه تعالى وتقلُّ بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من اللَّه عزّ وجل، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

١٧٩

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها على عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة - الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم - عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالى.

الوسيلة معنى الشفاعة:

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد وصف اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1) ، فهم عليهم‌السلام الأسماء الحسنى التي أمر اللَّه أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم عليه‌السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه؛ من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالى، هدى إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام عند بيانه لقوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

____________________

(1) القلم: 4.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

موقف الإمام الرضا (ع) من الذين ألَّهُوه

وكذلك موقف الإمام الرضا (ع): ففي معجم رجال الحديث « ١٨ / ١٣٥ »: « قال أبو الحسن الرضا (ع): آذاني محمد بن الفرات، آذاه الله وأذاقه الله حر الحديد، آذاني لعنه الله ما آذى أبو الخطاب لعنه الله جعفر بن محمد (ع) بمثله، وما كذب علينا خطابي مثل ما كذب محمد بن الفرات، والله ما من أحد يكذب علينا إلا ويذيقه الله حر الحديد. قال محمد بن عيسى: فأخبراني وغيرهما: أنه ما لبث محمد بن الفرات إلا قليلاً حتى قتله إبراهيم بن شكلة، أخبث قتلة ».

وفي الإعتقادات للصدوق / ٩٩: « كان الرضا (ع) يقول في دعائه: اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك، لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. اللهم من زعم أننا أربابٌ فنحن إليك منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن إليك منه براء، كبراءة عيسى من النصارى ».

موقف الإمام الهادي (ع) من الذين ألَّهُوه

ففي رجال الطوسي « ٢ / ٨٠٥ »: « قال نصر بن الصباح: الحسن بن محمد المعروف بابن بابا، ومحمد بن نصير النميري، وفارس بن حاتم القزويني. لعن هؤلاء الثلاثة عليُّ بن محمد العسكري (ع). وذكر أبو محمد الفضل بن شاذان في بعض كتبه أن من الكذابين المشهورين: ابن بابا القمي. قال سعد: حدثني العبيدي قال: كتب إلي العسكري (ع) ابتداءً منه: أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي فأبرأ منهما، فإني محذرك وجميع مواليَّ، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله،

٣٠١

مستأكليْن يأكلان بنا الناس، فتَّانيْن مؤذييْن آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً. يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً وأنه باب! عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك! يا محمد إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة ».

ونلاحظ أن أغلب هؤلاء المذمومين الملعونين على لسان الأئمة (ع) كانوا شخصيات في عصرهم، وبعضهم كان يساندهم خلفاء أو وزراء! وقد زاد عددهم في زمن الإمام الهادي (ع) الى نحو عشرين شخصاً. وكان له منهم مواقف حاسمة!

وسوف نأتي على خبرهم في سيرة الإمام الحسن العسكري (ع).

سند الزيارة الجامعة وشروحها

١. بحث علماؤنا سند الزيارة الجامعة ووثاقة رواتها، وتوقف بعضهم في موسى بن عمران النخعي، ووثقه بعضهم لوروده في سند كتاب كامل الزيارة، الذي نص مؤلفه أنه لايروي إلا عن ثقات، ووثقه السيد الخوئي لأنه ورد في سند علي بن إبراهيم القمي في تفسيره. ووثقه آخرون لأنه راوي أحاديث عمه الحسين بن يزيد النوفلي، وشيخه إسماعيل بن أبي زياد السكوني، وقد عمل الأصحاب بروايات السكوني، فيكون عملهم توثيقاً له الخ.

والصحيح أنه يكفي في توثيق موسى بن عمران، رواية كامل الزيارة عنه، فكيف إذا ضم الى ذلك بقية الأدلة والمؤشرات.

٣٠٢

وقد تعجبت من تشكيك المحقق الميرزا النوري (رحمه الله) في رواية الصدوق « مستدرك الوسائل: ١١ / ١٧١ » واعتماده رواية الكفعمي المرسلة! وقد كفانا الرد عليه السيد الخوئي (قدس سره) « معجم رجال الحديث: ١٧ / ٣٤٧ ».

بل لا يحتاج الأمر عندي الى بحث السند بعد أن بلغ المتن مستوى من العلو والتميز بحيث يجزم من له خبرة بالعربية والقرآن والسنة، بأنه صادر من معدن العلم النبوي، وأن الرواة لو اجتمعوا على أن يضعوا مثله لما استطاعوا!

ويكفي لتصديق ما ذكرنا أن تتأمل في فقراتٍ من هذه الزيارة الفريدة.

إنها نوعٌ من الكلام الشامخ، تعيا عن غوره الأذهان، وتعجز عن أبعاده العقول، وتكل عنه المشاعر، وتنوء بحمله الصدور.

وكذلك هي لغة أهل البيت ومقاماتهم صلوات الله عليهم، فالأولى بمن صَعُبَ عليه شئ من معانيها أن لا يتعجل بنفيه، فلعل المشكلة في فهمه لا في النص.

٢. للزيارة الجامعة بعض الشروح، من أوسعها شرح الشيخ أحمد الأحسائي (رحمه الله) وهومكتوب بلغة خاصة ومَشرب خاص، قلَّ من يستوعبه ويجزم بمقصوده.

ومن أحدث الشروح كتاب آية الله السيد الميلاني دام ظله، وقد رأيت منه مجلداً وهوشرح جيد نافع، جزى الله مؤلفه خيراً.

وينبغي الإلفات الى أن الزيارة الجامعة في عمقها وجمالها من نوع تعبير الصحيفة السجادية، وأنها مع الشروح الموجودة لها تحتاج الى شروح أخرى، تركز على أبعادها البلاغية، والفكرية، والكلامية المقارنة، والإجتماعية السياسية.

٣٠٣

نص الزيارة الجامعة

قال الصدوق في عيون أخبار الرضا (ع) « ١ / ٣٠٤ »: « حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رضي الله عنه، ومحمد بن أحمد السناني، وعلي بن عبد الوراق، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتَّب، قالوا: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، وأبوالحسين الأسدي قالوا: حدثنا محمد بن إسماعيل المكي البرمكي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي قال: قلت لعلي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع): علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً إذا زرتُ واحداً منكم، فقال: إذا صرت إلى الباب فقف واشهد الشهادتين، وأنت على غسل. فإذا دخلت ورأيت القبر فقف وقل: الله أكبر ثلاثين مرة.

ثم امش قليلاً وعليك السكينة والوقار، وقارب بين خطاك، ثم قف وكبر الله عز وجل ثلاثين مرة. ثم ادْنُ من القبر وكبر الله أربعين مرة، تمام مئة تكبيرة، ثم قل:

السلام عليكم يا أهلَ بيت النبوة، وموضعَ الرسالة، ومختلفَ الملائكة، ومهبطَ الوحي، ومعدنَ الرسالة، وخزانَ العلم، ومنتهى الحلم، وأصولَ الكرم، وقادةَ الأمم وأولياءَ النعم، وعناصرَ الأبرار، ودعائمَ الأخيار، وساسةَ العباد، وأركانَ البلاد، وأبوابَ الإيمان، وأمناءَ الرحمن، وسلالةَ النبيين، وصفوةَ المرسلين، وعترةَ خِيرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته.

السلام على أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأعلام التقى، وذوي النهى، وأولي الحجى، وكهف الورى، وورثة الأنبيا، والمثل الأعلى، والدعوة الحسنى، وحجج الله على أهل الآخرة والأولى، ورحمة الله وبركاته.

٣٠٤

السلام على محالِّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله، ورحمة الله وبركاته.

السلام على الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضات الله، والمستقرين في أمر الله ونهيه، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه، وعباده المكرمين، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ورحمة الله وبركاته.

السلام على الأئمة الدُّعاة، والقادة الهُداة، والسادة الوُلاة، والذادة الحُماة، أهلِ الذكر وأولي الأمر، وبقيةِ الله، وخيرته، وحزبه، وعيبة علمه، وحجته، وصراطه، ونوره، وبرهانه، ورحمة الله وبركاته.

أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كما شهد الله لنفسه، وشهدت له ملائكته وأولوالعلم من خلقه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ورسوله المرتضى، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولوكره المشركون.

وأشهد أنكم الأئمة الراشدون، المهديون المعصومون، المكرمون المقربون، المتقون الصادقون، المصطفوْن المطيعون لله، القوَّامون بأمره، العاملون بإرادته، الفائزون بكرامته، اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه، واختاركم لسره، واجتباكم بقدرته، وأعزكم بهداه، وخصكم ببرهانه، وانتجبكم لنوره، وأيدكم بروحه، ورضيكم خلفاءَ في أرضه، وحججاً على بريته، وأنصاراً لدينه وحفظةً لسره، وخزنةً لعلمه ومستودعاً لحكمته، وتراجمةً لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلاء على صراطه. عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهركم من الدنس، وأذهب عنكم الرجس، وطهركم تطهيرا.

٣٠٥

فعظمتم جلاله، وكبَّرتم شانَه، ومجَّدتم كرمه، وأدَمْتُم ذكره، ووكَّدتم ميثاقه، وأحكمتم عقدَ طاعته، ونصحتم له في السر والعلانية، ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلتم أنفسكم في مرضاته، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، وجاهدتم في الله حق جهاده، حتى أعلنتم دعوته، وبينتم فرائضه، وأقمتم حدوده، ونشرتم شرائع أحكامه، وسننتم سنته، وصرتم في ذلك منه إلى الرضا، وسلمتم له القضا، وصدقتم من رسله من مضى. فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم، ومنكم وإليكم، وأنتم أهله ومعدنه.

وميراث النبوة عندكم، وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم، وفصل الخطاب عندكم، وآيات الله لديكم، وعزائمه فيكم، ونوره وبرهانه عندكم، وأمره إليكم.

من والاكم فقد والى الله، ومن عاداكم فقد عادى الله، ومن أحبكم فقد أحب الله، ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله.

أنتم السبيلُ الأعظم، والصراطُ الأقوم، وشهداءُ دار الفناء، وشفعاءُ دار البقاء، والرحمةُ الموصولة، والآيةُ المخزونة، والأمانةُ المحفوظة، والبابُ المبتلى به الناس، من أتاكم نجا، ومن لم يأتكم هلك، إلى الله تدعون، وعليه تدلون، وبه تؤمنون، وله تسلمون، وبأمره تعملون، وإلى سبيله ترشدون، وبقوله تحكمون.

سَعِدَ والله من والاكم، وهلك من عاداكم، وخاب من جحدكم، وضل من فارقكم وفاز من تمسك بكم، وأمِنَ من لجأ إليكم، وسَلِمَ من صدَّقكم، وهُدِيَ من اعتصم بكم. من اتبعكم فالجنة مأواه، ومن خالفكم فالنارُ مثواه، ومن جحدكم كافر، ومن حاربكم مشرك، ومن رد عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم.

٣٠٦

أشهد أن هذا سابق لكم فيما مضى، وجارٍ لكم فيما بقي، وأن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة، طابت وطهرت، بعضها من بعض. خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه مُحْدِقِين، حتى منَّ علينا فجعلكم الله في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلاتنا عليكم وما خصنا به من ولايتكم طِيباً لخَلقنا، وطهارةً لأنفسنا، وتزكيةً لنا، وكفارةً لذنوبنا، فكنا عنده مُسْلِمين بفضلكم، ومعروفين بتصديقنا إياكم.

فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين، وأعلى منازل المقربين، وأرفع درجات أوصياء المرسلين، حيث لا يلحقه لاحق، ولا يفوقه فائق، ولا يسبقه سابق، ولا يطمع في إدراكه طامع، حتى لا يبقى ملكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل، ولا صديقٌ ولا شهيدٌ، ولا عالمٌ ولا جاهل، ولا دنيٌّ ولا فاضل، ولا مؤمنٌ صالح، ولا فاجرٌ طالح، ولا جبارٌ عنيد، ولا شيطانٌ مريد، ولا خلقٌ فيما بين ذلك شهيد، إلا عَرَّفَهُمْ جلالة أمركم، وعِظَمَ خَطَرِكُم، وكِبَر شأنكم، وتمام نوركم، وصِدق مقاعدكم، وثبات مقامكم، وشرف محلكم ومنزلتكم عنده، وكرامتكم عليه وخاصتكم لديه، وقرب منزلتكم منه.

بأبي أنتم وأمي، وأهلي ومالي وأسرتي، أشهد الله وأشهدكم أني مؤمن بكم وبما آمنتم به. كافرٌ بعدوكم وبما كفرتم به، مستبصرٌ بشأنكم وبضلالة من خالفكم، موالٍ لكم ولأوليائكم، مبغضٌ لأعدائكم ومعاد لهم، وسلمٌ لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، محقق لما حققتم، مبطل لما أبطلتم، مطيع لكم، عارفٌ بحقكم، مقرٌّ بفضلكم، محتملٌ لعلمكم، محتجبٌ بذمتكم، معترفٌ بكم، مؤمنٌ بإيابكم، مصدقٌ برجعتكم، منتظرٌ لأمركم، مرتقبٌ لدولتكم، آخذٌ بقولكم، عاملٌ بأمركم، مستجيرٌ بكم، زائرٌ لكم عائذٌ بكم، لائذٌ بقبوركم، مستشفعٌ إلى الله عز وجل بكم، ومتقربٌ بكم إليه، ومقدمُكم أمام طلبتي وحوائجي وإرادتي، في كل أحوالي وأموري، مؤمنٌ بسركم

٣٠٧

وعلانيتكم، وشاهدكم وغائبكم، وأولكم وآخركم، ومفوضٌ في ذلك كله إليكم، ومسلِّمٌ فيه معكم، وقلبي لكم مؤمن، ورأيي لكم تبع، ونصرتي لكم معدة، حتى يحيي الله تعالى دينه بكم، ويردكم في أيامه، ويظهركم لعدله، ويمكنكم في أرضه.

فمعكم معكم لا مع عدوكم، آمنت بكم، وتوليت آخركم بما توليت به أولكم، وبرئت إلى الله تعالى من أعدائكم، ومن الجبت والطاغوت، والشياطين وحزبهم الظالمين لكم، والجاحدين لحقكم، والمارقين من ولايتكم، والغاصبين لإرثكم، الشاكين فيكم، المنحرفين عنكم، ومن كل وليجة دونكم، وكل مُطاعٍ سواكم، ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار.

فثبتني الله أبداً ما حييت على موالاتكم ومحبتكم ودينكم، ووفقني لطاعتكم، ورزقني شفاعتكم، وجعلني من خيار مواليكم، التابعين لما دعوتم إليه، وجعلني ممن يقتص آثاركم، ويسلك سبيلكم، ويهتدي بهداكم، ويحشر في زمرتكم، ويَكِرُّ في رجعتكم، ويُمَلَّكُ في دولتكم، ويُشَرَّفُ في عافيتكم، ويُمَكَّنُ في أيامكم، وتقر عينه غداً برؤيتكم.

بأبي أنتم وأمي، ونفسي وأهلي ومالي، من أراد الله بدأ بكم، ومن وحده قبل عنكم، ومن قصده توجه إليكم، مواليَّ، لا أحصي ثناءكم، ولا أبلغ من المدح كنهكم، ومن الوصف قدركم، وأنتم نور الأخيار، وهداة الأبرار، وحجج الجبار.

بكم فتح الله، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا باذنه، وبكم يُنَفِّسُ الهمَّ، وبكم يكشف الضرَّ، وعندكم ما تنزل به رسله، وهبطت به ملائكته، وإلى جدكم بعث الروح الأمين. آتاكم الله ما يؤت أحداً من العالمين، طأطأ كل شريف لشرفكم، وَبَخَعَ كل متكبر لطاعتكم، وخضع كل جبار

٣٠٨

لفضلكم، وذلَّ كل شئ لكم، وأشرقت الأرض بنوركم، وفاز الفائزون بولايتكم، بكم يسلك إلى الرضوان، وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن.

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، ذِكْرُكُم في الذاكرين، وأسماؤكم في الأسماء وأجسادكم في الأجساد، وأرواحكم في الأرواح، وأنفسكم في النفوس، وآثاركم في الآثار، وقبوركم في القبور. فما أحلى أسماءكم، وأكرم أنفسكم، وأعظم شأنكم، وأجل خطركم، وأوفى عهدكم. كلامكم نورٌ، وأمركم رشدٌ، ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير، وعادتكم الإحسان، وسجيتكم الكرم، وشأنكم الحق والصدق والرفق، وقولكم حُكم وحَتم، ورأيكم علم وحلم وحزم، إن ذكر الخير كنتم أوله، وأصله، وفرعه، ومعدنه، ومأواه، ومنتهاه.

بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، كيف أصف حسن ثنائكم، وكيف أحصي جميل بلائكم، وبكم أخرجنا الله من الذل، وفرج عنا غمرات الكروب، وأنقذنا من شفا جرف الهلكات ومن النار.

بأبي أنتم وأمي ونفسي، بموالاتكم علمنا الله معالمَ ديننا، وأصلح ما كان فسد من دنيانا، وبموالاتكم تمت الكلمة، وعظمت النعمة، وائتلفت الفرقة، وبموالاتكم تقبل الطاعة المفترضة، ولكم المودة الواجبة، والدرجات الرفيعة، والمقام المحمود عند الله تعالى، والمكان المعلوم، والجاه العظيم، والشأن الرفيع، والشفاعة المقبولة.

ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا.

٣٠٩

ياوليَّ الله، إن بينى وبين الله ذنوباً لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحقِّ من ائتمنكم على سره، واسترعاكم أمرَ خلقه، وقَرَنَ طاعتكم بطاعته، لمَّا استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي، إني لكم مطيع، من أطاعكم فقد أطاع الله، ومن عصاكم عصى الله، ومن أحبكم فقد أحب الله، ومن أبغضكم فقد أبغض الله.

اللهم إني لو وجدت شفعاءَ أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك، أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم، وبحقهم، وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم، إنك أرحم الراحمين ».

فهرس أولي للزيارة الجامعة

تتكون الزيارة الجامعة من الفصول التالية:

الفصل الأول: مراسم الزيارة ومقدماتها:

وهي الإغتسال للزيارة، والتشهد عند الوصول الى الباب، والتكبيرمئة مرة أثناء الدخول الى مشهد المعصوم (ع).

الفصل الثاني: التسليمات الخمس على الأئمة (ع):

السلام الأول: فيه تسع عشرة صفة للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة » الى قوله: « وعترة خيرة رب العالمين ».

السلام الثاني: فيه عشر صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى » الى قوله: « وحجج الله على أهل الآخرة والأولى ».

٣١٠

السلام الثالث: فيه سبع صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على محال معرفة الله » الى قوله: « وذرية رسول الله ».

السلام الرابع: فيه سبع صفات للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على الدعاة إلى الله » الى قوله: « وهم بأمره يعملون ».

السلام الخامس: فيه أربع عشرة صفة للأئمة (ع)، تبدأ بقوله: « السلام على الأئمة الدعاة والقادة الهداة » الى قوله: « وصراطه ونوره وبرهانه ».

الفصل الثالث: التشهد والشهادة للأئمة (ع):

وهوتشهد لله تعالى بالوحدانية، ولرسوله (ص) بالرسالة، وشهادةٌ بإمامة الأئمة (ع) ومقاماتهم وسيرتهم، وقد تضمن أكثر من مئة صفة لهم (ع).

وتتكون الشهادة لهم من خمس فقرات:

الفقرة الأولى، الشهادة بما أعطاهم الله من نعم:

من قوله: « وأشهد أنكم الأئمة الراشدون » الى قوله: « وطهركم تطهيرا ».

الفقرة الثانية، أنهم قابلوا نعم الله بالطاعة والعبودية:

من قوله: « فعظمتم جلاله وكبَّرْتم شَانَهُ » الى: « وصدقتم من رسله من مضى ».

الفقرة الثالثة، أنهم (ع) ميزان الهدى والضلال والنجاة والهلاك:

من قوله: « فالراغب عنكم مارق » الى قوله: « ومن رد عليكم فهوفي أسفل درك ».

الفقرة الرابعة، في وحدة نور النبي والأئمة (ع) في عالم الخلق والحجة:

٣١١

من قوله: « أشهد أن هذا سابقٌ لكم فيما مضى وجار لكم فيما بقي ». الى قوله: « فكنا عنده مسلمين بفضلكم، ومعروفين بتصديقنا إياكم ».

الفقرة الخامسة، الدعاء للأئمة (ع) أن يبلغ الله فيهم هدفه:

من قوله: « فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين » الى قوله: « وخاصتكم لديه ».

الفقرة السادسة، الشهادة لله بولايتهم (ع) والبراءة من أعدائهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي وأهلي ومالي وأسرتي » الى قوله: « ومن الأئمة الذين يدعون إلى النار ».

الفصل الرابع: في أنهم (ع) الطريق الى الله تعالى دون غيرهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي، من أراد الله بدأ بكم » الى قوله: « وعلى من جحد ولايتكم غضب الرحمن ».

الفصل الخامس: أن الله منَّ على البشر فجعل فيهم النبي وآله (ص):

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي » الى قوله: « إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ».

الفصل السادس: بيان نعمة النبي والأئمة (ع) على شيعتهم ومحبيهم:

من قوله: « بأبي أنتم وأمي ونفسي وأهلي ومالي » الى قوله: « سبحان ربنا ».

الفصل السابع: الإستشفاع والتوسل الى الله تعالى بالنبي والأئمة (ع):

من قوله: « ياولي الله إن بينى وبين الله ذنوباً » الى قوله: « وفي زمرة المرجوين لشفاعتهم ».

٣١٢

الفصل الثاني عشر:

شخصيات عاصرت الإمام الهادي (ع)

قضاة القضاة

قاضي القضاة يحيى بن أكثم:

كتبنا له ترجمة مختصرة في سيرة الإمام الجواد (ع)، وقلنا إنه شاب خراساني مولى لبني تميم، أُعجب به المأمون واختاره من خاصته، ثم أرسله قاضياً على البصرة وشكا منه أهل البصرة لافتضاحه باللواط، فلم يقبل منهم المأمون، ثم زادت شكواهم بأنه أفسد أولادهم، فأخذه المأمون الى البلاط في بغداد.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٣ / ٤٣٤ »: « فرُفع إلى المأمون أنه أفسد أولادهم بكثرة لواطه، فقال المأمون: لوطعنوا عليه في أحكامه قُبِل ذلك منهم! قالوا: يا أمير المؤمنين قد ظهرت منه الفواحش وارتكاب الكبائر، واستفاض ذلك عنه، وهوالقائل يا أمير المؤمنين، في صفة الغلمان وطبقاتهم ومراتبهم وفي أوصافهم وبلغ من إذاعته ومجاهرته باللواط، أن المأمون أمره أن يفرض لنفسه فرضاً يركبون بركوبه ويتصرفون في أموره، ففرض أربع مائة غلام مُرْداً، اختارهم حسان الوجوه فافتضح بهم، وقال في ذلك راشد بن إسحاق، يذكر ما كان من أمر يحيى ».

٣١٣

قال في وفيات الأعيان « ١ / ٨٥ »: « قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قِبَل المأمون في آخر سنة ٢٠٢، وهوحَدَث سِنُّهُ نيف وعشرون.

فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى: إختر لي من أصحابك جماعة يجالسونني ويكثرون الدخول إلي، فاختار منهم عشرين، فيهم ابن أبي دؤاد ».

وفي تاريخ بغداد « ١٤ / ٢٠١ »: « وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً، وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هوعليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه، حتى قلده قضاء القضاء، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً، إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه، إلا يحيى بن أكثم، وابن أبي دؤاد ».

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٦٥ »: « وشى يحيى بن أكثم بالمعتصم إلى المأمون، وقال له: إنه بلغني أنه يحاول الخلع، فوجه إليه يأمره بالقدوم ».

ولم تنفع احتياطات المأمون، فغلب بعده أخوه المعتصم على ابنه الضعيف العباس وأخذ منه الخلافة، وكان أول ما فعله المعتصم أن عزل يحيى بن أكثم، ونصب بدله صديقه ابن أبي دؤاد، ونقل الخلافة من أولاد المأمون الى أولاده، فتولاها ابنه الواثق، ثم أخوه المتوكل!

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان « ١ / ٨٥ »: « ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم ».

٣١٤

وكان المأمون طلب من يحيى بن أكثم أن يختار له ندماء خاصين، فاختار له مجموعة منهم ابن أبي دؤاد، الذي فاق ابن أكثم وتسلط على المأمون، ثم دبَّر الخلافة للمعتصم وقتل ابن المأمون، ثم دبرها للواثق، وبعده للمتوكل.

وحكم ابن أبي دؤاد نحوعشرين سنة، في خلافة المعتصم والواثق وقسم من خلافة المتوكل، ثم غضب عليه المتوكل فعزله وأعاد خصمه ابن أكثم، وأيد ذلك أحمد بن حنبل، لأن ابن أكثم كان يتقرب اليهم بالقول بعدم خلق القرآن.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد « ١٤ / ٢٠١ »: « سمعت يحيى بن أكثم يقول: القرآن كلام الله، فمن قال مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه »!

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٤ »: « وفي سنة تسع وثلاثين ومائتين رضي المتوكل عن أبي محمد يحيى بن أكثم، فأُشخص الى سر من رأى وولي قضاء القضاة، وسخط على أحمد بن أبي دُواد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد، وكان على القضاء، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وجوهراً بأربعين ألف دينار، وأحضر إلى بغداد ».

وفي تاريخ بغداد « ١ / ٣١٤ »: « عزل المتوكل أبا الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد ووليها يحيى بن أكثم لسبع بقين من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ».

لكن لم يطل رضا المتوكل على ابن أكثم، ففي الكامل لابن الأثير « ٧ / ٧٥ »: « في هذه السنة « ٢٤٠ » عَزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وقبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، وأربعة آلاف جريب بالبصرة »!

٣١٥

ومات ابن أكثم سنة ٢٤٢، عن عمر امتد ثلاثاً وثمانين سنة، وامتلأ بالفتاوى المخالفة للشرع، وبأحكامٍ بالقتل والحبس ومصادرة الأموال، شملت ألوف المسلمين. وكانت أكبر جرائمه أن الحجة تمت عليه بإمامة الرضا والجواد والهادي (ع)، فكتمها وأمر بكتمانها، ثم شارك في قتلهم!

قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد:

وقد كتبنا له ترجمة مختصرة أيضاً في سيرة الإمام الجواد (ع)، وقلنا إنه حكم الأمة الإسلامية بلا منازع نحوعشرين سنة، حتى غضب عليه المتوكل. ولم يكن سلوكه أفضل من سلوك ابن أكثم، بل كان أشد نُصباً وعداوةً لأهل البيت (ع).

روى في تاريخ بغداد « ١ / ٣١٤ » عن محمد بن يحيى الصولي قال: « كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد ويستحي أن ينكبه، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق، وعقد الأمر له والقيام به من بين الناس. فلما فُلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أول ما ولي المتوكل الخلافة، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ووكل بضياعه وضياع أبيه. ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم، وحَدَّرَهم إلى بغداد، وولى يحيى بن أكثم.

ومات أبوالوليد محمد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة أربعين ومائتين، ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً ».

٣١٦

أقول: سبحان مغير الأحوال، فقد كان ابن أبي دؤاد مطيعاً لسيده ابن أكثم، فاختاره نديماً للمأمون فصارت له عنده مكانة، وأراد إزاحة ابن أكثم فلم يستطع.

ثم وضع خطة للمعتصم فسرق الخلافة من ابن أخيه المأمون، فصار المعتصم خليفة وصار ابن أبي دؤاد مدبر المملكة، وحاكمها المطلق!

لقد عمل هذان القاضيان بقواعد سياسة القصور ومكائدها، بالخبث، والتجسس والتآمر، والتزلف، والتزييف، والكذب، والنفاق، والخديعة، والتلاعب بأحكام الله تعالى، ومفاهيم الدين، وقتل الخصم بالسم، وبأي طريقة ممكنة! كل ذلك من أجل البقاء في منصب، أوالحصول عليه، أوشفاء غيض، أو إثبات الذات، وإرضاء غرورها وكبريائها. أعاذنا الله وعباده المؤمنين.

قاضي القضاة ابن أبي الشوارب:

كان محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب كبير أسرة أبي الشوارب، وهو أموي من ذرية أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس.

كان محدثاً معروفاً في البصرة، وفيه ميلٌ الى التشيع، وقد أحضره المتوكل الى سامراء، فاتفق مع زميله إبراهيم التيمي أن لا يقبلا القضاء، فنكث التيمي!

قال في تاريخ بغداد « ٦ / ١٤٨ »: « أشخص إبراهيم بن محمد التيمي ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، فلما حضرا دار المتوكل أمر بإدخال ابن أبي الشوارب، فلما دخل عليه قال: إني أريدك للقضاء. فقال: يا أمير المؤمنين لا أصلح له. فقال: تأبون يا بنى أمية إلا كبراً! فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي كبر، ولكني لا

٣١٧

أصلح للحكم. فأمر بإخراجه! وكان هو وإبراهيم التيمي قد تعاقدا أن لا يتولى واحد منهما القضاء، فدعا بإبراهيم فقال له المتوكل: إني أريدك للقضاء، فقال: على شريطة يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: أن تدعولي دعوة فإن دعوة الإمام العادل مستجابة! فولاه ».

أقول: لقد وفى ابن عبد الملك بعهده، لكن إبراهيم التيمي نكث، ثم تزلف الى المتوكل وطلب منه أن يدعوله، لأن دعاء الإمام العادل مستجاب!

ثم نجح المتوكل في إقناع الحسن بن أبي الشوارب، ونصبه قاضي القضاة.

قال في تاريخ بغداد « ٧ / ٤٢٢ »: « الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، القرشي ثم الأموي: وليَ القضاء بسر من رأى في أيام جعفر المتوكل وبعده ».

وقال الذهبي في سيره « ١١ / ١٠٤ »: « لما ولي ولده الحسن بن أبي الشوارب القضاء تخوف عليه، وقال: يا حسن: أعيذ وجهك الحسن من النار ».

وقال في تاريخ بغداد « ٥ / ٢٥١ »: « قال أبوالعلاء: فيرى الناس أن بَركة امتناع محمد بن عبد الملك دخلت على ولده، فوليَ منهم أربعة وعشرون قاضياً، منهم ثمانية تقلدوا قضاء القضاة، آخرهم أبوالحسن أحمد بن محمد بن عبد الله، وما رأينا مثله جلالة ونزاهة وصيانة ».

أقول: كيف يكون منصب القضاء مذموماً وتركه فضيلة، ثم يكون نعمةً على أولاده ببركة تركه له! فالأصح أن يقال إنه ترك القضاء، وتورط فيه أولاده. وقد رووا عنه

٣١٨

أنه كان يمدح المتوكل بأنه رد الدين وأحياه. « الأنساب: ٣ / ٤٦٥ » لكن امتناعه عن القضاء، يدل على الجو العام الذي يرى منصب القضاء منصب ظلم!

وسبب وصفه بالتشيع: أن جده عتاب بن أسيد الأموي محسوب على بني هاشم لأنه كان والي مكة من قبل النبي (ص) فكرهته قريش عندما بايعت أبا بكر، وحسبته على بني هاشم، ثم مات مسموماً.

ولعل السبب الأهم: ما رواه عنه الموفق الخوارزمي في المناقب / ٣١٦ في فضل علي (ع): « عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن جعفر بن سليمان الضبعي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ قال: سئل سلمان الفارسي عن علي بن أبي طالب وفاطمة، فقال سمعت رسول الله (ص) يقول: عليكم بعلي بن أبي طالب، فإنه مولاكم فأحبوه، وكبيركم فاتبعوه، وعالمكم فأكرموه، وقائدكم إلى الجنة فعززوه، وإذا دعاكم فأجيبوه، وإذا أمركم فأطيعوه أحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، ما قلت لكم في علي إلا ما أمرني به ربي جلت عظمته ».

وما رواه عنه الصدوق في معاني الأخبار / ١١٨: « عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي، عن ابن سليمان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كنت عند علي بن أبي طالب في الشهر الذي أصيب فيه وهوشهر رمضان فدعا ابنه الحسن ثم قال: يا أبا محمد أعل المنبر فاحمد الله كثيراً وأثن عليه واذكر جدك رسول الله (ص) بأحسن الذكر، وقل: لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله ولداً عق أبويه، لعن الله عبداً أبق من مواليه، لعن الله غنماً ضلت عن الراعي. وانزل! فلما فرغ من خطبته ونزل، اجتمع الناس إليه

٣١٩

فقالوا: يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا الجواب. فقال: الجواب على أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين: إني كنت مع النبي (ص) في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى، فاجتذبها فضمها إلى صدره ضماً شديداً، ثم قال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله. قال: أنا وأنت أبَوَا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل: آمين، قلت: آمين.

ثم قال: أنا وأنت مَوْلَيَا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل: آمين، قلت: آمين.

ثم قال: أنا وأنت رَاعِيَا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل: آمين.

قال أمير المؤمنين: وسمعت قائليْن يقولان معي: آمين، فقلت: يا رسول الله ومن القائلان معي: آمين؟ قال: جبرئيل وميكائيل (ع) ».

أقول: يبدو أن محمد بن عبد الملك تأثر بابن عمه الأموي خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه، وكان من كبار شيعة أمير المؤمنين (ع)، وقد وقف أيام السقيفة هو وأحد عشر مهاجراً وأنصارياً، وواجهوا أبا بكر وعمر بشدة وخطبوا. وكان خالد من أبطال الإسلام، وقد ترجمنا له في: قراءة جديدة في الفتوحات.

أما أولاد محمد بن عبد الملك، فلم يكونوا مثل أبيهم، وسيأتي ذكر بعضهم في سيرة الإمام الهادي، والإمام الحسن العسكري (ع).

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477