الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام0%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف: الشيخ علي الكوراني
تصنيف:

الصفحات: 477
المشاهدات: 144762
تحميل: 5837

توضيحات:

الإمام علي الهادي عليه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 144762 / تحميل: 5837
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

رؤساء الوزارة

الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات:

كان محمد بن عبد الملك الزيات من أسرة عادية من الدسكرة « الأعلام: 6 / 248 »، والظاهر أنها المقدادية الواقعة قرب بعقوبة. وقد استوزره المعتصم، ثم الواثق.

روى ابن الزيات أن المعتصم ضحك يوماً من نفسه، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً رآه فقال له: « الطالع أسدٌ وهوالطالع في الدنيا، وإنه يوجب لك الخلافة، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك، وتبني بلاداً عظيمة ويكون من شأنك كذا ومن أمرك كذا، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن!

قلت: فهذا السعود، فهل عليَّ من نحوس؟ قال: لا، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك. قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد. قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك ...

ولكني ما ذكرته إلى الآن، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد، فإذا قد صح جميع ما قال!

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه لأفي له بسالف الوعد، فعاد إليَّ وذكر أنه قد مات قريباً وأخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السُّفَّل. قال: فانكسرنا، ووددنا أنا ما سألناه »! « نشوار المحاضرة: 7 / 212 ».

٣٢١

وقال في تاريخ بغداد « 3 / 145 »: « كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد، عداوةٌ شديدة، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه، وطالبه بالأموال ».

وقال البغدادي في خزانة الأدب « 1 / 428 »: « وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ، وكان يعذب فيه أيام وزارته، فكيفما انقلب المعذب أوتحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه! وإذا قال له أحد: إرحمني أيها الوزير، فيقول له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال له: يا أمير المؤمنين إرحمني، فقال له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً، إلى أن مات فيه »!

وتدل روايتنا عن الإمام الهادي (ع) على أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات، فأخرجه ابن أبي دؤاد وعقد البيعة له، ثم بطشوا بابن الزيات!

قال خيران الأسباطي « الكافي: 1 / 498 »: « قدمت على أبي الحسن (ع) « الإمام الهادي » المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات. فلما أن قال لي: الناس، علمت أنه هو. ثم قال لي: ما فعل جعفر « المتوكل »؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السجن. قال فقال: أما إنه

٣٢٢

صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. قال فقال: أما إنه شؤم عليه. قال: ثم سكت وقال لي: لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه. يا خيران، مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيام ».

وذكر المسعودي في مروج الذهب « 4 / 5 » أن بطشهم بابن الزيات كان بعد أشهر، قال: « سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرين والمغضوب عليهم تنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخله قائمة مثل رؤوس المسالّ، في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له فكتب:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنه ما تُريك العين في النومِ

لا تجزعنَّ رويداً إنها دوَلٌ

دُنْيَاً تنقَّلُ من قومٍ إلى قوم.

قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصِل الرقعة اليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً. وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً ».

٣٢٣

وفي نشوار المحاضرة « 8 / 19 »: « قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً وَزَرَ وزارةً واحدة بلا صَرْف، لثلاثة خلفاء متَّسقين، غير محمد بن عبد الملك ».

وقال في النهاية « 14 / 333 »: « أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق فطلبه فركب بعد غدائه يظن أن الخليفة بعث إليه، فأتت به الرسل إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط عليه وقُيِّدَ، وبعثوا في الحال إلى داره، فأخذ جميع ما كان فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشراب، وبعث الخليفة إلى حواصله وضياعه بسائر الإماكن، فاحتيط عليها، وأمر به أن يعذب فمنع من الطعام، وجعلوا يساهرونه، كلما أراد الرقاد نُخِسَ بالحديد، ثم وضع بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله، فأقيم عليها ووُكِّلَ به من يمنعه من الرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات ..

ويقال: إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهوتحت الضرب. ويقال: إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت لحمه وجلده، سامحه الله وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف ألف دينار ».

أقول: كان هذا الأسلوب الدموي في انتقال السلطة وما زال، أمراً ثابتاً عند الشعوب المختلفة، وثقافةً سائدةً، ففي نفس السنة التي قتل فيها المتوكل ابن الزيات، قَتَلَ ملك الروم ميخائيل أمه تدورة، بعد أن ملكت ست سنين. « النهاية: 14 / 333 ».

٣٢٤

أما الديمقراطيات الغربية فقد جعلت انتقال السلطة في الغرب سلمياً، في الظاهر، لكنها لم تحقق ذلك في شعوب العالم التي تحت نفوذها، فبقي دموياً بشكل عام!

الوزير عمر بن الفرج الرخجي:

1. كتبنا له ترجمة في سيرة الإمام الجواد (ع) ووصفناه بأنه ممسحة الخلفاء، لأنهم كانوا يكلفونه بالمهمات القذرة! وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت (ع)، بعكس أخيه محمد الذي كان من خيرة أصحاب الأئمة: الرضا والجواد والهادي (ع)، وصار والياً للمتوكل على مصر لفترة. « تاريخ اليعقوبي: 2 / 485 ».

2. ذكرنا في سيرة الإمام الجواد (ع) أن عمر الرخجي كان والياًَ على مكة والمدينة وأنه حاول قتل الإمام الجواد (ع) بالسم، فقد قال كما في « الثاقب في المناقب / 517 »: « سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر! فقلت: وما هوأصلحك الله؟ قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا. فقلت: فداك أبي قد جاءكم الغيب؟فقال: عليَّ بالخبَّاز، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام؟ فقال له: جعلت فداك، فلان! ثم أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره »!

يقصد أنه رأى من الإمام الجواد (ع) شيئاً لو رآه أخوه محمد لصار من الغلاة فيه، واعتقد أنه يعلم الغيب، وكفر بذلك! أما هو فلايكفر ويقول إن الجواد (ع) ساحر! ثم ذكر أن الإمام (ع) كشف محاولة قتله بالسم، وأبعد الرخجي التهمة عن نفسه وأنه هو صاحب المحاولة، مع أنه كان والي مكة والمدينة! فتفكيره كتفكير مشركي قريش،

٣٢٥

فهم يرون أنهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها ولا بتفسيرها! بل عليهم أن يقولوا إن صاحب المعجزة ساحر، حتى لا يفتتن به الناس!

3. وبعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد (ع) أمره أن يوكَّل شخصاً بابنه الإمام الهادي (ع) بعنوان معلم، ويكون تحت رقابته التامة، ويعزله عن الناس حتى لا يفتنوا به كما فتنوا بأبيه! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره، فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي (ع)!

4. وبعد المعتصم كان الواثق يوكل اليه تعذيب الوزراء والجباة، الذين يغضب عليهم، ليستخرج منهم الأموال!

قال ابن حمدون في التذكرة « 2 / 106 »: « لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي، ثم وجه إليه يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرِّده واضربه مائة سوط، ولاتتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ».

5. أما المتوكل فأوكل اليه أسوأ الأدوار، ثم بطش به أسوأ البطش! فقد غضب عليه في أول خلافته، قال الطبري « 7 / 347 »: « وفيها « سنة 233 » غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبسه عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ».

وفي مروج الذهب « 4 / 19 »: « سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً، نحومائة ألف وعشرين ألف دينار،

٣٢٦

وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم، على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبةً ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات »!

وفي تاريخ اليعقوبي « 2 / 485 »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي، وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ».

ووصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « 2 / 12 »، بطش المتوكل به لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه، فوشى به القاضي الى المتوكل فأرسل جاء به الى سامراء، وأركبه على حمار وسجنه وعذبه، وباع أملاكه!

6. ثم رضي عليه المتوكل وأوكل اليه مهمة هدم قبر الحسين (ع)، فبعثه أكثر من مرة بجيش، وقاتل أهل الكوفة حتى أخضعهم، ثم هدم القبر!

روى الطوسي في الإمالي / 325: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (ع) فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرَّ بها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمر عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على

٣٢٧

قبره ولا تخطته. قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي أفرح بولادتي منه.

7. ثم أوكل اليه المتوكل حكم الحجاز ليضطهد العلويين ويفقرهم ويبيدهم! قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / 395: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر »!

8. وبعد أن نفذ أوامر المتوكل، وارتكب لأجله الجرائم، غضب عليه وعزله، وأذله! وصدق رسول الله (ص): من أعان ظالماً سلطه الله عليه. « الخرائج: 3 / 1058 ».

وتقدم أن المتوكل أنه سمع بعائشة بنت عمر الرخجي، فأمره في جوف الليل والمطر أن يأتيه بها، فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها! « المحاسن للجاحظ / 118 ».

9. وقد ورد أن الإمام الجواد (ع) دعا على عمر الرخجي، ففي الكافي « 1 / 497 »: « محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن « الإمام الهادي (ع) » فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر. فقال: الحمد لله، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة. فقلت: يا سيدي لوعلمت أن هذا يسرُّكَ لجئتُ حافياً أعدو إليك. قال: يا محمد أوَلا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي؟ قال

٣٢٨

قلت: لا. قال: خاطبه في شئ فقال: أظنك سكران! فقال أبي: اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه « خسره » وما كان له، ثم أخذ أسيراً، وهوذا قد مات لا رحمه الله. وقد أدال الله عز وجل منه. وما زال يديل أولياءه من أعدائه ».

أقول: استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة 220، ووفاة الرخجي 237، لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ.

الوزير الفتح بن خاقان:

كان للمتوكل عدة وزراء، لكن أهمهم الفتح بن خاقان الذي قُتل معه، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وعندما قَتَل المتوكل ابن الزيات كلف شخصاً إسمه أبو الوزير فتسلم أمواله الواسعة. ثم استوزر الجرجرائي، ثم استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وكان فوقهم جميعاً الفتح بن خاقان.

قال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 3 و 6 »: « فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، ثم صرفه غلب عليه الفتح بن خاقان: وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه، أغلبَ الناس عليه، وأقربَهم منه، وأكثرهم تقدُّماً عنده ».

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء « 12 / 82 »: « الفتح بن خاقان: الأمير الكبيرالوزير الأكمل، أبومحمد التركي، شاعر مترسل بليغ مفوه، ذوسؤدد وجود ومحاسن، على لعب فيه. وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه، استوزره، وفوض إليه إمرة

٣٢٩

الشام، فبعث إليها نواباً عنه وكان أحد الأذكياء، دخل المعتصم على الأمير خاقان فمازح ابنه هذا وهوصبي، فقال: يا فتح، أيما أحسن داري أوداركم؟ فقال الفتح: دارنا إذا كنت فيها، فوهبه مئة ألف. وكان الفتح ذا باع أطول في فنون الأدب. قتل مع المتوكل سنة سبع وأربعين ».

ومدحه ابن النديم في الفهرست فقال / 130: « الفتح بن خاقان بن أحمد، في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، من أولاد الملوك، اتخذه المتوكل أخاً، وكان يقدمه على سائر ولده وأهله، وكان له خزانة « مكتبة » جمعها له علي بن يحيى المنجم لم يُرَ أعظم منها كثرةً وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبوهَفَّان: ثلاثة لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ أحب َّإليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ».

أقول: تدل أخبار الفتح على أنه كان إنساناً محترماً، وكان في عمله مع المتوكل مهنياً أميناً، لم يُؤْذِ أحداً، ولا دفع المتوكل الى ذلك. على عكس زميله عبيد الله بن يحيى بن خاقان! قال أبوالفرج « مقاتل الطالبيين / 395 »: « كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (ع) وعفى أثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لايجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أوأنهكه عقوبة »!

٣٣٠

بل نجد أن الفتح بن خاقان كان يعتقد أن الإمام الهادي (ع) ولي الله تعالى، ويطلب أن يدعوللمتوكل أويعالجه، فقد روى في الكافي « 1 / 499 »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لوبعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « عصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه ». وتقدم ذلك في فصل سياسة المتوكل مع الإمام (ع).

وتذكر بعض رواياتنا أنه كان محباً للإمام الهادي (ع) ويعمل لدفع الضر ـ ر عنه، فقد روى الشيخ الطوسي في الامالي / 275 ، عن أبي موسى المنصوري وهو أمير عباسي من أولاد المنصور، وكان منقطعاً الى الإمام الهادي (ع)، فبعث المتوكل اليه الفتح بن خاقان، ولما جاء أكرمه ودفع له مخصصاته المتأخرة.

ولما خرج قال له الفتح: لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاء! فلما دخلت إليه (ع) قال لي: يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا. فقلت: ببركتك يا سيدي قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت. قال: إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصتَ في طاعة الله واعترفتَ برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً، لم يحرمك ».

٣٣١

وقال له الفتح: « ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجئ من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به، فقل لي: من أي طريق يجئ حتى أجتنبه »!

وقد يكون الفتح صادقاً، وسيأتي ذلك في ترجمة المنصوري في أصحاب الإمام (ع).

الوزير عبيدالله بن يحيى بن خاقان:

ذكر القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « 8 / 12 » كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من المتوكل، قال: « حدثنا أبوجعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعه عبيد الله بن يحيى: طلبُ المتوكل لحدثٍ من أولاد الكتاب يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها. فأسميَ له جماعة فاختار عبيد الله من بينهم، فحضر أول يوم، فصلَّى في الدار ركعات وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية على رسم الكتاب. قال أبوالحسين لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلَّا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلَّا القضاة، لا في موكب ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.

٣٣٢

فلما صلَّى عبيد الله وجلس لم يجتز به أحد من الحاشية كبير ولا صغير إلَّا قام إليه قائماً وسلَّم عليه، حتى قام إلى رئيس الفراشين! فرآه بعض الحاشية فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له فلان.

ثم أذن له المتوكل لما خلا، فدخل إليه وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق فظهرت عنقه. فلما رآه المتوكل أومأ بيده إلى قفاه ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها فنفق عليه وخف على قلبه وسُرَّ بذلك، واستخف روحه وقال له: أكتب. فكتب وهوقائم: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، إلى قوله عز وجل: ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ) . فكتب: وينصرك الله يا أمير المؤمنين نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له وتفاءل بذلك، وقال له: إلزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.

وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها وليس هو بعدُ وزير، والتاريخ لوصيف. فأمره المتوكل في بعض الأيام أن يكتب نسخة في أمر الأبنية فقال: نعم. فلما كان بعد ساعة سأله هل كتبت؟ فقال: لم يكن معي دواة. فقال: أكتب الساعة، فاستحضر دواة، وكان إيتاخ الحاجب قائماً يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين لتكتب بين يديه فإذا حضرت بلا دواة فلأي شئ تجئ؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا، أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك فأمر به فبُطح وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً!

٣٣٣

فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قَصَدَهُ إيتاخ لمحبتي له.

وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبته لتمكَّنه من الأتراك.

فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله ويثاقفه، وقوي أمر عبيد الله حتى حذف بنفسه من غير أمر إسمَ وصيف من التاريخ وأثبت إسمه. ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة بعد مُدَيْدَة وخلع عليه لها خلعاً أخر.

ثم قلَّده كتابة المعتز وخلع عليه، ثم قلَّده كتابة المؤيد وخلع عليه، وضمَّ المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجل، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً. فلما تمكَّن هذا التمكَّن بالجيش والمحل، عارض إيتاخ وبطَّأ حوائجه وقصده، ووضع من كُتَّابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله إلى أن دبَّرَ على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحجّ ».

وقال اليعقوبي « 2 / 488 »: « سخط المتوكل على محمد بن الفضل كاتب ديوان التوقيع لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان ورفعه وأعلى مرتبته وولاه وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين وكان ولاؤه في الأزد ».

٣٣٤

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق « 38 / 143 و 146 »: « عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج، أبوالحسن التركي، وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق فيما وجدت بخط عبد الله بن محمد الخطابي الشاعر الدمشقي، في تسمية من قدم مع المتوكل. وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وكان عوده إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، ثم استوزره المعتمد في شعبان سنة ست وخمسين ومئتين قال أحمد بن أبي طاهر: تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين وكان نُفي في وقت النكبة إلى بَرْقة، فاجتاز بدمشق، وعيسى بن الشيخ يتقلدها فلقيه عيسى بن الشيخ وترجل له وأعظمه وبره وأكرمه وخدمه فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية حفظ له ذلك، ولم يزل حتى قلده الديار البكرية وإرمينية ».

وكان الوزير عبيد الله بن خاقان أداة للمتوكل في هدم قبر الإمام الحسين (ع) واضطهاد الذاهبين لزيارته وتعذيبهم وقتلهم. فقد استمرت محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة 236 الى شعبان 237، وورد فيها إسم الوزير عبيد الله بن خاقان، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف، ومعهم متطرفون من النواصب. كما ذكرنا في فصل هدم القبر الشريف.

وعاش الوزير عبيد الله بعد المتوكل، وكان وزيراً لعدة خلفاء، حتى توفي فجأة سنة 260، في أيام شهادة الإمام العسكري (ع) فقد روى الصدوق في كمال الدين / 475، تفتيش السلطة عن الإمام المهدي (ع) قال: « فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله

٣٣٥

عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر، وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي. وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين ».

القائد العام لجيش الخلافة: إيتاخ

عندما توفي الواثق اجتمع كبار شخصيات الدولة: « أحمد بن أبي دؤاد، وإيتاخ، ووصيف، وعمر بن فرج، وابن الزيات، وأحمد بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهوغلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هوقصير ». « الطبري: 7 / 241 ».

فكان إيتاخ القائد الأول ويليه وصيف، لأن جيش الخلافة كان أكثره من الأتراك، فكان لقادتهم دور في اختيار الخليفة، ثم صار لهم كل الدور. وكان إيتاخ غلاماً للمعتصم، فأوكل اليه تربية المتوكل، فكان بمنزلة أبيه!

٣٣٦

قال ابن كثير في النهاية « 10 / 343 »: « شرب ليلةً مع المتوكل، فعربد عليه المتوكل فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ودسَّ اليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج ».

قال الطبري « 7 / 350 »: « ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً، فاشتراه منه المعتصم في سنة 199 وكان لإيتاخ رَجْلَةٌ وبأسٌ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قِبَله رجُلٌ ومن قِبَل إسحاق رجُلٌ، وكان من أراد المعتصم أوالواثق قَتْلَهُ فعند إيتاخ يُقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم. فلما وليَ المتوكل كان إيتاخ في مرتبته إليه الجيش، والمغاربة، والأتراك، والموالي، والبريد، والحجابة، ودار الخلافة.

فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة فعربد على إيتاخ فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه والتزمه وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسَّ إليه من يشيرعليه بالإستئذان للحج ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدةٍ يدخلها، وخلع عليه وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ..

٣٣٧

لما قفل من مكة راجعاً إلى العراق وجَّه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب، مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أوببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.

فذكر عن إبراهيم بن المدبر أنه قال خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامر، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنوهاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. قال فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته وطرح له بالياسرية صفةً فجلس عليها، حتى قالوا قد قرب منك فركب فاستقبله فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل، قال: وكان إيتاخ في ثلاث مائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباءٌ أبيض متقلداً سيفاً بحمائل، فسارا جميعاً حتى إذا صارا عند الجسر، تقدمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير، وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه، قدموه حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أوأربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا

٣٣٨

ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولودخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قَتْلَ جميع من خالفه، أمكنه ذلك.

قال: فأتيَ بطعام قرب الليل فأكل فمكث يومين أوثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعدَّ لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم بالسلاح، وصاعد إسحاق حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة ابن زياد النصراني، بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة فحبسوا ببغداد.

فأما سليمان وقدامة فضربا فأسلم قدامة، وحبس منصور ومظفر.

وذكر عن تُرْك مولى إسحق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال لي: يا تُرك. قلت: ما تريد يا منصور. قال: أقرئ الأمير السلام وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني فلينفعني ذلك عندك. أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه.

قال تُرك: فوقفت على باب مجلس إسحاق قال لي: مالك يا تُرك، أتريد أن تتكلم بشئ. قلت: نعم. قال لي إيتاخ: كذا وكذا! قال وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً

٣٣٩

وكوزاً من ماء، ويأمر لابنيه بخوانٍ فيه سبعة أرغفة وخمس غرف « جمع غَرْفَة بمعنى ملعقة » فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق، ثم لا أدرى ما صنع بهما!

فأما إيتاخ فقُيِّدَ وصُيِّر في عنقه ثمانون رطلاً وقيدٌ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة 235 ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد، وصاحب بريد بغداد، والقضاة، وأراهم إياه، لا ضربَ به ولا أثرَ! وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أُطعم فاستسقى فمنع الماء حتى مات عطشاً، وبقي إبناه في الحبس حياة المتوكل فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، وأما منصور فعاش بعده ».

قال المسعودي في التنبيه والإشراف / 313: « بويع المتوكل جعفر بن محمد المعتصم وجفا الموالي من الأتراك واطَّرحهم وحطَّ مراتبهم، وعمل على الإستبداد بهم والإستظهار عليهم ».

أقول: لم يترك المتوكل أحداً من أولياء نعمته وأصدقائه إلا وغدر به! وقد حقد عليه الترك لغدره بقائدهم إيتاخ، وتبايعوا على قتله.

قال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 34 »: « ولما عزم بُغا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر، ولا يخرج

٣٤٠