الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154432 / تحميل: 6629
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1) .

5 - قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ) (2) .

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولى، حيث إن هذه الآيات القرآنية تنهى عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها، فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضى صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6 - قوله تعالى: ( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم ) (3) .

7 - قوله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (4) .

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد على أن التوجّه إلى الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8 - قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ) (5) .

9 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ

____________________

(1) الحج: 62.

(2) الجن: 20.

(3) آل عمران: 126.

(4) آل عمران: 160.

(5) يونس: 18.

٢٤١

زُلْفَى ) (1) .

فهاتان الآيتان دلّتا على وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزَّ وجل، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى، وهو ما ابتُلى به مشركو العرب؛ إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالى أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة؛ وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمَن يعمل ويعبد وكان في معتقده الدينيّ شي‏ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه؛ ويستدلّون لذلك بقوله تعالى: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالى.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها

____________________

(1) الزمر: 3.

(2) الزمر: 65.

(3) الأنعام: 88.

٢٤٢

تنهى عن التوجّه والقصد إلى غير اللَّه عزَّ وجل، منها:

قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (1) ، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسنى التي جاءت في قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (2) .

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلى غير اللَّه عزَّ وجلَّ وأسمائه الحسنى؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الإلهية مستند للتوسّل

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي‏ء علامته).

(قال أبو العبَّاس: الاسم وسمة توضع على الشي‏ء يُعرف به، قال ابن سيده: والاسم اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على المعنى) (3) .

____________________

(1) الأعراف: 180.

(2) الإسراء: 110.

(3) لسان العرب، ج14، ص 403 - 401.

٢٤٣

إذن اسم الشي‏ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، فللّه تعالى أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزَّ وجلَّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله. فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة على الذات الإلهية المقدّسة، والخَلق والرِّزق والتدبير والربوبية والحُكم والعَدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحَكَم والعدَْل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها، بل مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزَّ وجل.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالى.

والمخلوق يكون اسماً للَّه عزَّ وجلَّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي‏ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال على كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة على صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة على عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّا الفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعنى متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّا أن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد؛ وهو الدلالة على الشي‏ء والعلامّية والمرآتية له.

٢٤٤

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضى منها إلى غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) (1) .

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) (2) .

أضف إلى ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة على مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها على وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها على عظمة وقدرة وحكمة الباري عزَّ وجل، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق اسماً من أسماء اللَّه تعالى وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات على درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر لِمَا أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية، كلّما كانت آييَّة ذلك المخلوق واسميَّته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (3) .

2 - قوله تعالى: ( وَالتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص 61 - 62.

(2) لسان العرب، ج12، ص522.

(3) المؤمنون: 50.

٢٤٥

آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

3 - قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (2) .

4 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (3) .

5 - قوله تعالى: ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِْمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) (4) .

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة على مريم عليها‌السلام أنها آية، وعلى عيسى عليه‌السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6 - قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (5) .

7 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (6) .

8 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

____________________

(1) الأنبياء: 91.

(2) آل عمران: 45.

(3) النساء: 171.

(4) آل عمران: 38 - 39.

(5) البقرة: 31.

(6) البقرة: 37.

٢٤٦

إ ِمَامًا ) (1) .

9 - ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزَّ وجلَّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالى، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) (3) فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل على مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلى اللَّه تعالى بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن؛ ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها على مدّعاهم فحسب، بل هي تحكُّمهم وتديُّنهم بالإلحاد عن اسمائه، وتنصُّ على ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالى، ولابدّ من عدم الإلحاد فيها والإعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ من الالتفات إلى أن النظرة إلى الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلى اللَّه تعالى، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء على ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط على ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس؛ وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

____________________

(1 ) البقرة: 124.

(2) الأنعام: 115.

(3) الأعراف: 180.

٢٤٧

الوجيهة عند اللَّه عزَّ وجلَّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الإلحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفى إلى اللَّه عزَّ وجل؛ لأنه ليس بجسم، وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلى المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلى الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالى، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه على سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزَّ وجلَّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف مَن أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلى معرفة اللَّه تبارك وتعالى.

فالنظرة في هذا المنهج إلى الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالى ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ؛ إذ حباهم اللَّه عزَّ وجلَّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم‌السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضَّل بها على الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )( 1 ) ، حيث

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٤٨

جاء التعبير فيها بـ ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير بـ ( هؤُلآءِ ) ولم يقل: هذه، كلّ ذلك يدلّ على أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالى، فهم عباد ليس على اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلى غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ على ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبرى والأسماء الفعلية الحسنى والعظمى - وهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام - إلى اللَّه عزَّ وجل، والباء في قوله تعالى: ( فَادْعُوهُ بِهَا ) للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال:

(ياهشام، اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟) قال: قلت: زدني، قال: (للَّه تسعة وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمَّى، لكان كل اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معنى يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره. ياهشام، الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق، أفهمت ياهشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتَّخذين مع اللَّه عزَّ وجلَّ غيره؟) قلت: نعم، فقال: (نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام)

٢٤٩

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا) (1) .

فبيّن عليه‌السلام أن الاسم غير المسمَّى وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية، لكان كل اسم إلهاً ولتكثَّرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلى الذات، فظهر أن قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (2) برهان قرآني على ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعى اللَّه بها، فلا يُدعى اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلى اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالى، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلى اللَّه. ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالى مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد على الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الاسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن مَن له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالى، فيكون اسماً وآية وكلمة للَّه تعالى.

نعم، بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالى عظمة وكبراً؛ وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالى وآية من

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص521، وأصول الكافي، ج1، ص89، باب معاني الاسماء واشتقاقها، ح2.

(2) سورة الأعراف: 180.

٢٥٠

آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالى، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون اسماً وعلامة. وأمَّا إذا نُظر إلى الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر، وهو الغلو المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّى أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال، بل ينظر بها؛ وذلك لِمَا بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالإلحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يُقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته، وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزَّ وجل، نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، الذين بواسطتهم وصل آدم إلى ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزَّ وجلَّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالى وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ - بمعونة الروايات الواردة فيها - على أن الكلمات التامّات والآيات الكبرى للَّه عزَّ وجلَّ هم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالى: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (إن اللَّه تبارك وتعالى كان ولا شي‏ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم اسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّى النبيّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الأعلى وسمّى

____________________

(1) البقرة: 31.

٢٥١

أمير المؤمنين عليه‌السلام عليّاً، وله الأسماء الحسنى فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه اسماً، فلمّا خلقهم، جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلمَّا نظروا إليهم، عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح فذلك قوله: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) (1) فلمّا خلق اللَّه تعالى آدم(صلوات اللَّه وسلامه عليه) نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم، هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم اسماً من أسمائي، قال: ياربّ، فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّا بإذني، قال: نعم ياربّ، قال: ياآدم، أعطني على ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم، ثم عرضهم على الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) (2) علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة للَّه؛ إذ كان ذلك بحقّ له، وأبى إبليس الفاسق عن أمر ربّه) (3) .

2 - قوله تعالى: ( فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالاً على كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

____________________

(1) الصافات: 165 - 166.

(2) البقرة: 31 - 32 - 33.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص56، وكمال الدين وتمام النعمة، ص14، والهداية الكبرى للخصيبي، ص428 (واللفظ للأوَّل).

٢٥٢

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم على النبي عيسى عليه‌السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه على العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق على حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) (1) حيث تومئ الآية إلى كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة، وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحرى بالصدق على سيد الأنبياء بعد صدقه على النبي عيسى عليه‌السلام .

وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها على الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها باسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، ممَّا يدلُّ على أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض؛ لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) .

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن أوَّل وأسمى الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالى شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه.

ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزَّل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه خصيصة اختصّ هو عليه‌السلام بها. كما لم يُشرك اللَّه تعالى في طهارة

____________________

(1) سورة الأنعام: 115.

(2) سورة البقرة: 33.

٢٥٣

النبي وعصمته ونمط حُجِّيَّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخرى أحداً من أنبيائه ورسله، لكنَّه أشرك أهل بيته؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، كما في آية التطهير والمباهلة ومسِّ الكتاب من المطهَّرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم‌السلام .

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فدعا اللَّه عزَّ وجلَّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: يا ربّ؛ لأنك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عبَّاس قال: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

____________________

(1) المستدرك، ج2، ص615.

٢٥٤

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب عليه) (1) . ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه‌السلام أنه ذكر أن اللَّه عزَّ وجلَّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: (اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد، سبحانك لا إله إلّا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب عليّ إنك أنت التوَّاب الرحيم. فهؤلاء الكلمات التي تلقّى آدم) (2) .

3 - قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) (3) .

فالكلمة أُطلقت على عيسى عليه‌السلام ، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه‌السلام ، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيِّين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيته عليهم‌السلام .

4 - قوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (4)

فلا شك أن إبراهيم عليه‌السلام كلمة وآية من آيات اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل من عيسى عليه‌السلام ، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزَّ وجلَّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة، ولمَّا ثبت في الامتحان، فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة

____________________

(1) شواهد التنزيل، ج1، ص101.

(2) الدر المنثور، ج1، ص60.

(3) النساء: 171.

(4) البقرة: 124.

٢٥٥

تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسى وموسى وآدم عليهم‌السلام .

والكلمات - كما جاء في الروايات - هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفى عند اللَّه عزَّ وجلَّ بالكلمات، كما أن آدم فُضّل على الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنى والآيات العظمى، وهم أهل آية التطهير عليهم‌السلام .

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزَّ وجل.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، قال: سألته عن قول اللَّه عزَّ وجل: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ما هذه الكلمات؟

قال: (هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال: أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليَّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم) (1) .

5 - قوله تعالى: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) (2) .

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم‌السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التَّامَّات التي تمّت صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلى أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلى حجج اللَّه فيما

____________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة، ص358.

(2) الأنعام: 115.

٢٥٦

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1 - وهو ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (1) . الاستكبار على الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس؛ حيث أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالى. وذلك عندما قال: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) وقد استند في تكذيبه هذا إلى القياس الباطل، وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالى، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو على النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي. ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: ( لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل، وحين إرادة الزلفى والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (3) ، فهذه الآية المباركة تقول: إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالى وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها - كما فعل إبليس - لا

____________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الأعراف: 12.

(3) سورة فاطر: 10.

٢٥٧

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ. والربط بين ترك الآية والإعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزَّ وجلَّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه، فلا زلفى إلّا بالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلى اللَّه عزَّ وجل: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ، وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلى سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1) وأن الأسماء التي يُدعى بها في مقام الدعاء والفوز على اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلى الحضرة السماوية. وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم‌السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّا اللَّه، فمَن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ له عملاً، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزَّ وجلَّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

____________________

(1) سورة الأعراف: 180.

٢٥٨

إذن؛ مَن لا يُذعِن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمجْرِمِينَ ) .

2 - وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (1) ، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (2) ، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ على أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالى، ودالّ أيضاً على أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة.

3 - قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (3) ، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفى ما في التعبير بـ(عنه) دون التعبير بـ(عليه) من دلالة على الإعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

____________________

(1) الأعراف: 9.

(2) الأعراف: 11 - 13.

(3) الأعراف: 36.

٢٥٩

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة

التوسُّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكِر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلى ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلّا بالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّا بالطاعة ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) ، فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً، والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوى والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلى اللَّه عزَّ وجل، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضى نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث إن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

____________________

(1) المائدة: 35.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

رؤساء الوزارة

الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات:

كان محمد بن عبد الملك الزيات من أسرة عادية من الدسكرة « الأعلام: ٦ / ٢٤٨ »، والظاهر أنها المقدادية الواقعة قرب بعقوبة. وقد استوزره المعتصم، ثم الواثق.

روى ابن الزيات أن المعتصم ضحك يوماً من نفسه، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً رآه فقال له: « الطالع أسدٌ وهوالطالع في الدنيا، وإنه يوجب لك الخلافة، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك، وتبني بلاداً عظيمة ويكون من شأنك كذا ومن أمرك كذا، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن!

قلت: فهذا السعود، فهل عليَّ من نحوس؟ قال: لا، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك. قلت: فهل غير هذا؟ قال: نعم، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد. قلت: ما هو؟ قال: يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك ...

ولكني ما ذكرته إلى الآن، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد، فإذا قد صح جميع ما قال!

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه لأفي له بسالف الوعد، فعاد إليَّ وذكر أنه قد مات قريباً وأخذني الضحك، إذ ترأس في دولتي أولاد السُّفَّل. قال: فانكسرنا، ووددنا أنا ما سألناه »! « نشوار المحاضرة: ٧ / ٢١٢ ».

٣٢١

وقال في تاريخ بغداد « ٣ / ١٤٥ »: « كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد، عداوةٌ شديدة، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه، وطالبه بالأموال ».

وقال البغدادي في خزانة الأدب « ١ / ٤٢٨ »: « وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ، وكان يعذب فيه أيام وزارته، فكيفما انقلب المعذب أوتحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه! وإذا قال له أحد: إرحمني أيها الوزير، فيقول له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال له: يا أمير المؤمنين إرحمني، فقال له: الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة، كما كان يقول للناس! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً، إلى أن مات فيه »!

وتدل روايتنا عن الإمام الهادي (ع) على أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات، فأخرجه ابن أبي دؤاد وعقد البيعة له، ثم بطشوا بابن الزيات!

قال خيران الأسباطي « الكافي: ١ / ٤٩٨ »: « قدمت على أبي الحسن (ع) « الإمام الهادي » المدينة فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت: جعلت فداك خلفته في عافية، أنا من أقرب الناس عهداً به، عهدي به منذ عشرة أيام. قال فقال لي: إن أهل المدينة يقولون: إنه مات. فلما أن قال لي: الناس، علمت أنه هو. ثم قال لي: ما فعل جعفر « المتوكل »؟ قلت: تركته أسوأ الناس حالاً في السجن. قال فقال: أما إنه

٣٢٢

صاحب الأمر. ما فعل ابن الزيات؟ قلت: جعلت فداك الناس معه والأمر أمره. قال فقال: أما إنه شؤم عليه. قال: ثم سكت وقال لي: لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه. يا خيران، مات الواثق، وقد قعد المتوكل جعفر، وقد قتل ابن الزيات. فقلت: متى جعلت فداك؟ قال: بعد خروجك بستة أيام ».

وذكر المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥ » أن بطشهم بابن الزيات كان بعد أشهر، قال: « سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر، فقبض أمواله وجميع ما كان له، وقلد مكانه أبا الوزير، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرين والمغضوب عليهم تنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخله قائمة مثل رؤوس المسالّ، في أيام وزارته للمعتصم والواثق، فكان يعذب الناس فيه، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له فكتب:

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنه ما تُريك العين في النومِ

لا تجزعنَّ رويداً إنها دوَلٌ

دُنْيَاً تنقَّلُ من قومٍ إلى قوم.

قال: وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصِل الرقعة اليه، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً. وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً ».

٣٢٣

وفي نشوار المحاضرة « ٨ / ١٩ »: « قال الفضل بن مروان: ولا نعلم وزيراً وَزَرَ وزارةً واحدة بلا صَرْف، لثلاثة خلفاء متَّسقين، غير محمد بن عبد الملك ».

وقال في النهاية « ١٤ / ٣٣٣ »: « أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق فطلبه فركب بعد غدائه يظن أن الخليفة بعث إليه، فأتت به الرسل إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط عليه وقُيِّدَ، وبعثوا في الحال إلى داره، فأخذ جميع ما كان فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشراب، وبعث الخليفة إلى حواصله وضياعه بسائر الإماكن، فاحتيط عليها، وأمر به أن يعذب فمنع من الطعام، وجعلوا يساهرونه، كلما أراد الرقاد نُخِسَ بالحديد، ثم وضع بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله، فأقيم عليها ووُكِّلَ به من يمنعه من الرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات ..

ويقال: إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهوتحت الضرب. ويقال: إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت لحمه وجلده، سامحه الله وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف ألف دينار ».

أقول: كان هذا الأسلوب الدموي في انتقال السلطة وما زال، أمراً ثابتاً عند الشعوب المختلفة، وثقافةً سائدةً، ففي نفس السنة التي قتل فيها المتوكل ابن الزيات، قَتَلَ ملك الروم ميخائيل أمه تدورة، بعد أن ملكت ست سنين. « النهاية: ١٤ / ٣٣٣ ».

٣٢٤

أما الديمقراطيات الغربية فقد جعلت انتقال السلطة في الغرب سلمياً، في الظاهر، لكنها لم تحقق ذلك في شعوب العالم التي تحت نفوذها، فبقي دموياً بشكل عام!

الوزير عمر بن الفرج الرخجي:

١. كتبنا له ترجمة في سيرة الإمام الجواد (ع) ووصفناه بأنه ممسحة الخلفاء، لأنهم كانوا يكلفونه بالمهمات القذرة! وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت (ع)، بعكس أخيه محمد الذي كان من خيرة أصحاب الأئمة: الرضا والجواد والهادي (ع)، وصار والياً للمتوكل على مصر لفترة. « تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٨٥ ».

٢. ذكرنا في سيرة الإمام الجواد (ع) أن عمر الرخجي كان والياًَ على مكة والمدينة وأنه حاول قتل الإمام الجواد (ع) بالسم، فقد قال كما في « الثاقب في المناقب / ٥١٧ »: « سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر! فقلت: وما هوأصلحك الله؟ قال: إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال: أمسكوا. فقلت: فداك أبي قد جاءكم الغيب؟فقال: عليَّ بالخبَّاز، فجئ به فعاتبه وقال: من أمرك أن تسمني في هذا الطعام؟ فقال له: جعلت فداك، فلان! ثم أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره »!

يقصد أنه رأى من الإمام الجواد (ع) شيئاً لو رآه أخوه محمد لصار من الغلاة فيه، واعتقد أنه يعلم الغيب، وكفر بذلك! أما هو فلايكفر ويقول إن الجواد (ع) ساحر! ثم ذكر أن الإمام (ع) كشف محاولة قتله بالسم، وأبعد الرخجي التهمة عن نفسه وأنه هو صاحب المحاولة، مع أنه كان والي مكة والمدينة! فتفكيره كتفكير مشركي قريش،

٣٢٥

فهم يرون أنهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها ولا بتفسيرها! بل عليهم أن يقولوا إن صاحب المعجزة ساحر، حتى لا يفتتن به الناس!

٣. وبعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد (ع) أمره أن يوكَّل شخصاً بابنه الإمام الهادي (ع) بعنوان معلم، ويكون تحت رقابته التامة، ويعزله عن الناس حتى لا يفتنوا به كما فتنوا بأبيه! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره، فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي (ع)!

٤. وبعد المعتصم كان الواثق يوكل اليه تعذيب الوزراء والجباة، الذين يغضب عليهم، ليستخرج منهم الأموال!

قال ابن حمدون في التذكرة « ٢ / ١٠٦ »: « لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي، ثم وجه إليه يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرِّده واضربه مائة سوط، ولاتتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ».

٥. أما المتوكل فأوكل اليه أسوأ الأدوار، ثم بطش به أسوأ البطش! فقد غضب عليه في أول خلافته، قال الطبري « ٧ / ٣٤٧ »: « وفيها « سنة ٢٣٣ » غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبسه عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله ».

وفي مروج الذهب « ٤ / ١٩ »: « سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالًا وجوهراً، نحومائة ألف وعشرين ألف دينار،

٣٢٦

وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم، على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبةً ثانية، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة، وألبسه جبة صوف، ثم رضي عنه، وسخط عليه ثالثة، وأحدر إلى بغداد، وأقام بها حتى مات »!

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي، وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ».

ووصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٢ / ١٢ »، بطش المتوكل به لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه، فوشى به القاضي الى المتوكل فأرسل جاء به الى سامراء، وأركبه على حمار وسجنه وعذبه، وباع أملاكه!

٦. ثم رضي عليه المتوكل وأوكل اليه مهمة هدم قبر الحسين (ع)، فبعثه أكثر من مرة بجيش، وقاتل أهل الكوفة حتى أخضعهم، ثم هدم القبر!

روى الطوسي في الإمالي / ٣٢٥: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال: حدثني أبي، عن عمه عمر بن فرج، قال: أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين (ع) فصرت إلى الناحية، فأمرت بالبقر فمُرَّ بها على القبور، فمرت عليها كلها، فلما بلغت قبر الحسين (ع) لم تمر عليه! قال عمي عمر بن فرج: فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي! فوالله ما جازت على

٣٢٧

قبره ولا تخطته. قال لنا محمد بن جعفر: كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد (ص) فأنا أبرأ إلى الله منه. وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته ». أي أفرح بولادتي منه.

٧. ثم أوكل اليه المتوكل حكم الحجاز ليضطهد العلويين ويفقرهم ويبيدهم! قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر »!

٨. وبعد أن نفذ أوامر المتوكل، وارتكب لأجله الجرائم، غضب عليه وعزله، وأذله! وصدق رسول الله (ص): من أعان ظالماً سلطه الله عليه. « الخرائج: ٣ / ١٠٥٨ ».

وتقدم أن المتوكل أنه سمع بعائشة بنت عمر الرخجي، فأمره في جوف الليل والمطر أن يأتيه بها، فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها! « المحاسن للجاحظ / ١١٨ ».

٩. وقد ورد أن الإمام الجواد (ع) دعا على عمر الرخجي، ففي الكافي « ١ / ٤٩٧ »: « محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن « الإمام الهادي (ع) » فقال: يا محمد حدث بآل فرج حدث؟ فقلت: مات عمر. فقال: الحمد لله، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة. فقلت: يا سيدي لوعلمت أن هذا يسرُّكَ لجئتُ حافياً أعدو إليك. قال: يا محمد أوَلا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي؟ قال

٣٢٨

قلت: لا. قال: خاطبه في شئ فقال: أظنك سكران! فقال أبي: اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه « خسره » وما كان له، ثم أخذ أسيراً، وهوذا قد مات لا رحمه الله. وقد أدال الله عز وجل منه. وما زال يديل أولياءه من أعدائه ».

أقول: استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة ٢٢٠، ووفاة الرخجي ٢٣٧، لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ.

الوزير الفتح بن خاقان:

كان للمتوكل عدة وزراء، لكن أهمهم الفتح بن خاقان الذي قُتل معه، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وعندما قَتَل المتوكل ابن الزيات كلف شخصاً إسمه أبو الوزير فتسلم أمواله الواسعة. ثم استوزر الجرجرائي، ثم استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وكان فوقهم جميعاً الفتح بن خاقان.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣ و ٦ »: « فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، ثم صرفه غلب عليه الفتح بن خاقان: وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه، أغلبَ الناس عليه، وأقربَهم منه، وأكثرهم تقدُّماً عنده ».

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٨٢ »: « الفتح بن خاقان: الأمير الكبيرالوزير الأكمل، أبومحمد التركي، شاعر مترسل بليغ مفوه، ذوسؤدد وجود ومحاسن، على لعب فيه. وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه، استوزره، وفوض إليه إمرة

٣٢٩

الشام، فبعث إليها نواباً عنه وكان أحد الأذكياء، دخل المعتصم على الأمير خاقان فمازح ابنه هذا وهوصبي، فقال: يا فتح، أيما أحسن داري أوداركم؟ فقال الفتح: دارنا إذا كنت فيها، فوهبه مئة ألف. وكان الفتح ذا باع أطول في فنون الأدب. قتل مع المتوكل سنة سبع وأربعين ».

ومدحه ابن النديم في الفهرست فقال / ١٣٠: « الفتح بن خاقان بن أحمد، في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، من أولاد الملوك، اتخذه المتوكل أخاً، وكان يقدمه على سائر ولده وأهله، وكان له خزانة « مكتبة » جمعها له علي بن يحيى المنجم لم يُرَ أعظم منها كثرةً وحسناً. وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين. قال أبوهَفَّان: ثلاثة لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ أحب َّإليهم من الكتب والعلوم: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ».

أقول: تدل أخبار الفتح على أنه كان إنساناً محترماً، وكان في عمله مع المتوكل مهنياً أميناً، لم يُؤْذِ أحداً، ولا دفع المتوكل الى ذلك. على عكس زميله عبيد الله بن يحيى بن خاقان! قال أبوالفرج « مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ »: « كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين (ع) وعفى أثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لايجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله أوأنهكه عقوبة »!

٣٣٠

بل نجد أن الفتح بن خاقان كان يعتقد أن الإمام الهادي (ع) ولي الله تعالى، ويطلب أن يدعوللمتوكل أويعالجه، فقد روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لوبعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « عصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه ». وتقدم ذلك في فصل سياسة المتوكل مع الإمام (ع).

وتذكر بعض رواياتنا أنه كان محباً للإمام الهادي (ع) ويعمل لدفع الضر ـ ر عنه، فقد روى الشيخ الطوسي في الامالي / ٢٧٥ ، عن أبي موسى المنصوري وهو أمير عباسي من أولاد المنصور، وكان منقطعاً الى الإمام الهادي (ع)، فبعث المتوكل اليه الفتح بن خاقان، ولما جاء أكرمه ودفع له مخصصاته المتأخرة.

ولما خرج قال له الفتح: لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاء! فلما دخلت إليه (ع) قال لي: يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا. فقلت: ببركتك يا سيدي قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت. قال: إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به. إذا أخلصتَ في طاعة الله واعترفتَ برسول الله (ص) وبحقنا أهل البيت، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً، لم يحرمك ».

٣٣١

وقال له الفتح: « ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجئ من قم، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به، فقل لي: من أي طريق يجئ حتى أجتنبه »!

وقد يكون الفتح صادقاً، وسيأتي ذلك في ترجمة المنصوري في أصحاب الإمام (ع).

الوزير عبيدالله بن يحيى بن خاقان:

ذكر القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٨ / ١٢ » كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من المتوكل، قال: « حدثنا أبوجعفر أحمد بن إسرائيل، قال: كان سبب رفعه عبيد الله بن يحيى: طلبُ المتوكل لحدثٍ من أولاد الكتاب يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات، لأنه كان قد أسقط الوزارة، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي واقتصر على أصحاب الدواوين، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم، وجعل التاريخ في الكتب باسم وصيف التركي، وانتصب منصب الوزارة، وإن كان لم يسم بها. فأسميَ له جماعة فاختار عبيد الله من بينهم، فحضر أول يوم، فصلَّى في الدار ركعات وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية على رسم الكتاب. قال أبوالحسين لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة، إلَّا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم، إلَّا القضاة، لا في موكب ولا غيره، فإذا كان يوم موكب، كانت الأقبية كلها سواداً، وإذا كان غير يوم موكب فربما كانت من بياض، وفي الأكثر سواداً.

٣٣٢

فلما صلَّى عبيد الله وجلس لم يجتز به أحد من الحاشية كبير ولا صغير إلَّا قام إليه قائماً وسلَّم عليه، حتى قام إلى رئيس الفراشين! فرآه بعض الحاشية فقال: من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس حتى قام إلى الكلاب؟ فقيل له فلان.

ثم أذن له المتوكل لما خلا، فدخل إليه وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية، وكان طويل العنق فظهرت عنقه. فلما رآه المتوكل أومأ بيده إلى قفاه ومسحه شبه صفعة، فأخذ عبيد الله يده فقبلها فنفق عليه وخف على قلبه وسُرَّ بذلك، واستخف روحه وقال له: أكتب. فكتب وهوقائم: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، إلى قوله عز وجل: ويَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ) . فكتب: وينصرك الله يا أمير المؤمنين نصراً عزيزاً، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له وتفاءل بذلك، وقال له: إلزم الدار، فكان يلزمها منذ السحر، إلى وقت نوم المتوكل في الليل.

وقوي أمره مع الأيام، حتى صار يعرض الأعمال، كما كان الوزراء يعرضونها وليس هو بعدُ وزير، والتاريخ لوصيف. فأمره المتوكل في بعض الأيام أن يكتب نسخة في أمر الأبنية فقال: نعم. فلما كان بعد ساعة سأله هل كتبت؟ فقال: لم يكن معي دواة. فقال: أكتب الساعة، فاستحضر دواة، وكان إيتاخ الحاجب قائماً يسمع ذلك، فلما خرج عبيد الله قال له: إنما طلبك أمير المؤمنين لتكتب بين يديه فإذا حضرت بلا دواة فلأي شئ تجئ؟ فقال له عبيد الله: وأي مدخل لك أنت في هذا، أنت حاجب أو وزير؟ فاغتاظ من ذلك فأمر به فبُطح وضربه على رجليه عشرين مقرعة، وقال له: الآن علمت أن لي فيه مدخلاً!

٣٣٣

فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة، وعاد فجعل يمشي ويعرج، فسأل المتوكل عن خبره فعرف الصورة، فغلظ عليه ذلك، وقال: إنما قَصَدَهُ إيتاخ لمحبتي له.

وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم، مما كان يعمل به في أيام الواثق، ولا يقدر له على نكبته لتمكَّنه من الأتراك.

فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، فندم إيتاخ على ما فعله، وجعل يداري عبيد الله ويثاقفه، وقوي أمر عبيد الله حتى حذف بنفسه من غير أمر إسمَ وصيف من التاريخ وأثبت إسمه. ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة، ثم خوطب بالوزارة بعد مُدَيْدَة وخلع عليه لها خلعاً أخر.

ثم قلَّده كتابة المعتز وخلع عليه، ثم قلَّده كتابة المؤيد وخلع عليه، وضمَّ المتوكل إلى ابنيه، بضعة عشر ألف رجل، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله، فكان وزيراً أميراً. فلما تمكَّن هذا التمكَّن بالجيش والمحل، عارض إيتاخ وبطَّأ حوائجه وقصده، ووضع من كُتَّابه، ولم يزل ذلك يقوى من فعله إلى أن دبَّرَ على إيتاخ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد، بعد عود إيتاخ من الحجّ ».

وقال اليعقوبي « ٢ / ٤٨٨ »: « سخط المتوكل على محمد بن الفضل كاتب ديوان التوقيع لأمر وقف عليه منه، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان ورفعه وأعلى مرتبته وولاه وأمره أن يكتب: مولى أمير المؤمنين وكان ولاؤه في الأزد ».

٣٣٤

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق « ٣٨ / ١٤٣ و ١٤٦ »: « عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج، أبوالحسن التركي، وزير المتوكل، قدم مع المتوكل دمشق فيما وجدت بخط عبد الله بن محمد الخطابي الشاعر الدمشقي، في تسمية من قدم مع المتوكل. وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومائتين. وكان عوده إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج، ثم استوزره المعتمد في شعبان سنة ست وخمسين ومئتين قال أحمد بن أبي طاهر: تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين وكان نُفي في وقت النكبة إلى بَرْقة، فاجتاز بدمشق، وعيسى بن الشيخ يتقلدها فلقيه عيسى بن الشيخ وترجل له وأعظمه وبره وأكرمه وخدمه فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية حفظ له ذلك، ولم يزل حتى قلده الديار البكرية وإرمينية ».

وكان الوزير عبيد الله بن خاقان أداة للمتوكل في هدم قبر الإمام الحسين (ع) واضطهاد الذاهبين لزيارته وتعذيبهم وقتلهم. فقد استمرت محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧، وورد فيها إسم الوزير عبيد الله بن خاقان، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف، ومعهم متطرفون من النواصب. كما ذكرنا في فصل هدم القبر الشريف.

وعاش الوزير عبيد الله بعد المتوكل، وكان وزيراً لعدة خلفاء، حتى توفي فجأة سنة ٢٦٠، في أيام شهادة الإمام العسكري (ع) فقد روى الصدوق في كمال الدين / ٤٧٥، تفتيش السلطة عن الإمام المهدي (ع) قال: « فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله

٣٣٥

عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر، وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي. وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين ».

القائد العام لجيش الخلافة: إيتاخ

عندما توفي الواثق اجتمع كبار شخصيات الدولة: « أحمد بن أبي دؤاد، وإيتاخ، ووصيف، وعمر بن فرج، وابن الزيات، وأحمد بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهوغلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هوقصير ». « الطبري: ٧ / ٢٤١ ».

فكان إيتاخ القائد الأول ويليه وصيف، لأن جيش الخلافة كان أكثره من الأتراك، فكان لقادتهم دور في اختيار الخليفة، ثم صار لهم كل الدور. وكان إيتاخ غلاماً للمعتصم، فأوكل اليه تربية المتوكل، فكان بمنزلة أبيه!

٣٣٦

قال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٤٣ »: « شرب ليلةً مع المتوكل، فعربد عليه المتوكل فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له: أنت أبي وأنت ربيتني، ودسَّ اليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج ».

قال الطبري « ٧ / ٣٥٠ »: « ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً، فاشتراه منه المعتصم في سنة ١٩٩ وكان لإيتاخ رَجْلَةٌ وبأسٌ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قِبَله رجُلٌ ومن قِبَل إسحاق رجُلٌ، وكان من أراد المعتصم أوالواثق قَتْلَهُ فعند إيتاخ يُقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم. فلما وليَ المتوكل كان إيتاخ في مرتبته إليه الجيش، والمغاربة، والأتراك، والموالي، والبريد، والحجابة، ودار الخلافة.

فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة فعربد على إيتاخ فهمَّ إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه والتزمه وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسَّ إليه من يشيرعليه بالإستئذان للحج ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدةٍ يدخلها، وخلع عليه وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ..

٣٣٧

لما قفل من مكة راجعاً إلى العراق وجَّه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب، مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أوببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.

فذكر عن إبراهيم بن المدبر أنه قال خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامر، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنوهاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. قال فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته وطرح له بالياسرية صفةً فجلس عليها، حتى قالوا قد قرب منك فركب فاستقبله فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل، قال: وكان إيتاخ في ثلاث مائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباءٌ أبيض متقلداً سيفاً بحمائل، فسارا جميعاً حتى إذا صارا عند الجسر، تقدمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير، وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه، قدموه حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أوأربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا

٣٣٨

ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولودخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قَتْلَ جميع من خالفه، أمكنه ذلك.

قال: فأتيَ بطعام قرب الليل فأكل فمكث يومين أوثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعدَّ لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم بالسلاح، وصاعد إسحاق حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة ابن زياد النصراني، بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة فحبسوا ببغداد.

فأما سليمان وقدامة فضربا فأسلم قدامة، وحبس منصور ومظفر.

وذكر عن تُرْك مولى إسحق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال لي: يا تُرك. قلت: ما تريد يا منصور. قال: أقرئ الأمير السلام وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني فلينفعني ذلك عندك. أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه.

قال تُرك: فوقفت على باب مجلس إسحاق قال لي: مالك يا تُرك، أتريد أن تتكلم بشئ. قلت: نعم. قال لي إيتاخ: كذا وكذا! قال وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً

٣٣٩

وكوزاً من ماء، ويأمر لابنيه بخوانٍ فيه سبعة أرغفة وخمس غرف « جمع غَرْفَة بمعنى ملعقة » فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق، ثم لا أدرى ما صنع بهما!

فأما إيتاخ فقُيِّدَ وصُيِّر في عنقه ثمانون رطلاً وقيدٌ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ٢٣٥ ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد، وصاحب بريد بغداد، والقضاة، وأراهم إياه، لا ضربَ به ولا أثرَ! وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أُطعم فاستسقى فمنع الماء حتى مات عطشاً، وبقي إبناه في الحبس حياة المتوكل فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، وأما منصور فعاش بعده ».

قال المسعودي في التنبيه والإشراف / ٣١٣: « بويع المتوكل جعفر بن محمد المعتصم وجفا الموالي من الأتراك واطَّرحهم وحطَّ مراتبهم، وعمل على الإستبداد بهم والإستظهار عليهم ».

أقول: لم يترك المتوكل أحداً من أولياء نعمته وأصدقائه إلا وغدر به! وقد حقد عليه الترك لغدره بقائدهم إيتاخ، وتبايعوا على قتله.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣٤ »: « ولما عزم بُغا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات، وكان مقداماً أهوج، فقال له: يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر، ولا يخرج

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477