الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154442 / تحميل: 6629
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قلبه إنّما هو شرّ ير كلّ يوم. فحزن الربّ أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسّف في قلبه. فقال الربّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الّذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء. لأنّى حزنت أنّى عملتهم. وأمّا نوح فوجد نعمة في عين الربّ.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

فقال الله لنوح نهاية كلّ بشر قد أتت أمامى. لأنّ الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفليّة ومتوسّطة وعلويّة تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لاُهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كلّ ما في الأرض يموت. ولكن اُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حىّ من كلّ ذى جسد اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا واُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كلّ دبّابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال(١) الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأنّى إيّاك

____________________

(١) الاصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٦١

رأيت بارّا لدىّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا واُنثى. ومن البهائم الّتى ليست بطاهرة اثنين ذكر واُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكرا واُنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. لأنّى بعد سبعة أيّام أيضاً أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الربّ.

ولمّا كان نوح ابن ستّمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم الّتى ليست بطاهرة ومن الطيور وكلّ ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر واُنثى. كما أمر الله نوحاً.

وحدث بعد السبعة الأيّام أنّ مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستّمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كلّ ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكلّ الوحوش كأجناسها وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض كأجناسها وكلّ الطيور كأجناسها كلّ عصفور ذى جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كلّ جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا واُنثى من كلّ ذى جسد كما أمره الله. وأغلق الربّ عليه.

وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة الّتى تحت كلّ السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كلّ ذى جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات الّتى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة مات. فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض. الناس

٢٦٢

والبهائم والدبّابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقّى نوح والّذين معه في الفلك فقطّ. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.

ثم(١) ذكر الله نوحاً وكلّ الوحوش وكلّ البهائم الّتى معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أوّل الشهر ظهرت رؤس الجبال.

وحدث من بعد أربعين يوماً أنّ نوحاً فتح طاقة الفلك الّتى كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردّدا حتّى نشفت المياه عن الأرض. ثمّ أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم يجد الحمامة مقرّا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأنّ مياها كانت على وجه كلّ الأرض فمدّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.

وكان في السنة الواحدة والستّمائة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض.

وكلّم الله نوحاً قائلا. اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكلّ الحيوانات الّتى معك من كلّ ذى جسد الطيور والبهائم وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكلّ الحيوانات وكلّ

____________________

(١) الاصحاح الثامن من سفر التكوين.

٢٦٣

الدبّابات وكلّ الطيور كلّ ما يدبّ على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للربّ. وأخذ من كلّ البهائم الطاهرة ومن كلّ الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسّم الربّ رائحة الرضا وقال الربّ في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته ولا أعود أيضاً اُميت كلّ حىّ كما فعلت. مدّة كلّ أيّام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله(١) نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء مع كلّ ما يدبّ على الأرض وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كلّ دابّة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أنّ لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقطّ من يد كلّ حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأنّ الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلّم الله نوحاً وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض الّتى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتّى كلّ حيوان الأرض. اُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الّذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسى في السحاب فتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض.فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أنّى أذكر ميثاقي الّذى بينى وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفانا لتهلك كلّ ذى جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لاذكر ميثاقاً أبديّاً بين الله وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد على

____________________

(١) الاصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٦٤

الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الّذى أنا أقمته بينى وبين كلّ ذى جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الّذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو ابوكنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض.

وابتدأ نوح يكون فلّاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كلّ أيّام نوح تسع ماءة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:

منها: أنّه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أنّ من الجائز أن يكون لنوح زوجان اُغرقت إحداهما ونجت الاُخرى.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصّه القرآن.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها: أنّه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنّها المدّة الّتى لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت: ١٤.

٢٦٥

ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصّة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيّات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدّة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيّات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصّة نوحعليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالاسرائيليّات أشبه.

٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الاُمم وأساطيرهم:

قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الاُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلّا قليلا ومنها المخالف له إلّا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيّين، وهم الّذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أنّ (زيزستروس) رأى في الحلم بعد موت والده (اُوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصّة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنّه كان في الأرض جيل من الجبّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر آشور بانيبال من نحو ستّمائة وستّين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أنّ كهنة المصريّين قالوا لسولون - الحكيم اليونانىّ - أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأوّل الّذى كان بعد ميناس الأوّل، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان عمّ الأرض كلّها إلّا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.

وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و

٢٦٦

الشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إنّ هذا الطوفان فار أوّلا من تنّور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكنّ المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنّه كان خاصّاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرّات في شكل خرافيّ آخرها أنّ ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدّها بالدسر حتّى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكنّ البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عامّ أغرق الهند كلّها، وروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكلّ هذه الروايات تتّفق في أنّ سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

وقد(١) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدّس أنّ (أهورامزدا) أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنّه جمشيد الملك) أنّه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدوابّ والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي(٢) في قصّة الطوفان: أنّه بينما كان (مانو) (هو ابن الإله عند الوثنيّين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، وممّا اندهش به أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذ (مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الّذى أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.

____________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٦٧

فلمّا كبرت أخبرت (مانو) عن السنة الّتى سيأتي فيها الطوفان ثمّ أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا اُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجفّ بقى مانو وحده. انتهى.

٦ - هل كانت نبوّتهعليه‌السلام عامّة للبشر؟

مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ما يدلّ عليه، وعلى أنّ اُولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافّة.

وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦ وقوله:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافّة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وكان كلّ نبىّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس كافّة) وأجابوا عن الآيات أنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي الّتى كانوا يسكنونها وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يونس: ٧٨.

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافرى قومي ديارا، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرّيّته هم الباقين من قومه.

والحقّ أنّ البحث لم يستوف حقّه في كلامهم، والّذى ينبغى أن يقال: أنّ النبوّة إنّما ظهرت في المجتمع الإنسانيّ عن حاجة واقعيّة إليها ورابطة حقيقيّة بين

٢٦٨

الناس وبين ربّهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينيّة لا اعتباريّة جزافيّة فإنّ من القوانين الحقيقيّة الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجوديّة، وقد قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥١.

فكلّ نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أوّل تكوّنه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الّذى فيه خيره وسعادته، والنوع الإنسانيّ أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجّه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

ومن الضرورىّ عندنا أنّ هذا الكمال لا يتمّ للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيويّة وكثرة الأعمال الّتى يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العمليّ الّذى يبعثه إلى الاستفادة من كلّ ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.

غير أنّ الأفراد أمثال وفي كلّ واحد منهم من العقل العمليّ والشعور الخاصّ الإنسانيّ ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العمليّ، واضطرّهم ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ بأن يعمل الكلّ للكلّ وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخّر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢.

وهذا الّذى ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاونيّ اضطرارىّ له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوّة الرقباء فهو في الحقيقة مدنىّ تعاونيّ بالطبع الثانيّ وإلّا فطبعه الأوّلىّ أن ينتفع بكلّ ما يتيسّر له الانتفاع حتّى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوى الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه واُخذ يسترقّ الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ وقال:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق: ٨.

ومن الضرورىّ أنّ الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد لا يتمّ إلّا بقوانين يحكم

٢٦٩

فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا ممّا استمرّت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلّا ويجرى فيه رسوم وسنن جرياناً كليّاً أو أكثريّاً ، التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي موادّ وقضايا فكريّة تطبّق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلّيّاً أو أكثريّاً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنّاً فهى اُمور متخلّلة بين كمال الإنسان ونقصه، وأشياء متوسّطة بين الإنسان وهو في أوّل نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أنّ من الواجب في عناية الله أن يهدى الإنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حدّ ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الّذى يبعثها إليه نظام الكون والجهازات الّتى جهّز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميّز خيره من شرّه وسعادته من شقائه كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس: ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى اُصول وقوانين اعتقاديّة وعمليّة يتمّ له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإنّ العناية الإلهيّة بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينيّة المحضة.

ولا يكفى في ذلك ما جهّز به الإنسان من العقل - وهو ههنا العمليّ منه - فإنّ العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أنّ المتخلّفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلّهم عقلاء ممتّعون بمتاع العقل مجهّزون به.

فظهر أنّ هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحقّ ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكّر والتعقّل وهو طريق الوحى، وهو نوع تكليم إلهىّ يعلّم

٢٧٠

الإنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيويّة والاُخرويّة.

فإن قلت: الأمر سواء فإنّ شرع النبوّة لم يأت بأزيد ممّا لو كان العقل لأتى به فإنّ العالم الإنسانيّ لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحى أن يدير المجتمع الإنسانيّ ويركّبه صراط الحقّ فما هي الحاجة إليه؟

قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أنّ العناية الإلهيّة من واجبها أن تهدى المجتمع الإنسانيّ إلى تعاليم تسعده وتكمّله لو عمل بها وهى الهداية بالوحى ولا يكفى فيها العقل، وجهة أنّ الواقع في الخارج والمتحقّق بالفعل ما هو؟ وإنّما نبحث في المقام من الجهة الاُولى دون الثانية، ولا يضرّ بها أنّ هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلّا قليلا. وذلك كما أنّ العناية الإلهيّة تهدى انواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كلّ نوع دون الوصول إلى غايته النوعيّة ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعيّ.

وبالجملة فطريق النبوّة ممّا لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهيّة وإلّا لم تتمّ الحجّة بمجرّد العقل لأنّ له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنّما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزّل الله على المجتمع الإنسانيّ دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعيّة دون أن يخصّ بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضرورىّ أن يكون أوّل شريعة نزلت عليهم شريعة عامّة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عزّ من قائل:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً

٢٧١

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، فبيّن أنّ الناس كانوا أوّل ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيويّة ثمّ ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادّة الخصومة والنزاع.

ثمّ قال تعالى فيما امتنّ به على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى: ١٣. ومقام الامتنان يقضى بأنّ الشرائع الإلهيّة المنزلة على البشر هي هذه الّتى ذكرت لا غير، وأوّل ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامّة للبشر كلّهم وخاصّة في زمنهعليه‌السلام لكان هناك إمّا نبىّ آخر ذو شريعة اُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإمّا إهمال سائر الناس غير قومهعليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أنّ نبوّة نوحعليه‌السلام كانت عامّة، وأنّ له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأنّ كتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة، وأنّ قوله تعالى في الآية السابقة( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من اُولى العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم).

وظهر أيضاً أنّ ما يدلّ من الروايات على عدم عموم دعوتهعليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضاعليه‌السلام أنّ اُولى العزم من الأنبياء خمسة لكلّ منهم شريعة وكتاب ونبوّتهم عامّة لجميع من سواهم نبيّا أو غير نبىّ، وقد تقدّم الحديث في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ - هل الطوفان كانت عامّة لجميع الأرض؟ تبيّن الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإنّ عموم دعوتهعليه‌السلام يقضى بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أنّ المراد بسائر الآيات الدالّة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح

٢٧٢

عليه‌السلام :( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦، وقوله حكاية عنه:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله: و( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين فمن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصّاً بأرض قوم نوحعليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أمّا قوله في نوحعليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيّاً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأمّا قوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فليس نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها فإنّ المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنى أرض مصر، وقوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) فالمراد بها مكّة، وقوله:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) والمراد بها الأرض الّتى كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيّته، وهذا يقتضى أن يكون الطوفان في البقعة الّتى كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلّها إلّا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجيّة - يقولون إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس

٢٧٣

كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثمّ أشار إلى ما استدلّ به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أنّ الماء قد صعد إليها مرّة من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض هذا.

وردّ عليه بأنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنّه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ثمّ قال ما ملخّصه: أنّ هذه المسائل التاريخيّة ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبيّنها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدّم إنّه ظاهر النصوص ولا نتّخذه عقيده دينيّة قطعيّة فإن أثبت علم الجيولوجيّة خلافه لا يضرّنا لأنّه لا ينقض نصّاً قطعيّاً عندنا. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأمّا قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إنّ صعود الماء إليها في أيّام معدودة لا يكفى في حدوثها ! ففيه أنّ من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثمّ تبقى عليها بعد النشف فإنّ ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيّام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كلّه قد فاته ما ينصّ عليه الآيات أنّهعليه‌السلام اُمر أن يحمل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإنّ ذلك كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الّذى هو بمنزلة الجميع.

فالحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّا للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر اُغرقوا جميعاً، ولم يقم لهذا الحين حجّة قطعيّة تصرّفها عن هذا الظهور.

٢٧٤

وقد كنت سألت صديقى الفاضل الدكتور سحابيّ المحترم اُستاذ الجيولوجيا بكلّيّة طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجيّة في أمر هذا الطوفان العامّ إن كان فيها ما يؤيّد ذلك على وجه كلّىّ فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصّلا في فصول:

١ - الأراضي الرسوبيّة: تطلق الأراضي الرسوبيّة في الجيولوجيا على الطبقات الأرضيّة الّتى كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات الّتى غطّتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبيّة بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكرويّة المدوّرة فإنّها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادّة الأطراف والزوايا حوّلتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثمّ إنّ الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبيّة في البطائح فغالب الأراضي الترابيّة من هذا القبيل تخالطها أو تكوّنها رمال بالغة في الدقّة، وقد حملها لدقّتها وخفّتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبيّة وقد غطّتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أوّلا - أمارة أنّ تلك الطبقات لم تتكوّن في زمان واحد بعينه - وثانياً - أنّ مسير المياه والسيول أو شدّة جريانها قد تغيّر بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتّضح بذلك أنّ الأراضي الرسوبيّة كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامّة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي الّتى تحكى عن جريان مياه كثيرة جدّاً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقيّ

٢٧٥

الصين، ومصر، وأكثر قطعات إمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبيّة في بعض الأماكن إلى مآت الأمتار كما أنّها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج ممّا مرّ أوّلا: أنّ سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربّما غطّت معظم بقاعها.

وثانياً: أنّ الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبيّ في بعض الأماكن - لم يحدث مرّة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرّر في مآت من السنين كلّما حدث مرّة كون طبقة رسوبيّة ثمّ إذا انقطع غطّتها طبقة ترابيّة ثمّ إذا عاد كوّن اُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبيّة في دقّة رمالها وعدمها يدلّ على اختلاف السيلان بالشدّة والضعف.

٢ - الطبقات الرسوبيّة أحدث القشور والطبقات الجيولوجيّة: ترسب الطبقات الرسوبيّة عادة رسوباً اُفقيّاً ولكن ربّما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبيّة قويّة شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الاُفقيّة إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكوّنت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أنّ الطبقات الرسوبيّة والقشور الاُفقيّة الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكوّنة على البسيط، والدلائل الفنّيّة الموجودة تدلّ على أنّ عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا(١) .

٣ - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها . كان تكوّن القشور الرسوبيّة الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتّساعها بأطرافها فارتفعت

____________________

(١) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالّتيك وسائر المناطق الشماليّة من طبقات رسوبيّة اُفقيّة باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجيّة لجهات مذكورة في محلّها.

٢٧٦

مياهها وغطّت أكثر سواحلها، وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانيّة انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من اُوربه بالكلّيّة، وكانت اُوربه من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّىّ إلى هذا الحين فانفصلتا باتّساع البحر المتوسّط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقيّ وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندنيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبىّ جزيرة اليابان متّصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقيّ إلى هذا الحين فانفصلت وتحوّلت إلى صورتها الفعليّة، وكذا انقطاع إمريكا الشماليّة من جهة شمالها عن شمال اُوربه أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحوّلات الأرضيّة الداخليّة آثار قويّة في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحليّة المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسّع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبيّة انكشف عنها ماء الخليج(١) .

٤ - العوامل المؤثّرة في إزدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان . الشواهد الجيولوجيّة الّتى أشرنا إلى بعضها تؤيّد أنّ النزولات الجوّيّة كانت غير عاديّة في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانيّة وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيّرات جوّيّة هامّة خارقة للعادة قطعاً.

فكان الهواء حارّاً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطّى معظم النصف الشماليّ من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويّاً أنّ المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشماليّة.

____________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشيّة بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشرعيّة الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.

٢٧٧

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجوّ وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادىّ وتعقّبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثمّ استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصّة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب اُوربه وشمال إفريقا كجبال(١) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق اُخرى قديمة وتوسّعها ثمّ تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبيّة جديدة.

وممّا كان يمدّ الطوفان السماويّ في شدّة عمله يزيد حجم السيول الجارية أنّ حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائيّة في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطريّة، ويزيد في قوّة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أنّ الذخائر الأرضيّة متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأرضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الّذى أفرغته السيول بالتفجير والمصّ.

٥ - نتيجة البحث . وعلى ما قدّمناه من البحث الكلّىّ يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيّات الطوفان الواقع في زمن نوحعليه‌السلام كقوله تعالى:

____________________

(١) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليونى سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.

٢٧٨

( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: ١٢، وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) هود: ٤٠، وقوله:( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر) هود: ٤٤. انتهى.

وممّا يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد(١) طهران في هذه الأيّام وملخّصه: أنّ جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركيّ عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقيّ تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطى القياس أنّها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطى أنّها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثى حجم مركب (كوئين مارى) الإنجليزيّة الّتى طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنّها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟عليه‌السلام .

٦ - عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدلّ على أنّهعليه‌السلام عمّر طويلا، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار الإنسانيّة لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتّى ذكر بعضهم أنّ القدماء كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلّا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أنّ طول عمرهعليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في قصص الأنبياء في خصائصهعليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوّة. انتهى.

____________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أوّل سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الاول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٩

والحقّ أنّه لم يقم حتّى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلىّ بأزيد من الأعمار الطبيعيّة اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلّما وجدنا معمّرا عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستّين وجدناه بسيط العيش قليل الهمّ ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقى بعض الأعمار في السابقين إلى مآت من السنين.

على أنّ الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوحعليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدّم كلام في المعجزة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٧ - أين هو جبل الجودى : ذكروا أنّه بديار بكر من موصل في جبال تتّصل بجبال أرمينيّة، وقد سمّاه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: و الجودىّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوحعليه‌السلام ، ويسمّى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطّلاع: الجودىّ مشدّدة جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لمّا نضب الماء.

٨ - ربّما قيل : هب إنّه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الّذى على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كلّ هلاك ولو كان عامّا عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامّة الّتى تهلك الاُلوف ثمّ الاُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول)

١ - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ : الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

عن محبته، وأريد أن آمرك بشئ فعرفني كيف قلبك فيه، فقال: أنت تعلم كيف أفعل، فقل لي ما شئت حتى أفعله ثم إنه أمسك عنه مدة مديدة ودعا به، فقال: يا باغر، قد حضرت حاجة أكبر من الحاجة التي قدمتها فكيف قلبك؟ قال: قلبي على ما تحبُّ فقل ما شئت حتى أفعله، فقال: هذا المنتصر ـ قد صح عندي أنه على إيقاع التدبير عليَّ وعلى غيري حتى يقتلنا، وأريد أن أقتله فكيف ترى نفسك في ذلك؟

ففكر باغر في ذلك ونكس رأسه طويلًا وقال: هذا لا يجئ منه شئ، قال: وكيف؟ قال: يقتل الابن والأبُ باقٍ؟ إذاً لا يستوي لكم شئ، ويقتلكم أبوه كلكم به، قال: فما ترى عندك؟ قال: نبدأ بالأب أولاً فنقتله، ثم يكون أمر الصبي أيسر من ذلك، فقال له: ويحك وتفعل هذا ويتهيأ؟ قال: نعم أفعله، وأدخل عليه حتى أقتله، فجعل يردد عليه، فيقول: لا تفعل غير هذا، ثم قال له: فادخل أنت في أثري فإنْ قتلته وإلا فاقتلني وضَعْ سيفك عليَّ، وقل: أراد أن يقتل مولاه، فعلم بغا حينئذ أنه قاتله، وتوجه له في التدبير في قتل المتوكل ».

وقد روى الطبري « ٧ / ٤٣٤ » تفاصيل كثيرة، في مكافأة باغر على قتله المتوكل، وفي صراع الأتراك فيما بينهم، وصراعهم مع الخلافة.

٣٤١

القائد وصيف التركي:

١. قال الصفدي في الوافي « ٢٧ / ٢٥٩ »: « الأمير التركي وصيف، غلام الإمام المتوكل، كان من كبار الأمراء القواد، استولى على المعتز، واحتجرَ واصطفى لنفسه الأموال والذخائر، فشغبت عليه الفراغنة والأشروسنية، وطالبوه بالأرزاق، فقال مالكم عندنا إلا التراب! فوثبوا عليه وقتلوه بالدبابيس، وقطعوا رأسه ونصبوه على رمح في سنة ثلاث وخمسين ومائتين.

وكان وصيف هو وبغا الشرابي، قد حجرا على المستعين، حتى قال الشاعر:

خليفةٌ في قفصٍ

بينَ وصيفٍ وبَغَا

يقول ما قالا له

كما تقول البَبَّغَا

وكان في الأصل مملوكاً لشيخ من أهل قم، اشتراه لما سُبِيَ من الديلم، وأحسن تربيته، وأسلمه مع ابنه في المكتب، وكان إذا وقع في يده شئ تركه عند بقال في المحلة. ثم إنه بعد بلوغه تعلق بالعمل بالسلاح، ثم توجه مع بعض الجند إلى خراسان بعدما أخذ ماله من عند البقال، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن اتصل بالمتوكل. ولما تولى وصيف على قم طلب الشيخ أستاذه واعترف له بالرق، فأنكر ذلك، فقال له: أنا مملوكك فلان، ودفع إليه ثلاث بدر وقماشاً ودواب وطيباً بمثل ذلك، وأمر لابن الشيخ بعشرة آلاف درهم، وبعث إلى زوجة الشيخ وبناته مالاً كثيراً، ودفع إلى البقال خمس مائة دينار، وقال: يا أهل قم، ما على وجه الأرض أحدٌ أوجب حقاً عليَّ منكم، إلا أني أخالفكم في التشيع ».

٢. كان وصيف قائداً كبيراً عند الواثق، ولما مات عمل لتولية المتوكل: « لما توفي حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد

٣٤٢

بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق وهوغلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية فإذا هوقصير فقال لهم وصيف: أما تتقون الله تُولون مثل هذا الخلافة، وهولا يجوز معه الصلاة ».

فاستقر رأيهم على تولية جعفر وجاؤوا به من السجن. « الطبري: ٧ / ٣٤١ ».

ولهذا صار وصيف مقرباً عند المتوكل، وقد ورد أنه عندما جاء أحمد بن حنبل الى بغداد لقيه في الطريق فلم يسلم عليه مباشرةً، وأرسل له شخصاً يسلم عليه نيابةً عنه ويقول له: حرض المتوكل على خصمك ابن أبي دؤاد ليعزله!

قال الذهبي في تاريخه « ١٨ / ٨٧ »: « قال حنبل في حديثه فأخبرني أبي قال: لما دخلنا إلى العساكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف.

وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يَقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به. فما رد عليه أبوعبد الله شيئاً. وجعلت أنا أدعولأمير المؤمنين، ودعوت لوصيف ».

وهذا يدل على غطرسة وصيف، وعلى أن نظرتهم لأحمد بن حنبل كانت عادية!

٣. وعندما أراد المتوكل أن يغدر بإيتاخ، أرسله الى الحج: « فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ». « الطبري: ٧ / ٣٥٠ ».

٣٤٣

٤. ثم غدر المتوكل بوصيف، فقلص صلاحياته وكتب فرامين بمصادرة أمواله في البلاد.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٣٨ »: « وانحرفت الأتراك على المتوكل لمصادرته وصيفاً وبغا، حتى اغتالوه ».

وقال ابن تغري في مورد اللطافة « ١ / ١٥٧ »: « وكان المتوكل بايع ولده المنتصر محمداً. ثم إنه أراد أن يعزله ويولي ولده المعتز لمحبته لأمه قبيحة، فسأل المتوكل ولده المنتصر أن ينزل عن العهد لأخيه المعتز فأبى، فغضب المتوكل عليه، وصار يحضره المجالس العامة ويحط منزلته، ويتهدده ويشتمه ويتوعده.

ثم اتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لكونه صادر وصيف التركي وبغا، فاتفق الأتراك حينئذ مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل ».

٥. قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٩ »: « وسكر المتوكل سكراً شديداً، ومضى من الليل إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم، فهجموا علينا، وقصدوا المتوكل، وصعد باغر وآخر إلى السرير فصاح الفتح: ويلكم مولاكم. وتهارب الغلمان والجلساء والندماء، وبقي الفتح، فما رأيت أحداً أقوى نفساً منه بقي يمانعهم، فسمعت صيحة المتوكل إذ ضربه باغر بالسيف المذكور على عاتقه، فقده إلى خاصرته وبعج آخر الفتح بسيفه، فأخرجه من ظهره، وهوصابر لايزول، ثم طرح نفسه على المتوكل فماتا، فَلُفَّا في بساط ثم دفنا معاً.

وكان بغا الصغير استوحش من المتوكل لكلام، وكان المنتصر يتألف الأتراك، لا سيما من يُبعده أبوه ».

٣٤٤

وفي سمط النجوم « ٣ / ٤٦٦ »: « حملهم الطغيان على الفتك بالخليفة المتوكل، لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفاً التركي لكثرة أمواله وخزائنه، فتعصب له باغر التركي، وانحرف الأتراك عن المتوكل فدخل باغر ومعه عشرة أتراك، وهو في مجلس أنسه، بعد مضي هزيع من الليل، فصاح الفتح: ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم! وهرب من كان حوله من الغلمان والندمان على وجوههم، فبقي الفتح وحده والمتوكل غائب سكران، فضربه باغر بالسيف على عاتقه فقدَّه إلى حقوه، فطرح الفتح نفسه عليه، فضربهما باغر ضربة ثانية فماتا جميعاً، فلفهما معاً في بساط ومضى هو ومن معه، ولم ينتطح في ذلك عنزان ».

٦. وأرسل المنتصر وصيفاً الى غزو الروم، وكتب له أن يبقى هناك أربع سنين، ففي تاريخ الطبري « ٧ / ٤٠٨ »: « كتب معه المنتصر كتاباً إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر، إذا هوانصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها ».

وهذا يدل على أن المنتصر أخذ يعمل للتخلص من وصيف، فلما قتل المنتصر عاد وصيف وبغا، وصار مقربين عند المستعين الذي صار خليفةً بعد المنتصر.

وفي التنبيه والإشراف / ٣١٥: « وبويع المستعين أحمد بن محمد المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر، وغلب على التدبير والأمر والنهي أوتامش بن أخت بغا الكبير ولم يزل مقيماً بسر من رأى إلى أن قَتَلَ وصيفٌ وبُغَا باغرَ التركي أحد المتقدمين في قتل المتوكل، فشغب الموالي وتحزبوا، فانحدر ومعه وصيف وبغا إلى مدينة السلام، لثلاث خلون من المحرم سنة ٢٥١. وبايع الأتراك بسر من رأى أبا عبد الله المعتز لحرب من بمدينة السلام، فكانت الحروب بينهم سنة إلا أياماً يسيرة، والقيم بأمر المستعين محمد

٣٤٥

بن عبد الله بن طاهر، إلى أن خلع المستعين نفسه، وسَلَّم َالخلافة إلى المعتز لليلتين خلتا من المحرم سنة ٢٥٢ وصار إليه وصيف وبغا فردهما إلى مراتبهم، ولم يزل يعمل في الحيلة عليهما إلى أن شغب الموالي فقتلوا وصيفاً الجمعة سلخ شوال سنة ٢٥٣ ».

القائد صالح بن وصيف:

برز صالح بن وصيف بعد قتل أبيه، وكانت له أدوار في قيادة الترك لا تقل عن أبيه، فكان الأمر الناهي في خلافة المستعين، وهوالذي اتفق مع بُغا على قتل باغر قاتل المتوكل، فثار عليهما الجند الأتراك، فهربا مع أبيه وصيف والخليفة المستعين الى بغداد، فبايع الأتراك المعتز، ووقعت الحرب بينه وبينه والمستعين، ثم اتفقوا على خلع المستعين وتثبيت المعتز في الخلافة.

ورجع صالح بن وصيف الى سامراء وبايع المعتز، ثم جاء بالمهتدي من بغداد الى سامراء ونصبه خليفة، وأجبر المعتز على خلع نفسه، ثم قتله، وصار الآمر الناهي في دولة المهتدي، حتى جاء القائد التركي موسى بن بُغا بجيشه من الري فقتل صالح بن وصيف، ثأراً للمعتز، وقتل المهتدي أيضاً!

في تاريخ الخلفاء / ٢٦٤، ملخصاً: « وقدم موسى بن بُغا من الري يريد سامرا، لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز، وأخذ أموال أمه ومعه جيشه، فصاحت العامة على ابن وصيف: يا فرعون قد جاءك موسى! فطلب موسى من بغا الإذن على المهتدي فلم يأذن له، فهجم بمن معه عليه وهوجالس في دار العدل فأقاموه وحملوه على فرس ضعيفة وانتهبوا القصر، وأدخلوا المهتدي إلى دار ناجود وهو يقول: يا موسى إتق الله، ويحك ما تريد! قال: والله ما نريد إلا خيراً، فاحلف

٣٤٦

لنا ألا تمالئ صالح بن وصيف، فحلف لهم، فبايعوه حينئذ ثم طلبوا صالحاً ليناظروه على أفعاله فاختفى، وندبهم المهتدي إلى الصلح فاتهموه أنه يدري مكانه، فجرى في ذلك كلام، ثم تكلموا في خلعه. فخرج إليهم المهتدي من الغد متلقداً بسيفه، فقال: قد بلغني شأنكم، لست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت وهذا سيفي! والله لأضربن ما استمسكت قائمته بيدي، أما دينٌ، أما حياءٌ، أما رعةٌ؟ لم يكن الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله؟

ثم قال: ما أعلم عِلْمَ صالح، فرضوا وانفضوا. ونادى موسى بن بغا: من جاء بصالح فله عشرة آلاف دينار، فلم يظفر به أحد، واتفق أن بعض الغلمان دخل زقاقاً وقت الحر، فرأى باباً مفتوحاً فدخل فمشى في دهليز مظلم، فرأى صالحاً نائماً، فعرفه وليس عنده أحد، فجاء إلى موسى فأخبره، فبعث جماعة فأخذوه وقُطعت رأسه، وطِيفَ به فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحاً أحد أمراء الأتراك أيضاً، أو يمسكهما، ويكون هوالأمير على الأتراك كلهم! فأوقف بكيال موسى على كتابه وقال: إني لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا، فأجمعوا على قتل المهتدي وساروا إليه، فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأشروسنية، وقُتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف، ودام القتال إلى أن هُزم جيش الخليفة وأُمسك هو، فعُصِر على خصيتيه فمات، وذلك في رجب سنة ست وخمسين »!

٣٤٧

رئيس الأطباء بخت يشوع:

١. معنى بختيشوع: عبد المسيح، فالبخت في اللغة السريانية العبد، ويشوع عيسى (ع). وكان بختيشوع يلحق بأبيه في معرفته بصناعة الطب ومزاولته لأعمالها، وخدم هارون الرشيد، وتميز في أيامه ». « طبقات الأطباء / ١٨٦ ».

« جورجس بن جبرئيل: طبيب سرياني الأصل. هوأبو بختيشوع الطبيب ورأس هذا البيت. كان رئيس الأطباء في جنديسابور، واعتل المنصور العباسي، فأُرشد إليه، فاستدعاه فقدم بغداد سنة ١٤٨ ، فأحبه المنصور، فمكث حظياً عنده ونقل له كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية. ثم اعتل جورجس وطلب الأوبة إلى جنديسابور فأذن له المنصور، فعاد سنة ١٥٢ ومات فيها.

من تصانيفه عدا ما ترجمه إلى العربية: كناش، ألفه بالسريانية وترجمه حنين بن إسحاق الى العربية ». « الأعلام: ٢ / ١٤٦ »

٢. وفي طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة / ٢٠١: « بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع: كان سريانياً نبيل القدر، وبلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال، ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره، وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرش. ونقل حنين بن إسحاق لبختيشوع بن جبرائيل كتباً كثيرة من كتب جالينوس إلى اللغة السريانية والعربية.

قال فثيون الترجمان: لما ملك الواثق الأمر، كان محمد بن عبد الملك الزيات وابن أبي دؤاد يعاديان بختيشوع ويحسدانه على فضله وبره ومعروفه وصدقاته، وكمال

٣٤٨

مروءته، فكانا يغريان الواثق عليه إذا خلوا به، فسخط عليه الواثق وقبض على أملاكه وضياعه، وأخذ منه جملة طائلة من المال، ونفاه إلى جندي سابور، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين، فلما اعتل بالإستسقاء وبلغ الشدة في مرضه، أنفذ من يحضر بختيشوع، ومات الواثق قبل أن يوافي بختيشوع.

ثم صلحت حال بختيشوع بعد ذلك في أيام المتوكل حتى بلغ في الجلالة والرفعة وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة ومباراة الخلافة في الزي واللباس والطيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ في النفقات، مبلغاً يفوق الوصف، فحسده المتوكل وقبض عليه.

قال فثيون الترجمان: كان المعتز بالله قد اعتل في أيام المتوكل علة من حرارة امتنع معها من أخذ شئ من الأدوية والأغذية، فشق ذلك على المتوكل كثيراً، واغتم به وصار إليه بختيشوع والأطباء عنده وهوعلى حاله في الإمتناع، فمازحه وحادثه، فأدخل المعتز يده في كُمِّ جُبةِ وَشْيٍ يمانٍ مُثقله، كانت على بختيشوع وقال: ما أحسن هذا الثوب، فقال بختيشوع: يا سيدي ما له والله نظير في الحسن وثمنه عليَّ ألف دينار، فكل لي تفاحتين وخذ الجبة، فدعا بتفاح فأكل اثنتين، ثم قال له: تحتاج يا سيدي الجبة إلى ثوب يكون معها، وعندي ثوب هو أخٌ لها فاشرب لي شربة سكنجبين وخذه، فشرب شربة سكنجبين، ووافق ذلك اندفاع طبيعته. فبرأ المعتز وأخذ الجبة والثوب وصلح من مرضه.

فكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبداً لبختيشوع.

٣٤٩

٣. وحدث أبومحمد بدر بن أبي الإصبع، عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن الجراح عن أبيه، أن المتوكل قال يوماً لبختيشوع: أدعني. فقال: السمع والطاعة فقال: أريد أن يكون ذلك غداً. قال: نعم وكرامة. وكان الوقت صائفاً وحره شديداً. فقال بختيشوع لأعوانه: وأصحابه أمرنا كله مستقيم إلا الخيْش فإنه ليس لنا منه ما يكفي، فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش بسر من رأى ففعلوا ذلك، وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع، فقطع لداره كلها صونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها، خيْشاً، حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيَّش. وإنه فكر في روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة، فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأى من البطيخ، وأحضر ـ أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يَدْلِكُونَ الخيشَ بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه ..

وأمر طباخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جونة « طبق » في كل جونة بابُ خبز سَميد دَسْتٍ رِقاق، وزن الجميع عشرون رطلاً، وحَمَلٌ مشويٌّ وجَدْيٌ باردٌ، وفائقةٌ ودجاجتين مصدرتان، وفرخان ومصوصان، وثلاثة ألوان، وجام حلواء.

فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجِدَّته فقال: أي شئ ذهب برائحته، فأعاد عليه حديث البطيخ، فعجب من ذلك، وأكل هو وبنو عمه والفتح بن خاقان على مائدة واحدة، وأجلس الأمراء والحجاب على سماطين عظيمين، لم

٣٥٠

يُرَ مثلهما لأمثاله، وفُرقت الجُوَنُ على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وغيرهم من الحاشية، لكل واحد جونة.

وقال: قد أمنتُ ذمَّهم لأنني ما كنت آمن لوأطعموا على موائد، أن يرضى هذا ويغضب الآخر، ويقول واحد شبعت ويقول آخر لم أشبع، فإذا أعطى كل إنسان جونةً من هذه الجُوَن كفته، واستشرف المتوكل على الطعام، فاستعظمه جداً. وأراد النوم فقال لبختيشوع: أريد أن تنومني في موضع مضئ، لا ذباب فيه، وظن أنه يتعنته بذلك، وقد كان بختيشوع تقدم بأن تجعل أجاجين السيلان « أوني الدبس » في سطوح الدار، ليجتمع الذباب عليه، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة! ثم أدخل المتوكل إلى مربع كبير سقفه كله كُواء فيها جامات يضئ البيت منها، وهومخيَّش مُظَهَّر بعد الخيش بالدبقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور، فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب، لا يدري ما هي، لأنه لم يرَ في البيت شيئاً من الروائح والفاكهة والأنوار، ولا خلف الخيش لا طاقات، ولا موضع يجعل فيه شئ من ذلك، فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها، فخرج يطوف فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات، محشوة بصنوف الرياحين والفواكه واللخالخ والمشام، التي فيها التفاح والبطيخ المستخرج ما فيها، المحشوة بالنمام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور، والشراب العتيق، والزعفران الشعر.

٣٥١

ورأى الفتح غلماناً قد وُكلوا بتلك الطاقات، مع كل غلام مجمرة فيها نِدٌّ يسجره ويبخر به، والبيت من داخله إزارٌ من اسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين، تخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت.

فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده، كثر تعجبه منه، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وادعى شيئاً وجده من التياث بدنه، وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ له مالاً كثيراً لا يُقدر، ووجد له في جملة كسوته أربعة آلاف سراويل دبيقي سيتيزي، في جميعها تكك إبريسم أرميني.

وحضر الحسين بن مخلد فختم على خزانته، وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها وباع شيئا كثيراً، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وتوابل، فاشتراه الحسين بن مخلد بستة آلاف دينار. وذكر أنه باع من جملته بمبلغ ثمانية آلاف دينار.

ثم حسده حمدون ووشى إلى المتوكل وبذل فيما بقي في يده مما ابتاعه ستة آلاف دينار، فأجيب إلى ذلك وسلم إليه فباعه بأكثر من الضعف.

وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين للهجرة.

ولما توفي بختيشوع خلف عبيد الله ولده وخلف معه ثلاث بنات، وكان الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال، فتفرقوا واختفوا، وكان موته يوم الأحد لثمان بقين من صفر، سنة ست وخمسين ومائتين ».

٣٥٢

٤. وفي معرفة الجواهر لأبي الريحان البيروني « ١ / ٧٠ »: « دخل بختيشوع على المتوكل يوم مهرجان « عيد نيروز الفرس » فقال: أين هديتك؟ فقال: هديتي لم يملكها خليفة قبلك ولا مَلِك! وأخرج ملعقة زبرجد توزن ثمانية مثاقيل، وحكى عن أبيه جبريل أنه فصد دنانير جارية يحيى بن خالد، وأنه لما عاد إليها للتثنية وجدها تأكل رماناً بهذه الملعقة، وحين تم التسريح وشد العرق قالت له: خذ هذه الملعقة فأخذتها. فاعجب بها المتوكل وقال بحقٍّ ما أهلكوا أنفسهم!

وأحضر عتاب الجوهرى لتقويمها فنكل وقال: ما أعرف لهذه قيمة »!

٥. وفي تاريخ الطبري « ٣ / ٣٨٢ »: « وفيها « سنة ٢٤٤ » غضب المتوكل على بختيشوع وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين ».

وفي تاريخ الطبري « ٧ / ٣٨٧ »: « وفيها « سنة ٢٤٥ » ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب ».

أقول: تدل هذه النصوص على أن المتوكل شخصية مريضة، فبدل أن يُقدر طبيبه ويحبه، ويستفيد من فكره ونبوغه لنفع المسلمين، أونفعه الشخصي، حسده وحقد عليه ودمر حياته، وخسَّرَ المجتمع طبيباً نابغاً!

فلا شك أنه مريض بالحسد، وصاحب شخصية معقدة غير سوية.

٣٥٣

تسليط العلماء النواصب والمجسمة على الأمة

تقدم في ترجمة المتوكل أنه قَرَّبَ النواصب والمجسمة: « فكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بنى عبس، وكانا من حفاظ الناس. فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية! فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور، ووضع له منبر، واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً من الناس فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة. وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان، واجتمع عليه نحومن ثلاثين ألفاً ». « تاريخ بغداد: ١٠ / ٦٧ ».

وتقدمت ترجمة بعضهم، ولا يتسع المجال لترجمة الجميع، ومنهم يحيى بن محمد بن صاعد عالم جسمة الحنابلة، وجده من غلمان المنصور. « العرش لابن أبي شيبة / ٢٦ ».

هشام بن عمار الدمشقي:

وهذه فقرات من ترجمته من سيرأعلام النبلاء: ١١ / ٤٢٠، قال: « الإمام الحافظ العلامة المقرئ، عالم أهل الشام، أبوالوليد السلمي وحدث عنه من أصحاب الكتب: البخاري، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة، وروى الترمذي عن رجل عنه، ولم يلقه مسلم، ولا ارتحل إلى الشام ..

٣٥٤

قال صالح بن محمد جزرة: كان هشام بن عمار يأخذ على الحديث ولا يحدث ما لم يأخذ. كنت شارطت هشاماً أن أقرأ عليه بانتخابي ورقة، فكنت آخذ الكاغد الفرعوني وأكتب مقرمطاً، فكان إذا جاء الليل أقرأ عليه إلى أن يصلي العتمة، فإذا صلى العتمة يقعد وأقرأ عليه فيقول: يا صالح ليس هذه ورقة، هذه شقة!

قال: وكان يأخذ على كل ورقتين درهماً ويشارط ويقول: إن كان الخط دقيقاً فليس بيني وبين الدقيق عمل سمعت محمد بن عوف يقول: أتينا هشام بن عمار في مزرعة له، وهوقاعد على مورج له وقد انكشفت سوءته، فقلنا: يا شيخ غط عليك. فقال: رأيتموه لن ترمد عينكم أبداً، يعني يمزح.

أخبرني بعض أصحاب الحديث ببغداد أن هشام بن عمار قال وجَّهَ المتوكل بعض ولده ليكتب عني قال: ونحن نلبس الأزر ولا نلبس السراويلات فجلست فانكشف ذكري فرآه الغلام، فقال: إستتر يا عم. قلت: رأيته، قال: نعم. قلت: أما إنه لا ترمد عينك أبداً إن شاء الله!

قال: فلما دخل على المتوكل ضحك، قال فسأله فأخبره بما قلت له، فقال: فأل حسن تفاءل لك به رجل من أهل العلم! إحملوا إليه ألف دينار.

قلت: لم يخرج له الترمذي سوى حديث سوق الجنة ونصه بتمامه: إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من ذهب ومنابر من فضة، ويجلس

٣٥٥

أدناهم وما فيهم من دني على كثبان المسك والكافور، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً.

قال أبوهريرة: قلت: يا رسول الله، وهل نرى ربنا؟ قال: نعم، قال: هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا: لا. قال: كذلك لا تمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم: يا فلان ابن فلان، أتذكر يوم كذا وكذا، فيذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب، أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه ويقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة وفيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيها ولا يشترى. وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً ..

ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحباً وأهلاً، لقد جئت وإنَّ بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا »!

ونلاحظ في شخصية هشام ابن عمار ماديته، وعدم تقيد الأخلاقي، وأحاديث تجسيم الله تعالى وتشبيهه، وكأن الله تعالى شخص من أقارب هشام بن عمار ورواته!

٣٥٦

علي بن جهم: مستشار المتوكل:

قال القاضي نور الله في الصوارم المهرقة / ٣٠٠: « وقد أرشدهم إلى ذلك كلام القاضي ابن خلكان من علماء أهل السنة في تاريخه المشهور، عند بيان أحوال علي بن جهم القرشي، حيث قال ما حاصله: إن التسنن لا يجتمع مع حب علي بن أبي طالب! وما كتبه أهل ما وراء النهر في زمان السلطان الأعظم الأمير تيمور وغيره من فتوى اشتراط بغض علي (ع) بقدر شعيرة، أوحبة رمانة، في صحة الإسلام، مشهورٌ، وفي ألسنة الجمهور مذكور »!

وفي الإمامة وأهل البيت « ٣ / ١٩٣ »: « وكان المتوكل يقرب علي بن جهم لا لشئ إلا لأنه كان يبغض أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله عنه وكرم الله وجهه في الجنة، وكان ابن الجهم هذا مأبوناً، سمعه أبوالعيناء يوماً يطعن على الإمام علي، فقال له: إنك تطعن على الإمام علي، لأنه قتل الفاعل والمفعول من قوم لوط، وأنت أسفلهما ».

وقال في شرح النهج « ٣ / ١٢٢ »: « ومن المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر وكان مبغضاً لعلي (ع). وقد هجاه أبوعبادة البحتري فقال فيه:

إذا ما حُصَّلَتْ عَلْيَا قريشٍ

فلا في العِير أنتَ ولا النَّفِير

وما الجهْمُ بن بدر حينَ يعزى

من الأقمار ثَمَّ ولا البدور

علامَ هجوتَ مجتهداً علياً

بما لفَّقتَ من كذبٍ وزور

أمالك في استكَ الوجْعاءِ شُغْلٌ

يكفُّك عن أذى أهل القبور

قال أبوالفرج: وكان علي بن الجهم من الحشوية، شديد النصب، عدواً للتوحيد والعدل خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه، وبلغ المتوكل ذلك فسأل عن

٣٥٧

السبب فحدث بقصة بني سامة بن لؤي، وأن أبا بكر وعمر لم يدخلاهم في قريش، وأن عثمان أدخلهم فيها، وأن علياً (ع) أخرجهم منها، فارتدوا، وأنه قتل من ارتد منهم وسبى بقيتهم فباعهم من مصقلة بن هبيرة.

فضحك المتوكل وبعث إلى علي بن الجهم فأحضره وأخبره بما قال القوم، وكان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط وهومروان الأصغر، وكان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم، ويضعه على هجائه وثلبه فيضحك منهما، فقال مروان:

إن جهماً حين تنسبهُ

ليس من عُجْمٍ ولا عَرَبِ

لجِّ في شتمي بلا سببٍ

سارقٌ للشعر والنسب

من أناسٍ يَدَّعُونَ أباً

ماله في الناس من عقب ».

٣٥٨

الفصل الثالث عشر:

الإمام الهادي (ع) مع المنتصر والمستعين والمعتز

ثلاثة خلفاء في ست سنين

عاصرالإمام الهادي صلوات الله عليه بعد المتوكل، ثلاثة خلفاء في ست سنين: المنتصر « ٢٤٧ ـ ٢٤٨ » والمستعين « ٢٤٨ ـ ٢٥٢ » والمعتز « ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ». واستشهد (ع) في خلافة المعتز. ثم جاء المهتدي « ٢٥٥ ـ ٢٥٦ » فحكم سنة واحدة ثم جاء المعتمد فحكم طويلاً: « ٢٥٦ ـ ٢٧٩ ».

عصفت العاصفة بالمتوكل ومن بعده!

جرت سفينة النظام العباسي بريحٍ طيبةٍ في زمن المتوكل، فكانت الأمور طَوْعَ يديه، وعشرات ألوف الجنود الأتراك الذين اشتراهم أبوه يركعون أمامه ويؤدون له فروض الإحترام. وتوسع في البذخ والترف حتى فاق آباءه وأجداده في عدد القصور التي شيدها، والجواري التي ملكها، والملايين التي أنفقها!

ثم جاء غضب الله على المتوكل والعباسيين، فاضطرب نظام الخلافة بعده، وقصرت أعمار الخلفاء، وتسلط القادة الأتراك على مقدرات الدولة!

فقد ارتكب المتوكل خطأ فادحاً عندما قتل إيتاخ القائد العام للجنود الأتراك، وكان أبوه المعتصم سَلَّمَهُ الى إيتاخ وهو طفلٌ فربَّاه، وكان المتوكل يناديه يا أبي!

٣٥٩

وبقتله حقد عليه الأتراك، حتى قتلوه شرقتلة وهو سكران، ونصبوا بدله ابنه المنتصر، لأنه كان على خلاف مع أبيه.

قال الطبري « ٧ / ٣٩٠ » ملخصاً: « ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين، كان فيها مقتل المتوكل سبب ذلك: أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل، وإقطاعها الفتح بن خاقان. فكُتبت الكتب بذلك وصارت إلى الخاتم « غرفة ختم المراسيم » على أن تتقدم يوم الخميس لخمس خلون من شعبان، فبلغ ذلك وصيفاً واستقر عنده الذي أُمر به في أمره.

وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يُصِيِّرا غداهم عند عبد الله بن عمر البازيار، يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، على أن يفتك بالمنتصر ويقتل وصيفاً وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم، فيما ذكر ابن الحفصي بابنه المنتصر، مرةً يشتمه، ومرةً يسقيه فوق طاقته، ومرةً يأمر بصفعه، ومرةً يتهدده بالقتل ..

حدثني بعض من كان في الستارة من النساء أنه التفت إلى الفتح فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه يعني المنتصر!

فقام الفتح ولطمه مرتين يُمِرُّ يده على قفاه! فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل عليَّ مما تفعله بي! فقال: إسقوه »!

وقال الذهبي في سيره: ١٢ / ٣٩، وتاريخه: ١٨ / ٢٠١: « وسكر المتوكل سكراً شديداً، ومضى من الليل ثلاث ساعات، إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم،

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477