الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154525 / تحميل: 6633
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وصيف ألف ألف دينار وثلاث مائة ألف دينار، وأخذ منها من الجواهر ما قيمته ألفا ألف دينار.

وكان الجند سألوا المعتز في خمسين ألف دينار ويصطلحون معه، فسألها المعتز في ذلك فقالت: ما عندي شئ. فلما رأى ابن وصيف هذا المال قال: قبح الله قبيحة عرَّضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذا كله ».

وفي تاريخ الخلفاء / ٢٦٢: « أخذوالمعتز بعد خمس ليال من خلعه، فأدخلوه الحمام فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء، ثم أخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً، وذلك في شهر شعبان المعظم سنة خمس وخمسين ومائتين، واختفت أمه قبيحة، ثم ظهرت في رمضان وأعطت صالح بن وصيف مالاً عظيماً، من ذلك ألف ألف دينار وثلاث مائة ألف دينار، وسفط فيه مكوك زمرد، وسفط فيه لؤلؤ حب كبار، وكيلجة ياقوت أحمر وغير ذلك، فقومت السفاط بألفي ألف دينار!

فلما رأى ابن وصيف ذلك قال: قبحها الله عرضت ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار، وعندها هذا، فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة، فبقيت بها إلى أن تولى المعتمد، فردها إلى سامرا، وماتت سنة أربع وستين ».

وقال الذهبي في سيره « ١٢ / ٥٣٥ »: يمدح المهتدي الذي بايعوه بعد المعتز: « وكان المهتدي أسمر رقيقاً مليح الوجه، ورعاً، عادلاً، صالحاً، متعبداً، بطلاً، شجاعاً، قوياً في أمر الله، خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد معيناً ولا ناصراً وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه ويُجلس بين يديه الكتاب

٣٨١

يعملون الحساب وقد ضرب جماعة من الكبار، ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد لرفضٍ فيه وفي أوائل خلافته عَبَّأ موسى بن بغا جيشه، وشهر السلاح بسامراء لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز، ولأخذه أموال أمه قبيحة وأموال الدواوين فهجم بمن معه والمهتدي جالس في دار العدل، فأقاموه وحملوه على أكدش « بغل » وانتهبوا القصر ..

ثم خرج المهتدي وعليه ثياب بيض وتقلد سيفاً، وأمر بإدخالهم إليه فقال: قد بلغني شأنكم، ولست كالمستعين والمعتز، والله ما خرجت إلا وأنا متحنط وقد أوصيت، وهذا سيفي فلأضربن به ما استمسك بيدي، أما دينٌ أما حياءٌ أما رِعَةٌ؟ كم يكون الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله! فركب المهتدي وصالح بن علي في عنقه المصحف يصيح: أيها الناس، أنصروا إمامكم ..

وتفلل جمع المهتدي واستحر بهم القتل، فولى والسيف في يده يقول: أيها الناس قاتلوا عن خليفتكم، ثم دخل دار صالح بن محمد بن يزداد، ورمى السلاح ولبس البياض ليهرب من السطح، وجاء حاجب باكيال فأعلم به، فهرب فرماه واحد بسهم ونفحه بالسيف، ثم حمل إلى الحاجب فأركبوه بغلاً وخلفه سائس، وضربوه وهم يقولون: أين الذهب؟ فأقرَّ لهم بست مئة ألف دينار مودعة ببغداد، فأخذوا خطه بها، وعَصَرَ تركيٌّ على أنثييه فمات! وقيل: أرادوا منه أن يخلع نفسه فأبى فقتلوه (رحمه الله)، وبايعوا المعتمد على الله ».

٣٨٢

أقول: نلاحظ أن المهتدي ليس بطلاً كما زعم الذهبي. كما نلاحظ أن الخليفة صار جزءاً من الأطراف التركية المتصارعة، بل آلةً بيدها!

وأن صراع الأتراك بينهم كان شديداً، فقد جاء موسى بن بغا من خراسان لينتقم من وصيف ويحاسبه على ثروته الطائلة، التي حصل عليها!

قتل المهتدي ونصب المعتمد « أحمد بن المتوكل »

حدثت تطورات عديدة بعد شهادة الإمام الهادي (ع)، فقد ظهرت حركة الزنج في البصرة، وحركة الخوارج في الموصل، وانقسم الترك الى قسمين: قسم مع المهتدي في سامراء بقيادة صالح بن وصيف، وقسم ضدهم بقيادة موسى بن بغا، وسيأتي ذلك إن شاء الله في سيرة الإمام الحسن العسكري (ع).

وكانت نهاية المهتدي لأنه حاول أن يوقع بين الأتراك، فاتفقوا عليه فكشف المهتدي مؤامرتهم، فقتل القائد بايكباك، فجاش الترك عليه وهاجموه، وكانت بينهم معارك انتهت بهزيمة المهتدي وقتله.

قال الطبري « ٧ / ٥٨٢ »: « وفي رجب من هذه السنة « ٢٥٦ » لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.

ذُكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدى طبايغو الرئيس عليهم، وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين

٣٨٣

مشافهة، وخرج أبونصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه وهوبالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم ».

ثم ذكر الطبري محاورة المهتدي مع بايكباك، وكيف قام بقتله وألقى رأسه الى الأتراك فجاشوا واتحدوا، ليأخذوا منه ثأرهم!

قال الطبري « ٧ / ٥٨٤ »: « فاجتمع جميع الأتراك فصار أمرهم واحداً، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغتيا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمس مائة، مع من جاء مع طغوتيا من الأتراك والعجم.

وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي والمصحف في عنقه يدعوالناس إلى أن ينصروا خليفتهم، فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور فنقض تعبيتهم وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور، وهو ينادى يا معشر الناس أنصروا خليفتكم! حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهوبعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلوداراً وينزل أخرى ويهرب، فطلب فلم يوجد.

وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارساً يسأل عنه، حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد فرُمِيَ بسهم وبُعِج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثي، فأقر لهم بست مائة

٣٨٤

ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خَسَف الواضحة، مغنية، فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار. ودفعوه إلى رجل فوطأ على خصييه حتى قتله »!

أخبار الإمام الهادي (ع) في عهد المستعين والمعتز

اتضح بما تقدم أن الخلافة كانت بعد المعتز للمهتدي، ثم للمعتمد، وكانت شهادة الإمام الهادي (ع) سنة ٢٥٤، في خلافة المعتز، قبل المعتمد. فعبارة: سمه المعتمد، التي وردت في سيرته (ع) تصحيفٌ أو لأن المعتمد كان منفذاً.

وفي مناقب آل أبي طالب « ٣ / ٥٣٠ »: « علي بن محمد بن زياد الصيمري قال: دخلت على أبي أحمد بن عبد الله بن طاهر، وفي يديه رقعة أبي محمد (ع) فيها: إني نازلت الله في هذا الطاغي يعني المستعين، وهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان اليوم الثالث خلع، وكان من أمره ما كان، إلى أن قتل ».

وزمن هذه الحادثة لا بد أن يكون سنة ٢٥٢، وأن يكون أبا محمد ورد فيها بدل أبا الحسن (ع) لأن المستعين خلع نفسه في هذه السنة، ثم قتلوه.

والرواية تدل على أن المستعين كان يؤذي الإمام الهادي (ع) ويستهدفه فدعا عليه، وأخبر أن دعاءه يستجاب بعد ثلاثة أيام!

كما توجد حادثة رويت على أنها للمستعين مع الإمام العسكري (ع)، فلا بد أن تكون في حياة الإمام الهادي (ع) أيضاً، لأن المستعين مات قبل شهادته (ع).

وقد رواها الكليني « ١ / ٥٠٧ » وخلاصتها أن المستعين كان عنده بغلٌ عجزت الرَّاضَةُ عن ترويضه، فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن

٣٨٥

بن الرضا حتى يجئ، فإما أن يركبه وإما أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي محمد ومضى معه أبي فقال أبي: لما دخل أبومحمد الدار كنت معه فنظر أبومحمد إلى البغل واقفاً في صحن الدار، فعدل إليه فوشَّع بيده على كفله، قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه، ثم صار إلى المستعين فسلم عليه فرحب به وقرب، فقال: يا أبا محمد ألجم هذا البغل » ثم تقول الرواية: إنه ألجمه وأسرجه وركبه، فتعجب الخليفة ووهبه له.

ومعناها أن المستعين دبَّرَ هذه المكيدة للإمام الحسن العسكري (ع) أو أراد أن يمتحن مقامه عند الله تعالى، وهل يخضع له البغل الشموس.

وبما أن المستعين مات بدعوة الإمام الهادي فلا بد أن تكون القصة في حياته (ع) وربما كانت معه هو، وجعلها الراوي مع ولده الحسن (ع). أو يكون الخليفة الذي هوطرفها، غير المستعين.

٣٨٦

الفصل الرابع عشر:

من معجزات الإمام الهادي (ع)

الأئمة أفضل أوصياء الأنبياء (ع)

لكل واحد من الأئمة (ع) معجزات كثيرة، وقد حفظ الرواة للإمام الهادي (ع) أكثر من مئة معجزة، وتقدم عددٌ منها، ونورد فيما يلي عدداً آخر، ونذكر قبلها حديثاً يصف ما أعطى الله تعالى لأئمة العترة النبوية.

قال النوفلي « الكافي: ١ / ٢٣١ »: « سمعته (ع) يقول: إسم الله الأعظم ثلاثةٌ وسبعون حرفاً، كان عند آصف حرفٌ فتكلم به، فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتى صيَّره إلى سليمان (ع)، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً. وحرفٌ عند الله مستأثرٌ به في علم الغيب ».

وفي عيون أخبار الرضا (ع) « ١ / ١٩٢ »: « للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، « تحدثه الملائكة » ويكون دعاؤه مستجاباً حتى أنه لودعا على صخره لانشقت بنصفين إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس، وبينه وبين الله عمودٌ من نور، يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه يبسط له فيعلم، ويقبض عنه فلا يعلم ».

٣٨٧

يحيى بن هرثمة يحدث بمعجزات الإمام (ع)

يوجد قبر في ضواحي مشهد الإمام الرضا (ع) يزوره الناس ويسمونه: خاجه مراد، فقصدناه ووجدنا مكتوباً عليه أنه قبر هرثمة بن أعين، وقيل قبر يحيى بن هرثمة. فندمنا على سفرنا لأنا لا نزور قبر هرثمة وأمثاله من قادة جيش العباسيين! فقد كان يحيى كأبيه هرثمة قائداً عند المتوكل، ينفذ أوامره القذرة في قتل المسلمين، ثم واصل ذلك مع غيره من الخلفاء. ولا يوجد ليحيى حسنة في تاريخه إلا روايته لمعجزات الإمام الهادي (ع)! وقوله إنه تاب وأناب عندما رآها، وهومجرد قول بلا عمل.

قال الطبري « ٧ / ٤٧٩ »: « وفيها « سنة ٣٤٨ » كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبوالحسين بن قريش ».

وقد أورد السيد الخوئي في معجمه « ٢١ / ١٠٢ » رواية تشيعه ولم يعلق بشئ.

ووصفه في مستدرك سفينة البحار « ٣ / ٢٨ » بحُسْنُ الخاتمة , ولا نعرف له حسنةً إلا روايته لما شاهد من معجزات الإمام الهادي (ع)، وذلك بعد موت المتوكل.

١. ظهر الماء في الصحراء ورويت القافلة:

قال المسعودي في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٢ »: « وروي عن يحيى بن هرثمة قال: رأيت من دلائل أبي الحسن (ع) الأعاجيب في طريقنا. منها: أنا نزلنا منزلاً لا ماء فيه فأشفينا ودوابنا وجمالنا من العطش على التلف، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة، فقال أبوالحسن (ع): كأني أعرف على أميال موضع ماء. فقلنا له: إن نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنا معك. فعدل بنا عن الطريق فسرنا نحو ستة أميال « نحوعشرة كيلومتر » فأشرفنا على واد كأنه زهرالرياض فيه

٣٨٨

عيون وأشجار وزروع، وليس فيها زارع ولا فلاح ولا أحد من الناس، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابنا، وأقمنا الى بعد العصر ثم تزودنا وارتوينا، وما معنا من القرب ورحنا راحلين. فلم نبعد أن عطشتُ وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشده في منطقته. وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام، ونظرتُ فإذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنا فيه. فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي جواد سريع وأغذ السير، حتى أشرفت على الوادي فرأيته جدباً يابساً، قاعاً مَحْلاً، لاماء فيه ولا زرع ولاخضرة، ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم، والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام! فأخذته وانصرفت ولم أعَرِّفْه شيئاً من الخبر. فلما قربت من القطر والعسكر وجدته (ع) واقفاً ينتظر فتبسم صلى الله عليه ولم يقل لي شيئاً، ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز فأعلمته أني وجدته!

٢. عرف الإمام بموعد نزول المطر في الصيف:

قال يحيى: وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حاميةٌ تُحرق، فركب من مضربه وعليه ممطر، وذنبُ دابته معقودٌ وتحته لبدٌ طويل، فجعل كل من في العسكر وأهل القافلة يضحكون تعجباً ويقولون: هذا الحجازي ليس يعرف الرأي، فما سرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأظلتنا بسرعة، وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب، فكدنا أن نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى أبداننا وامتلأت خفافنا، وكان أسرع وأعجل من

٣٨٩

أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد، فصرنا شهرةً، وما زال (ع) يتبسم تبسماً ظاهراً تعجباً من أمرنا ». « إثبات الوصية / ٢٣٤ ».

٣. الإمام يشفي عين طفل ويرد بصره:

قال يحيى: وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابنٌ لها أرمدُ العين، ولم تزل تستذل وتقول: معكم رجل علوي دُلوني عليه حتى يرقي عين ابني هذا. فدللناها عليه ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشك أنها ذاهبة، فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علة »!

٤. رواية أخرى لحادثة المطر في الصيف:

في الخرائج « ١ / ٣٩٢ » والثاقب لابن حمزة / ٥٥١، عن يحيى بن هرثمة، قال: « دعاني المتوكل فقال: إختر ثلاث مائة رجل ممن تريد، واخرجوا إلى الكوفة، فخلفوا أثقالكم فيها، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة فأحضروا علي بن محمد بن الرضا إلى عندي مكرماً معظماً مبجلاً. قال: ففعلت وخرجنا. وكان في أصحابي قائد من الشراة « الخوارج » وكان لي كاتب يتشيع، وأنا على مذهب الحشوية « أهل الحديث » وكان ذلك الشاري يناظرذلك الكاتب، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق. فلما صرنا إلى وسط الطريق قال الشاري للكاتب: أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب أنه ليس من الأرض بقعة إلاوهي قبر أوستكون قبراً؟ فانظر إلى هذه البرية أين من يموت فيها حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون؟ قال فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟ قال: نعم. قلت: صدق. أين

٣٩٠

من يموت في هذه البرية العظيمة حتى تمتلئ قبوراً؟! وتضاحكنا ساعة، إذ انخذل الكاتب في أيدينا. قال: وسرنا حتى دخلنا المدينة، فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا فدخلت إليه، فقرأ كتاب المتوكل فقال: إنزلوا وليس من جهتي خلاف. قال: فلما صرت إليه من الغد، وكنا في تموز أشد ما يكون من الحر، فإذا بين يديه خياطٌ وهويقطع من ثياب غلاظ خفاتين « الخفتان: معطف وهوالقفطان » له ولغلمانه، ثم قال للخياط: إجمع عليها جماعة من الخياطين، واعمد على الفراغ منها يومك هذا، وبكر بها إليَّ في هذا الوقت. ثم نظر إلي وقال: يا يحيى، إقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت.

قال: فخرجت من عنده وأنا أتعجب منه من الخفاتين، وأقول في نفسي: نحن في تموز وحر الحجاز، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب! ثم قلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر، وهويقدر أن كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب، وأتعجب من الرافضة حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا. فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت فإذا الثياب قد أحضرت، فقال لغلمانه: أدخلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس. ثم قال: إرحل يا يحيى.

فقلت في نفسي: وهذا أعجب من الأول، أيخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذ معه اللبابيد والبرانس! فخرجت وأنا أستصغر فهمه.

٣٩١

فسرنا حتى وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ارتفعت سحابة واسودَّت وأرعدت وأبرقت، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسلت علينا بَرَداً مثل الصخور، وقد شدَّ على نفسه وعلى غلمانه الخفاتين، ولبسوا اللبابيد والبرانس، وقال لغلمانه: إدفعوا إلى يحيى لبادة، وإلى الكاتب برنساً.

وتجمعنا والبَرَد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلاً، وزالت ورجع الحرُّ كما كان، فقال لي: يا يحيى إنزل أنت ومن بقي من أصحابك ليدفنوا من قد مات من أصحابك. ثم قال: فهكذا يملأ الله هذه البرية قبوراً!

قال: فرميت بنفسي عن دابتي وعدوت إليه فقبَّلت ركابه ورجله، وقلت: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنكم خلفاء الله في أرضه، وقد كنتُ كافراً، وإنني الآن قد أسلمت على يديك يا مولاي. قال يحيى: وتشيعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى ».

ملاحظة

شَنَّعَ ذلك الخارجي على زميله الكاتب الشيعي بما رويَ عن أمير المؤمنين (ع): « ليس من الأرض بقعة إلا وهي قبر، أوستكون قبراً » ولم أجد هذا الحديث في المصادر المعروفة. لكن معناه صحيح فكل بقعة، أي كل نوع من الأرض فيه قبور أو سيكون فيه، وليس معناه أن كل مكان في الأرض قبرٌ أوسيكون قبراً.

قال الخليل في العين « ١ / ١٨٤ »: « البَقْعُ: لونٌ يخالف بعضه بعضاً، مثل الغراب الأسود في صدره بياض، غراب أبقع، وكلب أبقع. والبقعة: قطعة من أرض على غير هيئة التي على جنبها، كل واحدة منها بقعة وجمعها بقاع وبقع ».

٣٩٢

على أن كل تستعمل للتعميم النسبي، فقد روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى عن اليهود: ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) . « الأعراف: ١٦٨ » قال: « هم اليهود بسطهم الله في الأرض، فليس من الأرض بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة ». « تفسير ابن أبي حاتم: ٥ / ١٦٠٥ » وبهذا المعنى وردت البقعة في حديث المهدي (ع): « وينزل روح الله عيسى بن مريم (ع) فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربها ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله عز وجل إلا عبد الله فيها ». « كمال الدين: ٢ / ٣٤٥ ».

وقصد الخارجي من تشنيعه على الكاتب، تكذيب أمير المؤمنين (ع)، ولعل الكاتب شكى الى الإمام الهادي (ع) سخريتهم به، فأجرى الله على يد (ع) هذه الكرامة لتصديق ما رواه عن أمير المؤمنين (ع)!

أما قول ابن هرثمة: وتشيعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى. فادعاء لم يصح!

٥. رواية ثانية لظهور الماء وريَّ القافلة:

في الخرائج « ١ / ٤١٥ »: « روى أبومحمد البصري، عن أبي العباس خال شبل كاتب إبراهيم بن محمد، قال: كلما أجرينا ذكر أبي الحسن (ع) فقال لي: يا أبا محمد لم أكن في شئ من هذا الأمر وكنت أعيب على أخي، وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذم والشتم، إلى أن كنت في الوفد الذين أوفد المتوكل إلى المدينة في إحضار أبي الحسن (ع) فخرجنا إلى المدينة، فلما خرج وصرنا في بعض الطريق، طوينا المنزل وكان يوماً صائفاً شديد الحر، فسألناه أن ينزل قال: لا.

فخرجنا ولم نطعم ولم نشرب، فلما اشتد الحر والجوع والعطش فينا، ونحن إذ ذاك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاً ولا ماء نستريح إليه، فجعلنا نشخص

٣٩٣

بأبصارنا نحوه. فقال: ما لكم أحسبكم جياعاً وقد عطشتم؟ فقلنا: إي والله، وقد عيينا يا سيدنا. قال: عَرِّسُوا « إنزلوا » وكلوا واشربوا.

فتعجبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً نستريح إليه، ولا نرى ماءً ولا طلاً. قال: ما لكم! عَرِّسُوا. فابتدرت إلى القطار لأنيخ ثم التفتُّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظل تحتهما عالمٌ من الناس، وإني لأعرف موضعهما أنه أرض بَرَاحٌ قفرٌ، وإذا أنا بعين تسيح على وجه الأرض أعذب ماء وأبرده! فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا، وإن فينا من سلك ذلك الطريق مراراً!

فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، وجعلت أحد النظر إليه وأتأمله طويلاً، وإذا نظرت إليه تبسم وزوى وجهه عني، فقلت في نفسي: والله لأعرفن هذا كيف هو؟ فأتيت من وراء الشجرة فدفنت سيفي ووضعت عليه حجرين، وتغوطت في ذلك الموضع، وتهيأت للصلاة.

فقال أبوالحسن: استرحتم؟ قلنا: نعم، قال: فارتحلوا على اسم الله، فارتحلنا فلما أن سرنا ساعة رجعت على الأثر فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعت والعلامة، وكأن الله لم يخلق ثم شجرةً ولا ماءً وظلالاً ولا بللاً! فتعجبت ورفعت يدي إلى السماء فسألت الله بالثبات على المحبة والإيمان به والمعرفة منه. وأخذت الأثر ولحقت القوم، فالتفت إليَّ أبوالحسن (ع) وقال: يا أبا العباس فعلتها؟ قلت: نعم يا سيدي، لقد كنت شاكاً، ولقد أصبحت وأنا

٣٩٤

عند نفسي من أغنى الناس بك في الدنيا والآخرة. فقال: هوكذلك، هم معدودون معلومون، لا يزيدون رجلاً ولا ينقصون رجلاً ».

أقول: لم أجد ترجمة أبي العباس خال كاتب إبراهيم بن محمد، والظاهر أن إبراهيم بن محمد هذا هوالعباسي المسمى بُرَيْه، وقد ذكر الطبري « ٦ / ٤٧٢ و ٦٠٤، و: ٨ / ١٥ » أنه كان والياً على الحرمين، وأنه حج بالناس سنة ٢٥٩.

٦. ما ظهر للفتح بن يزيد الجرجاني:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٥ »: « وروى الحميري قال: حدثني أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن (ع) الطريق لما قدم به المدينة فسمعته في بعض الطريق يقول: من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع.

فلم أزل أدلف حتى قربت منه ودنوت، فسلمت عليه ورد عليَّ السلام فأول ما ابتدأني أن قال لي: يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق فليوقن أن يحل به سخط المخلوقين.

يا فتح إن الله جل جلاله لايوصف إلا بما وصف به نفسه، فأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار أن تحيط به، جل عما يصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيَّفَ الكيف فلا يقال كيف، وأيَّنَ الأين فلا يقال أين، إذ هومنقطع الكيفية والأينية، الواحد الأحد جل جلاله، بل كيف يوصف بكنهه محمد (ص) وقد قرن الخليل اسمه باسمه وأشركه

٣٩٥

في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته، فقال: وما نقموا منه إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله. وقال تبارك اسمه يحكي قول من ترك طاعته: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . أم كيف يوصف من قرن الجليل طاعته بطاعة رسول الله (ص) حيث يقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.

يا فتح كما لا يوصف الجليل جل جلاله، ولايوصف الحجة، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا. فنبينا (ص) أفضل الأنبياء ووصينا (ص) أفضل الأوصياء. ثم قال لي بعد كلام: فأورد الأمر إليهم وسلم لهم. ثم قال لي: إن شئت. فانصرفت منه. فلما كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلمت فرد السلام فقلت: يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟

فقال لي: سل وأصخْ الى جوابها سمعك، فإن العالم والمتعلم شريكان في الرشد، مأموران بالنصيحة، فاما الذي اختلج في صدرك فإن يشأ العالم أنبأك الله، إن الله لم يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وكل ما عند الرسول فهوعند العالم، وكل ما اطلع الرسول عليه فقد اطلع أوصياؤه عليه.

يا فتح: عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكَّكَ في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم! فقلتَ متى أيقنت أنهم هكذا فهم أرباب! معاذ الله، إنهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون. فإذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به فاقمعه بمثل

٣٩٦

ما نبأتك به. قال فتح: فقلت له: جعلني الله فداك فرجت عني، وكشفت ما لبَّسَ الملعون عليَّ، فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب.

قال: فسجد (ع) فسمعته يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً.

ثم قال: يا فتح كدت أن تهلك وما ضر عيسى إن هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله. قال: فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس.

فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهومتكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها، وقد كان أوقع الشيطان لعنه الله في خلدي أنه لاينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا. فقال: أجلس يا فتح، فإن لنا بالرسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم متغذٍّ إلا خالق الأجسام الواحد الأحد، منشئ الأشياء ومجسم الأجسام وهوالسميع العليم. تبارك الله عما يقول الظالمون وعلا علواً كبيراً. ثم قال: إذا شئت رحمك الله ».

٧. قال البغدادون: أقبل بيت الله الحرام:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٦ »: « وقُدم به (ع) بغداد وخَرج إسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه، فحدث أبوعبد الله محمد بن أحمد الحلبي القاضي قال: حدثني الخضر بن محمد البزاز وكان شيخاً مستوراً ثقة، يقبله القضاة والناس قال: رأيت في المنام كأني على شاطئ دجلة بمدينة السلام في رحبة الجسر ـ والناس مجتمعون خلق كثير يزحم بعضهم بعضاً، وهم يقولون: قد أقبل بيت الله الحرام.

٣٩٧

فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت بما عليه من الستائر والديباج والقَباطي، قد أقبل ماراً على الأرض، يسير حتى عبر الجسر، من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي، والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخل دار خزيمة، وهي التي آخر من ملكها بعد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر القمي، وأبوبكر الفتى بن أخت إسماعيل بن بلبل بدر الكبير الطولوي، المعروف بالحمامي، فإنه أقطعها.

فلما كان بعد أيام خرجت في حاجة، حتى انتهيت الى الجسر، فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون: قد قدم ابن الرضا من المدينة، فرأيته قد عبر من الجسر على شهري تحته كبير، يسير عليه المسير رفيقاً، والناس بين يديه وخلفه، وجاء حتى دخل دار خزيمة بن حازم، فعلمت أنه تأويل الرؤيا التي رأيتها.

ثم خرج الى سر من رأى فتلقاه جملة من أصحاب المتوكل حتى دخل إليهم، فأعظمه وأكرمه ومهد له. ثم انصرف عنه الى دار أعدت له وأقام بسر من رأى ».

أقول: يدلك هذا على علاقة الناس العقائدية العميقة بالإمام الهادي (ع)، فالبزاز هذا من علماء العامة، وقد رأى هذا المنام عن الإمام (ع).

٨. عرف الإمام (ع) ما في ضميره فاستبصر:

في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٧ »: « وروى احمد بن محمد بن قابنداذ الكاتب الإسكافي قال: تقلدت ديار ربيعة وديار مضر، فخرجت وأقمت بنصيبين، وقلدت عمالي وأنفذتهم الى نواحي أعمالي، وتقدمت أن يحمل اليَّ كل واحد منهم كل من يجده في عمله ممن له مذهب، فكان يردُ علي في اليوم الواحدُ والإثنان والجماعة منهم،

٣٩٨

فأسمع منهم وأعامل كل واحد بما يستحقه. فأنا ذات يوم جالسٌ إذ ورد كتاب عامل بكفرتوثي يذكر أنه قد وجه إليَّ برجل يقال له إدريس بن زياد، فدعوت به فرأيته وسيماً قسيماً قبلته نفسي، ثم ناجيته فرأيته ممطوراً ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني، فدعوته الى القول بإمامة الإثني عشر (ع) فأبى وأنكر عليَّ ذلك وخاصمني فيه!

وسألته بعد مقامه عندي أياماً أن يهب لي زَوْرَةً الى سر من رأى لينظر الى أبي الحسن (ع) وينصرف فقال لي: أنا أقضي حقك بذلك.

وشخص بعد أن حملته، فأبطأ عني وتأخر كتابه، ثم إنه قدم فدخل إليَّ فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء، فلما رأيته باكياً لم أتمالك حتى بكيت، فدنا مني وقبل يدي ورجلي ثم قال: يا أعظم الناس منةً، نجيتني من النار وأدخلتني الجنة.

وحدثني فقال لي: خرجت من عندك وعزمي إذا لقيت سيدي أبا الحسن (ع) أن أسأله من مسائل، وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب، هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب أم لا؟ فصرت الى سر من رأى، فلم أصل إليه وأبطأ من الركوب لعلة كانت به، ثم سمعت الناس يتحدثون بأنه يركب، فبادرت ففاتني ودخل دار السلطان فجلست في الشارع، وعزمت أن لا أبرح أوينصرف. واشتد الحرُّ عليَّ فعدلت الى باب دار فيه، فجلست أرقبه ونعست فحملتني عيني فلم أنتبه إلا بمقرعة قد وضعت على كتفي، ففتحت عيني فإذا هومولاي أبوالحسن (ع) واقف على دابته، فوثبت فقال لي: يا إدريس

٣٩٩

أما آن لك؟ فقلت: بلى يا سيدي. فقال: إن كان العرق من حلال فحلال، وإن كان من حرام فحرام. من غير أن أسأله، فقلت به وسلمت لأمره ».

أقول: قول الإمام (ع): أما آن لك يدل على أنه رأى منه آيات قبل أن يجيبه على ما في نفسه. لكنه لم يذكرها في هذا الحديث.

٩. النصراني الكاتب مع الإمام الهادي (ع):

في الخرائج « ١ / ٣٩٦ »: « عن هبة الله بن أبي منصور الموصلي، قال: كان بديار ربيعة كاتب لنا نصراني وكان من أهل كفرتوثا، يسمى يوسف بن يعقوب، وكان بينه وبين والدي صداقة. قال: فوافى ونزل عند والدي فقال ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟ قال: قد دعيتُ إلى حضرة المتوكل، ولا أدري ما يراد مني، إلا أني قد اشتريت نفسي من الله تعالى بمائة دينار، قد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا، معي! فقال له والدي: وفقت في هذا. قال: وخرج إلى حضرة المتوكل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً، فقال له أبي: حدثني بحديثك.

قال: سرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط، فنزلت في دار وقلت: يجب أن أوصل المائة دينار إلى أبي الحسن بن الرضا (ع) قبل مصيري إلى باب المتوكل، وقبل أن يعرف أحد قدومي. قال: فعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب وأنه ملازم لداره، فقلت: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا! لا آمن أن ينذر بي فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره. قال: فتفكرت ساعة في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج من البلد، ولا أمنعه من حيث يريد،

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477