الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154541 / تحميل: 6635
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النعش. قالوا جميعاً: فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس، محلل الإزرار خلف النعش، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه، يمشي راجلاً خلف النعش، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش، ولا يتقدم النعش.

وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها، معتمٌّ محبتكُ الإزار، طلق الوجه، على حمار يماني، يتقدم النعش. فلما نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة، ورأوا زي أبي محمد وفعله، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم، وكشفوا عمائمهم، ومنهم من شق جيبه، وحل إزاره، ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب، وركوبه وخلافه على أخيه ...

لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار على مصطبة عالية كانت على باب الديوان، وأمر أحمد بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع فصلى عليه خمس تكبيرات، وصلى السلطان بصلاتهم ..

وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال.

٤٤١

قالوا جميعاً: وسمعنا الناس يقولون: هكذا كنا نحن جميعاً نعلم ما عند سيدنا أبي محمد الحسن من شق جيبه. قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

وفي الهداية الكبرى / ٣٨٣: « حدثني أبو الحسن علي بن بلال وجماعة من إخواننا: أنه لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيدنا أبي الحسن (ع) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه، فركب أبو محمد إلى المعتز، فلما دخل عليه رحب به وعزاه وأمر فرتب بمرتبة أبيه (ع) وأثبت له رزقه وزاد فيه، فكان الذي يراه لا يشك إلا أنه في صورة أبيه (ع)، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (ع) ».

وفي إثبات الوصية للمسعودى « ١ / ٢٤٢ »: « واعتل أبوالحسن علته التي مضى فيها صلى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحضر أبا محمد ابنه (ع) فسلم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء (ع) والسلاح، وأوصى إليه، ومضى صلى الله عليه، وَسِنُّه أربعون سنة.

وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة، فأقام مع أبيه (ع) نحوسبع سنين، وأقام منفرداً بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً.

٤٤٢

وحدثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنه دخل الدار، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين، واجتمع خلق من الشيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد (ع) ولا عرف خبره إلا الثقات الذين نص أبوالحسن عندهم عليه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهم في ذلك إذْ خرج من الدار الداخلة خادمٌ فصاح بخادم آخر: يا رَيَّاشُ خذ هذه الرقعة وامض بها الى دار أمير المؤمنين وأعطها الى فلان وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف الناس لذلك، ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود، ثم خرج بعده أبومحمد (ع) حاسراً مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة بيضاء، وكان وجهه وجه أبيه (ع) لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلا قام على رجله، ووثب إليه أبومحمد الموفق فقصده أبومحمد (ع) فعانقه ثم قال له: مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق، والناس كلهم بين يديه.

وكانت الدار كالسوق بالأحاديث، فلما خرج وجلس أمسك الناس، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (ع) فقال أبومحمد: ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها، فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (ع) فنهض صلى الله عليه وأخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار

٤٤٣

موسى بن بقا، وقد كان أبومحمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرج المعتمد، ثم دفن في دار من دوره.

واشتد الحر على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشاً « مصطبة » فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض، قد نزل عنه فسأله أن يركبه، فركب حتى أتى الدار ونزل.

وخرج في تلك العشية الى الناس، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (ع) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص. وتكلمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم: هل رأيتم أحداً من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟فوقَّعَ الى من قال ذلك: يا أحمق ما يدريك ما هذا، قد شق موسى على هرون. وقام أبومحمد الحسن بن علي مقام أبيه (ع) ».

ملاحظات على شهادة الإمام (ع) ومراسم جنازته

١. شاء الله عز وجل أن يحفظ الإمام الهادي (ع) من المتوكل، وأفشل محاولاته لقتل الإمام (ع). وأن يُقِرَّ عين وليه الإمام الهادي (ع) فيريه نهاية عدوه المتوكل فسلط عليه غلمانه الأتراك، فقتلوه وهو سكران ذاهب العقل!

كما شاء عز وجل أن تكون شهادة الإمام (ع) بيد المعتز، وهو الزبير بن المتوكل وكانت أمه جميلة جداً فسماها المتوكل قبيحة لإبعاد الحسد عنها، وقد جمعت ثروةً طائلة لكنها بخلت أن تنقذ ابنها من القتل! وقد صح الحديث بأنه لايقتل

٤٤٤

الأنبياء والأوصياء (ع) إلا أولاد الحرام، فقد سئل الصادق (ع) عن قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فقيل له: من كان يمنعه؟ قال: منعه أنه كان لرَشْدَةٍ، لأن الأنبياء والحجج لايقتلهم إلا أولاد زنا! « كامل الزيارات / ١٦٣ ».

٢. كانت شهادة الإمام (ع) بعد حرب استمرت سنة بين سامراء وبغداد، من محرم ٢٥١ الى ٢٥٢ ، بين خليفتين هما: المعتز والمستعين « الطبري: ٧ / ٤٤٥ » وحكم المعتز بعدها نحو ثلاث سنين الى سنة ٢٥٥ ، وأقدم على قتل الإمام (ع) في رجب في سنة ٢٥٤ ، ثم ثار عليه الأتراك وقتلوه في السنة التالية ٢٥٥ ، ونصبوا المهتدي.

فمن هو المستفيد من قتل الإمام الهادي (ع)، ومن الذي خطط لقتله؟

الأمر المرجح أن المخطِّط والمنفِّذ هو المعتز، فقد قتل المستعين مع أنه خلع نفسه وبايعه، ولعله كان يخاف من تفاقم الثورات العلوية، وأن يرفع ثائر منها إسم الإمام (ع) فينجذب الناس الى بيعته ويبايعوه!

٣. أمر المعتز أخاه المعتمد أن يقيم للإمام (ع) تشييعاً كبيراً، وأن تحمل جنازته الى دار الخلافة ليصلي عليها، قال في الهداية / ٢٤٨: « فإن السلطان لما عرف خبر وفاته، أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته، وأن يُحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه ». فصلوا عليه في دار الخليفة، ثم صلوا عليه في شارع كبير، ثم صلوا عليه في داره ودفنوه حيث أوصى. « مروج الذهب: ٤ / ٨٤، واليعقوبي: ٢ / ٥٠٠ ».

٤. كانت سياسة السلطة القرشية دائماً المبالغة في تشييع الإمام من العترة الطاهرة (ع)، ولهم في ذلك أغراض، أولها أن يبعدوا عن أنفسهم جريمة قتله!

٤٤٥

بل كانوا يحرصون على الكشف الطبي على جنازته، وإشهاد كبار القضاة والشهود بأن بدنه سالمٌ وأنه مات حتف أنفه! حتى لايطالب بنو هاشم بدمه.

واستعملوا هذا الأسلوب مع خلفائهم الذين قتلوهم، فكانوا يقتلون الخليفة بالتعذيب أو عصر خصيتيه، ثم يأتون بالشهود فيشهدون أنه مات حتف أنفه!

قال في معالم الخلافة « ٣ / ٣٧١ »: « لما وليَ المعتز لم يمض إلا مدة حتى أُحضر الناس وأخرج المؤيد فقيل: إشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر!

ثم مضت أشهر فأحضر الناس وأخرج المستعين، فقال: إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر فيه، فأشهدوا!

ثم مضت مُدَيْدَة واستخلف المهتدي فأخرج المعتز ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به! ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته »!

لكنهم كانوا يسلمون جنازة الخليفة الى أقاربه، ولايهتمون بالصلاة عليه وتشييعه، لأنه ليس له جماهير محبة كالإمام (ع) ليكسبها لخليفة الجديد بذلك!

٥. يتضح من أخبار تشييع الإمام (ع) ودفنه، أنهم كانوا يهتمون بالتشييع والصلاة على الجنازة والدفن. وفي اليوم الثاني يجلس أهل الميت لقبول التعزية. ففي الهداية / ٢٤٩: « وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة.

٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

٦. اشترى النبي وعترته الطاهرون صلوات الله عليهم، محال قبورهم الشر ـ يفة على سنة أبيهم إبراهيم (ع)، فقد نصت التوراة ومصادرنا على أنه اشترى مكان قبره في الخليل من عفرون الحثي، وكان مزرعة فيها الغار الذي دفن فيه هو وأسرته (ع). واشترى النبي (ص) مكان مسجدة وبيوته وقبره الشر ـ يف، عندما بركت قربه الناقة: « وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ ». « مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٦٠ ».

واشترى الإمام الهادي (ع) داره في سامراء، ثم اشترى دوراً ضمها اليها.

قال في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٧ »: « وفي هذه السنة، يعني سنة أربع وخمسين ومائتين، توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى، في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني ».

وفي إثبات الوصية للمسعودي « ١ / ٢٤٣ »: « وقد كان أبو محمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرجه المعتمد، ثم دفن في دار من دوره ».

فهو يدل على أنها كانت دورٌ متعددة متصلة ببعضها، وتدل عليه نصوص كثيرة وصفت دار أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري (ع).

منها ما رواه في الإرشاد « ٢ / ٣١٧ » يصف ساحة إحداها ولعلها الدار الأساسية: « عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس

٤٤٧

أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (ع) وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس ».

ومنها قول الخادم كما في الكافي « ١ / ٣٢٩ »: « وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في دار الرجال، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال ».

شاعران من أصحاب الإمام (ع) رثياه

أبو الغوث المنبجي الطهوي:

قال ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٠: « وأنشدني أبو منصور عبد المنعم بن النعمان العبادي قال: أنشدني الحسن بن مسلم الوهبي أن أبا الغوث الطهوي المنبجي شاعر آل محمد (ص) أنشده بعسكر سرمن رأى. قال الوهبي: وإسم أبي الغوث أسلم بن مهوز من أهل منبج. وكان البحتري يمدح الملوك، وهذا يمدح آل محمد (ص)، وكان البحتري أبو عبادة ينشد هذه القصيدة لأبي الغوث:

وَلِهْتُ إلى رُؤياكم وَلَهَ الصَّادي

يُذادُ عن الورد الرَّوِيِّ بِذَوَّادِ

مُحَلَّىً عن الورد اللذيذِ مساغُهُ

إذا طافَ وُرَّادٌ به بعدَ ُوَّراد

فأعملت فيكم كل هوجاء جسرةٍ

ذمولِ السُّرَى تَقتاد في كل مُقتاد

أجوبُ بها بيدَ الفَلا وتجوبُ بي

إليكَ ومالي غيرَ ذكركَ من زاد

فلما تراءتْ سُرَّ من رَا تَجَشَّمَتْ

إليك فَعَوْمُ الماء في مُفْعِمِ الوادي

فأدَّت إلينا تشتكي ألمَ السرى

فقلت اقصري فالعزمُ ليسَ بميَّاد

إذا ما بلغتِ الصادقينَ بني الرضا

فحسبُك من هادٍ يُشيرُ إلى هاد

٤٤٨

مقاويلُ إن قالوا بهاليلُ إن دُعوا

وُفَاةٌ بميعاد كُفَاةٌ لمرتاد

إذا أوعدوا أعْفَوْا وإن وعدوا وَفَوْا

فهم أهل فضلٍ عند وعدٍ وإيعاد

كرامٌ إذا ما أنفقوا المالَ أنفدوا

وليس لعلمٍ أنفقوهُ بإنفاد

ينابيعُ علم الله أطوادُ دينه

فهل من نفادٍ إن علمتَ لأطواد

نجومٌ متى نجمٌ خَبَا مثلُهُ بَدا

فصلى على الخابي المهمينُ والبادي

عبادٌ لمولاهم موالي عبادِه

شهودٌ عليهم يومَ حشر وإشهاد

هم حججُ الله اثنتي عشرةٍ متى

عددتَ فثاني عشرهم خَلَفُ الهادي

بميلاده الأنباءُ جاءتْ شهيرةً

فأعظمْ بمولودٍ وأكرمْ بميلاد

وقال ابن عياش: وهي طويلة كتبنا منها موضع الحاجة إلى الشاهد ».

محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري:

وروى ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٣: أن محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري، وهو من أصحاب الإمام الهادي (ع) قال عند مرض الإمام (ع):

مَادت الأرضُ بي وآذتْ

فؤادي واعترتني مواردُ العَرْوَاء

حينَ قيل الإمامُ نِضْوٌ عليلٌ

قلتُ نفسي فدتهُ كلَّ الفداء

مرضَ الدينُ لاعتلالك واعتلَّ

وغارت لهُ نجومُ السماء

عجباً إن مُنيت بالداء والسقم

وأنت الإمامُ حسمُ الداء

وأنت أسى الأدواء في الدين

والدنيا ومُحْي الأموات والأحياء

وقال بعد شهادته يرثيه ويعزي ابنه أبا محمد (ع) أولها:

الأرض حزناً زلزلتْ زلزالها

وأخرجتْ من جزعٍ أثقالها

ثم عدد الأئمة وتكملتهم بالخلف المهدي (ع) وذلك قبل ميلاده:

عشرُ نجوم أفَلَتْ في فُلكها

ويُطلع الله لنا أمثالها

٤٤٩

بالحسن الهادي أبي محمد

تُدْرِكُ أشياعُ الهدى آمالها

وبعده من يرتجى طلوعُهُ

يَظل جوابَ الفلا جزَّالها

ذو الغيبة الطولى وبالحق التي

لا يقبل الله من استطالها

يا حجج الرحمن إحدى عشرةٍ

آلف بثاني عشرها مآلها »

أقول: في قصيديتي المنبجي والصيمري دلالات عديدة، منها: أن مرض الإمام الهادي (ع) طال، وقد يكون سقي السم عدة مرات كما حدث لعدد من آبائه (ع)، ولم تصلنا تفاصيل أخبار سمه ومرضه صلوات الله عليه.

ومنها: أنه استقر عند المتشرعة أن كلمة الإمام على إطلاقها تعني المعصوم من العترة.

ومنها: أن مذهب الإمامة كان منتشراً معروفاً بين الناس، وأنهم يقولون بإمامة اثني عشر إماماً ربانياً، كما بشر النبي (ص) وأن الإمام الهادي (ع) هو العاشر، وأن حفيده هو المهدي الموعود (ع) الذي سيغيب طويلاً.

٤٥٠

الفصل السابع عشر

بشارة الإمام الهادي بحفيده الإمام المهدي (ع)

نصه على إمامة ابنه الحسن العسكري (ع)

عقد في الكافي باباً « ١ / ٣٢٥ » بعنوان: باب الإشارة والنص على أبي محمد (ع)، أورد فيه بضعة عشرحديثاً، نص فيها على إمامة ولده الحسن بعده وبشر فيها بحفيده الإمام المهدي (ع). منها عن يحيى بن يسار القنبري قال: « أوصى أبو الحسن (ع) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي.

وعن علي بن عمر النوفلي: « كنت مع أبي الحسن (ع) في صحن داره فمر بنا محمد ابنه فقلت له: جلعت فداك هذا صاحبنا بعدك؟فقال:لا،صاحبكم بعدي الحسن ».

وعن أحمد بن مروان الأنباري قال: « كنت حاضراً عند مضيِّ أبي جعفر محمد بن علي، فجاء أبو الحسن (ع) فوُضع له كرسي فجلس عليه وحوله أهل بيته، وأبو محمد قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد (ع) فقال: يا بنيَّ أحدث لله تبارك وتعالى شكراً، فقد أحدث فيك أمراً ».

أي أظهرَ الله تعالى أنك الإمام بعدي وليس أخاك الأكبر الذي توفي، كما تصور البعض، لأن أئمة العترة (ع) كما قال الله تعالى: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

ومن ذلك: « عن جماعة من بني هاشم، منهم الحسن بن الحسن الأفطس أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد بابَ أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في

٤٥١

صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً، سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لانعرفه فنظر إليه أبوالحسن (ع) بعد ساعة فقال: يا بنيَّ أحدثْ لله عز وجل شكراً، فقد أحدث فيك أمراً. فبكى الفتى وحمد الله تعالى واسترجع وقال: الحمد لله رب العالمين، وأنا أسأل الله عز وجل تمام نعمه لنا فيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فسألنا عنه فقيل هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة، أو أرجح، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة، وأقامهُ مقامه ».

وعن أبي بكر الفهفكي قال: « كتبت الى أبي الحسن (ع) أسأله عن مسائل، فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: لو أني كتبت فيما كتبت أسأله عن الخلف من بعده، وذلك بعد مضي محمد ابنه. فأجابني عن مسائلي: وكنتَ أردتَ أن تسألني عن الخلف، وأبو محمد ابني أصح آل محمد غريزةً، وأوثقهم عقيدةً بعدي، وهو الأكبر من ولدي، إليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها. فما كنت سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يُحتاج إليه، والحمد لله ».

وعن الجلاب قال: « كتب إليَّ أبو الحسن في كتاب: أردتَ أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإن الله عز وجل: لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وصاحبك بعدي أبو محمد ابني، وعنده ما

٤٥٢

تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ».

تبشيره بحفيده المهدي الموعود (ع)

عن داود بن القاسم قال: « سمعت أبا الحسن (ع) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (ع) ». « الكافي: ١ / ٣٢٧ ».

وفي كمال الدين / ٣٨٣: « عبد الله بن أحمد الموصلي قال: حدثنا الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (ع) يقول: إن الإمام بعدي الحسن ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ».

وفي تفسير العسكري / ٣٤٤، عن الهادي (ع) قال: « لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله. ولكنهم الذين يمسكون أزمَّةَ قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل ».

٤٥٣

أولاد الإمام الهادي (ع)

قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣١٢ »: « وتوفي أبو الحسن (ع) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسر من رأى، وخلف من الولد: أبا محمد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده، والحسين، ومحمداً، وجعفراً، وابنته عائشة. وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهراً، وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة ».

وفي الهداية الكبرى / ٣١٣: « وله من الولد: الحسن الإمام، ومحمد، والحسين، وجعفر المدعي الإمامة المعروف بالكذاب، المذكور بحديث جعفر الصادق (ع) ».

وقال الفخر الرازي في الشجرة المباركة في أنساب الطالبية / ٧٨: « أما أبو الحسن علي النقي فله من الأبناء ستة: أبو محمد الحسن العسكري الإمام، وأبو عبد الله جعفر الذي لقبوه ب‍الكذاب لا لطعن في نسبه، بل لأنه طعن في إمامة صاحب الزمان. والحسين مات قبل أبيه بسرمن رأى، وموسى، ومحمد هو أكبر أولاده، وعلي. واتفقوا على أن المعقب من أولاده ابنان: الحسن العسكري الإمام، وجعفر الكذاب. وله من البنات ثلاثة: عائشة، وفاطمة، وبريهة، وزوج بريهة محمد بن موسى بن محمد التقي ».

أقول: تفرد الفخر الرازي بذكر ثلاث بنات للهادي (ع)، ولعلها واحدة كان يطلق عليه أكثر من إسم، وبريهة التي ترجم لها لعلها بنت جعفر الكذاب، وكانت صالحة.

٤٥٤

وقال السيد ضامن بن شدقم في تحفة الأزهار في نسب أبناء الأئمة الأطهار / ٤٦١: « فأبو الحسن علي النقي (ع) خلف أربعة بنين: أبا محمد الحسن العسكري (ع)، أمه أم ولد، والحسين، وأبا علي محمداً، وأبا كرين جعفراً الكذاب، وعايشة. أمهاتهم أمهات أولاد، وعقبهم أربعة أصول .. الخ. ».

وفي عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة / ١٩٩: « وأعقب من رجلين هما الإمام أبومحمد الحسن العسكري (ع) كان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وهوالقائم المنتظر عندهم، من أم ولد إسمها نرجس.

وإسم أخيه أبوعبد الله جعفر الملقب بالكذاب، لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن، ويدعى أبا كرين « أبا البنين خ. ل » لأنه أولد مائة وعشرين ولداً، ويقال لولده الرضويون نسبة إلى جده الرضا.

وأعقب من جماعة، انتشر منهم عقب ستة ما بين مقل ومكثر، وهم إسماعيل حريفا، وطاهر، ويحيى الصوفي، وهارون، وعلي، وإدريس ».

أقول: اتفقت مصادر الأنساب على أن أبناء الإمام الهادي (ع) ثلاثة غير الإمام الحسن العسكري (ع): وهم محمد وحسين وجعفر، المعروف بجعفر الكذاب:

محمد بن الإمام الهادي، المعروف بالسيد محمد

ويعرف بالسيد محمد، وقبره قرب بلد، يزار وله كرامات. ويسمونه: سبع الدجيل. وكان أكبرأولاد الإمام الهادي، وتوفي في حياة أبيه،فصارالحسن أكبرهم (ع).

٤٥٥

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١٠ / ٥ »: « السيد أبو جعفر محمد بن الإمام علي أبي الحسن الهادي (ع). توفي في حدود سنة ٢٥٢. جليل القدر، عظيم الشأن، كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبيه (ع)، فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي (ع). وكان أبوه خلفه بالمدينة طفلاً لما أتي به إلى العراق ثم قدم عليه في سامراء. ثم أراد الرجوع إلى الحجاز، فلما بلغ القرية التي يقال لها بلد على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها، ومشهده هناك معروف. ولما توفي شق أخوه أبو محمد ثوبه، وقال في جواب من لامَهُ على ذلك: قد شقَّ موسى على أخيه هارون (ع) ».

وفي كتاب المصطفى والعترة للشاكري « ١٤ / ٢١ »: « الحسين بن الإمام الهادي (ع): نقل السيد محمد كاظم القزويني عن كتاب شجرة الأولياء: أن الحسين كان زاهداً عابداً معترفاً بإمامة أخيه أبي محمد الحسن العسكري (ع)، وكان صوت الإمام المهدي (ع) يشبه صوت عمه الحسين. وكان الناس يعبرون عنه وعن أخيه الإمام الحسن العسكري بالسبطين، تشبيهاً لهما بالإمامين الحسن والحسين (ع).

وكان له من الأولاد أربعة، وقد رحلوا بعد وفاة أبيهم عن سامراء إلى مدينة لار من بلاد فارس في إيران، فقتلوا بعد وصولهم إليها ».

٤٥٦

الحسين بن الإمام الهادي (ع)

ورد تشبيه صوت الإمام المهدي (ع) بصوته. « أمالي الطوسي / ٢٨٨ ».

وفي مستدركات الشيخ النمازي « ٣ / ١٧١ »: « الحسين بن علي بن محمد الإمام الهادي (ع): هو أخو الحسن العسكري (ع) يسميان بالسبطين، تشبيهاً لهما بجدهما الحسن والحسين صلوات الله عليهما. كان جليل القدر عظيم الشأن ».

وفي مسند الإمام العسكري « ١ / ٥٢ »: « أولاد الإمام أبي الحسن الهادي (ع) وهم جعفر ومحمد والحسين. أما محمد بن الإمام الهادي: هو صاحب الروضة المعروفة والقبة المشهورة في بلد بين بغداد وسامراء، تقصده الزوار من شتى النواحي. أما الحسين فقد كان ممتازاً في الديانة من سائر أقرانه وأمثاله، تابعاً لأخيه الحسن (ع) معتقداً بإمامته، ودفن في حرم العسكريين (ع) تحت قدميهما، كما ورد في هامش بحار الأنوار في باب أحوال أولاد الإمام الهادي (ع) ».

جعفر الكذاب

ادعى جعفر الكذاب الإمامة بعد وفاة أبيه، ثم بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري (ع). ويعرف بأبي كرين لكثرة أولاده، وقيل إن أبناءه بلغوا مئة وعشر ـ ين ابناً غير الإناث. وذريته كثيرة وفيهم صالحون أجلاء. ولم أجد ضبطاً لكلمة كرين أومعنى يربطها بكثرة الأولاد. ولعل أصلها « أبو الكُرَّيْن » مثنى كُر، ويقال كُرُّ حنطة أو كُرُّ ماء. وسيأتي موقفه في سيرة الإمام العسكري (ع). والذي يهون الخطب أنه أعرض عن ادعاء الإمامة، وقيل تاب وأناب. قال الشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف

٤٥٧

« ١ / ٣٧٢ »: « لكن إرادة الله غالبة، إذ سرعان ما انكشف زيف أمره، ثم ندم على ما فعل، وتاب على ما قيل ولذا سمي بجعفر الكذاب، ثم جعفر التواب. علماً بأنه من الناس العاديين الذين يجوز عليم الكذب والخطأ والنسيان والعصيان، وادعاء الباطل والحسد. وهذا ليس بغريب في الكون وقد سبقه قابيل بقتل أخيه هابيل، وإخوة يوسف عند ما ألقوا يوسف في الجب ».

وقال الشيخ مُغنية في الشيعة في الميزان / ٢٥٠: « كان للإمام العسكري أخ يسمى جعفراً، وكان يكيد له ويدس عليه وعلى شيعته الدسائس عند الخلفاء، وقد لحق بالموالين الأذى والحبس والتشريد من وشايته وافتراءاته، وادعى الإمامة بعد أخيه، ولذلك قيل له الكذاب.

وجاء جعفر هذا إلى الوزير ابن خاقان بعد أن قُبض أخوه الإمام وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأعطيك في كل سنة عشرين ألف دينار. فنهره الوزير وقال له: يا أحمق إن السلطان جرد سيفه وسوطه على الذين والوا أباك وأخاك ليردهم عن ذلك فلم يقدر، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى إمام يرتبك مراتبهم، وإن لم تكن عندهم بهذه المرتبة لم تنلها، وإن ساندك السلطان وغيره. ثم أمر الوزير أن يحجب عنه جعفر ولا يؤذن له عليه بالدخول.

٤٥٨

وصدق ابن خاقان، فإن منصب الإمامة والرياسة عند الشيعة لا يناط بإرادة الحكام، ولا ينال بالشفاعات والوساطات، كما هوالشأن في تعيين المشيخات والقضاة والمفتين. إن الرياسة عند الإمامية تعود إلى إرادة الله سبحانه ».

وروى الصدوق في كمال الدين / ٣١٩، عن فاطمة بنت محمد بن الهيثم، قالت: « كنت في دار أبي الحسن علي بن محمد العسكري في الوقت الذي ولد فيه جعفر، فرأيت أهل الدار قد سُرُّوا به، فصرت إلى أبي الحسن (ع) فلم أره مسروراً بذلك فقلت له: يا سيدي، ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال (ع): هَوِّني عليك أمره، إنه سيُضَلُّ خلقاً كثيراً ». ورواه المسعودي في إثبات الوصية ٢٣٩، عن جماعة.

وروى في الكافي « ١ / ٥٠٣ » حديثاً بليغاً يعطي صورة واضحة عن الإمام العسكري (ع) وأخيه جعفر، قال: « كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب فقال: ما رأيتُ ولا عرفتُ بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه، عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس. فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي « كان أبوه رئيس وزراء » وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى! فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً ولا أعلمه فعل

٤٥٩

هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، قال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا يعني الموفق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى.

فقلت لحُجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات « أي المشاورات » وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً! فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال، فلم يكن

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477