الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154539 / تحميل: 6635
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النعش. قالوا جميعاً: فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس، محلل الإزرار خلف النعش، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه، يمشي راجلاً خلف النعش، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش، ولا يتقدم النعش.

وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها، معتمٌّ محبتكُ الإزار، طلق الوجه، على حمار يماني، يتقدم النعش. فلما نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة، ورأوا زي أبي محمد وفعله، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم، وكشفوا عمائمهم، ومنهم من شق جيبه، وحل إزاره، ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب، وركوبه وخلافه على أخيه ...

لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار على مصطبة عالية كانت على باب الديوان، وأمر أحمد بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع فصلى عليه خمس تكبيرات، وصلى السلطان بصلاتهم ..

وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال.

٤٤١

قالوا جميعاً: وسمعنا الناس يقولون: هكذا كنا نحن جميعاً نعلم ما عند سيدنا أبي محمد الحسن من شق جيبه. قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

وفي الهداية الكبرى / ٣٨٣: « حدثني أبو الحسن علي بن بلال وجماعة من إخواننا: أنه لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيدنا أبي الحسن (ع) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه، فركب أبو محمد إلى المعتز، فلما دخل عليه رحب به وعزاه وأمر فرتب بمرتبة أبيه (ع) وأثبت له رزقه وزاد فيه، فكان الذي يراه لا يشك إلا أنه في صورة أبيه (ع)، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (ع) ».

وفي إثبات الوصية للمسعودى « ١ / ٢٤٢ »: « واعتل أبوالحسن علته التي مضى فيها صلى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحضر أبا محمد ابنه (ع) فسلم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء (ع) والسلاح، وأوصى إليه، ومضى صلى الله عليه، وَسِنُّه أربعون سنة.

وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة، فأقام مع أبيه (ع) نحوسبع سنين، وأقام منفرداً بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً.

٤٤٢

وحدثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنه دخل الدار، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين، واجتمع خلق من الشيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد (ع) ولا عرف خبره إلا الثقات الذين نص أبوالحسن عندهم عليه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهم في ذلك إذْ خرج من الدار الداخلة خادمٌ فصاح بخادم آخر: يا رَيَّاشُ خذ هذه الرقعة وامض بها الى دار أمير المؤمنين وأعطها الى فلان وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف الناس لذلك، ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود، ثم خرج بعده أبومحمد (ع) حاسراً مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة بيضاء، وكان وجهه وجه أبيه (ع) لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلا قام على رجله، ووثب إليه أبومحمد الموفق فقصده أبومحمد (ع) فعانقه ثم قال له: مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق، والناس كلهم بين يديه.

وكانت الدار كالسوق بالأحاديث، فلما خرج وجلس أمسك الناس، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (ع) فقال أبومحمد: ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها، فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (ع) فنهض صلى الله عليه وأخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار

٤٤٣

موسى بن بقا، وقد كان أبومحمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرج المعتمد، ثم دفن في دار من دوره.

واشتد الحر على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشاً « مصطبة » فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض، قد نزل عنه فسأله أن يركبه، فركب حتى أتى الدار ونزل.

وخرج في تلك العشية الى الناس، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (ع) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص. وتكلمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم: هل رأيتم أحداً من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟فوقَّعَ الى من قال ذلك: يا أحمق ما يدريك ما هذا، قد شق موسى على هرون. وقام أبومحمد الحسن بن علي مقام أبيه (ع) ».

ملاحظات على شهادة الإمام (ع) ومراسم جنازته

١. شاء الله عز وجل أن يحفظ الإمام الهادي (ع) من المتوكل، وأفشل محاولاته لقتل الإمام (ع). وأن يُقِرَّ عين وليه الإمام الهادي (ع) فيريه نهاية عدوه المتوكل فسلط عليه غلمانه الأتراك، فقتلوه وهو سكران ذاهب العقل!

كما شاء عز وجل أن تكون شهادة الإمام (ع) بيد المعتز، وهو الزبير بن المتوكل وكانت أمه جميلة جداً فسماها المتوكل قبيحة لإبعاد الحسد عنها، وقد جمعت ثروةً طائلة لكنها بخلت أن تنقذ ابنها من القتل! وقد صح الحديث بأنه لايقتل

٤٤٤

الأنبياء والأوصياء (ع) إلا أولاد الحرام، فقد سئل الصادق (ع) عن قوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ فقيل له: من كان يمنعه؟ قال: منعه أنه كان لرَشْدَةٍ، لأن الأنبياء والحجج لايقتلهم إلا أولاد زنا! « كامل الزيارات / ١٦٣ ».

٢. كانت شهادة الإمام (ع) بعد حرب استمرت سنة بين سامراء وبغداد، من محرم ٢٥١ الى ٢٥٢ ، بين خليفتين هما: المعتز والمستعين « الطبري: ٧ / ٤٤٥ » وحكم المعتز بعدها نحو ثلاث سنين الى سنة ٢٥٥ ، وأقدم على قتل الإمام (ع) في رجب في سنة ٢٥٤ ، ثم ثار عليه الأتراك وقتلوه في السنة التالية ٢٥٥ ، ونصبوا المهتدي.

فمن هو المستفيد من قتل الإمام الهادي (ع)، ومن الذي خطط لقتله؟

الأمر المرجح أن المخطِّط والمنفِّذ هو المعتز، فقد قتل المستعين مع أنه خلع نفسه وبايعه، ولعله كان يخاف من تفاقم الثورات العلوية، وأن يرفع ثائر منها إسم الإمام (ع) فينجذب الناس الى بيعته ويبايعوه!

٣. أمر المعتز أخاه المعتمد أن يقيم للإمام (ع) تشييعاً كبيراً، وأن تحمل جنازته الى دار الخلافة ليصلي عليها، قال في الهداية / ٢٤٨: « فإن السلطان لما عرف خبر وفاته، أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته، وأن يُحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه ». فصلوا عليه في دار الخليفة، ثم صلوا عليه في شارع كبير، ثم صلوا عليه في داره ودفنوه حيث أوصى. « مروج الذهب: ٤ / ٨٤، واليعقوبي: ٢ / ٥٠٠ ».

٤. كانت سياسة السلطة القرشية دائماً المبالغة في تشييع الإمام من العترة الطاهرة (ع)، ولهم في ذلك أغراض، أولها أن يبعدوا عن أنفسهم جريمة قتله!

٤٤٥

بل كانوا يحرصون على الكشف الطبي على جنازته، وإشهاد كبار القضاة والشهود بأن بدنه سالمٌ وأنه مات حتف أنفه! حتى لايطالب بنو هاشم بدمه.

واستعملوا هذا الأسلوب مع خلفائهم الذين قتلوهم، فكانوا يقتلون الخليفة بالتعذيب أو عصر خصيتيه، ثم يأتون بالشهود فيشهدون أنه مات حتف أنفه!

قال في معالم الخلافة « ٣ / ٣٧١ »: « لما وليَ المعتز لم يمض إلا مدة حتى أُحضر الناس وأخرج المؤيد فقيل: إشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر!

ثم مضت أشهر فأحضر الناس وأخرج المستعين، فقال: إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر فيه، فأشهدوا!

ثم مضت مُدَيْدَة واستخلف المهتدي فأخرج المعتز ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به! ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته »!

لكنهم كانوا يسلمون جنازة الخليفة الى أقاربه، ولايهتمون بالصلاة عليه وتشييعه، لأنه ليس له جماهير محبة كالإمام (ع) ليكسبها لخليفة الجديد بذلك!

٥. يتضح من أخبار تشييع الإمام (ع) ودفنه، أنهم كانوا يهتمون بالتشييع والصلاة على الجنازة والدفن. وفي اليوم الثاني يجلس أهل الميت لقبول التعزية. ففي الهداية / ٢٤٩: « وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح قالوا جميعاً: فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة.

٤٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شق جيبه على الذرية: يعقوب على يوسف حزناً. قال: يا أسفي على يوسف، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».

٦. اشترى النبي وعترته الطاهرون صلوات الله عليهم، محال قبورهم الشر ـ يفة على سنة أبيهم إبراهيم (ع)، فقد نصت التوراة ومصادرنا على أنه اشترى مكان قبره في الخليل من عفرون الحثي، وكان مزرعة فيها الغار الذي دفن فيه هو وأسرته (ع). واشترى النبي (ص) مكان مسجدة وبيوته وقبره الشر ـ يف، عندما بركت قربه الناقة: « وسأل عن المربد فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ ». « مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٦٠ ».

واشترى الإمام الهادي (ع) داره في سامراء، ثم اشترى دوراً ضمها اليها.

قال في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٧ »: « وفي هذه السنة، يعني سنة أربع وخمسين ومائتين، توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى، في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني ».

وفي إثبات الوصية للمسعودي « ١ / ٢٤٣ »: « وقد كان أبو محمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرجه المعتمد، ثم دفن في دار من دوره ».

فهو يدل على أنها كانت دورٌ متعددة متصلة ببعضها، وتدل عليه نصوص كثيرة وصفت دار أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري (ع).

منها ما رواه في الإرشاد « ٢ / ٣١٧ » يصف ساحة إحداها ولعلها الدار الأساسية: « عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس

٤٤٧

أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن (ع) وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس ».

ومنها قول الخادم كما في الكافي « ١ / ٣٢٩ »: « وكنت أدخل عليهم من غير إذن إذا كان في دار الرجال، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في دار الرجال ».

شاعران من أصحاب الإمام (ع) رثياه

أبو الغوث المنبجي الطهوي:

قال ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٠: « وأنشدني أبو منصور عبد المنعم بن النعمان العبادي قال: أنشدني الحسن بن مسلم الوهبي أن أبا الغوث الطهوي المنبجي شاعر آل محمد (ص) أنشده بعسكر سرمن رأى. قال الوهبي: وإسم أبي الغوث أسلم بن مهوز من أهل منبج. وكان البحتري يمدح الملوك، وهذا يمدح آل محمد (ص)، وكان البحتري أبو عبادة ينشد هذه القصيدة لأبي الغوث:

وَلِهْتُ إلى رُؤياكم وَلَهَ الصَّادي

يُذادُ عن الورد الرَّوِيِّ بِذَوَّادِ

مُحَلَّىً عن الورد اللذيذِ مساغُهُ

إذا طافَ وُرَّادٌ به بعدَ ُوَّراد

فأعملت فيكم كل هوجاء جسرةٍ

ذمولِ السُّرَى تَقتاد في كل مُقتاد

أجوبُ بها بيدَ الفَلا وتجوبُ بي

إليكَ ومالي غيرَ ذكركَ من زاد

فلما تراءتْ سُرَّ من رَا تَجَشَّمَتْ

إليك فَعَوْمُ الماء في مُفْعِمِ الوادي

فأدَّت إلينا تشتكي ألمَ السرى

فقلت اقصري فالعزمُ ليسَ بميَّاد

إذا ما بلغتِ الصادقينَ بني الرضا

فحسبُك من هادٍ يُشيرُ إلى هاد

٤٤٨

مقاويلُ إن قالوا بهاليلُ إن دُعوا

وُفَاةٌ بميعاد كُفَاةٌ لمرتاد

إذا أوعدوا أعْفَوْا وإن وعدوا وَفَوْا

فهم أهل فضلٍ عند وعدٍ وإيعاد

كرامٌ إذا ما أنفقوا المالَ أنفدوا

وليس لعلمٍ أنفقوهُ بإنفاد

ينابيعُ علم الله أطوادُ دينه

فهل من نفادٍ إن علمتَ لأطواد

نجومٌ متى نجمٌ خَبَا مثلُهُ بَدا

فصلى على الخابي المهمينُ والبادي

عبادٌ لمولاهم موالي عبادِه

شهودٌ عليهم يومَ حشر وإشهاد

هم حججُ الله اثنتي عشرةٍ متى

عددتَ فثاني عشرهم خَلَفُ الهادي

بميلاده الأنباءُ جاءتْ شهيرةً

فأعظمْ بمولودٍ وأكرمْ بميلاد

وقال ابن عياش: وهي طويلة كتبنا منها موضع الحاجة إلى الشاهد ».

محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري:

وروى ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر / ٥٣: أن محمد بن إسماعيل بن صالح الصيمري، وهو من أصحاب الإمام الهادي (ع) قال عند مرض الإمام (ع):

مَادت الأرضُ بي وآذتْ

فؤادي واعترتني مواردُ العَرْوَاء

حينَ قيل الإمامُ نِضْوٌ عليلٌ

قلتُ نفسي فدتهُ كلَّ الفداء

مرضَ الدينُ لاعتلالك واعتلَّ

وغارت لهُ نجومُ السماء

عجباً إن مُنيت بالداء والسقم

وأنت الإمامُ حسمُ الداء

وأنت أسى الأدواء في الدين

والدنيا ومُحْي الأموات والأحياء

وقال بعد شهادته يرثيه ويعزي ابنه أبا محمد (ع) أولها:

الأرض حزناً زلزلتْ زلزالها

وأخرجتْ من جزعٍ أثقالها

ثم عدد الأئمة وتكملتهم بالخلف المهدي (ع) وذلك قبل ميلاده:

عشرُ نجوم أفَلَتْ في فُلكها

ويُطلع الله لنا أمثالها

٤٤٩

بالحسن الهادي أبي محمد

تُدْرِكُ أشياعُ الهدى آمالها

وبعده من يرتجى طلوعُهُ

يَظل جوابَ الفلا جزَّالها

ذو الغيبة الطولى وبالحق التي

لا يقبل الله من استطالها

يا حجج الرحمن إحدى عشرةٍ

آلف بثاني عشرها مآلها »

أقول: في قصيديتي المنبجي والصيمري دلالات عديدة، منها: أن مرض الإمام الهادي (ع) طال، وقد يكون سقي السم عدة مرات كما حدث لعدد من آبائه (ع)، ولم تصلنا تفاصيل أخبار سمه ومرضه صلوات الله عليه.

ومنها: أنه استقر عند المتشرعة أن كلمة الإمام على إطلاقها تعني المعصوم من العترة.

ومنها: أن مذهب الإمامة كان منتشراً معروفاً بين الناس، وأنهم يقولون بإمامة اثني عشر إماماً ربانياً، كما بشر النبي (ص) وأن الإمام الهادي (ع) هو العاشر، وأن حفيده هو المهدي الموعود (ع) الذي سيغيب طويلاً.

٤٥٠

الفصل السابع عشر

بشارة الإمام الهادي بحفيده الإمام المهدي (ع)

نصه على إمامة ابنه الحسن العسكري (ع)

عقد في الكافي باباً « ١ / ٣٢٥ » بعنوان: باب الإشارة والنص على أبي محمد (ع)، أورد فيه بضعة عشرحديثاً، نص فيها على إمامة ولده الحسن بعده وبشر فيها بحفيده الإمام المهدي (ع). منها عن يحيى بن يسار القنبري قال: « أوصى أبو الحسن (ع) إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي.

وعن علي بن عمر النوفلي: « كنت مع أبي الحسن (ع) في صحن داره فمر بنا محمد ابنه فقلت له: جلعت فداك هذا صاحبنا بعدك؟فقال:لا،صاحبكم بعدي الحسن ».

وعن أحمد بن مروان الأنباري قال: « كنت حاضراً عند مضيِّ أبي جعفر محمد بن علي، فجاء أبو الحسن (ع) فوُضع له كرسي فجلس عليه وحوله أهل بيته، وأبو محمد قائم في ناحية، فلما فرغ من أمر أبي جعفر التفت إلى أبي محمد (ع) فقال: يا بنيَّ أحدث لله تبارك وتعالى شكراً، فقد أحدث فيك أمراً ».

أي أظهرَ الله تعالى أنك الإمام بعدي وليس أخاك الأكبر الذي توفي، كما تصور البعض، لأن أئمة العترة (ع) كما قال الله تعالى: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

ومن ذلك: « عن جماعة من بني هاشم، منهم الحسن بن الحسن الأفطس أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد بابَ أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في

٤٥١

صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً، سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لانعرفه فنظر إليه أبوالحسن (ع) بعد ساعة فقال: يا بنيَّ أحدثْ لله عز وجل شكراً، فقد أحدث فيك أمراً. فبكى الفتى وحمد الله تعالى واسترجع وقال: الحمد لله رب العالمين، وأنا أسأل الله عز وجل تمام نعمه لنا فيك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فسألنا عنه فقيل هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة، أو أرجح، فيومئذ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة، وأقامهُ مقامه ».

وعن أبي بكر الفهفكي قال: « كتبت الى أبي الحسن (ع) أسأله عن مسائل، فلما نفذ الكتاب قلت في نفسي: لو أني كتبت فيما كتبت أسأله عن الخلف من بعده، وذلك بعد مضي محمد ابنه. فأجابني عن مسائلي: وكنتَ أردتَ أن تسألني عن الخلف، وأبو محمد ابني أصح آل محمد غريزةً، وأوثقهم عقيدةً بعدي، وهو الأكبر من ولدي، إليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها. فما كنت سائلاً عنه فسله فعنده علم ما يُحتاج إليه، والحمد لله ».

وعن الجلاب قال: « كتب إليَّ أبو الحسن في كتاب: أردتَ أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك، فلا تغتم فإن الله عز وجل: لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وصاحبك بعدي أبو محمد ابني، وعنده ما

٤٥٢

تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ».

تبشيره بحفيده المهدي الموعود (ع)

عن داود بن القاسم قال: « سمعت أبا الحسن (ع) يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: إنكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره باسمه، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (ع) ». « الكافي: ١ / ٣٢٧ ».

وفي كمال الدين / ٣٨٣: « عبد الله بن أحمد الموصلي قال: حدثنا الصقر بن أبي دلف قال: سمعت علي بن محمد بن علي الرضا (ع) يقول: إن الإمام بعدي الحسن ابني وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ».

وفي تفسير العسكري / ٣٤٤، عن الهادي (ع) قال: « لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله. ولكنهم الذين يمسكون أزمَّةَ قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل ».

٤٥٣

أولاد الإمام الهادي (ع)

قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣١٢ »: « وتوفي أبو الحسن (ع) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسر من رأى، وخلف من الولد: أبا محمد الحسن ابنه وهو الإمام من بعده، والحسين، ومحمداً، وجعفراً، وابنته عائشة. وكان مقامه بسر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهراً، وتوفي وسنه يومئذ على ما قدمناه إحدى وأربعون سنة ».

وفي الهداية الكبرى / ٣١٣: « وله من الولد: الحسن الإمام، ومحمد، والحسين، وجعفر المدعي الإمامة المعروف بالكذاب، المذكور بحديث جعفر الصادق (ع) ».

وقال الفخر الرازي في الشجرة المباركة في أنساب الطالبية / ٧٨: « أما أبو الحسن علي النقي فله من الأبناء ستة: أبو محمد الحسن العسكري الإمام، وأبو عبد الله جعفر الذي لقبوه ب‍الكذاب لا لطعن في نسبه، بل لأنه طعن في إمامة صاحب الزمان. والحسين مات قبل أبيه بسرمن رأى، وموسى، ومحمد هو أكبر أولاده، وعلي. واتفقوا على أن المعقب من أولاده ابنان: الحسن العسكري الإمام، وجعفر الكذاب. وله من البنات ثلاثة: عائشة، وفاطمة، وبريهة، وزوج بريهة محمد بن موسى بن محمد التقي ».

أقول: تفرد الفخر الرازي بذكر ثلاث بنات للهادي (ع)، ولعلها واحدة كان يطلق عليه أكثر من إسم، وبريهة التي ترجم لها لعلها بنت جعفر الكذاب، وكانت صالحة.

٤٥٤

وقال السيد ضامن بن شدقم في تحفة الأزهار في نسب أبناء الأئمة الأطهار / ٤٦١: « فأبو الحسن علي النقي (ع) خلف أربعة بنين: أبا محمد الحسن العسكري (ع)، أمه أم ولد، والحسين، وأبا علي محمداً، وأبا كرين جعفراً الكذاب، وعايشة. أمهاتهم أمهات أولاد، وعقبهم أربعة أصول .. الخ. ».

وفي عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة / ١٩٩: « وأعقب من رجلين هما الإمام أبومحمد الحسن العسكري (ع) كان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وهوالقائم المنتظر عندهم، من أم ولد إسمها نرجس.

وإسم أخيه أبوعبد الله جعفر الملقب بالكذاب، لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن، ويدعى أبا كرين « أبا البنين خ. ل » لأنه أولد مائة وعشرين ولداً، ويقال لولده الرضويون نسبة إلى جده الرضا.

وأعقب من جماعة، انتشر منهم عقب ستة ما بين مقل ومكثر، وهم إسماعيل حريفا، وطاهر، ويحيى الصوفي، وهارون، وعلي، وإدريس ».

أقول: اتفقت مصادر الأنساب على أن أبناء الإمام الهادي (ع) ثلاثة غير الإمام الحسن العسكري (ع): وهم محمد وحسين وجعفر، المعروف بجعفر الكذاب:

محمد بن الإمام الهادي، المعروف بالسيد محمد

ويعرف بالسيد محمد، وقبره قرب بلد، يزار وله كرامات. ويسمونه: سبع الدجيل. وكان أكبرأولاد الإمام الهادي، وتوفي في حياة أبيه،فصارالحسن أكبرهم (ع).

٤٥٥

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١٠ / ٥ »: « السيد أبو جعفر محمد بن الإمام علي أبي الحسن الهادي (ع). توفي في حدود سنة ٢٥٢. جليل القدر، عظيم الشأن، كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبيه (ع)، فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي (ع). وكان أبوه خلفه بالمدينة طفلاً لما أتي به إلى العراق ثم قدم عليه في سامراء. ثم أراد الرجوع إلى الحجاز، فلما بلغ القرية التي يقال لها بلد على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها، ومشهده هناك معروف. ولما توفي شق أخوه أبو محمد ثوبه، وقال في جواب من لامَهُ على ذلك: قد شقَّ موسى على أخيه هارون (ع) ».

وفي كتاب المصطفى والعترة للشاكري « ١٤ / ٢١ »: « الحسين بن الإمام الهادي (ع): نقل السيد محمد كاظم القزويني عن كتاب شجرة الأولياء: أن الحسين كان زاهداً عابداً معترفاً بإمامة أخيه أبي محمد الحسن العسكري (ع)، وكان صوت الإمام المهدي (ع) يشبه صوت عمه الحسين. وكان الناس يعبرون عنه وعن أخيه الإمام الحسن العسكري بالسبطين، تشبيهاً لهما بالإمامين الحسن والحسين (ع).

وكان له من الأولاد أربعة، وقد رحلوا بعد وفاة أبيهم عن سامراء إلى مدينة لار من بلاد فارس في إيران، فقتلوا بعد وصولهم إليها ».

٤٥٦

الحسين بن الإمام الهادي (ع)

ورد تشبيه صوت الإمام المهدي (ع) بصوته. « أمالي الطوسي / ٢٨٨ ».

وفي مستدركات الشيخ النمازي « ٣ / ١٧١ »: « الحسين بن علي بن محمد الإمام الهادي (ع): هو أخو الحسن العسكري (ع) يسميان بالسبطين، تشبيهاً لهما بجدهما الحسن والحسين صلوات الله عليهما. كان جليل القدر عظيم الشأن ».

وفي مسند الإمام العسكري « ١ / ٥٢ »: « أولاد الإمام أبي الحسن الهادي (ع) وهم جعفر ومحمد والحسين. أما محمد بن الإمام الهادي: هو صاحب الروضة المعروفة والقبة المشهورة في بلد بين بغداد وسامراء، تقصده الزوار من شتى النواحي. أما الحسين فقد كان ممتازاً في الديانة من سائر أقرانه وأمثاله، تابعاً لأخيه الحسن (ع) معتقداً بإمامته، ودفن في حرم العسكريين (ع) تحت قدميهما، كما ورد في هامش بحار الأنوار في باب أحوال أولاد الإمام الهادي (ع) ».

جعفر الكذاب

ادعى جعفر الكذاب الإمامة بعد وفاة أبيه، ثم بعد وفاة أخيه الإمام الحسن العسكري (ع). ويعرف بأبي كرين لكثرة أولاده، وقيل إن أبناءه بلغوا مئة وعشر ـ ين ابناً غير الإناث. وذريته كثيرة وفيهم صالحون أجلاء. ولم أجد ضبطاً لكلمة كرين أومعنى يربطها بكثرة الأولاد. ولعل أصلها « أبو الكُرَّيْن » مثنى كُر، ويقال كُرُّ حنطة أو كُرُّ ماء. وسيأتي موقفه في سيرة الإمام العسكري (ع). والذي يهون الخطب أنه أعرض عن ادعاء الإمامة، وقيل تاب وأناب. قال الشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف

٤٥٧

« ١ / ٣٧٢ »: « لكن إرادة الله غالبة، إذ سرعان ما انكشف زيف أمره، ثم ندم على ما فعل، وتاب على ما قيل ولذا سمي بجعفر الكذاب، ثم جعفر التواب. علماً بأنه من الناس العاديين الذين يجوز عليم الكذب والخطأ والنسيان والعصيان، وادعاء الباطل والحسد. وهذا ليس بغريب في الكون وقد سبقه قابيل بقتل أخيه هابيل، وإخوة يوسف عند ما ألقوا يوسف في الجب ».

وقال الشيخ مُغنية في الشيعة في الميزان / ٢٥٠: « كان للإمام العسكري أخ يسمى جعفراً، وكان يكيد له ويدس عليه وعلى شيعته الدسائس عند الخلفاء، وقد لحق بالموالين الأذى والحبس والتشريد من وشايته وافتراءاته، وادعى الإمامة بعد أخيه، ولذلك قيل له الكذاب.

وجاء جعفر هذا إلى الوزير ابن خاقان بعد أن قُبض أخوه الإمام وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأعطيك في كل سنة عشرين ألف دينار. فنهره الوزير وقال له: يا أحمق إن السلطان جرد سيفه وسوطه على الذين والوا أباك وأخاك ليردهم عن ذلك فلم يقدر، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى إمام يرتبك مراتبهم، وإن لم تكن عندهم بهذه المرتبة لم تنلها، وإن ساندك السلطان وغيره. ثم أمر الوزير أن يحجب عنه جعفر ولا يؤذن له عليه بالدخول.

٤٥٨

وصدق ابن خاقان، فإن منصب الإمامة والرياسة عند الشيعة لا يناط بإرادة الحكام، ولا ينال بالشفاعات والوساطات، كما هوالشأن في تعيين المشيخات والقضاة والمفتين. إن الرياسة عند الإمامية تعود إلى إرادة الله سبحانه ».

وروى الصدوق في كمال الدين / ٣١٩، عن فاطمة بنت محمد بن الهيثم، قالت: « كنت في دار أبي الحسن علي بن محمد العسكري في الوقت الذي ولد فيه جعفر، فرأيت أهل الدار قد سُرُّوا به، فصرت إلى أبي الحسن (ع) فلم أره مسروراً بذلك فقلت له: يا سيدي، ما لي أراك غير مسرور بهذا المولود؟ فقال (ع): هَوِّني عليك أمره، إنه سيُضَلُّ خلقاً كثيراً ». ورواه المسعودي في إثبات الوصية ٢٣٩، عن جماعة.

وروى في الكافي « ١ / ٥٠٣ » حديثاً بليغاً يعطي صورة واضحة عن الإمام العسكري (ع) وأخيه جعفر، قال: « كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب فقال: ما رأيتُ ولا عرفتُ بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه، عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس. فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي « كان أبوه رئيس وزراء » وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى! فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً ولا أعلمه فعل

٤٥٩

هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، قال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا يعني الموفق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى.

فقلت لحُجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه، حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات « أي المشاورات » وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً! فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال، فلم يكن

٤٦٠

المصلحة وناجماً عن سوء تدبيره، وبالتالي كان ذنباً ومعصية، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ والصحيح هو الثاني وإليك البيان:

إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول الله كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلا يخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين، فلو أطاعوه وساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه:( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلّا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة / ٤٧ ).

ولأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يشاركهم في الجهاد ولو طلبوا منه، قال سبحانه:( فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة / ٨٣ ).

ولو خالفوا واثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.

ولأجل هذا لـمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلّا دفعاً للفاسد أو الأفسد.

وبعبارة اُخرى: أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم، بل كان لهم في غياب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تخطيط ومؤآمرة أبطله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتخليف عليّعليه‌السلام مكانه كما هو مذكور في السيرة، قال سبحانه:( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / ٤٦ ).

والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى الله عليه وآله

٤٦١

وسلم ) أم لم يأذن، لكنصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.

نعم، إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإذنه فوّت مصلحة اُخرىٰ وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.

وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة، فيقول بلسان الإعتراض: « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفّي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر، صرّح به القرآن في غير هذا المورد، فإن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.

١ ـ كيفيّة الكلام، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه، قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه:( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد / ٣٠ ).

٢ ـ التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه، قال:( مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / ١٧٩ ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ الله سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.

وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء وإن فاتته

٤٦٢

معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.

وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان، يقول سبحانه:( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ *رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ *لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة / ٨٦ ـ ٨٩ ).

نعم استثنىٰ سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء، والمرضى والفقراء، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب، قال سبحانه:( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَىٰ وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا إلّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ *إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / ٩١ ـ ٩٣ ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم

ثمّ إنّ بعضهم اعتذر بأنّه يخشىٰ من نساء بني الأصفر فقال: يا رسول الله: « إئذن لي ولا تفتني فو الله لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لقد أذنت لك، فنزلت في حقّه هذه الآية:( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٤٩ ).

٤٦٣

والمراد أنّه انّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجزاؤه جهنّم(١) .

ثمّ خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلّفه إلّا إستثقالاً له وتخفّفاً منه، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ عليّ بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي، فقال: كذّبوا، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليُّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبي بعدي، فرجع عليٌّ إلى المدينة، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على سفره(٢) .

حديث تخلّف الثلاثة

ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم: كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم، فهجرهم الناس حتى الصبيان، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلن له: يا رسول الله نعتزلهم ؟ فقال: لا ولكن لا يقربوكنّ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم، فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلّا نتهاجر نحن أيضاً، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ٢ ص ٥١٦.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٥٢٠.

٤٦٤

يوماً يتضرّعون إلى الله تعالى، فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية(١) :

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه / ١١٨ ).

والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن اُولئك، أنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره، ، واشتداد شوكته.

وبعبارة اُخرى: نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.

نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقر دارهم، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم، وما هذه الظاهرة إلّا لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.

__________________

(١) ونقله القمّي في تفسيره بصورة مفصّلة، ومن أراد فليرجع إلى ج ٢ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٠، لاحظ مجمع البيان: ج ٣ ص ٧٩.

٤٦٥

هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو:

إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار

كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا: إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة، فقال لهم: إنّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله.

فلمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي:

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إلّا الحُسْنَىٰ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٤٦٦

الظَّالِمِينَ *لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / ١٠٧ ـ ١٠٩ ).

وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي الله ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح، فلمّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثمَّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.

وسمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا عامر: « الفاسق »، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.

فلمّا نزلت الآية أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقىٰ فيها الجيف.

وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجئ الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.

٤٦٧

وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوىٰ الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك:

فلمّا انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك أتاه صاحب أيله(١) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، فكتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهم كتاباً، فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك بضعة عشر ليلة ولم يجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.

تآمر المنافقين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المفسّرون أنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم، وعمّار كان يقود دابّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحذيفة يسوقها، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال: أكره أن تقول العرب لـمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم(٢) .

روى الواقدي: لـمّا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض

__________________

(١) مدينة في فلسطين.

(٢) مجمع البيان: ج ٣ ص ٤٦.

٤٦٨

الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبرهم.

فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه، فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وظنّ القوم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد اطّلع على مكرهم فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.

وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فساق به، فلمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من العقبة نزل الناس فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال: يا رسول الله عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، فنزلت في حقّهم هذه الآية:

( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ *وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) ( التوبة / ٦٤ ـ ٦٥ )(١) .

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٣.

٤٦٩
٤٧٠

(١١)

البراءة من المشركين

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لـمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف، فكان من وافىٰ مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثمّ يردّه، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلّا ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده، فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها، فقالت: كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة، وأشرف لها الناس، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها، وقالت شعراً:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

فلما فرغت من الطواف، خطبها جماعة، فقالت: إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلّا من قاتله، ولا يحارب إلّا من حاربه وأراده، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاتل أحداً قد تنحّىٰ عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلّا الذين قد عاهدهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة إلى مدّة، منهم: صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو، فقال الله عزّ وجلّ:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.

٤٧١

هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا محمّد لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام في طلب أبي بكر، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله أنزل الله فيّ شيئاً ؟ فقال: لا إنّ الله أمرني أن لا يؤدّي عني إلّا أنا أو رجل منّي(١) .

هذا مجمل ما روته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور:

١ ـ لماذا لم يحجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه في هذا العام ؟

روى المفسّرون أنّه أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك فأراد الحج، فقيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فقال: لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك(٢) .

ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.

__________________

(١) تفسير القمي: ج ١ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٢) تفسير الطبري: ج ١١ ص ٤٤.

٤٧٢

٢ ـ اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم.

فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا:

بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر(١) .

وروى السيوطي في الدر المنثور قال: أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن عليٍّرضي‌الله‌عنه قال: لـمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي: أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه(٢) .

روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عباس ـ واللّفظ للأخير: إنّه لـمّا نزل( بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبا بكر إلى مكّة لأدائها، فنزل جبرئيل وقال: إنّه لا يؤدّيها إلّا أنت أو رجل منك، فقال النبي لعليٍّ: إركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر وخذ براءة منه(٣) .

والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى، وسيوافيك أنّ عليّاًعليه‌السلام قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الدر المنثور: ج ١٠ ص ١٢٢.

(٣) تفسير البرهان: ج ٢ ص ١٠٥.

٤٧٣

المشركين منذ يوم التلاوة وكان يوم العاشر من ذي الحجة لا العشرين منه.

وإليك الآيات العشر الواردة في شأن تلك القصة نسوقها إليك لتقف عن كثب على مضمونها وما ورد فيها حول تلك الحادثة:

قال عزّ من قائل:( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ *وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إلّاالَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ *كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ *كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ *اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( براءة / ١ ـ ١٠ ).

٣ ـ لماذا عزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر عن مهمّة التبليغ:

قد تضافرت النصوص على أنّه لـمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاًعليه‌السلام فقال له: أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم، فخرج عليٌّعليه‌السلام من المدينة فلحق أبا بكر في الجحفة وأخذ

٤٧٤

الكتاب منه، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنزل فيّ شيء ؟ قال: لا، ولكن جبرئيل جاءني فقال: لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك(١) .

وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة.

قال البغوي في تفسيره: لـمّا كانت سنة تسع وأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحج قيل له: إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعث بعده عليّاً ( كرم الله وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنىٰ وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمّة رسوله من كلّ مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلّا رجل من أهلي(٢) .

وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أمير المؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلّا هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون(٣) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣، ص ٢٠٩، كنز العمال: ج ١ ص ٢٤٧، تاريخ ابن كثير: ج ٥ ص ٣٨.

(٢) تفسير البغوي: ج ٢ ص ٢٦٧.

(٣) وقد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها والمرسلة في موسوعته الثمينة الغدير ونقله عن ثلاثة وسبعين محدّثاً ومفسّراً ومؤرّخاً لاحظ: ج ٦ ص ٣٣٨ ـ ٣٥٠.

٤٧٥

وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت ٧٨٠ ه‍ ) في قصيدته:

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله

وصاحبه السامي لمجد مشيّد

إلى أن قال:

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً

وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عنّي ينبغي

لمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد(١)

وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّعليه‌السلام مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها:

١ ـ ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله: ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاًعليه‌السلام هو الخليفة بعد رسول الله دون أبي بكر، وقوله: « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلّا رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية(٢) .

ويؤاخذ عليه:

أوّلاً: بأنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلّا عاقده أو رجل من أهل بيته، مع إنّا نرى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذكره أبداً.

وثانياً: إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما

__________________

(١) نفح الطيب: ج ٤ ص ٦٠٣.

(٢) روح المعاني: ج ١٠ ص ٤٥، وقد أخذه عن تفسير ابن كثير: ج ٢، ص ٣٣١.

٤٧٦

هي قيمتها عند النبي ؟ وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة، وقد قال يوم فتح مكّة: « ألا إنّ كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج »(١) .

وثالثاً: لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول الله ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعندما كان في بعض الطريق ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته، مع أنّ هذه السنّة لو كانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها، فهل الذهول عنها إلّا كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟

ورابعاً: إنّ عليّاًعليه‌السلام لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد، فقال: « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدّته الخ »(٢) .

وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام عليّعليه‌السلام مقصورة على مجرّد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله حيث أخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك ».

هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره.

وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل: « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليٌّ أسد الله ومظهر جلاله، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحدهما صفة الجمال ومن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٤١٢.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ج ٢ ص ٥٤٦.

٤٧٧