الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154500 / تحميل: 6633
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « ١ / ٥١ » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: ٢ / ٢٧٥ ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / ٣٥٢، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: ١ / ٥٣١ ».

قال في جمهرة الأمثال « ٢ / ٣٧٦ »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: ١ / ٦٣٠، والمستقصى للزمخشري / ٣٣٤، وطبقات الأطباء: ١ / ١٥٤: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: ١ / ١٧٢، والتذكرة الحمدونية / ١٤٩٧، وتاريخ دمشق: ١٩ / ١٨٩ ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

١. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / ٣٩٥: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

١. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

٢. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

٣. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

٤. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: ٣٦ ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / ٣٦٤ ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / ٤١٤: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

٢. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٠ » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « ١٨ / ١٩٩ » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: ٢ / ١١٩، والقلقشندي في معالم الخلافة: ١ / ٢٣٢، والأبشيهي في المستطرف: ٢ / ٨٧٤، وغيرهم، وغيرهم .

٣. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « ١ / ٥٠٢ »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

٤. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

٥. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

٦. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / ٣٢٠: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

٧. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / ٢٦٧ ».

وفي الخرائج: ١ / ٤٠٢: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / ٥٣٩: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: ١ / ٤١٢: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

٨. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / ٣٢٢: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الشافعية ، والثاني : لا خيار ؛ لحصول الملك في الحال وقد يؤدّي المالك الزكاة من غيره(١) .

ولو دفع المالك الزكاة من موضع آخر سقط خيار المشتري ؛ لزوال العيب ، ويحتمل ثبوته ؛ لإِمكان أن يخرج المدفوع مستحقاً فيبيع الساعي المال ، ولو أخرج الزكاة ثم باع فلا خيار.

ولو قلنا ببطلان البيع في قدر الزكاة - كما اختاره الشيخ(٢) والشافعي(٣) - صحّ البيع في الباقي ، فللمشتري الخيار ، ولا يسقط خياره بأداء الزكاة من موضع آخر ؛ لأنّ العقد في قدر الزكاة لا ينقلب صحيحاً بذلك.

مسألة ١٣٣ : لو ادّعى المالك تلف النصاب أو إبداله في الحول أو عدم انتهاء الحول قُبل قوله‌ من غير يمين سواء في ذلك السبب الظاهر والخفي ، وسواء ادّعى ما هو الظاهر أو خلافه - وهو أحد قولي الشافعي(٤) - لأنّه أمين فيما في يده ، لأنّ الزكاة تجب على طريق المواساة والرفق فقُبل قوله فيه.

والقول الثاني للشافعي : إن ادّعى الظاهر مثل عدم حولان الحول كان القول قوله ولا تجب اليمين بل يستحب أن يعرضها الساعي عليه للاستظهار وزوال التهمة.

فإن حلف فلا كلام ، وإن امتنع لم يطالبه بشي‌ء ؛ لأنّ اليمين ليست واجبة ، بخلاف المستودع إذا ادّعى التلف أو الردّ فإنّ اليمين تجب وإن كان أميناً ؛ لأنّ الوديعة حقّ للآدمي المتعيّن فكانت مبنيّةً على التضيّق ، والزكاة حقّ لله تعالى وجبت على طريق المواساة ، ولا يتعيّن فيها حقّ الآدمي وإنّما هو جهة لصرفها فافترقا.

____________________

(١) المجموع ٥ : ٤٦٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٥٤.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٠٨.

(٣) المجموع ٥ : ٤٦٩ ، فتح العزيز ٥ : ٥٥٣.

(٤) المجموع ٦ : ١٧٣ - ١٧٤.

٢٠١

وإن كان الظاهر مع الساعي مثل أن يدّعي إبدال النصاب أو أنّه باعه ثم اشتراه ، أو ادّعى أنّه كان وديعة ستة أشهر ثم ملكه ، أو ادّعى دفع الزكاة إلى غير هذا الساعي فإنّ الأصل عدم ما ذكره إلّا أنّ القول قوله ؛ لأنّه أمين.

وفي وجوب اليمين وجهان : الوجوب ؛ لأنّه خلاف الظاهر ، وليس بجيّد ؛ لما تقدّم ، وعدمه بل هي استظهار مستحب.

فعلى الأول لو امتنع طولب بالزكاة ولا يحلف الساعي ؛ لأنّه نائب عن الفقراء ، والنائب كالوكيل لا يحلف ، ولا يمكن إحلاف الفقراء ؛ لعدم تعيّنهم قبل الدفع.

ثم اعترض على نفسه : بأنّ الحكم لا يثبت بالنكول وقد ثبت هنا.

وأجاب : بأنّ الحكم ليس بالنكول بل بوجود النصاب في يده حولاً ، وإنّما يقبل قوله مع يمينه في إسقاطها ، فإذا لم يحلف اُخذ منه بالسبب المتقدّم ، كما لو امتنعت من اللعان(١) حُدّت بلعان الزوج لا بنكولها.

وعلى الثاني : إذا امتنع لم يطالب بالزكاة(٢) .

تذنيب : لو شهد عليه عدلان ببقاء عين النصاب أو بإقراره بما ينافي دعواه المسقطة للزكاة سمعت واُلزم بالزكاة.

مسألة ١٣٤ : لو عزل الزكاة فتلفت قبل أن يسلّمها إلى أهلها‌ إمّا المستحق أو الإِمام أو الساعي ، فإن كان بعد إمكان الأداء ضمن ولم تسقط عنه ، ووجبت عليه شاة اُخرى لا قيمة التالفة وإن كانت أزيد.

وإن كان قبل إمكان الأداء فالوجه عندي السقوط ، وبه قال مالك(٣) ؛

____________________

(١) يعني : كما في اللعان إذا لا عن الزوج ، لزم المرأة حدّ الزنا ، فإن لاعنت سقط ، وان امتنعت لزمها الحدّ لا بامتناعها بل بلعان الزوج. اُنظر : الهامش التالي.

(٢) المجموع ٦ : ١٧٤.

(٣) بداية المجتهد ١ : ٢٤٨ ، مقدمات ابن رشد ١ : ٢٣٥ - ٢٣٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

٢٠٢

لأنّها أمانة في يده فإذا تلفت لم يضمن كالساعي ، ولأنّه حقّ يتعيّن بتعيينه ، فإذا تلف لم ينتقل إلى غيره ، لأصالة البراءة.

وقال الشافعي : لا تسقط(١) ، لأنّ المال في يده مشترك فلا يتميّز حقّ غيره بفعله كالمشترك.

والاُولى ممنوعة ، نعم على تقدير قوله بأنّ إمكان الأداء شرط في الوجوب يسقط الفرض ، وعلى تقدير أنّه شرط الضمان يسقط بقدر ما تلف ، ووجب الباقي.

مسألة ١٣٥ : لو كان عنده أجناس مختلفة يقصر كلٌّ منها عن النصاب لم تجب الزكاة‌ وإن كانت لو جمعت زادت - عند علمائنا أجمع - سواء في ذلك المواشي والغلّات والنقدان.

وقد وقع الاتّفاق على عدم ضمّ جنس إلى جنس آخر في غير الحبوب والأثمان.

فالماشية ثلاثة أجناس : الإِبل والبقر والغنم لا يضمّ جنس منها إلى الآخر ، والأثمار لا يضمّ جنس إلى غيره فلا يضمّ التمر إلى الزبيب ، ولا تضم الأثمان إلى شي‌ء من السائمة ولا من الحبوب والاثمار.

ولا خلاف في أنّ أنواع الأجناس يضمّ بعضها إلى بعض في إكمال النصاب ، ولا خلاف في أنّ العروض للتجارة والأثمان لها يضمّ بعضها إلى بعض إلّا أنّ الشافعي لا يضمّها [ إلّا ](٢) إلى جنس ما اشتريت به ؛ لأنّ نصابها معتبر به(٣) .

واختلف الجمهور في ضمّ الحبوب بعضها إلى بعض ، وفي ضمّ أحد النقدين إلى الآخر.

____________________

(١) حلية العلماء ٣ : ١٤٦.

(٢) زيادة أثبتناها من المصدر.

(٣) المغني ٢ : ٥٩١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩.

٢٠٣

فعن أحمد ثلاث روايات : إحداها كقولنا بعدم الضمّ مطلقاً ، ويعتبر النصاب في كلّ جنس منها - وبه قال عطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح بن حي وشريك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. لأنّها أجناس فاعتبر النصاب في كلّ جنس منها منفرداً كالثمار والمواشي(١) .

وقال عكرمة وأحمد - في رواية - وحكاه ابن المنذر عن طاوس : إنّ الحبوب كلّها يضمّ بعضها إلى بعض في إكمال النصاب(٢) - قال أبو عبيد : لا نعلم أحداً من الماضين جمع بينهما إلّا عكرمة(٣) - لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في حب ولا تمر حتى يبلغ خمسة أوسق )(٤) .

وقال مالك والليث وأحمد في رواية : يضمّ الحنطة إلى الشعير ، والقِنْطيّات(٥) بعضها إلى بعض(٦) .

وفي ضم الذهب إلى الفضة عن أحمد روايتان ، فعلى الضمّ يؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصّه ، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلّا الذهب والفضة فإنّ في إخراج أحدهما عن الآخر روايتين(٧) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٥٩١ - ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، المجموع ٥ : ٥١٢ ، حلية العلماء ٣ : ٨٤ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦٦ ، الأموال لأبي عبيد : ٤٧٥.

(٢) المغني ٢ : ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، المجموع ٥ : ٥١٣.

(٣) الأموال لأبي عبيد : ٤٧٥ ، المغني ٢ : ٥٩٢.

(٤) أورده كما في المتن ابنا قدامة في المغني ٢ : ٥٩٢ ، والشرح الكبير ٢ : ٥٥٩ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١٢٨.

(٥) القِطْنيات ، جمع ، واحدتها : قِطْنية بكسر القاف ، وهي : الحبوب التي تدّخر كالحمّص والعدس ونحوهما. لسان العرب ١٣ : ٣٤٤ « قطن ».

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٠٣ ، بداية المجتهد ١ : ٢٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٣٤٨ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٦٧ - ١٦٨ ، المغني ٢ : ٥٩٢ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٦٠ ، المجموع ٥ : ٥١٣ ، فتح العزيز ٥ : ٥٦٩ ، حلية العلماء ٣ : ٨٤ ، الأموال لأبي عبيد : ٤٧٤.

(٧) المغني ٢ : ٥٩٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٦١.

٢٠٤

٢٠٥

المقصد الثالث

فيما تستحب فيه الزكاة‌

وفيه فصلان :

الأَوّل : في مال التجارة.

وفيه بحثان :

الأَوّل : في تحقيق ماهية مال التجارة.

مسألة ١٣٦ : مال التجارة هو المملوك بعقد معاوضة للاكتساب عند التملّك‌ ، فقصد التجارة لا بدّ منه فلو لم يقصده أو قصد القُنية ابتداءً أو انتهاءً لم يصر مال تجارة ، ولا يكفي مجرّد النيّة دون الشراء.

واقتران القصد بالملك(١) ، فلو كان يملك عرضاً لقُنيته فقصد التجارة بعد ذلك لم يصر للتجارة ، ولم ينعقد الحول عليه - وبه قال الشافعي وأحمد في رواية(٢) - لأنّ الأصل القُنية ، والتجارة عارض فلم ينصرف إليها بمجرّد النيّة كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم بدون الفعل.

____________________

(١) يعني : لا بدّ من اقتران القصد بالملك أيضاً.

(٢) الأم ٢ : ٤٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٨ - ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١.

٢٠٦

وعن أحمد رواية : أنّ العرض يصير للتجارة بمجرّد النية ؛ لقول سمرة : أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نخرج الصدقة ممّا يعدّ للبيع(١) ؛ وبالنيّة يصير معدّاً للبيع(٢) .

وليس بجيّد ؛ فإنّ النزاع وقع في أنّ المنويّ هل هو معدّ للبيع أم لا؟

وفي وجه للشافعي : أنّه يصير بالقصد مال التجارة كما لو كان عنده عرض للتجارة فنوى جعله للقُنية فإنّه يصير للقُنية(٣) .

والفرق ما تقدّم من أنّ الأصل الاقتناء ، والتجارة عارضة ، وبمجرّد النيّة يعود حكم الأصل ، ولا يزول حكم الأصل بمجرّدها.

مسألة ١٣٧ : ويشترط أن يملكه بفعله‌ إجماعاً ، فلو انتقل إليه بميراث لم يكن مال تجارة.

ويشترط أن يملكه بعوض عندنا - وبه قال الشافعي(٤) - فلو قصد التجارة عند الاتّهاب أو الاصطياد أو الاحتشاش أو الاغتنام أو قبول الوصية ، لم يصر مال التجارة.

وكذا لو قصد التجارة عند الردّ بالعيب أو الاسترداد حتى لو اشترى عرضاً للقُنية بمثله ثمّ ردّ ما اشتراه بعيب أو رُدّ عليه ما باعه فأخذه(٥) على قصد التجارة لم يصر مال تجارة.

لقول الصادقعليه‌السلام : « إن أمسك التماس الفضل على رأس ماله‌

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٩٥ / ١٥٦٢ ، سنن البيهقي ٤ : ١٤٦ - ١٤٧ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٧ - ١٢٨ / ٩.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤١ - ٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، وهو قول الكرابيسي من الشافعية.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٦ ، المجموع ٦ : ٤٨ و ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٢ و ٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩.

(٥) في « ط ، ف » والطبعة الحجرية : فأخذ. وما أثبتناه من « ن ».

٢٠٧

فعليه الزكاة »(١) وهو يدلّ على اعتبار رأس المال فيه.

ولأنّ القصد بالتجارة الاكتساب ، ولا يتحقّق المعنى إلّا إذا كان للسلعة رأس مال ، ولأنّه لم يملكه بعوض فأشبه الموروث.

وقال بعض الجمهور : لا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغيره ، لأنّه ملكه بفعله فأشبه ما لو ملكه بعوض(٢) .

والفرق ظاهر.

إذا ثبت هذا ، فإن كان عنده ثوب قُنية فاشترى به عبداً للتجارة ، ثمّ رُدّ الثوبُ بعيب انقطع حول التجارة ، ولا يكون الثوب مال تجارة ، لأنّه لم يكن مال تجارة حتى يعود عند انقطاع البيع على ما كان عليه.

ولو كان عنده ثوب للتجارة فباعه بعبد للقُنية ، ثم رُدّ عليه الثوب بالعيب لم يكن مال تجارة ؛ لأنّ قصد القُنية قطع حول التجارة.

مسألة ١٣٨ : يشترط كونها معاوضةً محضة‌ ، فلو اشترى بنيّة التجارة كان المتاع مال تجارة سواء اشتراه بعرض أو نقد ، وسواء اشتراه بعين أو دَيْن ، وسواء كان الثمن مال قُنية أو مال تجارة.

ولو صالح على عرض للتجارة بَديْن أو عين للقُنية أو التجارة صار العوض مال تجارة.

ولو خالع امرأته وقصد التجارة في عرض الخُلع ، أو نكحت امرأة ونوت التجارة في الصداق لم يصر مال تجارة ؛ لأنّ النكاح والخُلع ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : إنّه مال تجارة ؛ لأنّه ملك بالمعاوضة فيكتفى به في تعلّق الزكاة كما يكتفى به لثبوت‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٧ ( باب الرجل يشتري المتاع فيكسد عليه والمضاربة ) الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٠ / ٢٨ ، بتفاوت يسير.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٩.

٢٠٨

الشفعة(١) .

والأصل ممنوع.

مسألة ١٣٩ : يشترط الحول في تعلّق زكاة التجارة‌ إجماعاً ، فلو ملك مالاً للتجارة انعقد عليه الحول من حينئذٍ ، فإذا تمّ الحول تعلّقت الزكاة به ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )(٢) وهو عام.

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « إذا حال الحول فليزكّها » وقد سأله محمد بن مسلم عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها(٣) .

مسألة ١٤٠ : ويشترط النصاب - في الثمن في زكاة التجارة - في الحول من أوله إلى آخره‌ ، فلو نقص في الابتداء بأن يشتريه بأقلّ من نصاب ، ثم زاد السعر في أثناء الحول حتى بلغ نصاباً أو نقص في الانتهاء بأن كان قد اشترى بنصاب ، ثم نقص السعر عند انتهاء الحول أو في الوسط بأن يشتري بنصاب ، ثم ينقص السعر في أثناء الحول ، ثم يرتفع السعر في آخره فلا زكاة عند علمائنا ، وبه قال الثوري وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد وابن المنذر والشافعي - في قول - لأنّه قال : يعتبر الحول فيه والنصاب فيجب اعتبار كمال النصاب في جميع الحول كسائر الأموال التي يعتبر لها ذلك(٤) .

وقال أبو حنيفة : يعتبر في أوله لينعقد عليه الحول ، وفي آخره ؛ لأنّه وقت الوجوب ، ولا يعتبر فيما بينهما - وهو قول للشافعي أيضاً - لأنّ الأسعار‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٤٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٣.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧١ / ١٧٩٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٠ و ٩١ / ١ و ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٥٢٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٦ ، الإستبصار ٢ : ١٠ / ٢٩.

(٤) المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٥ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٠٩

تنخفض وترتفع ويعسر ضبطها ومراقبتها(١) .

ونمنع المشقّة ؛ فإنّ المتاع إن لم يقارب النصاب لم يحتج إلى تقويم لظهور معرفته ، وإن قارب سهل عليه التقويم ، وإلّا بني على أصالة البقاء لو كان نصاباً ، وعدم الزيادة لو قصر.

وقال مالك : إنّه يعتبر في آخر الحول - وهو أصح وجوه الشافعي - لكثرة اضطراب القِيَم(٢) ؛ وقد تقدّم.

مسألة ١٤١ : يشترط وجود رأس المال من أول الحول إلى آخره‌ ، فلو نقص رأس المال ولو حبّة ( في الحول )(٣) أو بعضه لم تتعلّق الزكاة به ، وإن عادت القيمة(٤) استقبل الحول من حين العود عند علمائنا أجمع - خلافاً للجمهور(٥) كافة - لأنّ الزكاة شُرّعت إرفاقاً بالمساكين فلا يكون سبباً لإِضرار المالك فلا يشرع مع الخسران ، ولأنّها تابعة للنماء عندهم وهو منفي مع الخسران.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إن أمسك متاعه ويبتغي رأس ماله فليس عليه زكاة ، وإن حبسه بعد ما وجد رأس ماله فعليه الزكاة بعد ما أمسكه بعد رأس ماله »(٦) .

احتجّوا بالعموم. والخاص مقدَّم.

____________________

(١) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٢ ، اللباب ١ : ١٤٩ ، المغني ٢ : ٦٢٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

(٣) ورد بدل ما بين القوسين في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق والطبعة الحجرية : ( في أثناء الحول ) وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٤) أي : إذا بلغ رأس المال.

(٥) كما في المعتبر للمحقق الحلّي : ٢٧٣.

(٦) الكافي ٣ : ٥٢٨ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٨ / ١٨٦ ، الاستبصار ٢ : ١٠ / ٢٩.

٢١٠

البحث الثاني

في الأحكام‌

مسألة ١٤٢ : زكاة التجارة مستحبة غير واجبة‌ عند أكثر علمائنا(١) ، وبه قال ابن عباس وأهل الظاهر كداود وأصحابه ومالك(٢) ، وقال الشافعي : هو القياس(٣) ، لقولهعليه‌السلام : ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق )(٤) ولم يفصّل بين ما يكون للتجارة والخدمة.

وقولهعليه‌السلام : ( ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة )(٥) فلو لا أنّ التجارة تحفظ من الزكاة وتمنع من وجوبها ما دلّهم عليها.

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « ليس في المال المضطرب به زكاة »(٦) .

وقال الباقرعليه‌السلام : « يا زرارة إنّ أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد‌

____________________

(١) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٤٠ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ١٧٦ ، والمبسوط ١ : ٢٢٠ ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٤ ، والخلاف ٢ : ٩١ ، المسألة ١٠٦ ، والسيد المرتضى في جُمل العلم والعمل ضمن رسائله ٣ : ٧٥ ، والمحقق في شرائع الإِسلام ١ : ١٤٢.

(٢) المجموع ٦ : ٤٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩ ، المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩.

(٣) حكاه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٢ ، المسألة ١٠٦.

(٤) شرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، مسند أحمد ١ : ١٢١ ، سنن البيهقي ٤ : ١١٨.

(٥) أورده كما في المتن الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٢ ، وبتفاوت يسير في الأموال لأبي عبيد : ٤٥٤ / ١٣٠٠.

(٦) التهذيب ٤ : ٧٠ / ١٩٠ ، الاستبصار ٢ : ٩ / ٢٥.

٢١١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عثمان : كل مال [ من ](١) ذهب أو فضة يدار ويعمل به ويتجر [ به ](٢) ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول ، فقال أبو ذر : أما ما اتّجر به أو دير وعُمل به فليس فيه زكاة ، إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازاً كنزاً موضوعاً فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة ، فاختصما في ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فقال : القول ما قال أبو ذر »(٣) .

ولأصالة البراءة ، ولدلالة مفهوم وجوب الزكاة في تسعة على نفيه عمّا سواها ، وغير ذلك.

وقال بعض علمائنا بالوجوب(٤) ، وهو قول الجمهور كالفقهاء السبعة وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي - في الجديد - وأبي عبيد وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي(٥) ، لقول سَمُرة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعدّه للبيع(٦) .

والأمر للندب تارة ، وللوجوب اُخرى ، فيحمل على الأول جمعاً بين الأدلّة ، ولو حمل على الوجوب حمل المعدّ للبيع على أحد النُصب التسعة ، والفائدة : إيجاب الزكاة وإن لم يتّخذ للقنية.

مسألة ١٤٣ : قد بيّنا أنّ شرط التعلّق عدم الخسران‌ ، وأن لا يطلب بنقص من رأس المال ، فإن بقي ناقصاً أحوالاً استحب أن يزكّيه عن سنة واحدة لقول الصادقعليه‌السلام وقد سأله العلاء عن المتاع لا اُصيب به رأس المال‌

____________________

(١و٢) زيادة من المصدر.

(٣) التهذيب ٤ : ٧٠ / ١٩٢ ، الاستبصار ٢ : ٩ / ٢٧.

(٤) يظهر القول بالوجوب من الصدوق في الفقيه ٢ : ١١.

(٥) المغني والشرح الكبير ٢ : ٦٢٣ ، المجموع ٦ : ٤٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٨ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢٠ ، اللباب ١ : ١٤٨.

(٦) سنن أبي داود ٢ : ٩٥ / ١٥٦٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٧ - ١٢٨ / ٩ ، سنن البيهقي ٤ : ١٤٦ - ١٤٧.

٢١٢

عليّ فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : أمسكه سنين ثم أبيعه ما ذا عليّ؟ قال : « سنة واحدة »(١) .

مسألة ١٤٤ : لو طُلب في أثناء الحول بزيادة أو نمى المتاع‌ بأن كانت مواشي فتوالدت ، أو نخلاً وغيره فأثمر لم يبن حول النماء على حول الأصل ، بل كان حول الأصل من حين الانتقال إذا كان نصاباً ، والزيادة من حين ظهورها ؛ لأنّها مال لم يحل عليه الحول فلا تتعلّق به الزكاة ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )(٢) .

وقال مالك وإسحاق وأبو يوسف وأحمد : حول النماء مبني على حول الأصل ؛ لأنّه تابع له في الملك فيتبعه في الحول كالسخال والنتاج(٣) .

ونمنع الحكم في الأصل وعلّية المشترك.

وقال أبو حنيفة : يبنى حول كل مستفاد على حول جنسه نماءً كان أو غيره(٤) .

وقال الشافعي : إن نضّت(٥) الفائدة قبل الحول لم يبن حولها على حول النصاب واستأنف لها حولاً ؛ لأنّها فائدة تامة لم تتولّد ممّا عنده فلم تبن على حوله كما لو استفاد من غير الربح.

ولو اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول فإنّه يضم الفائدة ، ويزكّي عن الجميع ، بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٩ / ١٨٩ ، الاستبصار ٢ : ١١ / ٣٢.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧١ / ١٧٩٢ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠١ / ١٥٧٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٦ / ٦٣٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٠ / ١ ، سنن البيهقي ٤ : ٩٥.

(٣) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧١ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٤٤.

(٤) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢.

(٥) المال الناضّ ، هي : الدراهم والدنانير. الصحاح ٣ : ١١٠٧ « نضض ».

٢١٣

نصاب فإنّه يزكّي عند رأس الحول عن النصاب ، ويستأنف للزيادة حولاً(١) .

ولا فرق عندنا بين ذلك كلّه في عدم الضمّ.

تذنيب : لو اشترى للتجارة بما ليس بنصاب فنمى حتى صار نصاباً انعقد الحول عليه من حين صار نصاباً في قول أكثر العلماء ، لأنّه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب فيه الزكاة كما لو نقص في آخره(٢) .

وقال مالك : لو كان له خمسة دنانير فتاجر فيها فحال الحول وقد بلغت نصاباً تعلّقت بها الزكاة(٣) ، وقد سلف بطلانه.

مسألة ١٤٥ : لو اشترى شقصاً للتجارة بألف ثم صار يساوي ألفين فعليه زكاة ألفين‌ ، فإن جاء الشفيع أخذه بألف ، لأنّ الشفيع إنّما يأخذ بالثمن لا بالقيمة ، والزكاة على المشتري ؛ لأنّها ثبتت وهو في ملكه ، ولو لم يأخذه الشفيع لكن وجد(٤) به عيباً فردّه فإنّه يأخذ من البائع ( ألفاً)(٥) .

ولو انعكس الفرض فاشتراه بألفين وحال الحول وقيمته ألف فلا زكاة عندنا ؛ للنقصان عن رأس المال.

وعند الجمهور عليه زكاة ألف ، ويأخذه الشفيع إن أخذه ويردّه بالعيب بالألفين ، لأنّهما الثمن الذي وقع البيع به(٦) .

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٢ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع وفتح العزيز ٦ : ٥٨.

(٢) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٥.

(٣) المغني ٢ : ٦٣٠ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٦ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٦١ ، بداية المجتهد ١ : ٢٧١.

(٤) أي : وجد المشتري.

(٥) ورد بدل ما بين القوسين في النسخ الخطية والطبعة الحجرية : ( أيضاً ) وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٦) المغني ٢ : ٦٣١ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤٣ ، المجموع ٦ : ٧٤.

٢١٤

مسألة ١٤٦ : لعلمائنا قولان في أنّ العامل يملك الحصة أو الاُجرة‌ ، فالأشهر الأول.

ومن قال : إنّه يملك الحصة ، اختلفوا على قولين : أحدهما : أنّه يملك بالظهور ، والآخر : يملك بالإِنضاض ، وسيأتي(١) البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قلنا لا يملك حصّة ، فالزكاة بأجمعها على المالك ؛ لأنّه يملك الربح والأصل معاً ، وإن قلنا : يملك بالظهور - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين(٢) - فعلى المالك زكاة الأصل ونصيبه من الربح.

وفي حصة العامل قولان : عدم الزكاة ؛ لأنّ ملكه غير مستقرّ عليه ، لأنّه وقاية لرأس المال عن الخسران.

والثاني : الثبوت ؛ للملك ، والتمكّن من التصرف فيه كيف شاء ، والقسمة ، وتعلّق حق الفقراء بذلك الجزء الذي هو لهم أخرجه عن كونه وقايةً لخسران يعرض ، وقوّاه الشيخ(٣) ، وللشافعي كالقولين(٤) .

وله آخر : أنّه كالمغصوب ، لأنّه غير متمكّن من التصرف فيه على حسب مشيئته(٥) .

وإن قلنا : إنّه يملك بالقسمة والإِنضاض - وهو أصح قولي الشافعي ، وبه قال مالك والمزني(٦) - فزكاة رأس المال على المالك.

____________________

(١) يأتي في المبحثين : الأول والرابع من الفصل الثالث من المقصد الرابع في القراض.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ٣٩٤ ، المجموع ٦ : ٧١ و ١٤ : ٣٧٧ - ٣٧٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١ ، المغني ٥ : ١٦٩.

(٣) المبسوط للطوسي ١ : ٢٢٤ وفيه : ولو قلنا : إنّ ذلك له كان أحوط.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٧١ - ٧٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥ - ٨٦.

(٥) المجموع ٦ : ٧٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٦.

(٦) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ و ٣٩٤ ، المجموع ٦ : ٧١ و ١٤ : ٣٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١.

٢١٥

وقيل : كذا الربح بأجمعه ، لأنّ الجميع له(١) .

ويحتمل في نصيب العامل العدم ، أمّا على المالك : فلأنّه يجري مجرى المغصوب أو الملك الضعيف لتأكّد حقّ العامل فيه ، وأمّا العامل : فلعدم ملكه به.

وإيجاب الزكاة في الربح كلّه على المالك ضعيف ، لأنّ حصة العامل متردّدة بين أن تسلم فتكون له ، أو تتلف فلا يكون له ولا للمالك شي‌ء فكيف يجب عليه زكاة ما ليس له بوجه!؟ وكونه نماء ماله لا يقتضي إثبات الزكاة عليه ؛ لأنّه لغيره.

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا بثبوت الزكاة في حصّة العامل فإنّما تثبت لو بقيت حولاً نصاباً ، أو يضمّها إلى ما عنده من أموال التجارة غيرها وتبلغ نصاباً.

ولا يبنى حول نصيب العامل على حول رأس المال عند علمائنا - وهو أحد وجهي الشافعية - لأنّه في حقه أصل مقابل بالعمل.

والثاني للشافعية : البناء ؛ لأنّه ربح كنصيب المالك(٢) . وليس بجيّد.

وعلى ما اخترناه ، فابتداء الحول من حين الظهور ؛ لحصول الملك حينئذٍ ، أو الإِنضاض والقسمة ؛ لأنّ استقرار الملك يحصل حينئذٍ.

ويحتمل من يوم تقويم المال على المالك لأخذ الزكاة ، ولا يلزمه إخراج الزكاة قبل القسمة ، فإذا اقتسماه زكّاه لما مضى من الأحوال - كالدَّين يستوفيه - عند الشافعية(٣) .

والأقوى عندي : أنّه يخرج في الحال ؛ لتمكّنه من القسمة.

تذنيب : لو أراد العامل إخراج الزكاة من عين مال القراض احتمل أن‌

____________________

(١) القول للشافعية ، اُنظر : المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٧١ ، فتح العزيز ٦ : ٨٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٨٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٨٦ ، المجموع ٦ : ٧٢.

٢١٦

يستبد به ، لأنّ الزكاة من المؤن اللازمة للمال كاُجرة الدلّال والكيّال.

ويحتمل أنّ للمالك منعه ؛ لأنّ الربح وقاية لرأس المال ، فله أن يمنع من التصرف في الربح حتى يسلّم إليه رأس المال ، ويبنى على الاحتمال ما يخرج المالك من زكاة مال القراض إن جعلنا الزكاة كالمؤن احتسب من الربح كما يحتسب أرش جناية عبد التجارة من الربح.

ويحتمل احتسابه من رأس المال ؛ لأنّه مصروف إلى حقّ لزم المالك ، فكان كما لو ارتجع شيئاً من المال.

ويحتمل أنّ ما يخرجه المالك خاصة من رأس المال ؛ لأنّه يختص بلزومه.

مسألة ١٤٧ : إذا حال الحول على العروض قوّمت بالثمن الذي اشتريت به‌ سواء كان نصاباً أو أقلّ ، وسواء كان من الأثمان أو لا ، ولا يعتبر نقد البلد ، وبه قال الشافعي إلّا أنّه قال : إذا كان من جنس الأثمان وكان الثمن أقلّ من نصاب فيه وجهان : أحدهما : أن يقوّم بما اشتراه. والثاني : يقوّم بغالب نقد البلد(١) .

هذا إن لم يملك من النقد الذي ملك به ما تمّ النصاب ، أمّا إذا اشترى للتجارة بمائة درهم وهو يملك مائة أخرى فإنه يقوّم بما ملك به أيضاً ، لأنّه ملك ببعض ما انعقد عليه الحول.

ووافقنا أبو يوسف(٢) في التقويم بما اشتراه مطلقاً ؛ لأنّ نصاب العرض مبني على ما اشتراه به فتثبت الزكاة فيه ، ويعتبر به كما لو لم يشتر به شيئاً.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « إن طلب برأس المال فصاعداً ففيه‌

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٤ ، فتح العزيز ٦ : ٧٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٤.

٢١٧

الزكاة ، وإن طلب بالخسران فليس فيه زكاة »(١) ولا يمكن أن يعرف رأس المال إلّا أن يقوّم بما اشتراه به بعينه.

وقال أبو حنيفة وأحمد : تقوّم بما هو أحظّ للمساكين سواء اشتراها بذهب أو فضة أو عروض ، فلو كانت قيمتها بالفضّة دون النصاب وبالذهب نصاباً قوّمت به وإن كان الثمن فضةً ، وبالعكس ، لأنّ قيمته بلغت نصاباً فتثبت الزكاة فيه ، كما لو اشتراه بعرض وفي البلد نقدان مستعملان تبلغ قيمة العرض بأحدهما نصاباً ، ولأنّ تقويمه لحظّ المساكين فيعتبر ما لهم فيه الحظ كالأصل(٢) .

والفرق في الأول ظاهر ؛ فإنّ الثمن بلغ نصاباً ، بخلاف المتنازع ، ومراعاة الفقراء ليست أولى من مراعاة المالك.

فروع :

أ - إذا كان الثمن من العروض قوّم بذهب أو فضة حال الشراء ، ثم يقوّم في أثناء الحول إلى آخره بثمنه الذي اشتري به ، وقوّم الثمن بالنقدين ، فإن قصر أحدهما في الأثناء سقط اعتبار الحول إلى أن يعود إلى السعر ، وإلّا ثبتت.

ولو قصر أحدهما وزاد الآخر مثل أن يشتريه بمتاع قيمته نصاب ، ثم يرخص سعر الثمن أو يغلو فالأقرب حينئذٍ ثبوت الزكاة مع الرخص لا مع الغلاء إلّا أن يكون العرض للتجارة.

ب - لو بلغت قيمته نصاباً بكلّ واحد من النقدين قوّمه بما اشتراه أيضاً.

____________________

(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ١٠٠ ذيل المسألة ١١٤ ، والمحقق في المعتبر : ٢٧٢.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٠٥ ، اللباب ١ : ١٤٨ - ١٤٩ ، المغني ٢ : ٦٢٥ - ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٤ ، فتح العزيز ٦ : ٧٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٤.

٢١٨

وقال أحمد : يقوّم بما شاء إلّا أنّ الأولى إخراج النقد المستعمل في البلد ؛ لأنّه أحظّ للمساكين ، ولو كانا مستعملين أخرج من الغالب في الاستعمال ، ولو تساويا تخيّر(١) .

ج - لو بلغت السلعة نصاباً بأحد النقدين وقصرت بالآخر ثبتت الزكاة ؛ لأنّه بلغ نصاباً بأحد النقدين فثبتت فيها الزكاة كما لو كان عيناً.

مسألة ١٤٨ : تثبت زكاة التجارة في كلّ حول‌ ، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي(٢) ؛ لأنّه مال ثبتت فيه الزكاة في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ولم تتبدّل صفته فتثبت زكاته في الحول الثاني كما لو نضّ في أوله ، ولأنّ السبب المقتضي لثبوتها في الأول ثابت في الثاني.

وقال مالك : لا يزكّيه إلّا لحول واحد ، لأنّ الحول الثاني لم يكن المال عيناً في أحد طرفيه فلا تثبت فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عيناً(٣) .

ونمنع ثبوت حكم الأصل.

مسألة ١٤٩ : تخرج الزكاة من قيمة العروض دون عينها ، قاله الشيخ(٤) -رحمه‌الله - على القول بالوجوب - وبه قال الشافعي في أحد القولين ، وأحمد(٥) - لأنّ النصاب معتبر بالقيمة فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال.

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٣ - ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٧.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٣٩.

(٤) الخلاف ٢ : ٩٥ ، المسألة ١٠٩.

(٥) الاُم ٢ : ٤٧ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٨ ، فتح العزيز ٦ : ٦٧ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٨.

٢١٩

ولقول الصادقعليه‌السلام : « كلّ عرض فهو مردود إلى الدراهم والدنانير »(١) وهو يدلّ على تعلّق الزكاة بالقيمة.

وقال أبو حنيفة : يتخيّر بين الإِخراج من العين أو من القيمة ، لكن الأصل العين ، فالزكاة تتعلّق بالسلعة وتجب فيها لا بالقيمة ، فإن أخرج العرض أخرج أصل الواجب ، وإن عدل عنه إلى القيمة فقد عدل إلى بدل الزكاة - وهو الثاني للشافعي - لأنّها مال تجب فيه الزكاة فتعلّقت بعينه كسائر الأموال(٢) . ولا بأس بهذا القول.

ويمكن الجواب عمّا قاله الشيخ بأنّ اعتبار النصاب لاستعلام القدر لا لوجوب الإِخراج منه ، وكذا الرواية.

مسألة ١٥٠ : القدر المخرج هو رُبع العُشر إمّا من العين أو القيمة‌ - على الخلاف - إجماعاً ، وقد تقدّم أنّ التقويم بما اشتريت به وإن كان غالب نقد البلد غيره ، لكن الأولى إخراج نقد البلد.

ولو ملكه بعرض للقُنية قوّم في آخر الحول به عندنا.

وقال الشافعي : يقوّم بغالب نقد البلد من الدراهم أو الدنانير ، فإن بلغ به نصاباً أخرج زكاته ، وإلّا فلا ، وإن كان يبلغ بالآخر نصاباً أو كان النقدان جاريين في البلد قوّم بالأغلب ، فإن استويا وبلغ بهما نصابا فوجوه : التخيير بأن يقوّم بما شاء ويخرجه ، ومراعاة الأغبط للفقراء ، والتقويم بالدراهم ، لأنّها أرفق وأصلح ، واعتبار الغالب في أقرب البلاد(٣) .

تذنيب : لو اشترى بنصاب من النقد وبعرض قُنية قوّم ما يقابل الدراهم‌

____________________

(١) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٩٦ ذيل المسألة ١٠٩ ، والمحقق في المعتبر : ٢٧٣.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٢١ ، المغني ٢ : ٦٢٤ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٢٨ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٩ ، فتح العزيز ٦ : ٦٨.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٨ ، المجموع ٦ : ٦٦ ، فتح العزيز ٦ : ٧٣ - ٧٤ ، الوجيز ١ : ٩٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477