الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام12%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154414 / تحميل: 6629
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

سعة، لا ترى مثله! فسقط المتوكل لوجهه، وسقط السيف من يده، وأنا أسمعه يقول: يا مولاي ويا ابن عمي، أقلني أقالك الله، وأنا أشهد أنك على كل شئ قدير! فأشار مولاي بيده إلى الثعبان فغاب، ونهض وقال: ويلك ذلك الله رب العالمين. فحمدنا الله وشكرناه ».

٩. لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ:

« دخل (ع) يوماً على المتوكل فقال: يا أبا الحسن من أشعر الناس، وكان قد سأل قبله ابن الجهم فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام، فلما سأل الإمام (ع) قال: فلان بن فلان العلوي. قال ابن الفحام: وأحسبه الحماني قال: حيث يقول:

لقد فَاخَرَتْنَا من قريشٍ عُصَابَةٌ

بِمَطِّ خُدُودٍ وامتدادِ أصابعِ

فلما تنازعنا القضاءَ قضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع

قال: وما نداء الصوامع، يا أبا الحسن؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، جدي أم جدك؟فضحك المتوكل ثم قال: هوجدك لاندفعك عنه ».

« أمالي الطوسي / ٢٨٧، ومناقب آل أبي طالب: ٣ / ٥١٠، والمحاسن والمساوئ للبيهقي: ١ / ٤٦، وفي طبعة / ٧٨، والمحاسن والأضداد للجاحظ: ١ / ١٤٧، ومصادر أخرى ».

قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١ / ١٨٥ »: « وَالحِمَّاني: علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) الذي كان يقول: أنا شاعر وأبي شاعر وجدي شاعر إلى أبي طالب. والذي شهد له الهادي (ع) أمام المتوكل بأنه أشعر الناس لقوله من أبيات فلما تنازعنا الحديث قضى لنا ...

٨١

وقال في أعيان الشيعة « ٨ / ٣١٦ »: « علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين (ع) المعروف بالحِمَّاني، نسبة إلى حِمَّان بكسر الحاء وتشديد الميم قبيلة بالكوفة نزلها. توفي سنة ٢٦٠، كما قال ابن الأثير، كان فاضلاً أديباً شاعراً وشهد له الإمام أبوالحسن (ع) الثالث في التفضيل في الشعر. وذكر تتمة البيتين:

وإنا سكوتٌ والشهيدُ بفضلنا

عليهم جهيرُ الصوت في كل جامع

فإنَّ رسولَ الله أحمدُ جدُّنا

ونحنُ بنوهُ كالنجوم الطوالع

وقال: قوله وأنشد له المرتضى في الفصول المختارة من كتاب المجالس، وكتاب العيون والمحاسن للمفيد:

يا آلَ حم الذين بحبهمْ

حَكَمَ الكتابُ مُنزلاً تنزيلا

كان المديحُ حُلَى الملوك وكنتمُ

حُلَلَ المدائح عِزَّةً وجُمولا

بيتٌ إذا عَدَّ المآثرَ أهلُها

عَدُّوا النبيَّ وثانياً جبريلا

قومٌ إذا اعتدلوا الحمايلَ أصبحوا

متقسمين خَلَيفةً ورسولا

نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا

حتى صدرنَ كُهولةً وكُهولا

ثقلانِ لن يتفرقا أو يُطْفِيَا

بالحوض من ظمإِ الصدورِ غليلا

وخليفتان على الأنام بقوله

بالحق أصدقُ من تكلم قيلا

فاقوا أكفَّ الآيسين فأصبحوا

لايعدلون سوى الكتاب عديلا ».

ورواها في مناقب آل أبي طالب « ٢ / ٣٣٩ » وأنشد له ابن عنبة في عمدة الطالب / ٣٠١:

« لنا من هاشمٍ هَضَبَاتُ عِزٍّ

مُطَنَّبَةٌ بأبراجِ السماءِ

تُطيفُ بنا الملائكُ كلَّ يَوْمٍ

ونُكفَلُ في حُجُورِ الأنبياء

ويَهتزُّ المقامُ لنا ارتياحاً

ويلقانا صَفَاهُ بالصَّفاء ».

٨٢

١٠ . هيأ له المعتز علوجاً ليقتلوه فهابوه وسجدوا له:

روى في الثاقب في المناقب / ٥٥٦: « عن أبي العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب قال: كنا مع المعتز، وكان أبي كاتبه، فدخلنا الدار والمتوكل على سريره قاعد، فسلم المعتز ووقف ووقف خلفه، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحب به وأمره بالقعود، ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول: هذا الذي يقول فيه ما يقول، ويرد عليه القول، والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول: مكذوب عليه يا أمير المؤمنين. وهو يتلظى ويقول: والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق، وهوالذي يدعي الكذب، ويطعن في دولتي.

ثم قال: جئني بأربعة من الخزر وأجلاف لا يفقهون، فجئ بهم ودفع إليهم أربعة أسياف، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبوالحسن، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه، وهويقول: والله لأحرقنه بعد القتل، وأنا منتصب قائمٌ خلفه من وراء الستر، فما علمت إلا بأبي الحسن (ع) قد دخل، وقد بادر الناس قدامه فقالوا: جاء! والتفتُّ ورائي وهوغير مكترث ولا جازع، فلما بصر به المتوكل رمى بنفسه من السرير إليه وهو بسيفه فانكب عليه يقبل بين عينيه، واحتمل يده بيده وهويقول: يا سيدي، يا ابن رسول الله، ويا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي، يا أبا الحسن، وأبوالحسن يقول: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا! فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال: جاءني رسولك، فقال المتوكل: كذب ابن الفاعلة، إرجع يا سيدي من حيث جئت.

٨٣

يا فتح، يا عبد الله، يا معتز، شيعوا سيدي وسيدكم. فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين، فلما خرج دعاهم المتوكل، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون، ثم قال لهم: لم لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا: لشدة هيبته، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن ننالهم، فمنعنا ذلك عما أمرنا به، وامتلأت قلوبنا رعباً من ذلك. فقال المتوكل: هذا صاحبكم، وضحك في وجه الفتح، وضحك الفتح في وجهه وقال: الحمد لله الذي بيض وجهه، وأنار حجته ».

رووا أن الإمام (ع) مدح العباس:

قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٨ »: « قال المبرد: قال المتوكل لعلي بن محمد بن الرضا: ما يقول ولد أبيك في العباس؟ قال: ما تقول يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعته على نبيه (ص) وذكر حكاية طويلة، وبكى المتوكل، وقال له: يا أبا الحسن لينت منا قلوباً قاسية، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فأمر له بها ».

أقول: إذا صح ذلك فهو تقية جائزة للتخلص من قرار المتوكل بقتله (ع)، ويكون معنى: فرض طاعته على نبيه (ص)، أي طاعة الله تعالى لا طاعة العباس.

٨٤

الفصل الرابع:

إحضار المتوكل للإمام الهادي (ع) الى سامراء

أحضر المتوكل الإمام (ع) الى سامراء ثلاث مرات

١. حكم المتوكل أربع عشرة سنة « ٢٣٢ ـ ٢٤٧ » وحكم بعده ابنه المنتصر نحو سبعة أشهر، ثم حكم المستعين وهو أحمد بن محمد بن المعتصم، سنتين وتسعة أشهر، ثم حكم المعتز وهوالزبير بن المتوكل، ثماني سنين وستة أشهر، وهو الذي ارتكب جريمة قتل الإمام الهادي (ع).

وكان المتوكل على خط أسلافه خلفاء بني عباس في عدائهم للأئمة من عترة النبي (ص)، لأنهم يعرفون أنهم أئمة ربانيون ينجذب اليهم الناس، ويقيسون بهم الخليفة العباسي. فهم برأي الخلفاء خطرٌ على حكمهم.

وبسبب هذا العداء أرسل المتوكل القائد عَتَّاب بن أبي عتاب في أول خلافته لإحضار الإمام الهادي (ع)، ثم أرسل القائد يحيى بن هرثمة أكثر من مرة. وروت المصادر نص رسالة المتوكل الى الإمام (ع) مع ابن هرثمة سنة ٢٤٣ . كما روت أنه حبسه في إحدى إحضاراته وحفر له قبراً في السجن! ويظهر أن ذلك كان في مطلع خلافته سنة ٢٣٣، فبقي الإمام (ع) مدة في سامراء، ثم تخلص ورجع الى المدينة، أو رجع في موسم الحج وبقي في المدينة.

٨٥

ثم أحضره ثانية قبل سنة ٢٣٥ ، فتخلص أيضاً وعاد الى المدينة، ثم أحضره سنة ٢٤٣، وألزمه بالبقاء في سامراء.

وقلنا ثلاث مرات على الأقل، لأنهم رووا أن المتوكل مرض في أول خلافته، ونذر إن عوفي أن يتصدق بدنانير كثيرة، ولم يعرف الفقهاء مقدارها، وأرسل الى الإمام الهادي (ع) وكان في سامراء، فسأله.

ورووا أن يحيى بن هرثمة مرَّ به في مجيئه على بغداد، وزاره القائد إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وقد توفي الطاهري سنة ٢٣٥ ، فلا بد أن يكون ذلك غير إحضاره مع القائد عَتَّاب بن أبي عتاب.

كما أن المتوكل حبس الإمام (ع) في هذا الإحضار، وأراد قتله. أما في الإحضار الأخير فلم يحبسه وأظهر احترامه وألزمه بالإقامة في سامراء، فاشترى الإمام داراً من نصراني وسكن فيها، ثم أضاف اليها داراً أو دوراً أخرى.

أما محاولة المتوكل إهانة الإمام (ع) وإنزاله في خان الصعاليك، وتأخير مقابلته له يوماً، فلا يبعد أن تكون في إحضاره الأخير.

٢. وبهذا تعرف أن سبب تفاوت كلام المؤرخين في أن الإمام الهادي (ع) أقام في سامراء عشرين سنة، أوعشر سنين، هوالإحضارات المتعددة له، والتي ختمت بفرض الإقامة الجبرية عليه حتى هلاك المتوكل.

ثم جاء المستعين والمعتز فواصلا فرض الإقامة الجبرية عليه، حتى ارتكب المعتز وهو الزبير بن المتوكل، جريمة قتله (ع).

٨٦

الإحضار الأول للإمام (ع) الى سامراء

قال في مناقب آل أبي طالب « ٣ / ٥١٥ »: « وَجَّهَ المتوكل عَتَّابَ بن أبي عتاب إلى المدينة ليحمل علي بن محمد (ع) إلى سر من رأى، وكان الشيعة يتحدثون أنه يعلم الغيب، فكان في نفس عتاب من هذا شئ، فلما فصل من المدينة رآه وقد لبس لَبَّادة والسماء صاحية، فما كان أسرع من أن تغيمت وأمطرت، فقال عتاب: هذا واحد. ثم لما وافى شط القاطون رآه مُقْلَقَ القلب فقال له: مالك يا أبا أحمد؟ فقال: قلبي مُقلق بحوايج التمستها من أمير المؤمنين. قال له: فإن حوائجك قد قضيت، فما كان بأسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه. قال: الناس يقولون إنك تعلم الغيب. وقد تبينتُ من ذلك خَلَّتين ».

عتَّاب بن أبي عتاب قائد عباسي فارسي

قال في تاريخ دمشق « ٣٨ / ٢٢٦ »: « عتَّاب بن عتاب بن سالم بن سليمان النسائي، أحد قواد المتوكل، قدم معه دمشق سنة ثلاث وأربعين ومائتين، فيما قرأته بخط أبي محمد عبد الله بن محمد الخطابي، ثم ولاه حجابته مع الحسين بن إسماعيل ».

وذكره الطبري في مواضع وهو مطيعٌ لخلفاء بني عباس.

منها « ٧ / ٣٧٣ » لما وثب أهل حمص على واليهم فأرسل لهم المتوكل عتَّاباً: « وأمره أن يقول لهم إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلاً مكان رجل فرضوا بمحمد بن عبدويه فولاه عليهم، فعمل فيهم الأعاجيب ».

٨٧

ومنها: أن المعتز ظفر جيشه بعلوي ثار عليه في الكوفة، « الطبري: ٧ / ٥١١ » : « فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبيين فحملوا جميعاً ».

ومنها: دور عَتَّاب بعد المتوكل حتى قتل مع المهتدي سنة ٢٥٦ ، وذلك لما اختلف المهتدي مع القادة الأتراك، فخدعه القائد التركي بايكباك بأنه معه ضد موسى بن بغا، ودخل قصر المهتدي ومهد لدخول ابن بغا لقتله. ولما اكتشف المهتدي مؤامرة بايكباك، قَتَلَهُ وأمر عتاب بن عتاب أن يرميهم برأسه فرماههم به، فأطبقوا على المهتدي وجيشه: « شد رجل منهم على عتاب فقتله فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حَرَّان موتور، فنقض تعبيتهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور وهوينادي: يا معشر الناس أنصروا خليفتكم! حتى صار إلى دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرُمِي بسهم وبُعِج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أوبغل وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخُرْثي « الأثاث » فأقر لهم بست مائة ألف قد أودعها فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجل فوطئ على خصييه حتى قتله ». « الطبري « ٧ / ٥٨٢ »

ثم وصف الطبري انتخاب الأتراك للخليفة الجديد فقال « ٧ / ٥٨٧ »: « كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة

٨٨

خلت من رجب وسميَ المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدى محمد بن الواثق، وأنه سليم ما به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة ».

وهذا يدل على أن عتاباً كان فارسياً وليس تركياً، وأنه قتل مع المهتدي. ومن المستبعد أن يكون استبصر لما رأى معجزات الإمام (ع) في مرافقته من المدينة، رغم أنه اقتنع بأنه ولي الله، وأن الله تعالى يظهره على بعض غيبه.

فقد بقي عتاب مخلصاً للمتوكل، والخلفاء من بعده، وكانوا يكلفونه بمهمات قذرة، من القمع والقتل، حتى قُتل في سبيلهم!

إحضار الإمام الى سامراء بعد هدم قبر الحسين (ع)

ارتكب المتوكل جريمة هدم قبر الحسين (ع) سنة ٢٣٦، واتفق المؤرخون على أنه أثار على نفسه نقمةً عامة من كل الفئات، حتى كتب المسلمون شعار شتمه على جدران بغداد، ولم يرووا أن أحداً كان يمحوه!

وقد رافق ذلك تزايد تعاطف المسلمين مع الإمام الهادي (ع) خاصة في بغداد والحجاز، وقد وصل هذا التعاطف الى بعض وزراء الخليفة، وأفراد أسرته!

ويظهر أن بعض الأوساط لهجوا بالثورة على المتوكل.

وفي ذلك الظرف كتب اليه والي مكة والمدينة: إن كانت لك حاجة في الحجاز، فأخرج منه علي بن محمد. أي قبل أن يدعوهم للثورة عليك فيستجيبون له!

٨٩

قال المسعودي في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٢ »: « وكتب بُرَيْحَة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة، فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير. وتابع بُريحة الكتب في هذا المعنى، فوجه المتوكل بيحيى بن هرثمة وكتب معه الى أبي الحسن (ع) كتاباً جميلاً يعرفه أنه قد اشتاقه، ويسأله القدوم عليه. وأمر يحيى بالمسير معه كما يحبُّ، وكتب الى بريحة يعرفه ذلك. فقدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب الى بريحة، وركبا جميعاً الى أبي الحسن (ع) فأوصلا إليه كتاب المتوكل، فاستأجلهما ثلاثاً.

فلما كان بعد ثلاث عاد الى داره فوجد الدواب مُسْرَجة، والأثقال مشدودة قد فُرغ منها. وخرج صلى الله عليه متوجهاً نحوالعراق، واتَّبعه بريحة مشيعاً، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلفٌ بأيمان مغلظة لئن شكوتني الى أمير المؤمنين، أوالى أحد من خاصته وأبنائه، لَأُجَمِّرَنَّ نخلك، ولأقتلن مواليك، ولأُعُوِّرَنَّ عيون ضيعتك، ولأفعلن ولأصنعن. فالتفت إليه أبوالحسن (ع) فقال له: إن أقرب عَرْضِي إياك على الله البارحة. وما كنت لأعرضنك عليه، ثم أشكونك الى غيره من خلقه. قال: فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له: قد عفوت عنك ».

ملاحظة

بريحة هو تُرُنْجَة، وقد يكون تصحيفاً له، ففي شفاء الغرام للفاسي « ٢ / ٢١٩ »: « ثم وليها « مكة » محمد بن داود عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن

٩٠

عباس العباسي، الملقب تُرُنْجَة، في سنة اثنين وعشرين ومائتين، ولعل ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل ».

وقال في صبح الأعشى « ٤ / ٢٧١ »: « ثم وليها محمد بن عيسى، ثم عزله المتوكل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وولَّى مكانه ابنه المنتصر بن المتوكل. ثم وليها علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور، ثم عزله المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين وولَّى مكانه عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى. ثم عزله المتوكل سنة ثنتين وأربعين ومائتين، وولَّى مكانه عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام. ثم توالت عليها العمال من قبل خلفاء بني العباس ».

وفي رسالة المتوكل الى الإمام الهادي (ع) أنه عزل بريحة لأنه أساء اليه، وذلك سنة ٢٤٣. ومعناه أنه عزل ثم نصب على الصلاة في الحرمين.

وسماه في الإرشاد « ٢ / ٣٢٥ »: تُرنجة، وقال في هامشه: وهوعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي بن أترجة من ندماء المتوكل، والمشهور بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب (ع)، وقد قتل بيد عيسى بن جعفر، وعلي بن زيد الحسنيين بالكوفة قبل موت المعتز بأيام. أنظر: الكامل لابن الأثير: ٧ / ٥٦، تاريخ الطبري: ٩ / ٣٨٨ .

وورد خبر قتله في الكافي « ١ / ٥٠٦ »: « قال: كتب أبومحمد (ع) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحوعشرين يوماً: إلزم بيتك حتى يحدث الحادث، فلما قتل بُريحة كتب إليه قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب: ليس هذا الحادث، الحادث الآخر. فكان من أمر المعتز ما كان.

٩١

وعنه قال: كتبت (ع) إلى رجل آخر: يُقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله « المعتز » بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر، قُتل ».

وكان قَتل المعتز سنة ٢٥٥ « الثقات لابن حبان: ٢ / ٣٣١ » بعد شهادة الإمام (ع) كما يأتي.

أمر المتوكل قائده أن يفتش بيت الإمام (ع)

وقد نص على ذلك المحدثون والمؤرخون، وقالوا إن بريحة العباسي كتب الى المتوكل أن الإمام الهادي (ع) يجمع السلاح، وأن شيعته من قم أمَدُّوهُ بالأموال.

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٨٤ »: « حدثني يحيى بن هرثمة، قال: وَجَّهني المتوكل الى المدينة لإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر لشئ بلغه عنه، فلما صرت إليها ضجَّ أهلها وعَجُّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعتُ مثله، فجعلت أُسَكِّنُهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وفتشت بيته فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاءً، وما أشبه ذلك، فأشخصته وتوليت خدمته وأحسنت عشرته. فبينا أنا نائم يوماً من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة، إذ ركب وعليه مِمْطَرٌ، وقد عقد ذَنَب دابته، فعجبت من فعله، فلم يكن بعد ذلك إلا هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عزَاليَها، ونالنا من المطر أمرٌ عظيم جداً. فالتفت إليَّ، وقال: أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيتَ، وتوهمتَ أني علمت من الأمر ما لا تعلمه، وليس ذلك كما ظننتَ، ولكن نشأتُ بالبادية، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فلما اصبحت هبَّتْ ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر، فتأهبتُ لذلك!

٩٢

فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق ابن إبراهيم الطاهري، وكان على بغداد فقال لي: يا يحيى، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله، والمتوكل من تعلم، وإن حَرَّضته على قتله كان رسول الله خصمك! فقلت: والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل. فصرت الى سامرا، فبدأتُ بوصيف التركي وكنت من أصحابه فقال: والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري! فعجبت من قولهما، وعرَّفت المتوكل ما وقفت عليه، وما سمعته من الثناء عليه فأحسن جائزته، وأظهر بِرَّهُ وتكرمته ».

أقول: في هذا النص دلالات عديدة، منها شعبية الإمام الواسعة في المدينة، بحيث ضجَّ أهلها لما جاءت سرية المتوكل لأخذه!

أما إسحاق بن إبراهيم الطاهري فهومنسوبٌ إلى عمه طاهر بن الحسين، قائد جيش المأمون الذي دخل إلى بغداد وقتل الأمين. وكان إسحاق حاكم بغداد من قبل المتوكل، ويدل كلامه على أن عامة أهل بغداد كانوا ينظرون الى الإمام الهادي (ع) نظرة تقديس، فكان يخاف من غضب الناس إذا قتلته السلطة.

وكذلك وصيف التركي، وهومن كبار قادة الجيش التركي في سامراء، وكان كفيل المستعين، الذي صار خليفة. « تاريخ الطبري: ٧ / ٤٣٣ ».

أما قول الإمام الهادي (ع): نشأتُ بالبادية فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر، فهو صحيح، لكنه عن مصدر واحد لعلمه بالمطر (ع)، ومصادر علمه أوسع .

٩٣

نص كتاب المتوكل الى الإمام الهادي (ع)

قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣٠٩ »: « وكان سبب شخوص أبي الحسن (ع) إلى سُرَّ من رأى أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول، فسعى بأبي الحسن (ع) إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد، ويكذبه فيما سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر، على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب وهي:

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن أمير المؤمنين عارفٌ بقدرك، راعٍ لقرابتك موجبٌ لحقك، مؤثرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك، ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبت به عزَّك وعزهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضا ربه، وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم.

وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيتك في برك وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه.

وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والإنتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك.

٩٤

وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، يُحب إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نشطتَ لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصتَ ومن اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحشمك، على مُهْلَةٍ وطُمأنينة، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت. وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند، يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرةً، ولا هولهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبرُّ، وإليهم أسكن منه إليك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس، في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين .

فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن (ع) تجهز للرحيل، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى. فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحُجب عنه في يومه! فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك، وأقام فيه يومه، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها.

ثم روى المفيد (رحمه الله): عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن (ع) يوم وروده فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك. فقال: هاهنا أنت يا ابن سعيد! ثم أوما بيده فإذا بروضات أنفات، وأنهار جاريات، وجنان فيها خيرات

٩٥

عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر تعجبي، فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان الصعاليك!

وأقام أبوالحسن (ع) مدة مقامه بسر من رأى، مكرماً في ظاهر حاله، يجتهد المتوكل في إيقاع حيلة به، فلا يتمكن من ذلك.

وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب، فيها آيات له وبينات، إن قصدنا لإيراد ذلك خرجنا عن الغرض فيما نَحَوْنَاه ». راجع الكافي: ١ / ٤٩٨ .

وقال راوي الرسالة كما في الكافي « ١ / ٥٠١ »: « أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث (ع) من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ».

وفي الإرشاد « ٢ / ٣١٠ » وروضة الواعظين / ٢٤٥، وغيرهما: « وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا، من سنة ثلاث وأربعين ومئتين ».

وفي الفصول المهمة لابن الصباغ / ٢٦٥، والبحار « ٥٠ / ٢٠١ » وغيرهما: « وكان المتوكل قد أشخصه من المدينة النبوية إلى سر من رأى مع يحيى بن هرثمة بن أعيَن، في جمادى الأخرى سنة ثلاث وأربعين ومائتين ».

لكن قال الطبري « ٧ / ٣٤٨ »: « وفيها « سنة ٢٣٣ » قدم يحيى بن هرثمة، وهووالي طريق مكة، بعلي بن محمد بن علي الرضا، بن موسى بن جعفر من المدينة ».

ونحوه في النجوم الزاهرة « ٢ / ٢٧١ »، وفيه: « وكان قد بلغ المتوكل عنه شئ ».

وفي فرق الشيعة للنوبختي « ١ / ٩١ »: « وكان المتوكل أشخصه من المدينة مع يحيى بن هرثمة بن أعين وكان قدومه إلى سر من رأى يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من

٩٦

شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومأتين. وكان مولده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب، سنة أربع عشرة ومأتين، وأقام بسر من رأى داره إلى أن توفي: عشرين سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. وكانت إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة وسبعة أشهر ».

وفي تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي « ١ / ٣٢٢ »: « وكنيته أبوالحسن العسكري وإنما نسب الى العسكري، لأن جعفر المتوكل أشخصه من المدينة الى بغداد الى سر من رأى، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر. قال علماء السير: وإنما أشخصه المتوكل من مدينة رسول الله الى بغداد لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريته، فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس اليه فخاف منه، فدعا يحيى بن هرثمة وقال: إذهب الى المدينة وانظر في حاله وأشخصه الينا.

قال يحيى: فذهبت الى المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سَمِع الناس بمثله خوفاً على عليٍّ، وقامت الدنيا على ساق لأنه كان محسناً اليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل الى الدنيا.

قال يحيى: فجعلت أسكِّنُهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته. فلما قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تَعلم، فإن حرضته عليه قتله وكان

٩٧

رسول الله خصمك يوم القيامة! فقلت له: والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل، ثم صرت به الى سر من رأى فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك. « وهو من جند وصيف ».

قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق! فلما دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأن أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل وأحسن جايزته، وأجزل بره، وأنزله معه سر من رأى.

قال يحيى بن هرثمة: فاتفق مرض المتوكل بعد ذلك بمدة، فنذر إن عوفي ليتصدقن بدراهم كثيرة، فعوفي فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم فرجاً فبعث الى علي فسأله فقال: يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً. فقال المتوكل: من أين لك هذا؟ فقال من قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ . والمواطن الكثيرة هي هذه الجملة، وذلك لأن النبي (ص) غزى سبعاً وعشرين غزاة، وبعث خمساً وستين سرية، وآخر غزواته يوم حنين.

فعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب، وبعث اليه بمال كثير فقال: علي هذا الواجب، فتصدق أنت بما أحببت ».

ملاحظات

١. يتضح بما تقدم أن إحضار المتوكل للإمام (ع) كان بإرساله القائد عتاب بن أبي عتاب في أول خلافته سنة ٢٣٣، وأن الإمام (ع) بقي فترة في سامراء، ثم عاد

٩٨

الى المدينة وبقي فيها. أما إرسال المتوكل ليحيى بن هرثمة فكان بعد بضع سنوات، فأحضره وألزمه بالبقاء حتى استشهد (ع) على يد المعتمد.

٢. يظهر من نص رسالة المتوكل الى الإمام (ع) أنه يخاطب شخصية له نفوذه في المسلمين، وله قداسة عندهم، فالمتوكل النمرود يراعي الأدب معه، وفي نفس الوقت يحتم عليه الحضور الى سامراء، لأنه اشتاق اليه!

وكل هدفه أن يكون في قبضته في سامراء، ويأمن من ثورته عليه، لأنه إذا دعا المسلمين الى بيعته، استجاب له منهم قسم كبير.

٣. يدل تعمد المتوكل تأخير استقباله يوماً، وإنزاله في خان ينزل فيه عادة الصعاليك وسواد الناس، أن المقصود إهانته ليذل في نفسه ويخضع للمتوكل كغيره من الشخصيات الذين يُحضرهم، لكن الإمام الهادي شخصيةٌ ربانيةٌ لايقاس بها الأرضيون، ومن بيت لا يقاس بهم أحد، صلوات الله عليهم!

خافت السلطة من ثورة البغداديين!

في تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٤ »: « وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد، في الشخوص من المدينة، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام، فشخص عن المدينة، وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه

٩٩

واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة، ثم نفذ إلى سر من رأى ».

أقول: هذا النص يدل على الشعبية العميقة للإمام (ع) في بغداد والعراق، وأن السلطة خافت أن يدخل الى بغداد، فأنزلوه خارجها في الياسرية، وهي على بعد ميلين من بغداد، على ضفة نهر عيسى، وتقع اليوم قرب مطار بغداد القديم.

لكن شيعة الإمام (ع) ومحبيه كانوا يتتبعون حركته، وعرفوا بموعد وصوله الى بغداد، فخرجوا الى ضاحيتها لملاقاته، وازدحموا عليه حتى أن والي بغداد أراد أن يزوره فوجد ازدحام الناس، فانتظر الى الليل فزاره!

ويدلك على تعاظم شعبيته أنهم خافوا من بقائه في ضاحية بغداد ولو ليلة واحدة، فقرروا أن يمضوا به الى سامراء في الليل!

كما يدلك على شعبيته وصية والي بغداد ليحيى به، وتخوفه أن يقتله المتوكل فيفتح باب الثورة على السلطة!

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فمع قرب ابن حنبل من المتوكل وبعده عن أهل البيت (ع) لكن موجة الغضب العامة على المتوكل لهدمه قبر الحسين (ع) تجعله يشك في أقرب الناس اليه!

3. أبوهاشم الجعفري هو: داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. وهو من كبار أصحاب الأئمة المعصومين (ع)، ولم يكن من خطهم الثورة كالزيديين، لكنهم كانوا يتضامنون مع الثائرين منهم إذا نُكبوا، ويدافعون عنهم. قال السيد الخوئي « 8 / 122 » : « أبوهاشم الجعفري (رحمه الله): كان عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، شريف القدر، ثقة، روى أبوه عن أبي عبد الله (ع). وقال الشيخ: داود بن القاسم الجعفري، يكنى أبا هاشم، من أهل بغداد، جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمة (ع)، وقد شاهد جماعة منهم: الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وقد روى عنهم كلهم (ع). وله أخبار ومسائل، وله شعر جيد فيهم، وكان مقدماً عند السلطان وله كتاب، أخبرنا به عدة من أصحابنا ».

4. بنوطاهر وآل طاهر: هم أولاد طاهر بن الحسين وأقاربه، وهوقائد جيش المأمون في حربه مع أخيه الأمين، وهوالذي احتل بغداد وقتل الأمين. وقد أطلق المأمون يده في خراسان حتى عرفت بالدولة الطاهرية، كما أطلق يد آل طاهر في العراق، فكانت بغداد بيد إسحاق بن إبراهيم.

قال ابن الأثير في الكامل « 7 / 236 »: « وفيها « 235 » توفي إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب المصعبي وهوابن أخي طاهر بن الحسين، وكان صاحب

١٨١

الشرطة ببغداد أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. ولما مرض أرسل إليه المتوكل ابنه المعتز مع جماعة من القواد يعودونه، وجزع المتوكل لموته ».

وقال اليعقوبي « 2 / 488 »: « وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى بغداد من خراسان سنة 237، فصيَّر إليه ما كان إلى إسحاق بن إبراهيم ».

وبنوطاهر ليسوا خزاعيين، بل من موالي خزاعة، وأصلهم من أمراء فارس. قال العمري في أنساب الطالبين / 383: « وأما ابن طاهر فهومحمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان، أسلم جده رزيق على يد عبيد الله بن طلحة الطلحات الخزاعي، والي سجستان فنسب إليه ولقب بالخزاعي لهذا السبب، لا لانتمائه الى قبيلة خزاعة من جهة النسب.

وآل طاهر أسرة قديمة تنتسب الى أمراء الفرس الأولين، ويذكر منها في عالم الحرب والأدب والنجدة أفرادٌ كثيرون، وكان مصعب يتولى أعمال مَرْو مع أعمال هراة. وأول من نبغ من هذه الأسرة واشتهر في عهد بني العباس، طاهر بن الحسين بن مصعب، أبلى في خدمة المأمون أحسن بلاء وأخلص له ونصح في ولائه وتوطيد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها، فأصبحت دولة طاهرية مستقلة في حكومتها، لا تربطها ببغداد الا خطبة المنبر.

وكان محمد بن عبد الله بن طاهر عظيم النفوذ في الدولة، تميل الخلافة حيث يميل ومات محمد في ذي الحجة من سنة 253 ، وهوالذي أنفذ جيشاً الى يحيى ».

ويظهر أن بني طاهر كانوا كأسيادهم العباسيين يعتقدون بصدق النبي (ص)، وبأنهم غصبوا سلطانه من أهل بيته (ع) وظلموهم وقتلوهم بغير حق.

١٨٢

فقد روى أبوالفرج أن محمد بن طاهر والي بغداد تشاءم من قتله يحيى بن عمر العلوي، فأرسل عائلته الى خراسان، لأنه كان يعتقد أن قتله لبني علي (ع) سيسبب زوال ملكه! « وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذه الرؤس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج »! « مقاتل الطالبيين / 423 ».

وبالفعل جاءهم الشؤم في الصراعات الداخلية بين خلفاء بني عباس، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر في حرب المعتز في أواخر سنة 253 : فـ « اشتد وجد المعتز عليه، وكان يرى أن الأتراك يهابونه من أجله ». « الأعلام: 6 / 222 ».

وانتهت دولة آل طاهر بعد قتلهم يحيى فما انتعشوا بعد ذلك! « نثر الدرر: 1 / 265 ».

ويؤكد ما ذكرنا من اعتقاد بني طاهر بأهل البيت (ع) ما رواه الصدوق في الخصال / 53: « عن محمد بن عبد الله بن طاهر قال: كنت واقفاً على أبي وعنده أبوالصلت الهروي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن محمد بن حنبل، فقال أبي: ليحدثني كل رجل منكم بحديث، فقال أبوالصلت الهروي: حدثني علي بن موسى الرضا، وكان والله رضاً كما سمي، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): الايمان قولٌ وعملٌ فلما خرجنا قال أحمد بن محمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سُعُوطُ المجانين، إذا سُعِطَ به المجنون أفاق ».

١٨٣

5. تدل قصيدة ابن الرومي على أنه كان شيعياً (رحمه الله). وشعره ملئ بالصنعة وفيه تكلف، وهو لايرقى الى شعر الطبقة الأولى من شعراء العصر العباسي.

كما تدل قصيدته على أن الأبنة والشذوذ كان منتشراً في شخصيات العباسيين، وأن العلويين كانوا طاهرين من هذا الرجس، لاحظ قوله:

أروني امرأ منهم يُزَنُّ بأُبنة

ولا تنطقوا البهتان والحق أبلج

وقوله: يُزَنُّ بأبنةٍ: فعل زَنَّ بتشديد النون بمعنى: اتَّهم.

قال ابن فارس «3/5»: « يقال أزننت فلاناً بكذا، إذا اتهمته به. وهو يُزَنُّ به ».

دور قم المميز في زمن الإمام الهادي (ع)

1. تميزت قم بموقعها الجغرافي ، في طريق خراسان، فكل قاصد من العراق أوالحجاز الى خراسان وما وراء النهر، يمر بها.

2. وتميزت ثانياً بمركزها التجاري ، فقد كانت ضريبتها السنوية مليوني درهم!

قال الطبري « 7 / 183 »: « وفي هذه السنة « 210 » خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذُكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج وكان خراجهم ألفي ألف درهم ». وتقدم ذلك في سيرة الإمام الجواد (ع).

3. وتميزت ثالثاً بشجاعة أهلها وثوراتهم، فقد احتاج المأمون في مهاجمتها الى ثلاث فرق، وكان عمدة أهلها الأشعريون.

قال البلاذري في فتوحه « 2 / 386 »: « وقد نقضوا في خلافة أبي عبد الله المعتز بالله بن المتوكل على الله، فوجه إليهم موسى بن بغا عامله على الجبل، لمحاربة الطالبيين الذين ظهروا بطبرستان، ففتحت عنوةً وقتل من أهلها خلق كثير ».

١٨٤

وقال البلاذري في فتوحه « 2 / 398 »: « ولما كانت سنة 253 ، وجه أمير المؤمنين المعتز بالله، موسى بن بغا الكبير مولاه إلى الطالبيين الذين ظهروا بالديلم وناحية طبرستان. وكانت الديالمة قد اشتملت على رجل منهم يعرف بالكوكبي فغزا الديلم وأوغل في بلادهم وحاربوه فأوقع بهم، وثقلت وطأته عليهم واشتدت نكايته ».

وفي رجال الطوسي / 443: « إبراهيم بن عبد الله بن سعيد، قال: لما توجه موسى بن بغا إلى قم فوطأها وطأة خشنة، وعظم بها ما كان فعل بأهلها، فكتبوا بذلك إلى أبي محمد صاحب العسكر (ع) يسألونه الدعاء لهم، فكتب إليهم أن ادعوا بهذا الدعاء في وتركم، وهو وذكر الدعاء ». « محمد بن الحسين بن سعيد بن عبد الله بن سعيد الطبري، يكنى أبا جعفر، خاصي، روى عنه التلعكبري وقال: سمعت منه سنة ثلاثين وثلاث مائة وفيما بعدها، وله منه إجازة. وسمع منه الدعاء الذي كتب به إلى أهل قم، وروى حديث ابن بغا لما توجه إلى قم ».

وكانت حملة موسى بن بغا على الثوار العلويين في آذربيجان وطبرستان سنة 253 قبل وفاة الهادي (ع) بسنة، وقبل قتل المعتز بسنتين. « ثقات ابن حبان: 2 / 331 ». وسيأتي ذكرها إن شاء الله في سيرة الإمام العسكري (ع).

وتميزت قم بأنها مصدر نصرة للأئمة (ع) « وكان قد سعيَ بأبي الحسن إلى المتوكل، وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم ». « تاريخ الذهبي: 18 / 199 ».

١٨٥

وكان القميون يحملون أخماسهم وهداياهم الى الإمام (ع) في سامراء، وكانت الدولة تحاول كشف ذلك ومعاقبة القميين.

وتميزت قم خامساً، بأنها العاصمة الدينية لأهل البيت (ع) في إيران، فقد كانت مركزاً علمياً فيها فقهاء كبار ووكلاء للأئمة (ع)، وكان الشيعة يأخذون منهم فتاواهم ومعالم دينهم، ويدفعون اليهم أخماسهم ليوصلوها الى الإمام (ع).

« وعن الصادق (ع): إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهوالكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم ». « البحار: 57 / 216 ».

هذا، وكان لقم صلة بمصر لأن المأمون نفى عدداً من زعمائها الى مصر، ونبغ منهم قادة عسكريون كالقائد المعروف: محمد بن عبد الله القمي الذي ولاه المتوكل أمر قبائل البجة في السودان الذين منعوا المسلمين مناجم الذهب، فوضع لهم خطة وانتصر عليهم، وأسر ملكهم علي بابا، وجاء به أسيراً الى سامراء سنة 241.

وقد روى الطبري تفصيل ذلك في تاريخه « 7 / 379 ».

١٨٦

الفصل التاسع:

مرسوم إمامة ابن حنبل بعد هدم قبر الحسين (ع)

كان ابن حنبل غير مرضي عند المأمون والمعتصم والواثق

قال الخليل في العين « 3 / 338 »: « الحنبل: الضخم البطن في قصر. ويقال: هوالخُف أوالفرو الخلق. والحِنبال والحِنبالة: القصير الكثيرالكلام ».

وأضاف ابن منظور « 11 / 182 »: « الحَنْبَل والحِنْبَال والحِنْبَالة: القصيرالكثير اللحم. والحُنْبُل: طَلْعُ أُمّ غَيْلان ». وهي شجرة العُضَاه، وثمرها كاللوبياء لايؤكل .

وكان أحمد بن محمد بن حنبل من العلماء العاديين في بغداد، ولم يشتهرحتى أحضره المأمون ليمتحنه في خلق القرآن في سنة 212، فقد كان المأمون يُحضرالعلماء ويحذرهم من القول بأن القرآن غير مخلوق، لأنها تعني أنه قديمٌ مع الله تعالى، وأن الله مركبٌ وكلامه جزءٌ منه، وهذا شرك!

فإذا أصرَّ أحدٌ منهم على أن القرآن قديم، كان يُعَزَّره ويحرمه من تولي القضاء. وفي سنة 218، أرسلوا الى المأمون أربعة علماء الى طرطوس ليمتحنهم وكان منهم أحمد بن حنبل، وقبل أن يصلوا جاءهم خبر موت المأمون، فأرجعوهم الى السجن ببغداد، وواصل المعتصم سياسة أخيه المأمون في امتحانهم.

قال السبكي في طبقات الشافعية « 2 / 53 »: « سمعت أبا العباس بن سعد يقول: لم يصبر في المحنة إلا أربعة كلهم من أهل مَرْوٍ: أحمد بن حنبل أبوعبد الله، وأحمد

١٨٧

بن نصر بن مالك الخزاعي، ومحمد بن نوح بن ميمون، المضروب، ونعيم بن حماد، وقد مات في السجن مقيداً. فأما أحمد بن نصر فضربت عنقه، وهذه نسخة الرقعة المعلقة في أذن أحمد بن نصر بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون وهوالواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة، فجعله الله إلى ناره. وكتب محمد بن عبد الملك.

ومات محمد بن نوح في فتنة المأمون. والمعتصم ضرب أحمد بن حنبل. والواثق قتل أحمد بن نصر بن مالك. وكذلك نعيم بن حماد ».

اتهموا ابن حنبل بالخيانة وفتشوا بيته!

اتهموه بأنه آوى ثائراً علوياً، وهي تهمة عقوبتها القتل! قال الذهبي في تاريخه « 18 / 84 »: « رفع إلى المتوكل أن أحمد بن حنبل ربَّصَ « خبأ » علوياً في منزله، وأنه يريد أن يُخرجه ويُبايع عليه ولم يكن عندنا علم. فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف سمعنا الجلَبة، ورأينا النيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا وإذا أبوعبد الله قاعد في إزار، ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر وجماعة معهم، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل: وَرَدَ على أمير المؤمنين أن عندكم علوياً ربصته لتبايع عليه وتُظهره. في كلام طويل. ثم قال له مظفر: ما تقول؟

١٨٨

قال: ما أعرف من هذا شيئاً، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وآثره لأدعوالله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار. في كلام كثير غير هذا. وقال ابن الكلبي: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحُلِّفَكَ.

قال: فأحْلَفَهُ بالطلاق ثلاثاً أن ما عنده طَلِبَةُ أمير المؤمنين.

قال: وفتشوا منزل أبي عبد الله والسِّرْب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشوا النساء والمنازل، فلم يروا شيئاً ولم يحسوا بشئ »!

أقول: يدل اتهامهم على الشعبية الواسعة للعلويين ورُعب السلطة منهم! وكان المتوكل يعرف أن أحمد ليس في خط العلويين، لكنه من خوفه احتمل أن يكونوا أغروه! كما تفاجأ ابن حنبل فسارع بالقول: « إني لأرى له السمع والطاعة في عسري ومنشطي ومكرهي، وأوثره عليَّ، وأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار ». فقبل منه المتوكل وسُرَّ به واستقدمه الى سامراء وأكرمه، واتفق معه .

أحضر المتوكل أحمد الى سامراء عدة مرات

قال الآلوسي في جلاء العينين « 1 / 242 »: « بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته لتسيير أحمد بن حنبل، فقد نقل غير واحد أنه وجه المتوكل إلى إسحق بن إبراهيم يأمره بحمله إليه، فوجه إسحق إليه وقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك ».

وأحضره المتوكل في أواخر عمره، وكان أحمد يومها في الثالثة والسبعين، وعاش بعدها ثلاث سنوات ونصفاً.

١٨٩

ففي تاريخ الذهبي « 18 / 119 »: « ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله فذهب إليه فقرأ عليه كتاب المتوكل فقال له: يأمرك بالخروج. فقال: أنا شيخ ضعيف عليل. فكتب عبد الله بما رد عليه، فورد جواب الكتاب بأن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجه عبد الله جنوده، فباتوا على بابنا أياماً حتى تهيأ أبوعبد الله للخروج، فخرج، وخرج صالح، وعبد الله، وأبو رميلة.

قال صالح: كان حَمْلُ أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم عاش إلى سنة إحدى وأربعين، فكان قَلَّ يومٌ يمضي إلا ورسول المتوكل يأتيه ...

لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام، ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به، فما رد عليه أبوعبد الله شيئاً، وجعلت أنا أدعولأمير المؤمنين، ودعوت لوصيف. ومضينا فأنزلنا في دار إيتاخ ولم يعلم أبوعبد الله، فسأل بعد ذلك: لمن هذه الدار قالوا: هذه دار إيتاخ. فقال: حولوني، إكتروا لي. فلم نزل حتى اكترينا له داراً.

وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والفاكهة والثلج وغير ذلك. فما نظر إليها أبوعبد الله، ولا ذاق منها شيئاً.

وكانت نفقة المائدة كل يوم مائة وعشرين درهماً. وكان يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله وعلي بن الجهم، يأتون أبا عبد الله ويختلفون إليه برسالة المتوكل.

١٩٠

ودامت العلة بأبي عبد الله وضعف ضعفاً شديداً، وكان يواصل، فمكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، فلما كان في اليوم الثامن دخلت عليه وقد كاد أن يطفأ فقلت: يا أبا عبد الله، ابن الزبير كان يواصل سبعة أيام، وهذا لك اليوم ثمانية أيام. قال: إني مطيق. قلت: بحقي عليك. قال: فإني أفعل، فأتيته بسويق فشرب. ووجه إليه المتوكل بمال عظيم فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك. قال: هم مستعفون فردها عليه، فأخذها عبيد الله فقسمها على ولده وأهله.

ثم أجرى المتوكل على أهله وولده أربعة آلاف في كل شهر، فبعث إليه أبوعبد الله: إنهم في كفاية وليست بهم حاجة. فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، ما لك ولهذا؟ فأمسك أبوعبد الله. فلم يزل يجري علينا حتى مات المتوكل.

قال حنبل: فلما طالت علة أبي عبد الله كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب فيصف له الأدوية فلا يتعالج، ودخل المطبب على المتوكل فقال: يا أمير المؤمنين أحمد ليست به علة في بدنه، إنما هومن قلة الطعام والصيام والعبادة.

وبلغ أم المتوكل خبر أبي عبد الله فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرجل. فوجه المتوكل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المعتز ويسلم عليه ويدعوله ويجعله في حجره. فامتنع أبوعبد الله من ذلك، ثم أجاب رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد، فوجه إليه المتوكل خلعة، وأتوه بدابة يركبها إلى المعتز فامتنع، وكانت عليها مَيْثَرَةُ نُمُور، فقدم إليه بغل لرجل من التجار فركبه.

١٩١

وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان، وعلى المجلس ستر رقيق، فدخل أبوعبد الله على المعتز، ونظر إليه المتوكل وأمه، فلما رأته قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله فَأْذَنْ له فليذهب. فدخل أبوعبد الله على المعتز فقال: السلام عليكم وجلس، ولم يسلم عليه بالإمرة. قال: فسمعت أبا عبد الله بعد ذلك ببغداد يقول: لما دخلت عليه وجلست قال مؤدب الصبي: أصلح الله الأمير، هذا الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك. فرد عليه الغلام وقال: إن علمني شيئاً تعلمته. قال أبوعبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره. وكان صغيراً.

فأذن له بالإنصراف، فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر فقال: إن أمير المؤمنين قد أذن لك، وأمر أن تفرش لك حَرَّاقَة تنحدر فيها. فقال أبوعبد الله: أطلبوا لي زورقاً فأنحدر فيه الساعة، فطلبوا له زورقاً فانحدر فيه من ساعته ..

وجاء عن لسان ولده الآخر صالح: فلما كان من الغد جاء يعقوب فقال: البشرى يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: قد أعفيتك عن لبس السواد والركوب إلى ولاة العهود وإلى الدار. فإن شئت فالبس القطن، وإن شئت فالبس الصوف. فجعل يحمد الله على ذلك ».

أقول: توجد عدة روايات عن إحضار أحمد الى سامراء. وقد حاول أحمد ومحبوه أن يقولوا إنه كان زاهداً في الدنيا، ولم يكن راغباً في تكريم المتوكل، ولا بالمناصب والأموال، لأن المتوكل عند المسلمين ظالم لا يجوز الركون اليه!

١٩٢

وفي كلام أحمد وأبنائه نقاط ضعف، ومنها كلام أحمد عن صغر سن المعتز، بينما كان عمره لما زاره أحمد نحوسبع عشرة سنة. فقد خلع نفسه سنة 255 ، وعمره أربع وعشرون سنة. « مروج الذهب: 4 / 81 ».

اتفق المتوكل مع أحمد وجعله مرجعاً للدولة!

في النهاية لابن كثير « 10 / 373 »: « وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وما من يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره في أشياء تقع له. ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها، وقال: إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره، فردها ».

وفي تاريخ الذهبي « 20 / 203 »: « قال عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: أمر المتوكل بمساءلة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء ».

أي أمر أن يأخذوا برأيه في تعيين القضاة في الدولة، فلايعينوا إلا من وافق عليه. وفي المقابل تبنى أحمد طاعة المتوكل، ونشر أحاديث التشبيه والتجسيم!

قال المَلَطي العسقلاني في: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع / 7: « وقال أمير المؤمنين المتوكل لأحمد بن حنبل: يا أحمد إني أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجة فأظهرني على السنة والجماعة. وما كتبته عن أصحابك عما كتبوه عن التابعين، مما كتبوه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه ».

١٩٣

وقال تلميذه أبو بكر المروذي: « سألت أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تردُّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش، فصححها وقال: قد تلقتها الأمة بالقبول، وتُمَرُّ الأخبار كما جاءت ». « طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 56 ».

وهذه هي أحاديث صفات الله تعالى ورؤيته بالعين، التي رفضها الأئمة من أهل البيت (ع) ومالك بن أنس صاحب المذهب، ويريدها المتوكل!

مرجعية ابن حنبل لمواجهة مرجعية الإمام الهادي (ع)

بدأ حكم المتوكل أواخر سنة 232 . وفي سنة 233 ، أحضرالإمام الهادي (ع) الى سامراء وفرض عليه الإقامة الجبرية، وحاول قتله بتهمة أنه ينوي الخروج عليه فظهرت للإمام (ع) كرامات ومعجزات، فهابه وزراء المتوكل والقادة وأحبوه، وكانت أم المتوكل تعتقد أنه ولي الله تعالى وتنذر له النذور في المهمات!

وفي السنة التالية استقدم المتوكل المحدثين المجسمين، الذين يقولون إن الله يُرى بالعين، والقرآن غير مخلوق، وقرَّبهم وأعطاهم جوائز ومناصب.

وكان المتوكل يريد تغيير خط الخلافة فيتبنى المجسمة، لكن نفوذ ابن دؤاد كان قوياً، فهوالذي دبَّر خلافة أبيه المعتصم ورتَّبَ قتل العباس بن المأمون. وهوالذي رتب بيعة أخيه الواثق. وهو الذي خلع ابن الواثق ودبَّر بيعة المتوكل وأخرجه من السجن وجاء به الى كرسي الخلافة.

قال في تاريخ بغداد « 1 / 314 »: « كان المتوكل يوجب لأحمد بن أبي دؤاد، ويستحي أن ينكبه، وإن كان يكره مذهبه، لما كان يقوم به من أمره أيام الواثق، وعقد

١٩٤

الأمر له والقيام به من بين الناس. فلما فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، أول ما وليَ المتوكل الخلافة، ولَّى المتوكل ابنه محمد بن أحمد أبا الوليد القضاء ومظالم العسكر مكان أبيه، ثم عزله عنها يوم الأربعاء لعشر بقين من صفر سنة أربعين ومائتين، ووكل بضياعه وضياع أبيه.

ثم صولح على ألف ألف دينار، وأشهد على ابن أبي دؤاد وابنه بشراء ضياعهم وَحَدَّرَهُم إلى بغداد، وولي يحيى بن أكثم ما كان إلى ابن أبي دؤاد ».

فكان المتوكل يمهد تمهيدات لضرب ابن دؤاد، الى أن تم عزله في سنة 237، وجاء بابن حنبل الى سامراء، واتخذه مرجعاً.

قال ابن أحمد بن حنبل: « لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلما حاذى بنا قالوا: هذا وصيف، وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد: الأمير وصيف يقرؤك السلام ويقول لك: إن الله قد أمكنك من عدوك، يعني ابن أبي دؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به ». « تاريخ الذهبي: 18 / 119 ».

وهذا يدل على أن وصيفاً اتفق مع المتوكل، وكان مهتماً بأن تكثر الشكاية من ابن أبي دؤاد لتبرير عزله، وإعلان مرجعية أعدائه القائلين بقدم القرآن والتشبيه.

احتفل المتوكل بمرجعية أحمد وإنزال رأس ابن نصر!

وكان عزل ابن دؤاد وتولية خصمه ابن أكثم، وإنزال جثة ابن نصر، ودعوة أحمد الى سامراء وإعلان مرجعيته. كل ذلك حول شهر رمضان سنة 237.

١٩٥

قال ابن كثير في النهاية « 10 / 306 »: « ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة، أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أويومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية (رحمه الله). وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق ».

وقال في النهاية « 10 / 348 »: « وفي عيد الفطر منها « سنة 237 » أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، واجتمع في جنازته خلق كثير جداً، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوماً مشهوداً. ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحاً وسروراً، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا، وعن المغالاة في البشر.

ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لوتكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير.

ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيراً، فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلاً فيه، ثم نزعها نزعاً عنيفاً وهويبكي رحمه الله تعالى.

١٩٦

وارتفعت السُّنَّة جداً في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لايولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر ».

أهم إنجازات مرجعية أحمد بن حنبل

كانت مدة مرجعية أحمد للدولة ثلاث سنوات ونصفاً، لأن مجيئه الى سامراء في شهر رمضان سنة 337، ووفاته في ربيع الثاني سنة 341.

لكنها كانت مرجعية مؤثرة، حيث حققت إنجازين كبيرين عند أصحابهما:

الأول: ترسيخ حزب المجسمة النواصب، الذين كان يقودهم ابن صاعد، وعرفوا بإسم الصاعدية. وكانوا في زمن المتوكل وبعده تياراً متطرفاً.

ويظهر أنهم صاروا بعد ذلك مذهباً لهم آراؤهم التي تخالف المسلمين!

قال المقدسي في البدء والتاريخ « 5 / 149 »: « وأما الصاعدية فهم أصحاب ابن صاعد يجيزون خروج أنبياء بعد نبينا « ص » لأنه رويَ: لا نبيَّ بعدي إلا ما شاء الله »!

وهم مجسمة الحنابلة الذين يشكو منهم أهل بغداد وأئمة الحنابلة المعتدلون كابن الجوزي. وهم الأجداد الحقيقيون لابن تيمية وأتباعه الوهابية.

والإنجاز الثاني: تأليف صحيح البخاري، فقد كان البريد يصل من المتوكل في سامراء الى أحمد بن حنبل في بغداد كل يوم، وكان البخاري مشغولاً بتأليف

١٩٧

كتابه، وقد زار أحمد بن حنبل ثمان مرات، وكان يسانده ويمدحه، وكان تعيين جميع القضاة ومساعدات جميع المحدثين عن طريق أحمد بن حنبل.

وعندما أكمل البخاري صحيحه عرضه على أحمد فارتضاه، وطلب منه أن يسكن بغداد، فكان البخاري يتأسف لأنه لم يسمع كلامه، ولم يأت الى بغداد.

قال الخطيب في تاريخ بغداد « 2 / 22 »: « محمد بن يوسف يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: دخلت بغداد آخر ثمان مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل. فقال لي في آخر ماودعته: يا أبا عبد الله، تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان؟ قال أبوعبد الله: فأنا الآن أذكر قوله ».

وفي تغليق التعليق لابن حجر « 5 / 423 »: « قال العقيلي: لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة ».

محنة أحمد بن حنبل كذبة حنبلية!

1. لن تستطيع أن تفهم نظرية عمر بن الخطاب بأن الله تعالى أنزل القرآن على سبعة أحرف، فقد قال بعض محبيه إنه حاول فهمها ثلاثين سنة وتوصل الى بضعة ثلاثين وجهاً، لكن ليس منها وجهٌ معقول!

ولن تستطيع حتى لوكنت حنبلياً أن تفهم محنة ابن حنبل التي أحيت الدين! وهي أنه سجن سنتين، وضربوه ثمانية وثلاثين سوطاً، فأحيا بذلك الدين!

١٩٨

قالوا: حبس هو وثلاثة، فمات أحدهم في الطريق، ومات الثاني في السجن بعد عشر سنين، وقتل الثالث بعد سجنه بأكثر من عشر سنين، وعفوا عن أحمد، فأحيا الله الدين بمن أطلقوه، وليس بمن قتلوه، ولا بمن مات في السجن!

ولن تستطيع معرفة كيف صار ابن حنبل أعظم شخص في الأمة بعد النبي (ص)!

قال أبو يعلى في طبقات الحنابلة « 1 / 13 و 227 »: « قال علي بن المديني: أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبوبكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل في يوم المحنة! ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل. قال قلت له: يا أبا الحسن ولا أبوبكر الصديق؟ قال: ولا أبوبكر الصديق، لأن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب »!

وقال ابن كثير في النهاية « 10 / 369 »: « قال البخاري: لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة. وقال إسماعيل بن الخليل: لوكان أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً ».

وصادروا لأحمد صفات أئمة الشيعة فقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: « أحمد بن حنبل حجة بين الله وبين عبيده في أرضه »! « تاريخ بغداد: 5 / 183 ».

2. قصة المحنة كما يسمونها: أن المأمون أمر بإرسال المحدثين الذين لم يقبلوا أن القرآن مخلوق، اليه الى طرسوس، فأرسلوا اليه من بغداد أربعة: أحمد بن حنبل،

١٩٩

وأحمد بن نصر، ومحمد بن نوح بن ميمون، ونُعَيْم بن حماد. فمات المأمون وهم في الطريق فأرجعوهم الى بغداد. ومات محمد بن ميمون في الطريق.

وأحضر المعتصم أحمد بن حنبل وناظره وأطلق سراحه، لأنه قال لهم: أنا أقول بقول أمير المؤمنين! كما شهد بذلك المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي.

وبقي نُعيم بن حماد في السجن عشر سنوات حتى مات. وبقي أحمد بن نصر في السجن ثلاث عشرة سنة، فأحضره الواثق ابن المعتصم وقتله.

3. ولكل واحد من هؤلاء الأربعة، قصةٌ ومحاكمةٌ ومناظرةٌ، وأعظمهم بلاءً أحمد بن نصر، حيث أصر على رأيه بأن القرآن غير مخلوق حتى قتله الواثق بيده! لكنهم أهملوه وبالغوا في محنة ابن حنبل، وبالغَ هو في الحديث عن « بطولته » في السجن وصموده تحت سياط الخليفة، وتفوقه في مناظرته لقاضي قضاة المعتصم والواثق. وروى لنفسه ورووا له الكرامات والمعجزات في المحنة!

قال المروزي في مسائل الإمام أحمد / 109، وابن كثير في النهاية، ملخصاً « 10 / 365 »: « وفي عام مائتين واثني عشر أعلن المأمون القول بخلق القرآن، وفي عام ثماني عشرة ومائتين رأى المأمون حمل الناس والعلماء والقضاة والمفتين على القول بخلق القرآن الكريم، وكان آنذاك منشغلاً بغزوالروم، فكتب إلى نائبه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعوالناس إلى القول بخلق القرآن، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الإمتناع من

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477