موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ١٠

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 175

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 175
المشاهدات: 78360
تحميل: 4124


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 175 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78360 / تحميل: 4124
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 10

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

صدعين (1) ثمّ خيّره ، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. ثمّ اصدع الباقي صدعين ، ثمّ خيّره ، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتّى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله في ماله ؛ فاقبض حقّ الله منه.

فإن استقالك فأقله (2) ، ثمّ اخلطهما ثمّ اصنع مثل الّذي صنعت أوّلا حتّى تأخذ حقّ الله في ماله.

ولا تأخذنّ عودا (3) ، ولا هرمة ، ولا مكسورة ، ولا مهلوسة ، ولا ذات عوار ، ولا تأمننّ عليها إلاّ من تثق بدينه ، رافقا بمال المسلمين حتّى يوصّله إلى وليّهم فيقسمه بينهم ، ولا توكّل بها إلاّ ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا ، غير معنف ولا مجحف (4) ، ولا ملغب (5) ولا متعب. ثمّ احدر (6) إلينا ما اجتمع عندك نصيّره حيث أمر الله به ، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألاّ يحول بين ناقة وبين فصيلها ، ولا يمصر (7) لبنها فيضرّ ذلك بولدها ؛ ولا يجهدنّها ركوبا ، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها ، وليرفّه على اللاّغب (8) ، وليستأن بالنّقب (9) والظّالع ، وليوردها

__________________

(1) صدعين : أي قسمين ؛ ليختار صاحب المال أيّهما شاء.

(2) فإن استقالك فأقله : أي إن طلب الإعفاء من هذه القسمة فأعفه منها.

(3) العود : المسنّة من الإبل.

(4) المجحف : الذي يشتدّ في سوق الأنعام حتى تهزل.

(5) اللغب : التعب.

(6) احدر : أي اسرع.

(7) يمصر اللبن : تقليله بالحلب.

(8) اللاغب : الذي أعياه التعب.

(9) النقب : الخرق.

٤١

ما تمرّ به من الغدر (1) ، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جوادّ الطّرق ، وليروّحها في السّاعات ، وليمهلها عند النّطاف (2) والأعشاب ، حتّى تأتينا بإذن الله بدّنا منقيات غير متعبات ، ولا مجهودات ، لنقسمها على كتاب الله وسنّة نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ ذلك أعظم لأجرك ، وأقرب لرشدك ، إن شاء الله » (3) .

وحفل هذا العهد باصول الفضائل والآداب ، واحتوى على جميع صنوف العدل ورعاية حقوق من وجبت عليهم الزكاة ، كما تضمّن الرفق الكامل بالحيوان ، وعدم إجهاده والاضرار به كما نصّ العهد على الاحتياط بأموال الدولة ، والاهتمام بها إلى غير ذلك من الأنظمة الرائعة التي لم تقنّن مثلها في الأنظمة الحديثة.

محاسبة الولاة :

على وليّ أمر المسلمين أن يقف بيقظة وحزم أمام ولاته على الأقطار والأقاليم فيراقب تصرّفاتهم ، ويحاسبهم على ما جبوه وأنفقوه من بيت المال ، وينظر إلى ما عندهم من ثراء ، فإن كان قد اصطفوه من بيت المال بغير وجه مشروع فالواجب مصادرته ، وعزلهم وذلك لخيانتهم ، وقد سنّ ذلك ، ووضع منهاجه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يحاسب عمّاله على ما في أيديهم وعلى ما أنفقوه ، وقد استعمل رجلا من الأزد على الصدقات فلمّا رجع حاسبه فقال الرجل :

ـ هذا لكم ، وهذا اهدي لي.

فأنكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك وقال :

__________________

(1) الغدر : هو ما غادره السيل من الماء.

(2) النطاف : المياه القليلة.

(3) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 : 23 ـ 26.

٤٢

« ما بال الرّجل نستعمله على العمل ممّا ولاّنا الله ، فيقول : هذا لكم ، وهذا اهدي لي؟ أفلا قعد في بيت امّه وأبيه فنظر أيهدى له أم لا؟ والّذي نفسي بيده! لا نستعمل رجلا على العمل ممّا ولاّنا الله فيغلّ منه شيئا إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، وإن كانت بقرة لها خوار ، وإن كانت شاة تمغر ».

ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهمّ بلّغت » قالها مرّتين أو ثلاثا (1) .

وسار الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على هذا المنهج في دور حكومته فكان يراقب الولاة والعمّال ، ويمعن في محاسبتهم ، فإذا بدرت من أحدهم خيانة بادر إلى عزله ، ومصادرة ما اختلسه من الأموال ، وقد بلغه عن بعض عمّاله أنّه استأثر ببعض أموال المسلمين فكتب إليه :

أمّا بعد ، فقد بلغني عنك أمر ، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك ، وعصيت إمامك ، بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك ، وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إليّ حسابك ، واعلم أنّ حساب الله أعظم من حساب النّاس (2) .

وكتب إلى زياد بن أبيه ، وهو وال من قبل عامله على البصرة عبد الله بن عباس ، يحذّره من الخيانة ، وقد جاء فيما كتبه إليه :

وإنّي أقسم بالله قسما صادقا ، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا ، لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظّهر ، ضئيل الأمر (3) .

__________________

(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية : 248.

(2) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 : 22.

(3) المصدر السابق 3 : 22.

٤٣

ما أحوج المسلمين إلى هذا العدل الصارم الذي لا تطغى فيه النزعات والأهواء ، ولا ميل فيه إلاّ للعدل والحقّ ، ولا مكسب فيه إلاّ خدمة الامّة ورعاية مصالحها (1) .

وروى المؤرّخون أنّ عمر بن الخطّاب كان يحاسب عمّاله ويشاطرهم ما عندهم من أموال ، فقد شاطر أموال سعد بن أبي وقّاص وعمرو بن العاص والحجّاج ابن عتيك الثقفي وغيرهم ، ويقول المعنيّون بهذه البحوث إنّ الواجب كان يقضي بمصادرة جميع أموالهم إن كانوا قد اختلسوها ، وإن لم يكونوا قد اختلسوها فلا وجه لمصادرة نصفها (2) .

الإقالة والعزل :

لا يجوز فصل الولاة وإقالتهم إذا كانوا قائمين بواجباتهم وملتزمين بما عهد إليهم ، أمّا إذا اقترفوا الظلم وشذّوا عن الطريق القويم فإنّهم يفصلون ، ويقدّمون إلى القضاء ، وقد عزل الإمام عليه‌السلام أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية أنّه قد جار في حكمه ، فبكى الإمام وقال في حرارة :

اللهمّ أنت الشّاهد عليّ وعليهم ، إنّي لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقّك.

ثمّ عزله في الوقت (3) ، إنّ سعادة الامّة منوطة باستقامة حكّامها ، وعدل موظّفيها ، فإذا مالوا عن الحقّ ، وابتعدوا عن العدل وجب عزلهم لئلا تتعرّض البلاد إلى الأزمات والنكسات.

__________________

(1) نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 373.

(2) المصدر السابق : 374.

(3) العقد الفريد 1 : 211.

٤٤

ومن مظاهر عدل الإمام عليه‌السلام عزله للمنذر بن الجارود حينما بلغه أنّه جافى سيرة أبيه الجارود الحافلة بالتقوى والصلاح ، فقد كتب إليه الإمام عليه‌السلام ما نصّه :

أمّا بعد ، فإنّ صلاح أبيك ما غرّني منك ، وظننت أنّك تتّبع هديه ، وتسلك سبيله ، فإذا أنت فيما رقّي إليّ عنك لا تدع لهواك انقيادا ، ولا تبقي لآخرتك عتادا. تعمر دنياك بخراب آخرتك ، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك. ولئن كان ما بلغني عنك حقّا ، لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر ، أو ينفذ به أمر ، أو يعلى له قدر ، أو يشرك في أمانة ، أو يؤمن على جباية فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله (1) .

لقد صبّ الإمام عليه‌السلام جام غضبه على المنذر حينما بلغه أنّه خان المسلمين ، فقد عنّفه بهذا اللون من العنف الذي هو أشدّ من ضرب السيوف ، ثمّ عزله عن منصبه من أجل صيانة العدل ، والحفاظ على حقوق المسلمين ومصالحهم ، وليس من العدل في شيء إبقاء من خان المسلمين في منصبه بل لا بدّ من عزله وإقصائه.

الجيش :

أمّا الجيش فهو السياج الواقي للامّة ، والحامي لها من الاعتداء والغزو ، وهو أفضل جهاز في الدولة ، و لننظر إلى ما قاله الإمام عليه‌السلام من المدح والاطراء :

فالجنود ، بإذن الله ، حصون الرّعيّة ، وزين الولاة ، وعزّ الدّين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم.

أرأيتم هذا التمجيد؟

__________________

(1) نهج البلاغة 3 : 145.

٤٥

أرأيتم هذا الثناء؟

إنّ الجند حصون الرعية ، وزين الولاة ، وسبل الأمن العامّ في البلاد ، وليس فوق هذا الثناء من ثناء.

وأضاف الإمام عليه‌السلام يقول :

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ، وأنقاهم جيبا ، وأفضلهم حلما ممّن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضّعفاء ، وينبو على الأقوياء ، وممّن لا يثيره العنف ، ولا يقعد به الضّعف.

عرض الإمام إلى من يولّيه ويرشّحه مالك لبعض المراتب المهمّة في الجيش واشترط أن تتوفّر فيهم الصفات التالية :

1 ـ أن يتّصف المرشّح لقيادة الجيش بالنصيحة لله ورسوله ولوالي الامّة.

2 ـ أن يكون بعيدا عن أكل المال الحرام.

3 ـ أن يكون من أفضل الناس ، ويبطئ عن الغضب الذي هو مصدر كلّ رذيلة.

4 ـ أن يتّصف بالرأفة والرحمة على الضعفاء والفقراء.

5 ـ أن يكون ذا بأس وقوّة على الأقوياء.

6 ـ أن يكون قوي الشخصية ، فلا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف.

وأكّد الإمام في عهده لمالك على العناية بقادة الجيش ، قال عليه‌السلام :

وليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتّى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ ؛ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.

٤٦

وألمّت هذه الكلمات بأرقى الوسائل التي توجب تلاحم الجيش مع قادته بولاة الأمر ، وأنّهم يكونون جميعا يدا واحدة على عدوّهم.

الشرطة :

أمّا الشرطة فهي من أجهزة الدولة الحسّاسة ، وأوّل من أسّسها في الإسلام هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد انتخب جماعة من خيار جنوده ، وأطلق عليهم « شرطة الخميس » وكانوا يمثّلون النزاهة والتقوى حتى كانت شهادة أحدهم في المحاكم تعدل شهادة رجلين ، وكان منهم الشهيد الخالد حبيب بن مظاهر والثقة الأمين عبد الله بن يحيى الحضرمي ، وقد قال له الإمام عليه‌السلام :

« ابشر يا عبد الله ، فإنّك وأباك من شرطة الخميس ، حقّا لقد أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس » (1) .

وانيطت بالشرطة كثير من الواجبات والمسئوليات كان من بينها :

1 ـ القبض على المجرمين.

2 ـ اتّخاذ التدابير الوقائية لمنع وقوع الجرائم.

3 ـ المحافظة على النظام والأمن العام.

4 ـ المحافظة على أموال الناس وأعراضهم.

وقد حدّد الإسلام صلاحيّات الشرطة فليس لها أن تعتقل أي شخص إلاّ إذا ثبتت في حقّه تهمة يعاقب عليها القانون الإسلامي ، وإذا ارتكب بعض الشرطة المخالفات فإنّهم يقدّمون للقضاء ، وتجري عليهم العقوبات المقرّرة في الإسلام (2) .

ومن الجدير بالذكر أنّ الشرطة في الأندلس قد انقسمت إلى شرطة كبرى ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام 2 : 377.

(2) نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 441.

٤٧

وشرطة صغرى ، فالكبرى هي التي تضرب على أيدي الزعماء ، ومن يتّصل بهم ، والصغرى تحكم في الغوغاء وعامّة الناس وكانت ولاية الشرطة للزعماء والأكابر من رجال الدولة (1) .

حق الوالي على الرعية وحقّها عليه :

عرض الإمام عليه‌السلام في حديثه التالي إلى حقّ الوالي على الرعية ، وحقّها عليه ، قال :

حقّ الوالي على الرّعيّة ، وحقّ الرّعيّة على الوالي ، فريضة فرضها الله سبحانه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، وعزّا لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه ، وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبت الرّعيّة واليها ، أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنا لك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجّ السّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام ، وكثرت علل النّفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل! فهنالك تذلّ الأبرار ، وتعزّ الأشرار (2) .

__________________

(1) النظم الإسلامية : 334.

(2) ربيع الأبرار 4 : 241 ـ 242.

٤٨

ولاته على مصر

٤٩
٥٠

عرضنا في البحوث السابقة إلى أهميّة الولاة وواجباتهم ، وما يرتبط بهم من الأعمال في ميادين الاصلاح الاجتماعي وبعد هذا نعرض إلى ولاة الإمام وعمّاله على الأقطار والأقاليم الإسلامية.

إنّ الإمام عليه‌السلام حينما تسلّم السلطة بعد مقتل عثمان بن عفّان بادر إلى عزل جميع ولاته وعمّاله ؛ لأنّهم كانوا مصدر فتنة واضطراب في البلاد الإسلامية ، وبعضهم قد استأثر بفيء المسلمين ، واستحلّ الخراج ، ومن المؤكّد أنّ منحهم الوظائف المهمّة في الدولة لم تكن عن كفاءة واختيار ، وإنّما كانت محاباة واثرة.

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى ولاة مصر التي هي أمّ البلاد الإسلامية ، ومركز الثقل فيها ، وقد ولّى الإمام عليه‌السلام عليها خيرة الرجال كفاءة ووعيا وإحاطة بما تحتاج إليه الامّة في شئونها الإدارية والاجتماعية والسياسية وكان أوّل من تقلّد منصب الامارة فيها هو :

٥١
٥٢

قيس بن سعد

أمّا قيس بن سعد فهو من أفذاذ القادة الإسلاميّين ، وعلم من أعلام الجهاد في الإسلام ، ومن ذخائر الرجال الذين أنجبتهم مدرسة الإسلام ونعرض ـ بصورة موجزة ـ إلى بعض شئونه :

ملامحه وصفاته :

اوتي قيس بسطة في الجسم ، فهو أطول إنسان في عصره ، وكان إذا ركب الحمار تخطّ رجلاه في الأرض ، وقد بعث قيصر إلى معاوية أن ابعث لي سراويل أطول رجل من العرب ، فقال لقيس : ما أظنّ إلاّ قد احتجنا إلى سراويلك ، فقام وتنحّى وخلع سراويله ، وجاء بها إليه ، فقال له معاوية : ألاّ ذهبت إلى منزلك ثمّ بعثت بها ، فقال قيس :

أردت بها أن يعلم النّاس أنّها

سراويل قيس والوفود شهود

و ألاّ يقولوا غاب قيس وهذه

سراويل عاد خاطها لثمود

و أنّي من الحيّ اليماني لسيّد

و ما النّاس إلاّ سيّد ومسود

فكدهم بمثلي إنّ مثلي عليهم

شديد وخلقي في الرّجال مديد (1)

وأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه فوقفت بالأرض.

__________________

(1) النجوم الزاهرة 1 : 96.

٥٣

وتميّز قيس بوفور العقل وحسن التدبير ، وروي عنه أنّه قال : لو لا أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « المكر والخديعة في النّار » لكنت من أمكر هذه الامّة (1) .

وكان قيس ندي الكفّ جوادا لا يبارى ، فكان يستدين ويطعم الفقراء ، وقال أبو بكر وعمر : إن تركنا هذا الفتى أهلك مال أبيه ، فمشيا في الناس يمنعونهم من سؤاله ، وسار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما ، فقام سعد بن عبادة خلفه ، وقال : من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطّاب يبخلان على ابني (2) .

ولايته على مصر :

قلّده الإمام عليه‌السلام ولاية مصر في سنة ( 37 ه‍ ) وقال له الإمام عليه‌السلام :

« اخرج إلى رحلك ، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها ومعك جندك ، فإنّ ذلك أرعب لعدوّك ، وأعزّ لوليّك ، وأحسن إلى المحسن ، واشتدّ على المريب ، وارفق بالعامّة والخاصّة ، فإنّ الرّفق يمن ».

فقال له قيس : اخرج إليها بجند ، فو الله! لئن لم أدخلها إلاّ بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا ، فأنا ادع ذلك الجند فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريبا ، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة لك.

وخرج قيس في سبعة من أصحابه ، حتى انتهى إلى مصر ، وفور انتهائه صعد المنبر ، وأمر بقراءة كتاب الإمام عليه‌السلام الذي فيه ولايته ، ثمّ خطب الناس قائلا :

الحمد لله الذي جاء بالحقّ ، وأمات الباطل ، وكبت الظالمين.

__________________

(1) النجوم الزاهرة 1 : 95.

(2) المصدر السابق 1 : 96.

٥٤

أيّها الناس ، إنّا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوموا أيّها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنّة رسوله ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا.

وانبرت الجماهير فبايعت الإمام عليه‌السلام (1) .

مكائد معاوية :

وورم أنف معاوية ، وانتفخ سحره حينما علم بتقلّد قيس ولاية مصر فراح يدبّر المؤامرات لجلبه إليه ، وقد كتب إليه الرسالة التالية :

من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد بن عبادة ، سلام عليك أمّا بعد : فإنّكم إن كنتم نقمتم على عثمان في امور رأيتموها أو ضربة سوط ضربها ، أو شتمة شتمها ، أو في سير سيّره ، أو في استعماله الفيء ، فقد علمتم أنّ دمه لم يكن حلالا لكم فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئا ادّا ، فتب إلى الله يا قيس بن سعد ، فإنّك ممّن أعان على قتل عثمان ، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئا ، وأمّا صاحبك ـ يعني الإمام أمير المؤمنين ـ فقد تيقّنا أنّه الذي أغرى به ، وحملهم على قتله حتى قتلوه ، وأنّه لم يسلم من دمه عظم قومك فإن استطعت أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل ، فإن بايعتنا على هذا الأمر فلك سلطان العراقين ، ولمن شئت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني غير هذا ممّا تحبّ فإنّك لا تسألني شيئا إلاّ اوتيته ، واكتب إليّ برأيك فيما كتبت به إليك والسلام.

وحفلت هذه الرسالة بالخداع والأكاذيب ، فليس قيس ولا الإمام لهما ضلع في إراقة دم عثمان وإنّما أجهز عليه عمله وسوء سياسته ، وقد بسطنا الكلام فيها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 137.

٥٥

جواب قيس :

وأجابه قيس بهذه الرسالة :

أمّا بعد : فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه.

فأمّا ما ذكرت من أمر عثمان فذلك أمر لم أقاربه ، ولم انتطف فيه (1) .

وأمّا قولك : إنّ صاحبي أغرى الناس بعثمان ، فهذا أمر لم أطّلع عليه.

وذكرت انّ معظم عشيرتي لم يسلموا من دم عثمان ، فأوّل الناس فيه قياما عشيرتي ، ولهم اسوة غيرهم.

وأمّا ما ذكرت من مبايعتي إيّاك وما عرضت عليّ ، فلي فيه نظر وفكرة ، وليس هذا ممّا يسارع إليه ، وأنا كاف عنك ، ولن يبدو لك من قبلي شيء ممّا تكره ، والسلام (2) .

ولمّا قرأها معاوية لم يجد فيها ثغرة يسلك فيها لإفساد قيس ، فكتب إليه :

رسالة اخرى من معاوية :

أمّا بعد : فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلما ، ولم أرك مباعدا فأعدك حربا ، وليس مثلي من يخدع ، وبيده أعنّة الخيل ، ومعه أعداد الرجال ، والسلام.

جواب قيس :

ورأى قيس أنّ معاوية لا يقبل المماطلة فأظهر له ما في نفسه وكتب له :

أمّا بعد : فالعجب من اغترارك بي يا معاوية! وطمعك فيّ تسومني الخروج

__________________

(1) لم انتطف فيه : أي لم أتلطّخ به.

(2) النجوم الزاهرة 1 : 99.

٥٦

عن طاعة أولى الناس بالامرة ، وأقربهم بالخلافة ، وأقولهم بالحقّ ، وأهداهم سبيلا ، وأقربهم إلى رسوله وسيلة ، وأوفرهم فضيلة ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلّهم سبيلا ، وأبعدهم من الله ورسوله وسيلة ، ولا ضالّين ولا مضلّين طاغوت من طواغيت إبليس ، وأمّا قولك معك أعنّة الخيل وأعداد الرجال لتشتغلنّ بنفسك حتى العدم (1) .

وقطعت هذه الرسالة كلّ أمل في معاوية ، فراح يفتّش عن مكيدة اخرى لإقصاء قيس عن مصر ، فأذاع بين الشاميّين أنّ قيسا قد بايعه ، واختلق في ذلك كتابا ينعى فيه عثمان بن عفّان ، وأنّه لا يسعه مسالمة المتّهمين بقتله ...

وشاع بين أهل الشام أنّ قيسا قد بايع معاوية وأخلص له ، وبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فشقّ عليه ذلك ، وأشار عليه عبد الله بن جعفر بعزل قيس ، فامتنع الإمام ، وتكرّرت الأحداث وإشاعة معاوية أنّ قيسا قد بايع معاوية فاضطرّ الإمام إلى عزله ، وولّى الزعيم مالك الأشتر مكانه ، وقيل محمّد بن أبي بكر.

__________________

(1) النجوم الزاهرة 1 : 100.

٥٧

ولاية مالك الأشتر

أمّا مالك فهو سيف من سيوف الله تعالى ، وعلم من أعلام الجهاد في الإسلام ، قد وهب حياته لله تعالى ، وأخلص لدينه كأعظم ما يكون الإخلاص ...

وقد وقف بحزم وإخلاص إلى جانب إمام المتّقين وسيّد الموحّدين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يحميه ، ويذبّ عنه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وبلاء ، وقد أدلى الإمام عليه‌السلام بعظيم منزلته وجهاده تجاهه قائلا :

« لقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وقد انتخبه الإمام لولاية مصر بعد عزل قيس عنها ، وذلك لسموّ شخصيّته ، وحزمه الجبّار ، وقدرته الفائقة ، وإحاطته التامّة بالشؤون السياسية والإدارية ، وقد زوّده برسالتين مع العهد الذهبي الذي لم ينشأ مثله في الإسلام وغيره ، أمّا الرسالتان فهما :

الاولى : تضمّنت الإشادة بمكانة مالك ، وحكت كريم صفاته وقد جاء فيها :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، إلى القوم الّذين غضبوا لله حين عصي في أرضه ، وذهب بحقّه ، فضرب الجور سرادقه على البرّ والفاجر ، والمقيم والظّاعن ، فلا معروف يستراح إليه ، ولا منكر يتناهى عنه.

أشاد الإمام عليه‌السلام بهذه الكلمات بالجهود الجبّارة التي بذلها الجيش المصري

٥٨

لحماية الإسلام في أيام محنته حينما توالت عليه الأحداث الرهيبة أيام حكومة عثمان ، فهبّ الجيش المصري للاطاحة بحكومته ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض بحوث هذا الكتاب ثمّ أخذ الإمام في الثناء على مالك :

أمّا بعد ، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله ، لا ينام أيّام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الرّوع ، أشدّ على الفجّار من حريق النّار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحقّ ، فإنّه سيف من سيوف الله لا كليل الظّبة (1) ، ولا نابى الضّريبة (2) : فإن أمركم أن تنفروا فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنّه لا يقدم ولا يحجم ، ولا يؤخّر ولا يقدّم إلاّ عن أمري ؛ وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم ، وشدّة شكيمته على عدوّكم (3) .

وهذه الكلمات وسام شرف لمالك ، فقد حكت بعض قيمه ومثله والتي منها :

1 ـ ألمّت بشجاعة مالك ، وقوّة بأسه ، وصلابة عزيمته ، وأنّه لا ينام أيام الخوف ، ولا ينكل عند الروع.

2 ـ إنّ مالك أشدّ من النار على المارقين والمنحرفين عن الحقّ ، الذين لا يرجون لله وقارا.

3 ـ إنّ مالك من سيوف الله الواقعيّين الذين لم يلوّثوا بجريمة ولا باقتراف منكر.

4 ـ أمر الإمام ـ بهذه الرسالة ـ الشعب المصري بإطاعة مالك والانصياع

__________________

(1) الظّبة : حدّ السيف. الكليل : الذي لا يقطع.

(2) الضريبة : المضروب بالسيف.

(3) نهج البلاغة ـ محمّد عبده 3 : 63.

٥٩

لأوامره ، فإنّه لا يقدم على شيء ، ولا يعمل عملا إلاّ بعد أخذ رأي الإمام عليه‌السلام .

الثانية : عرضت إلى الأحداث المؤسفة التي عاناها الإمام عليه‌السلام بعد وفاة أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قال :

أمّا بعد ، فإنّ الله سبحانه بعث محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نذيرا للعالمين ، ومهيمنا (1) على المرسلين.

فلمّا مضى عليه‌السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده. فو الله ما كان يلقى في روعي (2) ، ولا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن أهل بيته ، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده! فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان (3) يبايعونه ، فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السّراب ، أو كما يتقشّع السّحاب ؛ فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدّين وتنهنه.

عرض الإمام في هذا المقطع إلى الخلافة التي هي من حقّه وهو أولى بها من غيره ، وما كان يدور في خلده أنّها تنصرف عنه إلى غيره ، ولم يدخل مع القوم الذين

__________________

(1) المهيمن : الشاهد.

(2) روعي : أي في خاطري.

(3) يعني بفلان : أبا بكر.

٦٠