موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء ١١

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام0%

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 317

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
تصنيف:

ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: 317
المشاهدات: 162300
تحميل: 5197


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 317 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 162300 / تحميل: 5197
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الجزء 11

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة
ISBN: 964-94388-6-3
العربية

1 ـ عين التمر :

وأرسل معاوية النعمان بن بشير الأنصاري في ألف رجل لغزو عين التمر ، وإشاعة الرعب عند أهلها ، وكان مالك بن كعب واليا عليها ، ومعه كتيبة من الجيش تبلغ ألف مقاتل ، ولم يعلم بغزو أهل الشام ، فأذن لجنده بإتيان أهاليهم في الكوفة ، فنفروا ، وبقي في مائة رجل ، ولما دهمه جيش معاوية قاومهم مقاومة باسلة ، والتحق به خمسون رجلا ، فلمّا رآهم النعمان فزع منهم وولّى هاربا ، ولمّا انتهت الأنباء إلى الإمام قام خطيبا في جيشه وأخذ يدعوهم إلى نجدة عامله على عين التمر ، قائلا :

يا أهل الكوفة ، أكلّما أقبل منسر من مناسر أهل الشّام أغلق كلّ امرى منكم بابه ، وانحجر في بيته انحجار الضّبّ ، والضّبع؟ الذّليل والله! من نصرتموه ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل ، فقبحا لكم وترحا ، يوما اناجيكم ويوما أناديكم ، فلا أحرار عند اللّقاء ، ولا إخوان عند النّجاء(1) .

وهكذا بلغ التخاذل مبلغا فظيعا في جيشه ، فأصبحوا كالأنصاب ، لا إرادة ولا اختيار لهم قد قبعوا بالذلّ والهوان.

2 ـ هيت :

ووجّه معاوية للغارة على هيت(2) سفيان بن عوف ، وأمدّه بستّة آلاف مقاتل ، وعهد إليه أن يأتي بعد الغارة عليها إلى الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها القتل

__________________

(1) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2 : 546 ـ 547.

(2)هيت : بكسر الهاء ، قال ابن السكّيت : إنّما سمّيت هيت بهذا الاسم لأنّها في هفوة من الأرض ، وقد انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهي بلدة من نواحي بغداد فوق الأنبار وهي ذات نخل كثير وخيرات واسعة ـ معجم البلدان 1 : 340.

٢٢١

والدمار ، وسار سفيان بجيشه إلى هيت فلم يجد بها أحدا ، فانعطف نحو الأنبار ، فوجد بها مسلحة للإمام تتكوّن من مائتي رجل ، عليهم أشرس بن حسّان البكري ، فقاتلهم سفيان فقتل أشرس مع ثلاثين رجلا من أصحابه ، ثمّ نهبوا ما في الأنبار من أموال وقفلوا راجعين إلى سيّدهم معاوية وهم في أقصى الفرح والسرور بما أحرزوه من نصر ، وما نهبوه من أموال(1) .

ووافت أنباء الأنبار الإمام المظلوم فبلغ به الحزن أقصاه ، وكان مريضا لا يمكنه أن يخطب بين الناس فكتب كتابا ألقاه شخص ، وكان الإمام قريبا منه ، وهذا نصّه :

« أمّا بعد ، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة ، فتحه الله لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التّقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذّلّ ، وشمله البلاء ، وديّث بالصّغار والقماءة(2) ، وضرب على قلبه الأسداد (3) ، وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف (4) ، ومنع النّصف.

ألا وإنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرّا وإعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله! ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم (5) إلاّ ذلّوا. فتواكلتم وتخاذلتم حتّى شنّت عليكم الغارات ، وملكت عليكم الأوطان. وهذا أخو غامد (6) وقد وردت خيله الأنبار ، وقد قتل حسّان بن حسّان البكريّ ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ،

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 189.

(2)القماءة : الذلّ والصغار.

(3)الأسداد : هي الحجب التي تحول بين الإنسان ورشده.

(4)الخسف : الذلّ.

(5)عقر الدار : وسطها.

(6)أخو غامد : هو سفيان بن عوف من بني غامد قبيلة باليمن.

٢٢٢

والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها(1) وقلائدها ورعاثها(2) ، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام. ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم(3) ، ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا ، فيا عجبا! عجبا ـ والله! ـ يميت القلب ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم! فقبحا لكم وترحا(4) ، حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ ، قلتم : هذه حمّارة القيظ(5) أمهلنا يسبّخ(6) عنّا الحرّ ، وإذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم : هذه صبارّة(7) القرّ ، أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ والقرّ(8) ؟ فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فأنتم والله! من السّيف أفرّ!

يا أشباه الرّجال ولا رجال! حلوم الأطفال ، وعقول ربّات الحجال ، لوددت أنّي لم أركم ولم أعرفكم ، معرفة ـ والله! ـ جرت ندما ، وأعقبت سدما(9) .

قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدري غيظا ، وجرّعتموني نغب

__________________

(1) أي قلادتها.

(2)رعاثها : القرط.

(3)الكلم : الجرح.

(4)الترح : الحزن.

(5)حمارة القيظ : شدّة الحرّ.

(6)السبخ : التخفيف.

(7)الصبارة : الشتاء.

(8)القر : شدّة البرد.

(9)السدم : الهمّ.

٢٢٣

التّهمام (1) أنفاسا ، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان ، حتّى لقد قالت قريش : إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب.

لله أبوهم! وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا (2) ، وأقدم فيها مقاما منّي؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وهأنذا قد ذرّفت (3) على السّتّين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع! (4)

وأنت ترى في هذه الخطبة صورا مروّعة من الآلام القاسية التي أحاطت بالإمام المظلوم المهتضم ، فقد تجرّع الويلات والكوارث من جيشه الذي تمرّد عليه كأشدّ وأقسى ما يكون التمرّد حتى لم يعد له فيهم أي وجود لسلطته وحكومته.

3 ـ واقصة :

ووجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري إلى واقصة ليغير ويروّع كلّ من كان فيها من شيعة الإمام ، وضمّ إليه ثلاثة آلاف رجل ، فسار الضحّاك فنهب الأموال ، وقتل كلّ من ظنّ أو احتمل أنّه من شيعة الإمام ، وانتهى إلى القطقطانة فأشاع فيها القتل والدمار ، وسار إلى السماوات فاقترف فيها كلّ ما حرّمه الله من إثم ثمّ قفل راجعا إلى الشام.

ولمّا وافت الأنباء إلى الإمام بلغ به الحزن أقصاه ، ودعا جيشه لصدّ هذا الاعتداء فلم يستجب له أحد ، فقام خطيبا عرض في خطابه لمحنته الكبرى من ذلك المجتمع الذي لا عهد له بالشرف والكرامة ومن بين خطابه قوله :

__________________

(1)نغب التهمام : أي تجرّعت منكم الهمّ والأسى.

(2)المراس : المعالجة والمزاولة.

(3)ذرفت : أي أشرفت أو زدت.

(4) نهج البلاغة 1 : 69 ـ 70.

٢٢٤

« والله! لوددت أنّ لي بكلّ ثمانية منكم رجلا منهم ، ويحكم! اخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي ما بدا لكم!! فو الله! ما أكره لقاء ربّي على نيّتي وبصيرتي ، وفي ذلك روح لي عظيم ، وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم » (1) .

وسار الإمام نحو الغريّين لصدّ هذا الاعتداء الغادر فلم يلتحق به أحد وسارع ابن أخيه عبد الله بن جعفر فالتحق به ، ولمّا رأى الناس ذلك خفّ للمسيرة معه بعض الجيش ، فسرح بهم الإمام لطلب الضحّاك ومناجزته ، وجعل قيادتهم بيد حجر بن عدي ، وسار في طلب الضحّاك فلم يدركه.

4 ـ الكوفة :

وأخذت غارات معاوية تتوالى على العراق من دون أن تتعرّض لأيّة مقاومة ، وقد أيقن معاوية بالنصر الحاسم ، والظفر باسقاط حكومة الإمام ، وكان باستطاعته احتلال الكوفة ، التي هي عاصمة الإمام لأنّه لم تكن عنده قوّة عسكرية على حمايتها ، وذلك لانحلال جيشه ، وشيوع الفتن بين كتائبه.

وعلى أي حال فقد انتهت غارات معاوية إلى قرب الكوفة العاصمة وهي تنشر الذعر والخوف والارهاب ، والإمام ليس له أيّة قدرة على حماية الأمن العام لأنّ جيشه قد خلع الطاعة ، وأعلن العصيان والتمرّد ، ولم يعد للإمام أي نفوذ أو سلطان عليه.

عبث الخوارج :

ومن بين المحن الكبرى التي امتحن بها الإمام امتحانا عسيرا هي فتنة الخوارج ، فإنّ الإمام لم يقض عليهم في النهروان ، وإنّما قضى على عصابة منهم ،

__________________

(1) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2 : 537.

٢٢٥

وبقي الكثيرون منهم يعيشون معه وهم يكيدون له ، ويتربّصون به الدوائر ، ويحوّلون قلوب الناس عنه ، فقد أمنوا من بطشه وعقوبته ، وأطمعهم فيه عدله ، وأغراهم لينه ، وبسطه للحريات العامّة ، فراحوا يجاهرونه بالانكار عليه فقد قطع ابن الكوّاء على الإمام خطابه ، وتلا قوله تعالى :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) ، فردّ عليه الإمام بآية اخرى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) .

وجاءه خارجي آخر وهو الخريت بن راشد السامي في ثلاثين من أصحابه فقال له :

يا علي ، والله! لا اطيع أمرك ، ولا اصلّي خلفك ، وإنّي غدا مفارقك ...

فلطف به الإمام وحاججه ، وخلّى سبيله ، ولم يأمر باعتقاله ، وقفل الخريت راجعا إلى قومه من بني ناجية ، الذين كانوا من حزب عائشة فأحاطهم علما بما جرى بينه وبين الإمام ، فأجمع رأيهم على إعلان الحرب على الإمام ، فأرسل الإمام إليهم جيشا لردّهم إلى الطاعة أو مناجزتهم إن أبوا ذلك ، فلحق بهم جيش الإمام فكانت بينهما مناظرات لكنّها لم تجد شيئا معهم فقد أصرّوا على تمرّدهم ووقع القتال بينهما ، ولم يحرز أحد الفريقين نصرا على الآخر وهرب الخريت مع أصحابه إلى البصرة ، وقفل جيش الإمام راجعا إلى الكوفة.

وأرسل الإمام جيشا آخر يتعقّب الخريت وأرسل إلى ابن عباس عامله على البصرة أن يمدّ جيشه بالسلاح والعتاد ، فأمدّهم ابن عباس بما أمر به ، والتقى الفريقان واحتدم القتال كأشدّه بينهما ، وبدت امارة الانحلال والضعف في جيش الخريت ، إلاّ أنّه انهزم مع أصحابه في غلس الليل متّجها صوب الأهواز.

فلمّا انتهى إليها أخذ يبذر الفتنة فيها ، ويشيع الجريمة ، ويدعو إلى الزهد في الإسلام ، فمنع العرب من إعطاء الزكاة ، ومنع النصارى من إعطاء الجزية حتى ارتدّ الكثيرون من النصارى الذين دخلوا في الإسلام ، والتفّوا حوله ، كما استجاب له

٢٢٦

جمع من الغوغائيّين ، حتى ظهر أمره وقويت شوكته ، ألا إنّ جيش الإمام قد تتبعه ، فقتله ، وقتل عصابة من حزبه ، وأسر جماعة منهم ، فمن أعلن إسلامه وتوبته عفا عنه ، ومن لم يسلم وبقي مصرّا على فكرته أخذه أسيرا معه(1) .

وعلى أي حال فقد أخذت الفتن تتّسع وتتوالى في البلاد الخاضعة لحكم الإمام ، ولم تسلم منها عاصمته ، حتى أوجبت خذلان الإمام وشهادته ، وخذلان ولده الإمام الزكي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام الحسنعليه‌السلام ...

وقد ألحقت هذه الأحداث الرهيبة أضرارا بالغة في المجتمع الإسلامي كان من أقساها وأفجعها أن آلت الخلافة الإسلامية إلى معاوية بن أبي سفيان فأخذ يمعن في إذلال المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون.

دعاء الإمام على نفسه :

وطافت بالإمام موجات رهيبة ومفزعة من الأزمات يتبع بعضها بعضا ، وكان من أقسى ما حلّ به أنّه رأى باطل معاوية قد استحكم ، وسلطانه قد تمّ ، ورأى نفسه في أرباض الكوفة قد احتوشته ذئاب العرب الذين كرهوا عدله ، ونقموا من سياسته الهادفة إلى تحقيق العدالة ونشر المساواة بين الناس.

وممّا أقضّ مضجع الإمام تمزّق جيشه ، وتفلّل جميع فرقه ووحداته فقد كان هوى معظم قادة الفرق مع معاوية لأنّه أغدق عليهم بالأموال فكاتبوه سرّا بالطاعة والانقياد لأمره ، وبالاضافة إلى هذا البلاء فتنة الخوارج وشيوع أفكارهم في الجيش ، وهي تقضي بلزوم عزل الإمام عن الحكم.

وعلى أي حال فقد أصبح الإمام بمعزل تام عن جميع السلطات فكان يأمر

__________________

(1) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام 1 : 550.

٢٢٧

فلا يطاع ، ويدعو فلا يستجاب له ، وجعل يخبرهم عمّا سيلاقونه من بعده من التنكيل والارهاق من السلطات الظالمة التي ستحكم بلادهم ، قالعليه‌السلام :

« أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، وسيفا قاطعا ، وأثرة يتّخذها الظّالمون فيكم سنّة. فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم وتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم ، ولا يبعد الله إلاّ من ظلم وأثم ».

وتحقّق ما تنبأ به الإمام فيهم فقد سلّط الله عليهم أرجاس البشرية فأخذوا يمعنون في ظلمهم وإرهاقهم ، فأخذوا البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر ، وقتلوا على الظنّة والتهمة ، واستيقظوا بعد أن حلّ بهم العذاب الأليم من قبل معاوية وولاته ، وسائر حكّام بني اميّة ، وقد ندموا كأشدّ ما يكون الندم على ما اقترفوه من خذلان الإمام ، وعصيان أوامره.

وعلى أي حال فقد سئم الإمام من ذلك المجتمع ، وراح يتمنّى مفارقة الحياة ، وكان كثيرا ما يقول :

« متى يبعث أشقاها؟ ».

وأخذ يدعو الله تعالى أن ينقله إلى جواره ؛ ويريحه من ذلك المجتمع الشقي ، فقد روى البلاذري عن أبي صالح ، قال : شهدت عليّا ، وقد وضع المصحف على رأسه حتى سمعت تقطع الورق ، وهو يقول :

« اللهمّ إنّي سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك ، اللهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير خلقي فأبدلني بهم خيرا لي منهم ، وأبدلهم بي شرّا منّي ، ومث قلوبهم ميث الملح في الماء »(1) .

__________________

(1) أنساب الأشراف : 1 : 200.

٢٢٨

واستجاب الله تعالى دعاء وليّه المظلوم الممتحن فنقله إلى حظيرة القدس مع النبيّين والصدّيقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا ، وأراحه من ذلك المجتمع المصاب بدينه وأفكاره فانساب في دياجير قاتمة ليس فيها أي بصيص من النور.

٢٢٩
٢٣٠

المأساة الخالدة

٢٣١
٢٣٢

ليس في هذا الشرق العربي ولا في غيره من مناطق العالم وامم الأرض حاكم مثل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في نزاهته وعدله ، وتجرّده من جميع المحسوبيات والأطماع ، فقد كان فيما أجمع عليه المؤرّخون لم يخضع لأيّة نزعة مادية أو عاطفية ، وإنّما آثر الحقّ ورضا الله تعالى في سلوكه وجميع تصرّفاته فلم يحاب أحدا ولم يداهن أي شخص في دينه ، فقد تبنّى بصورة إيجابية العدل الخالص والحقّ المحض ، وقد جهد أن يرفع الحيف والظلم والغبن عن الناس ، ويحطّم الفوارق التي مآلها إلى التراب بين المسلمين.

وقد احتاط هذا الإمام العظيم في أموال الدولة كأشدّ ما يكون الاحتياط فلم ينفق أي شيء منها قليلا أو كثيرا إلاّ في المواقع التي عيّنها الإسلام ، لم يتاجر ولم يشتر بها العواطف والضمائر ـ كما كان يفعل معاوية ـ ولمّا آلت دولته إلى الانحلال والتمزّق أشار عليه وزيره ومستشاره حبر الامّة عبد الله بن عبّاس برأي يرجع لدولته قوّتها ، ويعيد لها نضارتها قائلا : يا أمير المؤمنين ، فضّل العرب على العجم ـ أي في العطاء والمناصب ـ وفضّل قريشا على العرب ...

كان ابن عبّاس يرى أنّ التفاضل في العطاء هو الضمان الوحيد لحماية دولة الإمام من التمزّق ، ورمق الإمام بطرفه ابن عباس ، ونفر من رأيه ، وقال له :

« يا بن عبّاس ، تريد منّي أن أطلب النّصر بالجور؟ لو كان المال لي لسوّيت بينهم بالعطاء فكيف والمال مال الله ».

٢٣٣

لقد أجهد الإمام نفسه ، وحملها من أمره رهقا من أجل أن يبسط العدالة بين الناس ، ويرفع عنهم الفقر والحاجة ، ويشيع بينهم الأمن والرخاء.

يقول عبد الله بن رزين : دخلت على عليّ يوم الأضحى فقرب إلينا حريرة فقلت : أصلحك الله لو قرّبت إلينا من هذا البطّ ، فإنّ الله تعالى قد أكثر الخير؟

فقالعليه‌السلام :

« يا بن رزين ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا يحلّ لخليفة من مال الله إلاّ قصعتان ، قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين النّاس » (1) .

لقد نقمت عليه الرأسمالية القرشية ، ونقم عليه كلّ من استسلم لدوافع المادة وشهواتها ، فوضعوا أمام حكومته الحواجز والسدود ، وعملوا جاهدين للإطاحة بدولته ، وتسليمها إلى معاوية بن أبي سفيان الذي يضمن لهم ما يريدون ويحقّق لهم ما يصبون إليه من المنافع.

ومن المؤكّد أنّ الإمامعليه‌السلام كان يعلم كيف يجلب طاعة المتمرّدين ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بأن يداهن في دينه ، فيمنح الثراء العريض للوجوه والأعيان من قريش وغيرهم من وجوه العرب.

ومن الطبيعي أنّ ذلك هو الانحراف الكامل عن الحقّ ، والمتاجرة بمصالح الأمّة ، وهو ممّا يأباه ضمير الإمام الذي ربّاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثله وقيمه ليكون صورة صادقة عنه.

لقد أراد الإمام أن يوزّع خيرات الله تعالى على الفقراء والبؤساء ، ولا يجعل في المجتمع أي ظلّ للحاجة والحرمان ، وممّا لا شبهة فيه أنّ هذه السياسة المشرقة لا تعيها النفوس التي ران عليها الباطل ، وعشعش فيها إبليس أمثال الأشعث بن

__________________

(1) جواهر المطالب : 43.

٢٣٤

قيس ، والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص وأمثالهم من الذين لا يرجون لله وقارا.

إنّ الإيمان الخالص بحقّ الله وحقّ الناس لم ينته إلاّ للقلّة المؤمنة من أصحاب الإمام وخاصّته وحواريه أمثال حجر بن عدي ومالك الأشتر وميثم التمّار وعدي بن حاتم وعمّار بن ياسر وأمثالهم ممّن تغذّوا بهدي الإمام ، أمّا الأكثرية الساحقة من جيش الإمام وشعبه فإنّهم لا يفقهون أي شيء من مثل الإمام وسياسته ، فلذا ابتعدوا عنه ، وانضمّوا إلى معاوية وحزبه حزب الشيطان.

وعلى أي حال فإنّ الإمامعليه‌السلام قد أخضع سياسته للقيم الدينية فبسط العدل ، وأشاع الحقّ ، ولم يعد أي ظلّ للظلم والحرمان ، ولذا هبّت في وجهه الاسر القرشية التي كانت تعتبر السواد بستانا لها ، فأشعلت نار الحرب عليه ، ورفعت شعارا لتمرّدها وهو المطالبة بدم عثمان عميد الاسرة الأموية ، فأغرقت البلاد بالدماء ، ونشرت الحزن والحداد في بيوت المسلمين ، وقد وقف عملاق العدالة الإسلامية ملتاعا حزينا ، قد احتوشته ذئاب الأثرة والاستغلال ، فأفسدت عليه جيشه وشعبه ولم يعد باستطاعته أن يسيطر على الأوضاع الراهنة في جيشه إذ لم يكن له ركن شديد يأوي إليه.

وشيء بالغ الأهمّيّة في مآسي الإمام هو فقده للصفوة الطاهرة من أعلام أصحابه الذين قرءوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه وأحيوا السنّة ، وأماتوا البدعة أمثال الشهيد الخالد عمّار بن ياسر ، وابن التّيهان ، وذي الشهادتين ، ونظرائهم من الذين مضوا على الحقّ ، فقد استشهدوا في ميادين صفّين وابرد برءوسهم إلى الفسقة الفجرة معاوية وحزبه ، وقد كان فقدهم قد هدّ في ركن الإمام ، وأضعفه إلى حدّ بعيد.

وعلى أي حال فإنّا نلقي نظرة سريعة على شهادة الإمامعليه‌السلام وما رافقها من أحداث.

٢٣٥

مؤتمر مكّة :

نزحت عصابة من الخوارج إلى مكّة لأداء الحجّ ، فلمّا انتهى موسمه عقدوا مؤتمرا عرضوا فيه الأحداث الجسام التي مني بها العالم الإسلامي والتي أدّت إلى سفك الدماء ، واختلاف كلمة المسلمين ، وعزوها إلى ثلاثة أشخاص وهم :

الإمام أمير المؤمنين.

معاوية بن أبي سفيان.

عمرو بن العاص.

وأجمع رأيهم على اغتيال هؤلاء الأشخاص ، وانبرى إلى تنفيذ عملية اغتيالهم الأشخاص التالية أسماؤهم :

1 ـ عبد الرحمن بن ملجم ، تعهّد بقتل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

2 ـ الحجّاج بن عبد الله الصريمي ، تعهّد بقتل معاوية.

3 ـ عمرو بن بكر التميمي ، تعهّد بقتل ابن العاص.

وعيّنوا وقتا خاصّا لاغتيالهم وهو ليلة الثامن عشر من شهر رمضان ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح ، وبعد انفضاض المؤتمر أقاموا بمكّة أشهرا ، ثمّ اعتمروا في شهر رجب ، وافترقوا وقصد كلّ واحد منهم البلد الذي تعاهد على القيام بعملية الاغتيال فيه.

الأمويون واغتيال الإمام :

ذكر المؤرّخون أنّ اغتيال الإمامعليه‌السلام يعزى إلى الخوارج ، وليس لغيرهم أي ضلع فيه ، والذي نراه بكثير من التأمّل والترجيح أنّ للأمويّين صلة فيه ، ويدعم ذلك ما يلي :

٢٣٦

1 ـ إنّ أبا الأسود الدؤلي من خواص الإمامعليه‌السلام ومن تلاميذه ، وكان من المتحرّجين في دينه قد ألقى تبعة قتل الإمام على بني اميّة وذلك في مقطوعته التي رثا بها الإمام ، فقد جاء فيها :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فلا قرّت عيون الشامتينا

أفي شهر الصّيام فجعتمونا

بخير الناس طرّا أجمعينا؟

قتلتم خير من ركب المطايا

ورحّلها ومن ركب السّفينا(1)

ومعنى هذه الأبيات أنّ معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام الذي هو خير الناس بعد أخيه وابن عمّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن المؤكّد أنّ أبا الأسود لم ينسب جريمة اغتيال الإمام إلى معاوية إلاّ بعد وثوقه بذلك ، ومن المحتمل أنّ أبا الأسود إنّما ألقى المسئولية على معاوية في اغتيال الإمام لأنّه هو السبب في نشأة الخوارج وتمرّدهم على حكم الإمام ، وجميع ما صدر منهم من جرائم وآثام تستند إلى معاوية.

2 ـ أنّ القاضي نعمان المصري ، وهو من المؤرّخين القدامى ذكر قولا هو أنّ معاوية دسّ ابن ملجم لاغتيال الإمام ، وهذا نصّ كلامه :

« وقيل إنّ معاوية عامله ـ أي عامل ابن ملجم ـ على ذلك ـ أي على اغتيال الإمام ، ودسّ إليه فيه ، وجعل له مالا عليه »(2) .

وهذا القول يؤكّد ما جاء في شعر أبي الأسود الدؤلي من اسناد قتل الإمام إلى معاوية.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 : 198.

(2) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري : 98.

٢٣٧

3 ـ وممّا يدلّل على أنّ للحزب الأموي ضلعا في اغتيال الإمام أنّ الأشعث بن قيس(1) ، كان عينا لبني اميّة وعميلا لهم في العراق ، وقد ساهم مساهمة إيجابية في اغتيال الإمام ، فقد رافق ابن ملجم في أثناء قتله للإمام ، وقد شجّعه على ذلك ، وهو القائل له : النجا فقد فضحك الصبح ، ولمّا سمعه حجر بن عدي صاح به ، وقال له :

قتلته يا أعور؟ وصلة الأشعث ببني اميّة معروفة ، وعداؤه للإمام مشهور ، وقد هدّد الإمام قبل قتله بقليل.

إنّ المؤامرة باغتيال الإمام قد احيطت بكثير من السرّ والكتمان ، فما الذي أوجب اطّلاع الأشعث عليها ودعمه لها ، لو لا الايعاز إليه من الأمويّين؟

4 ـ أنّ مؤتمر الخوارج قد انعقد في مكّة أيام موسم الحجّ ، وهي حافلة ـ من دون شكّ ـ بالأمويّين لأنّها الوطن المهم لهم ، وكانوا يبثّون الدعايات المضلّلة ضدّ الإمام ، ويشيعون في أوساط الحجّاج الأكاذيب ضدّه ، وأغلب الظنّ أنّهم تعرّفوا على الخوارج الذين هم من أعدى الناس للإمام.

وممّا يساعد على تعرّف الأمويّين لابن ملجم أنّه أقام مع بقيّة الخوارج في مكّة بعد انقضاء موسم الحجّ إلى شهر رجب ، واعتمروا بالبيت الحرام عمرة مفردة ، ثمّ نزحوا بعد ذلك إلى تنفيذ مخطّطاتهم ، فمن المحتمل أنّ الخوارج اتّصلوا بالأمويّين ، ودفعوهم إلى اغتيال الإمام.

5 ـ أنّ ابن ملجم كان معلّما للقرآن(2) وكان يأخذ رزقه من بيت المال ، ولم تكن عنده سعة مالية ، فمن أين له الأموال التي اشترى بها سيفه بألف درهم؟

__________________

(1) الأشعث بن قيس اسمه معدي كرب لقّب بالأشعث لأنّه كان أشعث الرأس ـ خزانة الأدب 5 : 424.

(2) لسان الميزان 3 : 440.

٢٣٨

وسمّه بألف درهم؟ ومن أين له الأموال البالغة ثلاثة آلاف درهم؟ وعبد وقينة؟ وقد أعطاها مهرا للبغية قطام؟

كلّ ذلك ممّا يدعو إلى الظنّ أنّه تلقّى دعما ماليّا من الأمويّين ليقوم باغتيال الإمام.

6 ـ أنّ ابن ملجم كان على اتّصال وثيق بابن العاص ، وكان معه حينما فتح مصر وأمره بالنزول بالقرب منه(1) ويروي الصفدي أنّ عمر بن الخطّاب أوصى ابن العاص برعاية ابن ملجم ، وأكبر الظنّ أنّه أحاط ابن العاص علما بما اتّفق عليه مع زميليه من القيام باغتياله واغتيال الإمام ومعاوية ، ولذا لم يخرج ابن العاص للصلاة في تلك الليلة واستناب خارجة ، فقام التميمي باغتياله ظانّا أنّه ابن العاص فلذا لم تكن نجاته وليدة مصادفة ، وإنّما كانت عن علم بذلك.

هذه بعض الملاحظات التي توجب الظنّ في اشتراك الحزب الأموي في اغتيال الإمام(2) .

الإمام مع ابن ملجم :

كان الإمامعليه‌السلام لا يخامره شكّ في أنّ ابن ملجم هو الذي يقوم باغتياله ، وقد ذكر الرواة أنّه جاء ليبايع الإمام فردّه مرّتين أو ثلاثا ، ثمّ بايعه ، فأخذ الإمام منه المواثيق بأن لا يغدر ، ولا ينكث بيعته ، فقال له ابن ملجم :

ما رأيتك تفعل هذا بغيري؟ فأعرض عنه الإمام ، فلمّا ولّى قال الإمام لغزوان :« احمله على الأشقر » ، فحمله عليه ، ثمّ تمثّل الإمام :

__________________

(1) لسان الميزان 3 : 440.

(2) حياة الإمام الحسين 2 : 104 ـ 106.

٢٣٩

« اريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليلك من مراد »(1)

و التفت الإمام إلى من حضر وقال لهم :« والله! ما أراه يفي بما قال » (2) ، وما كان هذا الإنسان الممسوخ يفي بما قال ، فقد نكث ما عاهد عليه الله فاغتال إمام المتّقين وسيّد العابدين.

الوشاية بابن ملجم :

كان الإمامعليه‌السلام على المنبر يخطب ، وكان الخبيث الدنس ابن ملجم إلى جانب منصّة الخطابة ، فقال مهدّدا ومتوعّدا للإمام : والله! لأريحنّهم منك ، فسمعه بعض الجالسين ، فألقى عليه القبض ، وجاء به مخفورا إلى الإمام فأخبره بمقالته ، فأمر الإمام بإطلاق سراحه ، وقال : «لم يقتلني بعد »(3) ، وهكذا فتح الإمام باب الحرية على نطاق واسع لأعدائه وخصومه ، فلذا كانوا لا يخشونه ولا يخافون عقابه.

ابن ملجم مع قطام :

ولمّا دخل الدنس الخبيث ابن ملجم إلى الكوفة التقى ببعض أصحابه من تيم الرباب ، وكانت قطام عنده ، وكان الإمام قد قتل أباها وأخاها في واقعة النهروان ،

__________________

(1) يروى اريد حباءه أي عطاءه وصلته ، والبيت من قصيدة لعمر بن معدي كرب منها هذه الأبيات :

تمنّا من ليقتلن أبي

وددت وأينما منّي ودادي

فلو لاقيتني للقيت قرنا

وصرح شحم قلبك عن سواد

إذن للقيت عمّك غير نكس

ولا متعلم قتل الوحاد

اريد حباءه البيت جاء ذلك في خزانة الأدب 6 : 360 والأغاني 15 : 228.

(2) المناقب 3 : 93.

(3) علي بن أبي طالب بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة : 562.

٢٤٠