• البداية
  • السابق
  • 323 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45938 / تحميل: 7745
الحجم الحجم الحجم
العمل وحقوق العامل في الإسلام

العمل وحقوق العامل في الإسلام

مؤلف:
العربية

تصدير

1 - الأستاد العلامة الشيخ باقر الشيخ شريف القرشي احد النّابهين من خرّيجي مدرسة النّجف الأشرف، الحاضرة العلمية الكبرى للشّيعة الاماميّة. وهو غنيّ بآثاره وبحوثه الّتي تناولت شتّى الموضوعات الدّينيّة والتّاريخية الّتي حظيت كلّها بالاقبال الشّديد من قبل عامّة القرّاء. وخاصّة كتبه الّتي تناول فيها تاريخ الأئمّة من اهل البيت عليهم السلام وسيرهم. ومن اوضح الادلّة على هذا انّ كتبه كلّها اعيد طبعها مرات ومرات في فواصل زمنّية قصيرة جدّاً.

2 - وصف كتابه هذا (العمل وحقوق العامل في الاسلام) في احدى طبعاته بانّه «دراسة شاملة عن (العامل والفلاّح) في النظام الاسلامّي مع مقارنتها بالاسس العامة للمبادئ الحديثة يجلّي فيه المؤلف المفهوم الذي قدمه الاسلام في ميدان العمل والعاملين بانسانيتّه الأصيلة وثروته البناءة الشّاملة. وقد توفّرت في هذا الكتاب جميع عناصر البحث المنهجي المتكامل الذي لا تحيز فيه».

١

وهذا الوصف صادق الى حد بعيد حينما يكون بحسباننا انّ الكتاب وضع لعامّة القّراء، ولكي يحقق متطلباتهم التّثقيفيّة وحاجاتهم الفكريّة، ومشاكلهم الّتي يواجهونها عندما تعرض عليهم شتّى المبادئ الحديثة، وعندما تعترض طريقهم شتّى النّزعات، وتبلبل افكارهم شتّى الاهواء والشّعارات.

3 - و (دار احياء تراث اهل البيت عليهم السّلام) التّابعة للمؤسّسة العالميّة للخدمات الاسلاميّة لمّا رأت في هذا الكتاب ما تقّدم عزمت على اعادة طبعه، آملة ان يكون عملها هذا خطوة أخرى تقرّبها إلى أهدافها، وبهذا تقربها من رضى اللّه سبحانه، وراجية منه عزّ وجل ان يسددّ خطاها، وان يوفقها لما فيه خير المسلمين، انّه نعم المولى ونعم النّصير.

13 / 1 / 1403 دار احياء تراث اهل البيت

31 / 10 / 1982 عليهم السلام

طهران - ايران

٢

بسم اللّه الرحمن الرحيم

( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْ‌ضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّ‌زْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‌ ) (1) ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُ‌وا فِي الْأَرْ‌ضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ وَاذْكُرُ‌وا اللَّـهَ كَثِيرً‌ا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ‌ الْآخِرَ‌ةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (3) .

القرآن الكريم

____________________

1 - سورة الملك: آية 15.

2 - سورة الجمعة: آية 10.

3 - سورة القصص: آية 77.

٣

الإهداء

إلى العمال المتعطشين للعدل الاجتماعي

إلى الكادحين الذين يترقبون الحياة الكريمة، ويجاهدون من أجل مجتمع أفضل.

اقدم لهم هذا المجهود الذي يحوي ما شرعه الاسلام لهم من الحقوق العادلة التي توفر لهم العيش الرغيد في ظل نظام رفيع مستقر يمنحهم السعادة، ويقضي على آلامهم ومصاعب حياتهم.

المؤلف

٤

مقدمة الطبعة الثانية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه على نعمائه وآلائه والصلاة والسلام على خير خلق اللّه البشير النذير محمد (ص) والتحية العاطرة على آله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد: فيسعدنا أن نقدم الى القراء (الطبعة الثانية) من كتابنا هذا بعد أن ندرت نسخ الطبعة الأولى منذ الأيام القليلة من صدورها، ونظراً لما لمسناه من اقبال القارئ الكريم على مثل هذه البحوث الاسلامية المفيدة ومن الحاجة الملحة الى اطلاع المجتمع الاسلامي على التشريعات العظيمة التي سنها الاسلام وشرعها في ميدان العمل والعاملين ومقارنتها بالتشريعات الأخرى التي هي أبعد ما تكون عن مصلحة العامل فقد اتخذته وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها، ولا يمكن بأي حال أن تحل مشاكله حلاً جذرياً شاملاً أو تحقق أهدافه العريضة في العزة الاجتماعية والحياة المرفهة.

٥

وقد كشف هذا الكتاب عن الأخطاء الفظيعة التي اتصفت بها الانظمة المناوئة للاسلام والتي شهد العالم انهيارها وافلاسها في الميدان الاقتصادي وغيره، ولا منجاة للمسلمين في مثل هذه المراحل الحاسمة من تأريخهم إلا بالتمسك بأهداف الاسلام وتطبيق مثله السليمة على واقع حياتهم واقصاء المبادئ المستوردة عن بلادهم.

ونعلن الى القراء عن ترجمة هذا الكتاب الى اللغة الايرانية واللغة الاندنوسية سائلين منه تعالى التوفيق والسداد «وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت واليه أنيب».

17 ربيع الأول سنة 1384 هجري

المؤلف

٦

مقدمة الطبعة الاولى

(1)

في أفق الحياة وفي ميادينها وجميع شؤونها مشاكل ومشاكل فصراع مرير وآلام مرهقة، ونكايات موجعة، وخطوب مريعة قد أحاطت بابن آدم المجهود المكدود فلم يجد منفذاً للخروج من شرورها والتخلص من محنها، حتى تعقدت حياته تعقداً فظيعاً حار في حلها العظماء والمصلحون.

ولم تنشأ المشكلة من جانب خاص، و من زاوية واحدة فجميع جوانب الحياة محفوفة بالمشاكل والخطوب، وحافلة بالمصاعب والمكاره، فلا تجد إنساناً مهما أوتي من متع الحياة ورغائبها إلا محاطاً بالآلام النفسية والمصاعب الخارجية.

وقد حاول رجال الفكر من قدامى ومعاصرين أن يضعوا الحلول السليمة لمشاكل الحياة مادية كانت أو فكرية لتنحسر متاعب الانسان، ويقضي على آلامه وشقائه ويظفر بحلم الراحة والدعة والاستقرار، فنظر بعض المصلحين الى جانب

٧

الروح فدعا الى تصفية النفوس، وطهارة القلوب، والترفع عن المادة، واهمالها في جميع المجالات، وتمحضت لهذه الدعوة الخالصة الديانة المسيحية فقد جاء في الرسالة العيسوية:

(إنكم لا تقدرون أن تخدموا اللّه والمال، لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، وبما تشربون، ولا لأجسامكم بما تلبسون)(1) .

وزعموا أن المسيح عليه السلام قال: « دع ما تملك واتبعني » ومن الطبيعي أن يمنى هذا العلاج بالفشل والخذلان لأنه قد اصطدم بالواقع فان الانسان بمقتضى وجود طبعه وطبيعة وجوده مرتبط بالمادة ارتباطاً وثيقاً لا تستقيم له حياة، ولا يسير له نظام إلا بها، فاهمالها وجعلها في معزل عن واقع الحياة إنما هو تدمير للانسان، وتحطيم لكيانه وحياته.

إن الانسان منذ وجوده على هذه الكرة الارضية مجبول على حب الاثرة، وحب التمتع بملاذ الحياة، وقد كشف القرآن الكريم عن هذه الظاهرة النفسية في الانسان قال اللّه تعالى:( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ‌

____________________

1 - انجيل متى الاصحاح السادس: ص 25.

٨

الْمُقَنطَرَ‌ةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْ‌ثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) (1) وقال تعالى:( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (2) وقال اللّه عن الانسان:( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ‌ لَشَدِيدٌ ) (3) .

وقال تعالى: حكاية عن نبيه موسى( إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ‌ فَقِيرٌ‌ ) (4) وقد ذهب اكثر المفسرين الى أن المقصود من الخير في الآيتين هو المال. إن غريزة حب المال والتملك من أقوى الغرائز الانسانية الأصيلة فلا تدانيها غريزة أخرى من غرائزه غير حب البقاء، فهما سر الحركة الدائبة في الحياة، ومصدر القوى الفعالة في بعث النشاط والتقدم ويستحيل أن يتجرد الانسان من هذه الظاهرة النفسية.

ومهما يكن من أمر فان تجريد الانسان من حب المادة وتوجيهه توجيهاً روحياً خالصاً لا يمكن بأي حال أن يكون علاجاً يحسم به الداء يقول الاستاذ محمد قطب:

____________________

1 - سورة آل عمران آية 14.

2 - سورة الكهف آية 46.

3 - سورة العاديات آية 8.

4 - سورة القصص آية 24.

٩

« وقد فشلت المسيحية في صورتها تلك عند التطبيق العملي لانها تتطلب من البشر فوق ما يطيقون احتماله. ولان كبت النوازع الفطرية على هذه الصورة أمر مستحيل. فدفعة الجسد قوية عنيفة. وهي لا تفتأ تلح على الانسان، وتضغط عليه ضغطاً ليستجيب اليها فاذا وقع الفرد بين ضغط الغريزة الدائم الملح، وبين العقيدة التي توحي أن الاستجابة لهذا الضغط دنس لا يجوز أن يلوث به نفسه، فليس لذلك إلا نتيجة واحدة، أو احدى نتيجتين: إما أن يستجيب لوحي العقيدة - إن استطاع - فيترهبن، وينقطع عن الحياة والأحياء أو يستجيب لدفعة الجسد العنيفة الملحة، فيطلق الشحنة التي يرهقه حبسها ويعذبه ولكنه مع هذا لا ينجو من العذاب. فهناك الصراع الداخلي العنيف الذي ينشب في ضمير الفرد الذي تستولي عليه هذه العقيدة، صراع بين ما فعله وما كان ينبغي أن يفعله: صراع بين الجسد والروح ينتهي بالعقد النفسية التي أشار اليها فرويد، وخصص حياته للكشف عنها، أو ينتهي بالاضطرابات العصبية التي تضيع نشاط الفرد وتبدد طاقاته، فلا ينتفع لنفسه، ولا ينتفع بها أحد من الأحياء(1) .

____________________

1 - الانسان بين المادية والاسلام ص 1.

١٠

إن الدعوة الى الترهب ونكران المتع والرغائب دعوة قاسية لا تحتملها الحياة، ولا تستقيم عليها طبائع الناس.

وعلى عكس المسيحية كانت الديانة اليهودية فقد انطلقت تدعو الى المادة والتحريض على تكديس الثراء بأى طريق كان، وتطورت هذه الدعوى الى الاسراف عند معتنقيها الى حد بعيد فقد غالى بعضهم فجعلها أساس التكوين ومصدر القوى النامية في حياة الانسان والسبب الوحيد في سعادته وشقائه، واخضع لها جميع ظواهر الحياة حتى فسر التاريخ تفسيراً مادياً بحتاً، وعلى هذا الرأي بنيت الفلسفة المادية التي تنظر الى الانسان أنه كائن أرضي بحت لا يرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ وقد تنكرت هذه الفلسفة لجميع القيم الانسانية فلم تؤمن بالكرامة ولا بالأفكار العليا، ولا بغيرها من صفات السمو والكمال، وعند أصحابها أن البحث عن الروح إنما هو ضرب من ضروب الجهل ونوع من أنواع الخرافة ولون من الوان الرجعية إذ لا أثر عندهم للطاقات الروحية، ولا أهمية للمثل الدينية، ولا قيمة للعادات الانسانية المهذبة التي أصبح الانسان فيها له سيادة على الغريزة وتميز واضح على الحيوان، وان مطالب المعدة والجسد في مذهبهم هي أصل الفنون

١١

والآداب، وأصل المعتقدات والأخلاق وليس عندهم شيء في الحياة الانسانية يرجع الى أصل غير ما يسمونه عوامل الانتاج »(1) .

وعلى أي حال فقد نظرت هذه الفلسفة المادية الى الانسان بأنه مجرد من العواطف وسائر الميول لا يستجيب إلا للنزاعات الاقتصادية وعلى ذلك بنى الكلاسيكيون اقتصادهم فأقاموا صراحة على الغاء دخائل النفوس وعدم استجابتها لأي عاطفة من العواطف سوى الجانب المادي، ومما لا ريب فيه أن الكيان الانساني ينهار ويتحطم على هذه النظرية الخرقاء يقول الاستاذ محمد الغزالي:

«إن الحياة البشرية تتحول في ظلال هذه الفلسفة الجافة الى انسان ميكانيكي لا يدري من وجوده إلا ما يزحم المعدة من وقود ويثير الغرائز من شهوات، ويهيج المطامع من حروب ثم تنقطع الصلة بين الانسانية وبارئها - سبحانه - ويتحول الرجال والنساء الى رقيق للارض وعبيد للمصنع».

إن الانسان ذو النفس الجياشة المتميز على سائر الموجودات بعقله وتفكيره وسائر عواطفه لم يكن حيواناً اعجماً فاقداً للتفكير

____________________

1 - مذهب ذوي العاهات.

١٢

ومجرداً عن العواطف والغرائز بل هو على العكس من ذلك قد أترعت مشاعره بالعواطف وخضعت نفسه للقيم العليا، وأنه يشعر من أعماق نفسه بافتقاره الى المثل الدينية، والى الاعتقاد بخالقه وواهب الحياة له، ومن يحاول تجريد الانسان من ذلك فانما يحاول تشويه الحياة وتحطيم الانسان وقذفه في هوة سحيقة لا بصيص فيها من النور، وذلك لأن الدين يمنع الانسان من التعدي على كرامة الآخرين، ويجنبه عن كل رذيلة، ويحبب له كل فضيلة.

وعلى أي حال فان الفلسفة المادية لا يمكن أن تنقذ الإنسان عن محنته وتعالج مشاكله، أو تقضي على مصاعب حياته لأنها لا تعتني باهدافه وأمانيه، ولا تعترف بأنه يملك ضميراً حياً تدفعه القوى الروحية الواعية الى التهذيب والسمو وطلب الخير. إذ مقياس كل اعتبار عندهم لا يكون إلا بالمادة ومعنى ذلك أن يسقط جانب الروح من الحساب.

كما ان الدعوة الروحية لا تحسم الداء أو تزيل كابوس الشقاء عن الانسان لأنه لا يمكن تجريده من مقومات ذاته واستغنائه عن المادة، فان المدار عندهم على الروح ومعنى ذلك أن تلغى الماديات من الاعتبار، وبقيت المشكلة بحالها فلم يأت

١٣

دعاة الروح ولا دعاة المادة بشيء.

وأجدر بالاسلام أن يكون النطاسي الخبير فقد شخص الداء ووصف له الدواء الناجع، فقلعه من جذوره، وقضى على جراثيمه يقول شوقي: في مدحه للنبي (ص):

داء الجماعة من ارسطاليس لم

يوصف له حتى أتيت دواء

نعم لم توصف الحلول السليمة لمشاكل الانسان كما وصفها نبي الاسلام فقد نظر الى الحياة نظرة عميقة فمنح جميع مجالاتها الحلول الصحيحة الحاسمة فلم يقتصر على جانب خاص من جوانبها بل شملت تعاليمه الخلاقة جميع مفاهيمها وألوانها وصورها.

إنها لم تكن قاصرة على جهة، ومنعزلة عن جهة أخرى بل كانت - والحمد للّه - شاملة لجميع جوانب الحياة مادية كانت أو فكرية فتناولت حياة الفرد، وارتباطات الجماعات، وأسس الدولة، والعلاقات الدولية، وتناولت حياة الانسان من جميع الجهات فوضعت لها التشريعات التي تنظمها جنائياً ومدنياً وتجارياً واجتماعياً وسياسياً، ولم تترك جانباً من جوانبها إلا رصدت له الاصلاح.

لم يقتصر الاسلام في نظامه الرفيع، ودستوره الخالد على

١٤

المادة واهمال الروح بل نظر اليهما نظرة واحدة وهيأ للانسان في تشريعة طريقاً موصلاً إليهما ولا يختص بأحدهما دون الآخر، فلا يصح من المسلم أن يترهب، ويترك متع الدنيا، كما لا يصح منه أن يقبل على المادة ويهيم في طلبها بأي طريق كان، والى ذلك يشير الحديث الشريف: (ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه)(1) .

وجاء في حديث آخر الحث على العمل للدنيا والآخرة معاً يقول (ص):

«اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» على هذا التوازن بنى الاسلام حضارته الخالدة التي شقت أجواء التأريخ ونفذت الى أعماق القلوب وأنقذت الانسان من ضراوة المادة وخمول الرهبانية.

لقد نظر الاسالم الى المادة فاعتبرها أداة استهلاكية لا غير ومنع من أن تكون هي الغاية للانسان حيث ندد بمن قصر همه على المعيشة المادية من طعام وشراب فقال تعالى:( ذَرْ‌هُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (2)

____________________

1 - من لا يحضره الفقيه، 3 - 94.

2 - سورة الحجر آية 3.

١٥

وقال تعالى:( فَذَرْ‌هُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) (1) بهذا الإنذار والتهديد توعد من وجه نشاطه وقواه العقلية نحو المادة وترك القيم العليا والمثل الكاملة ولم يعمل على تطهير نفسهمن الرجس والرذائل وخدمة مجتمعه خدمة صحيحة.

إن الاسلام يدعو الى الوئام بين الروح والجسم ويدعو الى التوازن بينهما فلا يفرض سيادة المعدة على العقل، وبذلك فقد ركز دعوته على الأسس الانسانية العادلة التي تنتظم بها الحياة الاجتماعية ويتحقق بها التوازن بين الافراد والجماعات.

(2)

وبنى الاسلام في ربوع العالم معالم الحضارة وأقام صروح العدالة، وأوجد انقلاباً جذرياً في طريقة العيش واسلوب الحياة، فقد أذاب سطوة القبائل، وغلبة الفرد، وقضى على كيان الفوضى والتمرد، واخضع الجميع للقانون والدستور بعدما كان الناس لا يعرفون شيئاً من المبادئ الدستورية والنظم القانونية يقول البروفسور (ليك):

«هناك حقيقة جديرة بالاعتبار والتقدير وهي أنه في

____________________

1 - سورة الزخرف آية 83.

١٦

الوقت الذي كان العالم كه يرزح تحت نير العبودية جاء الاسلام ينادي بالحرية والاخاء والمساواة في الحقوق والواجبات».

لقد انطلق الاسلام في حضارته يشق أجواء التأريخ ويصنع للانسانية ما لم تصنعه أي حضارة أخرى في العالم.

يقول (السير. ب. اسكوت): إن الحضارة الحديثة مدينة بالكثير للاسلام الذي حرر العقل البشري من عقال الوهم والخرافة، لقد بهرت الحضارة الاسلامية أوربا في القرون الوسطى(1) .

إن العالم بأسره يشهد ما للاسلام من فضل في تنوير العقول وتقرير الحقوق الكاملة للانسان، وان في تراثه ما يوفر للانسانية الراحة والاستقرار، وانها لا تجد بأي حال نظاماً يحقق في ربوعها العدل الاجتماعي سوى نظام الاسلام.

لقد انطلق الاسلام قوة هائلة تطهر الأرض من جميع المفاسد والمهازل التي توجب شقاء الانسان وعذابه وسلب راحته واستقراره وأمنه.

إن من المفاهيم التي ركز الاسلام اتجاهاته على تحطيمها هو الفقر فهو رديف الكفر، فما دخل الفقر الى بلد

____________________

1 - امبراطورية المغاربة: ص 532.

١٧

الا صحب معه الالحاد والمبادئ الشاذة كما نص على ذلك الحديث الشريف، وورد في بعض الأدعية «اللهم اني أعوذ بك من الكفر والفقر».

لقد عمل الاسلام علي اذابة الفقر وتحطيمه وإزالة شبحه وذلك بما سنه من النظم الاقتصادية الخلاقة، فقد نظر الى المال فوضع له منهاجاً خاصاً يمنع من تكديسه وتضخمه عند طبقة خاصة، وذلك بتحديده لطرق الكسب والتجارة، كما اعتبر المال مال اللّه وليس حائزه إلا وسيطاً ومستخلفاً عليه قال اللّه تعالى:( آمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَ‌سُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) (1) وقال تعالى:( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّـهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) (2) فالمال مال اللّه وسنة اللّه تمنع أن تتضخم النقود ويتكدس الثراء الفاحش، ولاتخرج منها الحقوق المفروضة التي جعلها الشارع للمعوزين والمحرومين.

إن الاسلام قد قضى في تشريعه على الرأسمالية الظالمة فقد نهى عن الربا، ومنع من الاحتكار، وحرم الاستغلال، والتضخم النقدي في أغلب صوره ناتج عن هذه الاسباب،

____________________

1 - سورة الحديد: آية 7.

2 - سورة النور: آية 33.

١٨

وفي تحريم الاسلام لها حكمة بالغة وذلك لئلا تنحصر الثروة عند فريق من الناس وتحرم منها الاكثرية الساحقة الأمر الذي يؤدي الى اشاعة الاضطراب وفقدان التوازن في الحياة الاجتماعية وحدوث الانفجارات الشعبية التي توجب دمار البلاد وهلاك العباد في جميع مجالات.

وليس الاسلام في تحديده لاسباب الثروة وحصرها في الطرق المباحة وفرضه للضرائب المالية على أموال الأغنياء انه يلتقي بذلك مع الشيوعية الكافرة أو الاشتراكية الملفقة بطريق فان للاسلام مناهجه الخاصة ونظرياته الصائبة التي تواكب الفطرة المستقيمة والوعي السليم، وعليهما يرتكز اقتصاده الخاص.

اما الشيوعية فانها تنسف المجتمع من أصله وأساسه، وتبني بعد خرابة لاقتصادياته ومعالمه اقتصاداً مشوهاً لا يلتقي مع الفطرة الأصيلة للانسان، إقتصاد مبنى على أن يكون الانسان كالآلة الصماء لا حرية له ولا تفكير، ولا ارادة، ولا وعي، يعمل ويعطي للدولة، يعمل والحرس السرى على رأسه يحصي عليه أنفاسه في المعمل، وفي البيت، وفي النادي، فلا يكاد يظفر من دنياه إلا بما يسد الرمق يتناوله على خوف ويطعمه على حذر.

١٩

إن الاقتصاد الشيوعي مبني على محو الملكية وزوالها، وحصرها عند الدولة، وحرمان الفرد من استغلال سعيه واستثمار جهده وتعبه والانسان منذ وجد وجدت معه غريزة حب الملك ويستحيل القضاء على هذه الغريزة ما دام الانسان يملك وعيه واختياره والذي ينكر ذلك فانما ينكر كل ما يوحي به طبع الانسان وفطرته التي فطر اللّه الناس عليها.

إن الاقتصاد الذي جعل شعاره الدم، وازهاق الانفس ولايهم معتنقيه أن تذهب ثلاثة أرباع العالم في سبيل تطبيقه(1) لهو اقتصاد مشوه ليس له واقع في الحياة الاقتصادية.

إن الاقتصاد الذي لا يعتني بالعواطف والمشاعر وحقائق الأمور ما هو إلا حقيقة وهمية، وخيال محض، لا يؤمن به إلا ذوو العاهات الذين يعيشون في الخيال والأوهام ولا ينظرون إلا الى الخلف.

وحاول فريق من انصار الرأسمالية الظالمة، والشيوعية الكافرة والاشتراكية المرتجلة أن يتمسكوا ببعض التعاليم الاسلامية

____________________

1 - كتب الزعيم لينين الى مكسيم جورجي الاديب الروسي رسالة جاء فيها «هناك ثلاثة ارباع العالم ليس بشيء، انما الشيء الهام ان يصبح الباقي منهم شيوعيين».

٢٠