• البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28993 / تحميل: 5261
الحجم الحجم الحجم
الإمام السجاد جهاد وأمجاد

الإمام السجاد جهاد وأمجاد

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

لونه ولا يتحرك منه شيء إلا ما حركه الريح(1) . وإذا قيل له في ذلك يقول (ع) : أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي(2) ، إني أريد أن أتأهب للقيام بين يدي ملك عظيم وإذا دخل في الصلاة يصلي صلاة مودع لا يصلي بعدها(3) .

صومه (ع)

الصيام من أقوى الوسائل في رياضة النفس وتقوية الإرادة وتعويد النفس على الصبر. ونوجز القول : هو الرمز العملي بضبط النفس في دين الله. لذلك كان من أركان الدين الإسلامي وطريقا من طرق الوصول إلى حقيقة التقوى التي هي التعبير العملي عن أخذ المسلم نفسه بالإسلام. قال سبحانه وتعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : الآية 183 ]. والإمام زين العابدين كان شديد الاجتهاد في العبادة ، نهاره صائم وليله قائم. قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « كان علي بن الحسين شديد الاجتهاد في العبادة ، نهاره صائم وليله قائم ، فأضر ذلك بجسمه فقلت له : يا أبه كم هذا الدؤوب! فقال : أتحبب إلى ربي لعله يزلفني »(4) . وأثناء صيامه كان كريما جدا كثير الصدقات.

قال الإمام الصادق أيضا (ع) :

« إنه كان علي بن الحسين إذا كان اليوم الذي يصوم فيه يأمر بشاة فتذبح وتقطع أعضاؤها وتطبخ فإذا كان عند المساء أكب على القدور حتى يجد ريح المرقة وهو صائم ثم يقول : هاتوا القصاع ، أغرفوا لآل فلان

__________________

(1) الكافي ، ج 3 ، ص 119.

(2) حلية الأولياء ، ج 3 ، ص 133.

(3) علل الشرائع ، ص 88.

(4) المناقب ، ج 4 ، ص 155.

٦١

حتى يأتي إلى آخر القدور ، ثم يؤتى بخبز وتمر فيكون بذلك عشاؤه »(1) .

وروى علي بن أبي حمزة عن أبيه ، قال : « سألت مولاة لعلي بن الحسينعليهما‌السلام بعد موته ، فقلت : صفي لي أمور علي بن الحسين (ع) فقالت : أطنب أو أختصر؟ فقلت : اختصري ، قالت : ما أتيته بطعام نهارا قط ، ولا فرشت له فرشا بليل قط »(2) .

حجه (ع)

أمر الله المسلمين بفريضة الحج من استطاع وكان قادرا على أدائه.

قال سبحانه وتعالى :( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (3) . والإمام السجاد كان يخرج إلى الحج ماشيا وأحيانا على ناقته ، حج عشرين حجة وما فرعها بسوط.

قال سعيد بن المسيب : « كان الناس لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين فخرج وخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلى ركعتين سبّح في سجوده فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه ففزعت منه فرفع رأسه فقال : يا سعيد فزعت؟ قلت : نعم يابن رسول الله ، قال : هذا التسبيح الأعظم ».

وروى سفيان قال : « أراد علي بن الحسين الخروج إلى الحج فاتخذت له أخته سكينة زادا أنفقت عليه ألف درهم فلما كان بظهر الحرة سيرت ذلك إليه ، فلم يزل يفرقه على المساكين(4) وكان القراء لا يحجون حتى يحج زين العابدين (ع) وكان يتخذ لهم السويق ، الحلو والحامض ، قال سعيد بن المسيب : « ورأيته يوما وهو ساجد ، فو الذي نفس سعيد بيده

__________________

(1) المصدر نفسه.

(2) علل الشرائع للشيخ الصدوق ، ص 232.

(3) آل عمران ، الآية 97.

(4) كشف الغمة في معرفة الأئمة ، ج 2 ، ص 78. والحرة : أرض ذات حجارة.

٦٢

لقد رأيت الشجر والمدر ، والرحل والراحلة يردون عليه مثل كلامه »(1) .

وجاء في حياة الحيوان للدميري قال : « إنه لما حج وأراد أن يلبي أرعد واصفرّ وخرّ مغشيا عليه ، فلما أفاق سئل عن ذلك ، فقال : إني لأخشى أن أقول : لبيك ، اللهم لبيك فيقول لي : لا لبيك ولا سعديك ، فشجعوه ، وقالوا : لابد من التلبية ، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل ، وكان يقول : صدقة الليل تطفىء غضب الرب »(2) .

النصوص على خصوص إمامته

ورد عن محمد بن مسلم ، قال : « سألت الصادق ، جعفر بن محمد ،عليهما‌السلام عن خاتم الحسين بن عليعليهما‌السلام إلى من صار؟ وذكرت له أني سمعت أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ. قال (ع) : ليس كما قالوا ، إن الحسين (ع) أوصى إلى ابنه علي بن الحسين (ع) وجعل خاتمه في إصبعه ، وفوض إليه أمره. كما فعله رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) وفعله أمير المؤمنين بالحسن (ع) وفعله الحسن بالحسين (ع) ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي (ع) بعد أبيه ومنه صار إليّ فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي ، فلما فرغ من الصلاة مد إليّ يده فرأيت في إصبعه خاتما نقشه : لا إله إلا الله عدة للقاء الله ، فقال : هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي (ع)(3) .

وجاء عن أبي جعفر الباقر (ع) قال : إن الحسين (ع) لما حضره الذي

__________________

(1) المناقب ، ج 4 ، ص 136.

(2) حياة الحيوان ، ج 1 ، ص 139.

(3) البحار ، ج 46 ، ص 17. عن أمالي الصدوق ، ص 144. وراجع أيضا أئمتنا لعلي محمد علي دخيّل ، ص 260.

٦٣

حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى فدفع إليها كتابا ملفوفا ووصية ظاهرة ، وكان علي بن الحسين مريضا لا يرون أنه يبقى بعده فلما قتل الحسين (ع) ورجع أهل بيته إلى المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين ، ثم صار ذلك الكتاب والله إلينا يا زياد(1) .

وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : كنت عند الحسين بن عليعليهما‌السلام إذ دخل علي بن الحسين الأصغر فدعاه الحسين وضمه إليه ضما ، وقبل ما بين عينيه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ما أطيب ريحك ، وأحسن خلقك.

قال : فتداخلني من ذلك فقلت : بأبي أنت وأمي يابن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلى من؟ قال : علي ابني هذا هو الإمام أبو الأئمة. قلت : يا مولاي هو صغير السن؟ قال : نعم ، إن ابنه محمد يؤتم به وهو ابن تسع سنين ثم يطرق قال : ثم يبقر العلم بقرا(2) .

وجاء في المصدر نفسه :

سأل رجل الحسينعليه‌السلام : أخبرني عن عدد الأئمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالعليه‌السلام : اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل فقال : فسمهم لي؟

فأطرق الحسينعليه‌السلام ثم رفع رأسه فقال : نعم يا أخ العرب إن الإمام والخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب ، والحسن وأنا وتسعة من ولدي منهم علي ابني ،

__________________

(1) البحار ، ج 1 ، ص 18. عن الكافي للكليني ، ج 1 ، ص 303.

(2) البحار ، ج 2 ، ص 19. عن كفاية الأثر ، ص 318 بتفاوت. وأئمتنا ، ص 261 عن كفاية الأثر أيضا.

٦٤

وبعد ابنه محمد الخ(1) .

وقد شهدت نصوص كثيرة متواترة على إمامة السجاد وأنه الحجة على الأمة بعد أبيه سيد الشهداء (ع) فيروي أبو خالد الكابلي عن علي بن الحسين أن أباه الحسين قال له : دخلت على رسول الله (ص) فرأيته مفكرا فقلت له : مالي أراك مفكرا؟ قال : إن الأمين جبرائيل أتاني وقال : العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول قد قضت نبوتك واستكملت أيامك فاجعل الاسم الأعظم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم يعرف به طاعتي وولايتي وإني لم أقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم ثم ذكر أسماء الأئمة القائمين بالأمر بعد علي بن أبي طالب وهم : الحسن والحسين أولهم ابنه علي وآخرهم الحجة بن الحسن(2) .

وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر بم يعرف الإمام؟ قال (ع) : يعرف بالنص عليه من الله تعالى ونصبه علما للناس حتى يكون عليهم حجة وقد نصب رسول الله عليا (ع) وعرف الناس باسمه وعينه لهم وكذلك الأئمة ينصب الماضي من يكون بعده ويعرف الإمام بأن يسأل فيجيب ويبتدىء إن سكت الناس عنه ويخبرهم بما يكون في غد بعهد واصل إليه من رسول الله (ص) وذلك بما نزل به جبرائيل من أخبار الحوادث الكائنة إلى يوم القيامة(3) .

وتابع الإمام الباقر بقوله :

« نحن منبت الرحمة وشجرة النبوة ومعدن الحكمة ومصابيح العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وموضع سر الله في عباده وحرمه الأكبر

__________________

(1) كفاية الأثر ، ص 318.

(2) الإمام زين العابدين لعبد الرزاق الموسوي المقرم ، ص 34. عن كفاية الأثر ، ص 311 لعلي بن محمد بن علي الخزاز القمي.

(3) المصدر نفسه عن معاني الأخبار للصدوق ، ص 35.

٦٥

وعهده المسؤول عنه. فمن أوفى بعهد الله فقد وفى ، ومن خفره فقد خفر ذمة الله وعهده فعرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا ونحن والله الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه بالرأفة والرحمة ووجهه الذي منه يؤتى وبابه الذي يدل عليه وخزان علمه وتراجمة وحيه وأعلام دينه والعروة الوثقى والدليل الواضح لمن اهتدى وبنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ونزل الغيث من السماء ونبت عشب الأرض. وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عرف الله وأيم الله لولا وصية سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولا يعجب منه الأولون والآخرون »(1) .

ثم إن الإمامة خلافة وهي من المولى سبحانه وسر من أسراره أوحى بها إلى نبي الأمة ليعرفهم القائم من بعده ومن يجب الركون إليه وأخذ معالم الدين منه وقد أودعها المهتمين جل شأنه في ذرية الرسول الأعظم بعد أن طهرهم من الرجس والريب وزكاهم من العيب وارتضاهم أعلاما لعباده يسلكون بهم لأحب الطريق. كل ذلك لترفع الضغائن وتتم معرفة المعبود تعالى وتعقد صلات التآخي وتتم أنظمة الحياة.

وجاء في المصدر نفسه عن الشيخ الطوسي قال : « وفي ليلة وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أمير المؤمنين عليا (ع) وقال له : يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة ثم أملى رسول الله (ص) وصيته حتى انتهى إلى بيان الخلفاء من بعده فقال : يا علي سيكون من بعدي اثنا عشر إماما فأنت يا علي أولهم سماك الله في سمائه عليا المرتضى وأمير المؤمنين والصديق الأكبر والفاروق الأعظم والمأمون فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك إلى أن قال : وأنت خليفتي على أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول فإذا

__________________

(1) الإمام زين العابدين للمقرم عن المختصر للحسن الحلي ، ص 128.

٦٦

حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الشهيد الزكي المقتول ، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي ( سيد العابدين ذي الثفنات ) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر ( باقر العلم ) فإذا حضرته الوفاة فليسلمها جعفر الصادق فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الرضا فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد »(1) .

إن الوصية أمر محتوم على كل مسلم يوصي بها قبل وفاته لأشخاص أمناء يثق بهم ويسجل كل ما يهمه أمره لكي ينفذ بعد أن يتوفاه الله عز وجل. والنبي (ص) هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فهل يمكن أن تحضره الوفاة ويبقى ساكتا دون أن يوصي أمر الخلافة لأناس ثقاة علماء أمناء ينفذون الوصية بحذافيرها كما نص عليها خاتم النبيين والرسل. وكلنا يعلم مدى أهمية هذه الرسالة الإنسانية العظيمة وأهمية نشرها بين عباد الله وشرحها وتعليمها. إنها الرسالة الإلهية التي تصلح شؤون العباد في حياتهم الفردية وفي حياتهم الاجتماعية ، كما تصلح شؤون العباد في كل زمان ومكان ومن جميع أمم الأرض. والله سبحانه وتعالى أعلم أين يوضع رسالته فقد كلف الأئمة المعصومين معدن الحكمة ومنبت الرحمة ومصابيح العلم وموضع سره في حرمه الأكبر.

هؤلاء قال فيهم الأدباء وتغنى بمجدهم الشعراء ونطق بفضلهم العلماء.

من هؤلاء قال الشيخ إبراهيم يحيى العاملي من قصيدة مدح بها الإمام زين العابدين قال :

__________________

(1) المصدر السابق عن الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 105. ومختصر البصائر ، ص 39.

٦٧

ما غاب عن أفق الشريعة كوكب

إلا وجاء بكوكب وقاد

إن المهيمن ليس يخلي أرضه

من حجة متستر أو باد

لولا إمام الحق ما بقي الورى

والجسم لا يبقى بغير فؤاد

كن كيف شئت فقد أصبت هدايتي

بهداهم وبلغت كل مرادي

ما ضرني أن ضل عن طرق الهدى

غيري إذا كتب الإله رشادي

من صدّ عن عين الحياة ومات من

ظمأ فلا سقيت عظام الصادي(1)

وإلى هذه الظاهرة أشار الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد كلمة ثمينة حيث قال : « كان الإمام علي بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علما وعملا فهو أولى بأبيه وأحق بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولى بالإمام الماضي أحق بمقامه من غيره بدلالة آية ذوي الأرحام وقصة زكريا (ع) ».

* * *

__________________

(1) أعيان الشيعة ، ج 5 ، ص 551.

٦٨

قبسات من أخلاقه ومناقبيته

جاء في طبقات ابن سعد أن علي بن الحسين (ع) كان ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، عاليا ، رفيعا ، ورعا.

وروى الشيخ الصدوق قال : قلت لمحمد بن شهاب الزهري : لقيت علي بن الحسين؟ قال : نعم لقيته وما لقيت أحدا أفضل منه والله ما علمت له صديقا في السر ولا عدوا في العلانية ، فقيل له : وكيف ذلك ، فقال : لأني لم أر أحدا وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت أحدا وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.

وكان الإمام السجاد يقدر العلم والعلماء سواء أكان أحدهم رفيعا في أعين الناس أم كان غير رفيع ما دام عنده علم ينتفع به الناس ، وإذا دخل المسجد يتخطى الناس حتى يجلس إلى جانب رجل متواضع اسمه زيد بن أسلم ، فقال له نافع بن جبير عاتبا : غفر الله لك أنت سيد الناس تتخطى خلق الله وأهل العلم وقريشا حتى تجلس مع هذا العبد الأسود ، فقال له الإمام (ع) : « العلم يقصد حيث كان » وكأنه يقصد إلى الحكمة القائلة : « الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها » والإنسان في أي زمان لا يهمه القائل بقدر ما يهمه القول الصادر عن أي لسان.

أجمع المؤرخون على أن الإمام زين العابدين قد انصرف إلى العبادة

٦٩

والعلم والدراسة والتعليم لأنه وجد في ذلك غذاء لروحه وسلوة لقلبه وأنسا لنفسه. وإلى جانب انصرافه إلى نشر العلم والفقه كان رحيما بالناس وجوادا سخيا وخلوقا حليما.

روى الكليني في الكافي قال : « ما تجرعت جرعة أحب إلي من جرعة غيظ لا أكافىء بها صاحبها ، ووقف عليه رجل من بني عمومته فأسمعه كلاما مرا وشتمه ، فلم يكلمه ، فلما انصرف قال لجلسائه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا أحب أن تبلغوا معي حتى تسمعوا ردي عليه ، فمضوا معه وهو يقول : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. فخرج الرجل متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافيا له على بعض ما كان منه ، فقال له الإمام زين العابدين : يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا وقلت ما قلت فإن كنت قد قلت ما فيّ فأنا أستغفر الله منه ، وإن كنت قد قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك ، فأقبل عليه الرجل معتذرا وقال : لقد قلت ما ليس فيك وأنا أحق به.

وقال الرواة في مناقبه قال الشبلنجي : « خرج يوما من المسجد فلقيه رجل فسبه وبالغ في سبه وأفرط ، فعاد إليه العبيد والموالي فكفهم عنه وأقبل عليه وقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها؟

فاستحى الرجل ، فألقى عليه حميصه(1) وألقى عليه خمسة آلاف درهم فقال : أشهد أنك من أولاد المصطفى ».

ويروي عنه الرواة الكثير عن حلمه وسماحته منها : إن جارية له كانت تحمل إبريقا وتسكب منه الماء لوضوئه فسقط من يدها على وجهه فشجه وسال دمه فرفع رأسه إليها لائما ، فقالت له الجارية : إن الله يقول :( وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، فقال : قد كظمت غيظي. فقالت :( وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، فقال : عفا الله عنك ، فقالت :( وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، فقال : أنت حرة لوجه الله.

__________________

(1) الحميصة : هي ثوب خز أو صوف معلم.

٧٠

وعن كرمه (ع) روى الواقدي قال : إن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان واليا على المدينة لعبد الملك بن مروان وقد أساء جوار الإمام ولحقه منه أذى شديد ، فلما توفى عبد الملك عزله الوليد بن عبد الملك وأوقفه للناس لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلا من علي بن الحسين ، فمر عليه الإمام وسلم عليه وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : إن كان أعجزك مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك ويسد حاجتك فطب نفسا منا ومن كل من يطيعنا فقال له هشام بن إسماعيل : الله أعلم حيث يجعل رسالته.

هكذا كان يعامل الإمام السجاد خصومه ، يعاملهم حسب ما تملي عليه أخلاقه العالية وصفاته النبيلة ومناقبه الكريمة. من ذلك ما صنعه مع مروان بن الحكم ألد أعداء أهل البيت وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء ، وبقي إلى جانب معاوية يتتبع أهل البيت بالإساءة والأذى وينكل بهم وبشيعتهم بكل ما لديه من وسائل خبيثة. ومع كل ذلك فقد صنع معه كما صنع مع هشام بن إسماعيل وبالغ بالإحسان إليه كما بالغ هو بالإساءة إليه. وذلك يوم ثار أهل المدينة على الأمويين وضيقوا عليهم ولم يعد لهم ملجأ بها فضاقت الأمور بمروان بن الحكم إلى أبعد حد ، مما دعاه إلى استعطاف أبناء المهاجرين والأنصار لأنه لم يجد من يحمي له عيال الأمويين ونساءهم ويمنع عنهم الثائرين المتربصين الشر بهم في كل حين غير الإمام علي بن الحسين (ع) الذي ضم عيال مروان إلى عياله وعاملهم بما كان يعامل به أسرته وعياله.

فإذا كان ذلك غريبا وبعيدا عن أخلاق الناس العاديين وطبائعهم فليس بغريب ولا بعيد على من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة وجعلهم فوق مستوى البشر في مواهبهم وأخلاقهم وجميع صفاتهم وأعمالهم. إن أخلاق الإمام السجاد من أخلاق أبيه الإمام الحسين وأخلاق جديه الإمام علي بن أبي طالب ، أمير المؤمنين وإمام المتقين ، ومحمد بن

٧١

عبد الله خاتم النبيين الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فجده الإمام علي (ع) عفا عن مروان الذي قاد الجيوش لحربه في البصرة فبعد أن ظفر به ووقع أسيرا في قبضته تركه وأطلق سراحه مع علمه بأنه سينضم إلى معاوية ويحاربه في صفين وبعد أن استتب الأمر لمعاوية واختاره واليا على المدينة كان يؤذي الإمام الحسن (ع) وكانت مجزرة كربلاء من أغلى أمانيه. ومع كل هذه السيئات وهذه الإساءات عفا عنه بعد أن وقع في قبضة يده. ثم قال حكمته : « إذا ظفرت بعدوك فليكن العفو أحلى الظفرين ».

وجده الأكرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عفا عن رأس الشرك أبي سفيان بعد أن ظفر به ، كما عفا عن زوجته هند بنت عتبة وأحسن إليها بعد عملها الشنيع ، عندما شقت بطن الحمزة البطل المؤمن الصنديد واستخرجت كبده ونهشتها بأسنانها وحملتها إلى مكة تتشفى بالنظر إليها. وعفا (ص) أيضا عن والد مروان الحكم عندما ظفر به في مكة وقد كان يؤذيه ويسيء إليه بشتى أنواع الإساءة. وبعد أن أظهر الإسلام بعد فتح مكة كان يستهزىء به ويفتري عليه. لكن النبي (ص) اكتفى بنفيه مع ولده إلى الطائف كما عفا عن جميع مشركي مكة وجبابرتهم الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية المباركة ، وعن كل من كان يسيء إليه وقال عندها كلمته المشهورة : « إذهبوا فأنتم الطلقاء » فليس غريبا إذا أحسن الإمام زين العابدين لمن أساء إليه. فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

أما عن كرمه (ع) فالروايات كثيرة لا تحصى نذكر بعضا منها.

روى الصدوق عن سفيان بن عيينة أن محمد بن شهاب الزهري رأى علي بن الحسين (ع) في ليلة باردة وعلى ظهره دقيق يسعى به إلى جماعة. فقال له : يابن رسول الله ما هذا؟ أجابه : أريد سفرا أعددت له زادا أحمله إلى موضع حريز ، قال : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى عليه الإمام (ع)

٧٢

فقال : دعني أحمله عنك فإني أرفعك عن حمله. فقال (ع) : لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني من سفري ويحسن ورودي على ما أرد عليه أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني. فلما كان بعد أيام لقيه ابن شهاب وقال : يا بن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثرا ، قال (ع) : بلى يا زهري ليس هو كما ظننت ولكنه الموت وله أستعد ، إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام وبذل الندى في الخير.

وهكذا كان يعمل دائما ، يطرق بيوت الفقراء وهو مثلهم وأكثرهم كانوا يقفون على أبواب بيوتهم ينتظرونه فإذا رأوه تباشروا به وقالوا : جاءنا صاحب الجراب.

وروى عنه أبو نعيم أنه كانت بيوت في المدينة كثيرة تعيش من صدقات علي بن الحسين (ع) ولا تدري من هو فاعل الخير هذا؟ فلما توفاه الله فقدوا ما كان يأتيهم فعلموا بأنه هو الذي كان يعيلهم ، وقالوا : ما فقدنا صدقة السر حتى فقدنا علي بن الحسين زين العابدين. روى الصدوق عن الإمام الباقر أنه كان يعول مائة بيت في المدينة. وكان إذا جاءه سائل يقول : مرحبا بمن يحمل زادي ليوم القيامة ولا يأكل طعاما حتى يتصدق بمثله.

وروى ابن طاووس عن الإمام الصادق (ع) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها ثم يقف بينهم ويقول : ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ثم يقبل عليهم ويقول : لقد أعتقت رقابكم طمعا في عفو الله وعتق رقبتي من النار. فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس. وكان يقول : « إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار

٧٣

فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه ، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار.

مهابته وكراماته

كان الإمام علي زين العابدين مهابا معظما عند الناس جميعا ، له مكانة خاصة في قلوبهم ومركز محترم ومرموق عند الخلفاء والولاة من أي فريق كان. يدخل عليهم فيجلونه ويحترمونه حتى الذين يحقدون عليه.

دخل مرة على عبد الملك بن مروان وكان حاقدا عليه يدبر له المكايد في الخفاء ، فلما نظر إليه مقبلا وعليه مهابة أبيه وجديه ، قام إليه وأجلسه إلى جنبه وأكرمه فسأله الناس كيف تم له ذلك وهم يعلمون ما يكن في قلبه من حقد على الإمام (ع) فقال : لما رأيته امتلأ قلبي رعبا.

ومرة أخرى دخل على مسلم بن عقبة والي المدينة فلما نظر إليه يتجلى مهابة وعظمة قال : لقد ملىء قلبي منه خيفة.

هذا التقدير للإمام السجاد يعود إلى ما تتحلى به شخصيته من صفات خاصة مميزة ، فعلم غزير في جميع العلوم والمعارف الإنسانية وأخلاق كريمة ونبل وعفة وشهامة ، وكرم وسخاء إلى كل معوز ومحتاج من عدو وصديق ، وشجاعة نادرة في أحرج المواقف وأصعبها ، وفقه وورع وتقى في سبيل الله ، وصبر وكظم الغيظ من أجل رضى الله. ولا ريب أنه من كان مع الله فإن الله معه. جاء في رواية السبكي في طبقات الشافعية أن هشام بن عبد الملك حج في بعض السنين فجهد أن يصل إلى الحجر الأسود عند الطواف فلم يقدر عليه من كثرة الزحام فنصب له من كان معه منبرا في ناحية من نواحي الحرم وجلس عليه ينظر إلى الناس حتى يخف الزحام عن الحجر ليلمسه ، ووقف حوله أهل الشام. في هذه الأثناء أقبل الإمام علي زين العابدين (ع) وكان من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا على حد

٧٤

تعبير السبكي فطاف في البيت فلما بلغ الحجر انفرج له الناس عنه وأفسحوا له المجال ووقفوا إجلالا له وتعظيما حتى إذا استلم الحجر وقبله والناس ينظرون إليه واجمين. فلما مضى عنه عادوا إلى طوافهم.

هذا وهشام بن عبد الملك ومن معه من أهل الشام يرون كل ذلك ونفس هشام تتحرق غيظا وحسدا. التفت رجل من أهل الشام وسأل هشام بن عبد الملك : من هذا الذي قد هابه الناس هذه المهابة. فقال هشام : لا أعرفه!! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق الشاعر حاضرا ، فقال : أنا أعرفه ، فقال الشامي : ومن هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق ومضى في وسط تلك الجموع المحتشدة يقول على البديهة :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها :

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلم إلا حين يبتسم

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت له الأمم

ينشق نور الهدى عن نور غرته

كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

مشتقة من رسول الله نبعته

طابت عناصره والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدما وفضله

جرى بذاك له في اللوحة القلم

فليس قولك : من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما

يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة ، لا تخشى بوادره

يزينه اثنان : حسن الخلق والكرم

حمّال أثقال أقوام إذا قدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريب حين يعتزم

ما قال لا قط : إلا في تشهده

لو لا التشهد كانت لاؤه نعم

٧٥

عم البرية بالإحسان فانقلعت

عنه الغيابة والاملاق والعدم

من معشر حبهم دين ، وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل : هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطا من أكفهم

سيّان ذلك إن أثروا وإن عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كل بدء ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم

خير كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أوله نعم

من يعرف الله يعرف أولية ذا

والدين من بيت هذا ناله الأمم(1)

لقد كانت هذه القصيدة صفعة قاسية على هشام نزلت على رأسه كالصاعقة ، تحدى بها الفرزدق سلطان أولئك الحكام الجبابرة المعتزين بملكهم وجيوشهم وأموالهم وقصورهم ولكن فاتهم أن كل ذلك لم يغنهم شيئا في ذلك الموقف الذي تتدافع فيه الجماهير من كل حدب وصوب متسابقة للمس الحجر الأسود حتى إذا أقبل الإمام زين العابدين (ع) وقف له الناس إجلالا وتعظيما وأفرجوا له الطريق واستلم الحجر وقبله بكل يسر. ولما قضى الإمام حاجته وترك المكان عاد الناس يتسابقون ويتدافعون ؛ هذا وأهل الشام ينظرون إلى هذا المشهد الغريب وينتظرون من يعرفهم بذلك الشاب الذي هابه الناس وعظموه بعد أن تجاهله خليفتهم وظهر مخجولا أمام أهل الشام ، بعد أن كان يزعم لهم أنه هو وأسلافه الأمويون هم آل الرسول الذي أمر الله بمودتهم وما كان يتوقع هذه الصفعة القوية من أبي فراس.

__________________

(1) راجع طبقات الشافعية ، ج 1 ، ص 153.

٧٦

يقول الرواة إن هشام بن عبد الملك لما سمع هذه القصيدة غضب على الفرزدق وأمر بحبسه بمكان يدعى عسفان ، بين مكة والمدينة وأوصى بالتضييق عليه ، وأضاف الرواة أنه لما بلغ علي بن الحسين امتداحه أرسل له ألف دينار فردها الفرزدق وقال للرسول : إني لم أقل ما قلت إلا غضبا لله تعالى لا للعطاء ولا آخذ على طاعة الله أجرا. فأعادها الإمام إليه (ع) وأرسل إليه : نحن أهل البيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده. فقبلها الفرزدق وبقي في حبس هشام مدة من الزمن وأخيرا هجاه بقصيدة قال فيها :

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس تهوي منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد

وعينا له حولاء باد عيوبها

يقول الرواة إنه لما بلغه هجاء الفرزدق أمر بإخراجه من السجن عله يخرس لسانه ويكف عن الهجاء(1) .

فرحم الله الفرزدق رحمة واسعة فلقد كان في موقفه مع هشام بن عبد الملك من أفضل المجاهدين في سبيل الله حسبما جاء عن رسول الله (ص) الذي قال : « أفضل المجاهدين في سبيل الله الحمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر ».

فضائله (ع)

كان الإمام السجاد يتخلق بأخلاق النبوة ، فهو من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وهو من الأئمة المعصومين الذين كلفوا تكليفا شرعيا من الله عز وجل لتقويم الإعوجاج ورفع الظلم عن الناس من قبل الطغاة والظالمين ، وهداية الناس عامة إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة وخير مجتمعهم ليعيشوا أمة كريمة حرة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنشر الرسالة الإسلامية كما أرادها رب

__________________

(1) راجع أيضا الأغاني ، ج 20 ، ص 40.

٧٧

العالمين وكما نفذها الرسول الأكرم والعترة الطاهرة من بعدهعليهم‌السلام أجمعين.

لقد خطا الإمام زين العابدين خطوة أبيه وجديه من قبله وتخلق بأخلاقهم فساعد وضحى وجاهد وصبر وتجرع كثيرا من الويلات والمحن بهمة عالية وإرادة صلبة ونفس كريمة يحسن إلى الجميع حتى الذين أساؤوا إليه. ولم يكتف بالإحسان إلى من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم العفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى.

روى ابن طاووس في الإقبال بسند ينتهي إلى الإمام الصادق (ع) إن علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبدا له ولا أمة وإذا أذنب عبد له أو أمة يسجل ذلك عليهم ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم يعرض عليهم سيئاتهم فيعترفون بها ، فيقول لهم : قولوا يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا كل ما عملنا ، ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ، وتجد كل ما عملت له حاضرا كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضرا فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح وهو واقف بينهم يبكي ويقول :

« ربنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ». ثم يقبل عليهم ويقول : « لقد عفوت عنكم فهل عفوتم ما كان مني إليكم اذهبوا فقد أعتقت رقابكم طمعا في عفو الله وعتق رقبتي من النار » فإذا كان يوم العيد أجازهم بجوائز تصونهم وتعينهم عما في أيدي الناس.

وكان يقول (ع) : « إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان سبعين ألف عتيق من النار ، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق الله فيها مثلما أعتق في جميعه ، وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار ».

٧٨

جاء في مطالب السؤول عن محمد بن طلحة الشافعي قال : « علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام زين العابدين ، وقدوة الزاهدين ، وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، وسمته تشهد له أنه من سلالة رسول الله ، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفا ، وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده وإعراضه عن متاع الدنيا بزهده ينطق فيها ، درّت له أخلاف التقوى فتفوقها ، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها ، وآلفته أبراد العبادة فآنس بصحبتها ، وحالفته وصايف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع مفازة الساهرة وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مغارة الشافرة ، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرات وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنه من ملوك الآخرة »(1) .

وعن سماحته ونبله وعلو أخلاقه جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد قال إن عبد الله بن علي بن الحسين (ع) قال : لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه ، وكان يسيء إلى أبي ، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال : إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء ، فقلت يا أبت ، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال : يا بني نكله إلى الله ، فو الله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره.

ولم يكتف السجاد بذلك بل أرسل إليه يعرض عليه من الأموال ما يسعه ويسد حاجته ، مع أنه كان لا يخاف إلا منه لكثرة ما كان يسيء إليه وإلى أصحابه. وإذا كان ذلك غريبا عن أخلاق الناس وطبائعهم فليس بغريب على من اختارهم الله وخصهم بالكرامة والعصمة.

وللإمام السجاد أبيات من الشعر مشحونة بالعاطفة الدينية ، يرشح

__________________

(1) مطالب السؤول ، ص 202.

٧٩

منها مناجاة قلبية صعّدها الإمام من صدر حنون يفيض محبة للقاء وجه الله ، وشوقا للدار الآخرة ، وزهدا من هذه الدار الفانية وخوفا من العقاب ، وأملا في الرحمة والثواب. جاء في مستدرك الوسائل عن طاووس اليماني قال : « رأيت في جوف الليل رجلا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول :

ألا أيها المأمول في كل حاجة

شكوت إليك الضر فاسمع شكايتي

ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي

فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلغي

أللزاد أبكي أم لطول مسافتي

أتيت بأعمال قباح ردية

فما في الورى عبد جنى كجنايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين مخافتي

فإذا كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بتقاه وصدق عبادته ، ولذلك سمي بزين العابدين ، والمشهور بفقهه وورعه وأعماله الصالحة يقول : إن زاده قليل وأتى بأعمال ردية فيرجو الله ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، أن يقبل رجاءه ، ويقضي حاجته ؛ فماذا يقول غيره من المسلمين العاديين وماذا نقول نحن اليوم بعد أن انغمس أكثرنا بملذات هذه الدنيا الفانية ، وانجرف الكثير منا نحو تجميع المال متلهيا بالحياة المادية الخالصة. فكيف نواجه خالقنا عندما نقف بين يديه يوم الحساب يوم لا ينفع لا مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا جاه ولا عشيرة ، إلا من أتى الله بقلب سليم. فحسبنا الله ونعم الوكيل.

وجاء في المناقب عن طاووس أيضا قال : « رأيته يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبد ، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه وقال : إلهي غارت نجوم سماواتك وهجعت عيون أنامك ، وأبوابك مفتحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في عرصات القيامة. ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن

٨٠