حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 158983
تحميل: 5192


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 158983 / تحميل: 5192
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

المنافسين له ، فانحاز مع الخزرج فبايع أبا بكر ، وأفسد على سعد أمره.

وعلى أيّ حال فإنّ هذا الاختلاف والتشاحن مما أوجب أن يفلت الأمر من أيدي الأنصار ويظفر به المهاجرون من قريش.

فذلكة عمر :

وشيء خطير بالغ الأهمية قام به عمر لتجميد الأوضاع ، وإيقاف أي عملية تؤدّي إلى انتخاب مَن يخلف الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؛ لأن زميله أبا بكر لم يكن في يثرب عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) وإنما كان في (السنح)(1) ، فبعث خلفه مَن يأتي به ، إلاّ أنّه خشي أن يتقدّم إلى الساحة أحد قبل مجيئه ، فانطلق بحالة رهيبة وهو يجوب في أزقّة يثرب وشوارعها ، ويقف عند كل تجمّع من الناس ، ويهزّ بيده سيفه ، وينادي بصوت عالٍ قائلاً : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد مات ، وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران. والله ليرجعنّ رسول الله فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممّن أرجفوا بموته.

وجعل لا يمرّ بأحد يقول مات رسول الله إلاّ خطبه بسيفه وتهدّده وتوعّده(2) ، وذهل الناس ، وساورتهم الأوهام والشكوك ، وعصفت بهم أمواج رهيبة من الحيرة فلا يدرون أيصدّقون مزاعم عمر بحياة النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي من أعزّ ما يأملون ، ومن أروع ما يحلمون؟

__________________

(1) السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل : هو أحد عواليها ، ويبعد عنها بأربعة أميال.

(2) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد.

٢٤١

أم يصدّقون ما عاينوه من جثمان النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو مسجّى بين أهله لا حراك فيه؟

ويستمر عمر يبرق ويرعد حتّى أزبد شدقاه ، وهو يتهدّد بالقتل ويتوعّد بقطع الأيدي والأرجل ممّن أرجف بموت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، إلاّ أنه لم يمضِ قليل من الوقت حتّى جاء خدنه وصاحبه أبو بكر من (السنح) ، فانطلق معه إلى بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكشف أبو بكر الرداء عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليتحقق وفاته ، وبعدما اطمأنّ بموته خرج إلى الناس وهو يفنّد مزاعم عمر ، والتفت إلى الجماهير الحائرة التي أخرسها الخطب بموت منقذها العظيم قائلاً : مَن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وتلا قوله تعالى :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

ولم يلبث عمر أن أسرع إلى الإذعان والتصديق ، وانبرى يقول : فوالله ، ما هو إلاّ إذ سمعتها فعقرت حتّى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي ، وقد علمت أنّ رسول الله قد مات(1) .

نقاط مهمّة :

ونحن إذا تأمّلنا بدقّة وإمعان هذه البادرة الغريبة التي صدرت من الشيخين نجد فيها عدة نقاط مهمة تسترعي الاهتمام والتحليل ، وهي :

1 ـ إنّ عمر قد أنكر بصورة جازمة وبإصرار بالغ موت النبي

__________________

(1) الكامل 2 / 219.

٢٤٢

(صلّى الله عليه وآله) ، فقد زعم أنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، وأنه لا بد أن يرجع إلى الأرض وينكّل بالمرجفين بموته ، ومما لا شكّ فيه أنّ ذلك لم يكن عن إيمان منه بحياة النبي (صلّى الله عليه وآله) وإنما كان ذلك استغلالاً للفرص ، وتوصّلاً إلى أهدافه السياسية حسب المخططات التي وضع برامجها أقطاب حزبه ؛ كأبي بكر ، وأبي عبيدة ، ويدلّ على ذلك ما يلي :

أ ـ أنّ عمر بالذات كان من المتفائلين بموت النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكان يقول لاُسامة : مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنت عليّ أمير؟ هذا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان حيّاً ، وقد اطمأنّ بوفاته حينما نعى (صلّى الله عليه وآله) نفسه إلى المسلمين ، وساق لهم الأمارات التي تدلّ على وفاته حسبما تقدّمت في البحوث السابقة.

ب ـ أنه وقف أمام النبي (صلّى الله عليه وآله) في مرضه الذي توفّي فيه وقد صدّه عمّا رامه من الكتابة التي تقي اُمّته من الفتن والضلال ، وقال له : حسبنا كتاب الله. ومن الطبيعي أنّه إنّما قال ذلك حينما أيقن بوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله).

ج ـ أنّ كتاب الله العظيم أعلن أنّ كل إنسان لا بدّ أن يتجرّع كأس المنيّة ، قال تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) ، وقال تعالى في خصوص نبيّه :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) ، وقال تعالى :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) . وهذه الآيات تتلى في وضح النهار وفي غلس الليل ، أفهل خفيت على عمر وهو ممن يسمع كتاب الله ، ويصابح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويماسيه؟

د ـ أنّ سكون عمر وهدوء ثورته الجامحة حينما جاء خدنه أبو بكر وتصديقه بلا مناقشة لمقالته ، حينما أعلن وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، كل ذلك يقضي ـ بلا شبهة ـ أنه إنما قام بهذه العملية توصّلاً إلى مآربه وأهدافه.

٢٤٣

2 ـ إنّ حكم عمر بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سوف يرجع إلى الأرض ويقطع أيدي رجال وأرجلهم ممن أرجفوا بموته ، لا يخلو من وهن ، فإن تقطيع الأيدي والأرجل والحكم بالإعدام إنما يكون للذين يخرجون عن دين الله ، أو يسعون في الأرض فساداً ، وليس القول بموت النبي (صلّى الله عليه وآله) مما يوجب ذلك قطعاً.

3 ـ إنّ أبا بكر أعلن في خطابه الذي نعى به النبي (صلّى الله عليه وآله) : مَن كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات ، ومَن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت. ومن المقطوع به أنه لم يؤثر عن أيّ أحد من المسلمين أنه كان يعبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو اتخذه ربّاً من دون الله ، وإنما أجمع المسلمون على أنه عبد الله ورسوله ، اختاره الله لوحيه واصطفاه لرسالته.

مباغتة الأنصار :

وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة والبيعة ، إذ خرج من مؤتمرهم ـ وهم لا يشعرون ـ عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومن أعضاء حزبه ، وكانت نفوسهما مترعة بالحقد والكراهية لسعد ، وانطلقا مسرعين وأخبرا أبا بكر وعمر بذلك ، ففزعا وانطلقا مسرعين ومعهما أبو عبيدة بن الجراح(1) ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وتبعهم جماعة آخرون من المهاجرين ، فكبسوا الأنصار في ندوتهم ، وأسقط ما بأيدي الأنصار وذهلوا ، وغاض لون سعد ، وتخوّف من خروج الأمر عنهم ؛ وذلك لعلمه بضعف الأنصار وتفلل قواهم وتصدّع وحدتهم ، فهو قد أحاط مؤتمرهم بكثير من السرّ والكتمان ؛ خوفاً من

__________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 62.

٢٤٤

المهاجرين وبدخولهم المفاجئ ، فقد انهارت جميع مخططاته ، وفشلت جميع مساعيه في عقد البيعة له.

خطاب أبي بكر :

وبعد أن ولج المهاجرون في مؤتمر الأنصار أراد عمر أن يفتح الحديث فنهره أبو بكر ؛ وذلك لعلمه بشدّته ، وهي لا تنجح في مثل هذا الموقف الملبد والمليء بالأضغان والأحقاد ، ويجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسية والبراعة الفائقة والكلمات الناعمة لكسب الموقف.

وانبرى أبو بكر فخاطب القوم وقابلهم ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ؛ نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيراً ، فنحن الاُمراء وأنتم الوزراء. لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على إخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ـ(1) .

دراسة وتحليل :

ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للنظر في هذا الخطاب :

1 ـ إنه لم يعن بوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم رزية مُني بها المسلمون ، وأفجع كارثة تصدّعت من هولها القلوب ، وكان الأجدر به

__________________

(1) تاريخ الطبري 3 / 62.

٢٤٥

أن يعزّيهم بوفاة منقذهم ، ويذكّرهم بإحسانه وبرّه بدينهم ودنياهم ، ويدعوهم إلى القيام بتشييع جثمانه الطاهر حتّى يواروه في مثواه الأخير ، ويعودوا بعد ذلك إلى عقد مؤتمر عام يضمّ جميع الطبقات الشعبية من المسلمين لينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم مَن يرضونه خليفة لهم ، على تقدير أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يعهد لأحد من بعده.

2 ـ إنّ منطق هذا الخطاب هو طلب الإمرة والسلطان ، ولا يعني بأي شيء آخر غير ذلك ، وقد عرض فيه على الأنصار أن يتنازلوا لإخوانهم المهاجرين عن الخلافة ولا ينافسوهم في شؤون الملك ، ومنّاهم عوض ذلك أن يكونوا الوزراء ، إلاّ أنه لمّا تمّ له الأمر أجحف في حقّهم فلم يمنحهم أيّ منصب من شؤون دولته ، وأقصاهم عن جميع مراتب الحكم.

3 ـ إنّ هذا الخطاب قد تجاهل بالمرّة حقّ العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم ، أو كسفينة نوح مَن ركبها نجا ، ومَن تخلف عنها غرق وهوى حسبما يقول النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكان الأوْلى التريّث بالأمر حتّى يتمّ تجهيزه (صلّى الله عليه وآله) ويُؤخذ رأي أهل بيته في ذلك ؛ لتحمل الخلافة طابعاً شرعياً ، ولا توصم بالفلتة كما وصفها عمر إذ يقول : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها.

ويقول الإمام شرف الدين : فلو فرض أن لا نصّ بالخلافة على أحد من آل محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وفرض كونهم غير مبرزين في حسب أو نسب ، أو أخلاق أو جهاد ، أو علم أو عمل ، أو إيمان أو إخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كل فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي أو عقلي أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولو بأن يُوكل حفظ الأمن إلى القيادة العسكرية موقتاً حتّى يستتبّ أمر الخلافة؟!

أليس هذا المقدار من التريّث كان أرفق باُولئك المفجوعين وهم

٢٤٦

وديعة النبي (صلّى الله عليه وآله) لديهم وبقيّته فيهم ، وقد قال الله تعالى :( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ؟! أليس من حقّ هذا الرسول الذي يعزّ عليه عنت الاُمّة ويحرص على سعادتها ـ وهو الرؤوف بها الرحيم لها ـ أن لا تعنت عترته ، فلا تفاجأ بمثل ما فُوجئت به ، والجرح لمّا يندمل والرسول لمّا يُقبر(1) ؟

4 ـ إنّ المنطق الذي استند إليه أبو بكر لأحقيّة المهاجرين من قريش بالخلافة هو أنهم أمسّ الناس رحماً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأقربهم إليه ، وهذا الملاك على أكمل وجوهه وأتمّ رحابه متوفّر في أهل البيت (عليهم السّلام) فهم ألصق الناس به وأمسّهم به ، وما أروع قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة».

وخاطب (عليه السّلام) أبا بكر بقوله :

فإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمَهمْ

فغيرُكَ أولى بالنبيِّ وأقربُ

وإنْ كنت بالشورى ملكت اُمورَهُمْ

فكيف بهذا والمشيرون غيّبُ

ويقول الكميت :

بحقّكمُ أمست قريشٌ تقودنا

وبالفذِّ منها والرديفين نركبُ

وقالوا ورثناها أبانا واُمّنا

وما ورثتهمْ ذاك اُمٌّ ولا أبُ

يرَون لهم فضلاً على الناس واجباً

سفاهاً وحقّ الهاشميِّين أوجبُ(2)

وعرض الإمام (عليه السّلام) في حديث له عن شدّة قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) وبعض مواهبه ، فقال : «والله ، إنّي لأخوه ـ أي أخ النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ ووليه ، وابن عمّه ووارث علمه ، فمَن أحقّ به منّي؟!».

لقد انساب القوم وراء أطماعهم وأهوائهم ، وتهالكوا على الحكم

__________________

(1) النص والاجتهاد / 7.

(2) الهاشميّات / 31 ـ 33.

٢٤٧

والظفر بخيراته ، وأعرضوا عمّا ألزمهم به النبي (صلّى الله عليه وآله) من التمسّك بعترته وعدم التقدّم عليها ، ووجوب رعايتها في كل شيء.

بيعة أبي بكر :

وربح أبو بكر في خطابه السالف وكسب به الموقف ، فقد أثنى فيه على الأنصار ، ومجّد فيه جهادهم وجهودهم في خدمة الإسلام ، وبذلك قد أخمد نار الثورة في نفوسهم ، كما منّاهم بالحكم فجعلهم الوزراء ، وفنّد ما كان يختلج في نفوسهم من استبداد المهاجرين بالأمر واستئثارهم بالحكم ، وأفهمهم أنه إنّما قدّم المهاجرون ؛ لأن العرب لا تدين إلاّ لهم ، وكأنّ هذه القضية الإسلامية الكبرى من قضايا العرب وحدهم ، وليس لبقية المسلمين فيها حق؟!

وها هنا نكتة بارعة عمد إليها أبو بكر وهو أنه جعل نفسه حاكماً في هذا الأمر ، وجرّد نفسه من جميع الأطماع السياسية ، وبذلك فقد غزا نفوس الأنصار ، وملك قلوبهم وعواطفهم وانبرى عمر فأيّد مقالة صاحبه فقال : هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها مَن كانت النبوة فيهم وولي اُمورهم منهم ، ولنا بذلك على مَن أبى الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. مَن ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته ، إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة؟

وليس في هذا الخطاب شيء جديد سوى التأكيد لِما قاله أبو بكر من أحقّية المهاجرين بخلافة النبي (صلّى الله عليه وآله) منهم أولياؤه وعشيرته. يقول الاُستاذ محمد الكيلاني : إنه احتجّ عليهم بقرابة المهاجرين للرسول ، ومع

٢٤٨

ذلك فقد كان واجب العدل يقضي بأن تكون الخلافة لعلي بن أبي طالب ما دامت القرابة اتخذت سنداً لحيازة ميراث الرسول. لقد كان العباس أقرب الناس إلى النبي وكان أحقّ الناس بالخلافة ولكنه تنازل بحقّه هذا لعلي ، فمن هنا صار لعلي الحقّ وحده في هذا المنصب(1) .

وانبرى الحباب فردّ على عمر قائلاً : يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ؛ فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبَوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولّوا عليهم هذه الاُمور فأنتم ـ والله ـ أحقّ بهذا الأمر منهم ؛ فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين مَن دان ممن لم يكن يدين. أنا جذيلها المحكّك ، وعذيقها المرجّب ، أنا شبل في عرينة الأسد ، والله لو شئتم لنعيدنها جذعة ، والله لا يردّ أحد عليّ ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف.

وحفل هذا الكلام بالعنف والتهديد والدعوة إلى الحرب ، وإجلاء المهاجرين عن يثرب ، كما عنى بالاعتزاز بنفسه ، والافتخار بشجاعته ، وقد ردّ عليه عمر وصاح به قائلاً : إذاً يقتلك الله.

فقال له الحباب : بل إيّاك يقتل. وخاف أبو بكر من تطور الأحداث فالتفت إلى الأنصار فرشّح للخلافة صاحبيه عمر وأبا عبيدة ، فأسرع إليه عمر فأجابه بلباقة قائلاً : يكون هذا وأنت حي؟ ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويقول بعض المحققين : لا نعلم أنه متى أقامه رسول الله (ص)

__________________

(1) أثر التشيّع في الأدب العربي / 5.

٢٤٩

أو دلّل عليه ، وإنّما كان مع بقية إخوانه من المهاجرين جنوداً في سرية اُسامة ، ولو كان قد رشّحه لمنصب الخلافة وأقامه علماً ومرجعاً للاُمّة لأقامه معه في يثرب ، وما أخرجه إلى ساحات الجهاد ، وهو (صلّى الله عليه وآله) في ساعاته الأخيرة من حياته.

وعلى أيّ حال ، فقد بادر أعضاء حزبه بسرعة خاطفة إلى بيعته خوفاً من تطور الأحداث ؛ فبايعه عمر ، وبشير ، واُسيد بن حضير ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدي ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، واشتدّ هؤلاء في حمل الناس وإرغامهم على مبايعته ، وكان من أشدّهم اندفاعاً وحماساً عمر بن الخطاب ، فقد جعل يجول ويصول ويدفع الناس دفعاً إلى البيعة ، وقد لعبت درّته شوطاً في الميدان ، وسمع الأنصار وهم يقولون : قتلتم سعداً.

فاندفع يقول بثورة وعنف : اقتلوه قتله الله ، فإنه صاحب فتنة(1) .

وكادوا يقتلون سعداً وهو مزمل وجع ، وحمل إلى داره وهو صفر اليدين قد انهارت آماله ، وتبدّدت أحلامه ، ولمّا تمّت البيعة إلى أبي بكر أقبل به حزبه يزفّونه إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زفاف العروس(2) ، والنبي (صلّى الله عليه وآله) مسجّى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، قد انشغل الإمام أمير المؤمنين بتجهيزه ، ولمّا علم (عليه السّلام) ببيعة أبي بكر تمثّل بقول القائل :

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 62.

(2) شرح نهج البلاغة 2 / 8.

٢٥٠

وأصبح أقوامٌ يقولون ما اشتَهوا

ويطغون لمّا غال زيداً غوائلُ(1)

لقد تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة ، وقد أهمل فيها رأي العترة الطاهرة ولم يعن بها ، ومن ذلك اليوم واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات ، وما كارثة كربلاء وغيرها من المآسي التي حلّت بآل البيت (عليهم السّلام) إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة حسب ما نصّ عليه المحققون.

سرور القرشيِّين :

وابتهجت قريش حينما آل الحكم إلى أبي بكر واعتبرته فوزاً لها ، فقد تحققت آمالها وأحلامها ، وقد عبّر عن مدى سرورها أبو عبرة القرشي بقوله :

شكراً لمَنْ هو بالثناء حقيقُ

ذهب اللجاجُ وبُويع الصدّيقُ

من بعد ما زلّت بسعدٍ نعلَهُ

ورجا رجاءً دونه العيّوقُ

إنّ الخلافة في قريشٍ ما لكُمْ

فيها وربِّ محمد معروقُ(2)

وفي هذا الشعر التنديد والهجاء للأنصار ، وإظهار السرور البالغ بحرمانهم من الخلافة.

ومَن أبدى سروره ببيعة أبي بكر عمرو بن العاص ، ولم يكن في يثرب آنذاك وإنما كان في سفر له ، فلمّا قَدِم وسمع ببيعة أبي بكر قال :

ألا قل لأوسٍ إذا جئتها

وقل إذا ما جئتَ للخزرجِ

تمنّيتم الملكَ في يثربٍ

فاُنزلت القدرُ لم تنضجِ(3)

لقد عمّت الأفراح والمسرّات جميع القبائل القرشية ، ووقفت موقف التأييد لحكومة أبي بكر ، ولمّا بلغ أهل مكة موت النبي (صلّى الله عليه وآله) أرادوا أن

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 5.

(2) شرح نهج البلاغة 6 / 8 ، الموفقيات / 80.

(3) شرح نهج البلاغة.

٢٥١

يعلنوا الردّة والخروج عن الإسلام إلاّ أنّهم لمّا علموا بخلافة أبي بكر أذعنوا وأعلنوا الرضا والسرور.

موقف أبي سفيان :

وعمد أبو سفيان إلى إعلان المعارضة لحكومة أبي بكر ، فقد وقف على الإمام أمير المؤمنين يحفّزه على مناجزة أبي بكر ، ويعده بنصرته وهو يقول : إنّي لأرى عجاجه لا يطفئها إلاّ دم يا آل عبد مناف ، فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟

ثمّ قال لعلي : ابسط يدك أبايعك ، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً. وتمثّل بشعر المتلمس :

ولن يقيمَ على خسفٍ يُراد بهِ

إلاّ الأذلان عيرُ الحي والوتدُ

هذا على الخسفِ مربوطٌ برمّتهِ

وذا يُشجّ فلا يبكي له أحدُ

لقد استغلّ أبو سفيان العنصرية القبيلة لإحداث الثورة والانقلاب على حكومة أبي بكر ، لكن الإمام كان يفقه دوافعه ويعرف ذاتيّاته ، فلم يستجب له ، وإنما نهره وأغلظ له في القول قائلاً : «والله ، ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً. لا حاجة لنا في نصيحتك»(1) .

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 2 / 220.

٢٥٢

وراح أبو سفيان يشتدّ في إثارة الفتنة ، ويدعو الإمام إلى إعلان الثورة على أبي بكر ، وكان ينشد :

بني هاشمٍ لا تطمعوا الناسَ فيكُمُ

ولا سيما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلاّ فيكُمُ وإليكُمُ

وليس لها إلاّ أبو حسنٍ علي

أبا حسنٍ فاشدد بها كفَّ حازمٍ

فإنّك بالأمر الذي يُرتجى علي(1)

ومن المقطوع به أنه لم تكن معارضة أبي سفيان عن إيمان منه بحق الإمام (عليه السّلام) ، وإنما كانت ظاهرية أراد بها الكيد للإسلام والبغي عليه. وقد أعرض الإمام عنه ولم يعن بعواطفه الكاذبة ؛ فإن علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية ، فقد روى البخاري أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال ، فقال بعضهم : أما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؟

فزجرهم أبو بكر وقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟! ومضى مسرعاً إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) يخبره بمقالة القوم ، فردّ عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قائلاً : «يا أبا بكر ، لعلّك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله»(2) .

ودلّت هذه البادرة على مدى الصلة الوثيقة بينهما ، وقد جهد أبو بكر في خلافته على استمالة أبي سفيان وكسب ودّه ، فقد استعمله عاملاً على ما بين آخر حدّ للحجاز ، وآخر حدّ من نجران(3) ، كما عيّن ولده يزيد والياً على الشام ، ومنذ ذلك اليوم قد علا نجم الاُمويِّين وقويت شوكتهم :

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 6 / 7.

(2) صحيح البخاري 2 / 362.

(3) شرح نهج البلاغة 6 / 10 ـ 11.

٢٥٣

اندحار الأنصار :

وأفل نجم الأنصار ، وضاعت أمانيهم ، وعرّاهم الذلّ والهوان ، وقد عبّر عن خيبة أملهم حسان بن ثابت بقوله :

نصرنا وآوينا النبيَّ ولم نخفْ

صروفَ الليالي والبلاءَ على وجلِ

بذلنا لهم أنصافَ مالِ أكفَّنا

كقسمةِ أيسارِ الجزورِ من الفضلِ

فكان جزاءُ الفضل منّا عليهمُ

جهالتهمْ حمقاً وما ذاك بالعدلِ(1)

وقوبلت الأنصار بمزيد من الهوان في كثير من عهود الخلفاء ، وقد استبان لهم الخطأ الفظيع في تقصيرهم بحق الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأنهم قذفوا بنفوسهم في متاهات سحيقة من هذه الحياة.

موقف آل البيت (عليهم السّلام) :

واتّفق المؤرّخون على أنّ موقف أهل البيت (عليهم السّلام) تجاه خلافة أبي بكر قد تميّز بالكراهة ، فقد كانوا لا يخالجهم ريب في أنهم أحقّ بالأمر وأولى به من غيرهم ؛ لأنهم أقرب الناس وألصقهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، بالإضافة إلى ما تتوفر فيهم من القابليّات الفذّة والقدرة على تحمّل المسؤولية وقيادة الاُمّة ، ولكن القوم لم يعنوا بهم ، وتجاهلوا عامدين مكانتهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقابلوهم بمزيد من العنف ؛ مما أدّى إلى تشعّب صدع الاُمّة ، وجرّ الويلات والخطوب لها في جميع مراحل التاريخ.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 6 / 10 ـ 11.

٢٥٤

امتناع الإمام (عليه السّلام) عن البيعة :

ونقم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) على بيعة أبي بكر ، واعتبرها اعتداءً صارخاً عليه ، فهو يعلم أنّ محله من الخلافة محل القطب من الرحى ، ينحدر عنه السّيل ، ولا يرقى إليه الطير ـ على حدّ تعبيره ـ ، وما كان يظنّ أنّ القوم يزعجون هذا الأمر ويخرجونه عن أهل بيت نبيّهم ، فقد بادر إليه عمّه العباس قائلاً له : يابن أخي ، امدد يدك اُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بايع ابن عمّ رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان.

فقال له الإمام : «ومَن يطلب هذا الأمر غيرنا؟»(1) .

وعلّق الدكتور طه حسين على ذلك بقوله : نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه أحقّ منه بوراثة السلطان ؛ لأنه ربيب النبي ، وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها ، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتّى قالت له اُمّ أيمن ذات يوم مداعبة : تدعوه أخاك وتزوّجه ابنتك؟! ولأن النبي قال له : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي». وقال للمسلمين يوماً آخر : «مَن كنت مولاه فعلي مولاه». من أجل ذلك أقبل العباس بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) على ابن أخيه ، وقال له : ابسط يدك اُبايعك(2) .

لقد تخلّف الإمام (عليه السّلام) عن بيعة أبي بكر ساخطاً ، وأعلن شجاه

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 4.

(2) علي وبنوه / 19.

٢٥٥

وأساه على ضياع حقّه ، واستبداد القوم بالأمر من دون أن يعنوا به ، وفي نهجه شذرات من بليغ كلامه عرض فيها لذلك.

إرغامه على البيعة :

وأجمع رأي القوم على إرغام الإمام (عليه السّلام) وقسره على البيعة لأبي بكر ، فأرسلوا حفنة من الشرطة فأحاطت بداره وأخرجوه منها ، وهو مهان الجانب ، وجيء به إلى أبي بكر ، فصاح القوم به بعنف : بايع أبا بكر.

فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض ، وهو غير وجِل من جبروتهم وسطوتهم قائلاً : «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا اُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ؛ أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً؟! ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد (صلّى الله عليه وآله) منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ؛ نحن أولى برسول الله حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون».

ووضع الإمام (عليه السّلام) النقاط على الحروف بهذا الاحتجاج الرائع ، ودلّل على أنه أولى وأحقّ بالأمر منهم ؛ لأنه أقرب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وألصق به من غيره ، فإن القرب من النبي (صلّى الله عليه وآله) هي الجهة التي تمسّك بها القوم في التغلب على الأنصار ، وهي متوفرة في الإمام أكثر من غيره ، فهو ابن عمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وختنه على بنته. وثار ابن الخطاب بعد

٢٥٦

أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له :

إنك لست متروكاً حتّى تبايع.

فزجره الإمام قائلاً : «احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً».

وكشف (عليه السّلام) السرّ في اندفعات ابن الخطاب وحماسه ؛ فإنه لم يقف هذا الموقف الصارم تجاه الإمام إلاّ من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك بعد أبي بكر ، وثار الإمام وهتف يزأر قائلاً : «والله يا عمر ، لا أقبل قولك ولا اُبايعه».

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث ، وخشي من غضب الإمام (عليه السّلام) ، فأقبل عليه فخاطبه بناعم القول قائلاً : إن لم تبايع فلا أكرهك.

وانبرى إليه أبو عبيدة محاولاً إخماد ثورته ، وكسب ودّه قائلاً له : يابن عم ، إنك حدث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ؛ فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق ، وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك ، وسابقتك ونسبك وصهرك.

وأثارت هذه المخاتلة والمخادعة كوامن الألم والاستياء في نفس الإمام ، فاندفع يخاطب المهاجرين من قريش ويذكّرهم مآثر أهل البيت (عليهم السّلام) وفضائلهم قائلاً : «الله الله يا معشر المهاجرين! لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه فوالله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحقّ الناس به ؛

٢٥٧

لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم. ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسّوية؟ والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقِّ بُعداً»(1) .

ولو أنهم استجابوا لنداء الإمام (عليه السّلام) الذي فيه ضمان أكيد لصالح الاُمّة ، وصيانة لها من الزيغ والانحراف في مجالاتها العقائدية وغيرها ، لجنّبوا الاُمّة كثيراً من المضاعفات السيّئة ، ولكن هيهات من ذلك! فقد انساب الإنسان منذ أقدم عصوره وراء شهواته وأطماعه مضحّياً بكل شيء في سبيل ذلك.

وعلى أيّ حال فإن القوم لم يعوا منطق الإمام وتجاهلوه ، وقدّموا مصالحهم الخاصة على كل شيء.

الإجراءات الصارمة :

واقتضت سياسة أبي بكر أن يتخذ جميع الإجراءات الصارمة ضد الإمام (عليه السّلام) ، وأن يسلك جميع الوسائل التي من شأنها إضعاف جبهته والتغلب عليه ؛ لأنه يمثّل القوى المعارضة لحكومته ؛ فقد كانت الأكثرية الساحقة من الأنصار تميل للإمام ، وترغب في أن يتولّى زمام الحكم. وهذه بعض الوسائل التي سلكتها حكومة أبي بكر :

الحصار الاقتصادي :

والحصار الاقتصادي من أوثق الطرق وأدقّها ، وأكثرها نجاحاً لشلّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 11 ـ 12.

٢٥٨

الحركة المعارضة وإبادتها ، فإن المال في جميع فترات التاريخ هو الأداة الفعالة التي تعتمد عليها الجبهة المعارضة لقلب نظام الحكم ، ولا تزال الدول في جميع أنحاء العالم تسلك هذا الطريق فتصادر أموال خصومها ، أو تمنعهم من التصرف بها خوفاً من أن تستخدمه للإطاحة بها ، وقد أمعن أبو بكر في ذلك فبادر إلى فرض الحصار الاقتصادي على الإمام ؛ لئلاّ يقوى على الانتفاضة عليه ، وقد نفّذ ما يلي :

إسقاط الخمس :

والخمس حقّ مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم ، قال تعالى :( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) .

وقد أجمع المسلمون على أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يختص بسهم من الخمس ، ويخصّ أقاربه بسهم آخر منه ، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى الرفيق الأعلى ، ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبي (صلّى الله عليه وآله) وسهم ذي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم(2) .

وقد أرسلت إليه بضعة الرسول وريحانته فاطمة الزهراء (عليها السّلام) تسأله أن يدفع إليها ما بقى من خمس خيبر فأبى أن يدفع إليها شيئاً(3) . وقد ترك شبح الفقر مخيّماً على آل النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وحجب عنهم أهم مواردهم الاقتصادية التي فرضها الله لهم.

__________________

(1) سورة الأنفال / 41.

(2) الكشاف في تفسير آية الخمس.

(3) صحيح البخاري 3 / 36 ، صحيح مسلم 2 / 72.

٢٥٩

الاستيلاء على تَركَة النبي (صلّى الله عليه وآله) :

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه النبي (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش فلم يبقِ ولم يذر منه أي شيء وإنما حازه إلى بيت المال ، وقد سدَّ بذلك على العترة الطاهرة أيّ نافذة من مواردها المعاشية ، وفرض عليها حصاراً اقتصادياً لا تطيق معه من القيام بأيّ حركة ضدّه.

حجّته :

وكانت حجة أبي بكر في مصادرته لتركة النبي (صلّى الله عليه وآله) وحرمان ورثته منها ما رواه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : لا نورّث ما تركناه صدقة (1) ؛ ولهذا الحديث استند أبو بكر في حجب سيّدة النّساء فاطمة (عليها السّلام) عن إرثها من أبيها.

وقد وُصم هذا الحديث بالوهن والضعف :

1 ـ إنه لو كان صحيحاً ومعتبراً لعرفته سيّدة النّساء فاطمة (عليها السّلام) ، وما دخلت ميدان المخاصمة والمحاججة معه ، وكيف تطالبه وهي سليلة النبوة بأمر لم يكن مشروعاً لها؟

2 ـ إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كيف يحجب عن بضعته أمراً يرجع إلى تكليفها الشرعي ؛ فإن في ذلك تعريضاً للاُمّة للهلاك وإلقاء لها في ميدان الخصومة.

3 ـ إنه من الممتنع أن يحجب النبي هذا الحديث عن الإمام ، وهو حافظ سرّه ، وباب مدينة علمه ، وباب دار حكمته وأقضى اُمّته ، وأبو

__________________

(1) بلاغات النساء / 19 ، أعلام النساء 3 / 1207 ، شرح ابن أبي الحديد.

٢٦٠