حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159026
تحميل: 5192


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159026 / تحميل: 5192
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

أيها الناس ، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله (ص)(1) .

وطلب أبو بكر من عثمان بن عفان أن يكتب للناس عهده في عمر ، وكتب عثمان ما أملاه عليه ، وهذا نصّه : هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(2) .

ووقّع أبو بكر الكتاب فتناوله عمر ، وانطلق به يهرول إلى الجامع ليقرأه على الناس ، فانبرى إليه رجل وقد أنكر عليه ما هو فيه قائلاً : ما في الكتاب يا أبا حفص؟

فنفى عمر علمه بما فيه ، إلاّ أنّه أكّد التزامه بما جاء فيه قائلاً : لا أدري ، ولكنّي أوّل مَن سمع وأطاع. فرمقه الرجل ، وقد علم واقعه قائلاً : ولكنّي والله أدري ما فيه ، أمّرته عام أوّل ، وأمّرك العام(3) .

وانبرى عمر إلى الجامع فقرأه على الناس ، وبذلك تمّ له الأمر بسهولة من دون منازع ، إلاّ أنّ ذلك قد ترك أعمق الأسى في نفس الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فراح بعد سنين يدلي بما انطوت عليه نفسه من الشجون ، يقول (عليه السّلام) في خطبته الشقشقية :

«فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتى

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 52.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 19 ، طبقات ابن سعد ، تاريخ الطبري.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 20.

٢٨١

مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان ـ يعني عمر ـ بعده». ثمّ تمثّل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كُورِها

ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطرا ضرعيها»(1) .

وكشفت هذه الكلمات عن مدى أحزانه وآلامه على ضياع حقّه الذي تناهبته الرجال ، فقد وضعوه في تيم مرّة وفي عدي تارةً اُخرى ، وتناسوا جهاده المشرق في نصرة الإسلام ، وما له من المكانة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حال فقد تناهبت الأمراض جسم أبي بكر ، ودفعته إلى النهاية المحتومة التي ينتهي إليها كل إنسان ، وقد راح يبدي ندمه وأساه على ما فرّط تجاه حبيبة رسول الله وبضعته قائلاً : وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة ، ولو أنهم أغلقوه على الحرب.

كما أنه ودّ لو سأل رسول الله عن ميراث العمّة وبنت الأخ ، وثقل حاله فدخلت عليه بنته عائشة تعوده فلمّا رأته يعالج سكرات الموت أخذت تتمثّل بقول الشاعر :

لعمركَ ما يُغني الثراءُ عن الفتى

إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

فغضب أبو بكر وقال لها : ولكن قولي :( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) (2) . ولم يلبث قليلاً حتّى وافاه الأجل المحتوم ، وانبرى صاحبه عمر إلى القيام بشؤون جنازته ، فغسّله وصلّى عليه وواراه في بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) وألصق لحده بلحده. ويذهب النقّاد من الشيعة إلى أنّ

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 195.

(2) تاريخ ابن الأثير 2 / 290.

٢٨٢

هذا البيت إن كان من تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) فإنه لم يؤثر عنه أنه وهبه لعائشة ، فلا بدّ أن يكون خاضعاً لقواعد الميراث حسبما تراه العترة الطاهرة في تركة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وعلى هذا الرأي فلا يحلّ دفنه فيه إلاّ بعد الإذن منها ، ولا موضوعية لإذن عائشة ؛ لأنها إنما ترث من البناء لا من الأرض حسب ما ذكره الفقهاء في ميراث الزوجة. وإن كان البيت خاضعاً لعملية التأميم حسبما يرويه أبو بكر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أنّ الأنبياء لا يورّثون أي شيء من متع الدنيا ، وإنما يورّثون الكتاب والحكمة ، وما تركوه فهو صدقة لعموم المسلمين ، فلا بدّ إذاً من إرضاء جماعة المسلمين في دفنه فيه ، ولم يتحقق كل ذلك بصورة مؤكدة :

وعلى أيّ حال ، فقد انتهت خلافة أبي بكر القصيرة الأمد ، وقد حفلت بأحداث رهيبة ، وكان من أخطرها ـ فيما يقول المحققون ـ معاملة العترة الطاهرة كأشخاص عاديِّين قد جرّد عنها إطار التقديس والتعظيم الذي أضفاه النبي (صلّى الله عليه وآله) عليها. وقد مُنيت بكثير من الضيم والجهد ؛ فقد كانت ترى أنها أحقّ بمقام النبي (صلّى الله عليه وآله) وأولى بمكانته من غيرها ، وقد أدّى نزاعها مع أبي بكر إلى شيوع الاختلاف وإذاعة الفتنة والفرقة بين المسلمين ، كما أدّى إلى إمعان الحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلمهم واستعمال البطش والقسوة معهم ، ولعلّ أقسى ما عانوه من الكوارث هي فاجعة كربلاء التي لم ترعَ فيها أيّ حقّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في عترته وأبنائه.

حكومة عمر :

ومهّد أبو بكر الخلافة من بعده إلى عمر فتولاّها بسهولة ويُسر ، من غير أن يلاقي أيّ جهد أو عناء ، وقد قبض على الحكم بيد من حديد ، فساس

٢٨٣

البلاء بشدّة وعنف بالغين حتّى تحامى لقاءه أكابر الصحابة ، فإنّ درّته ـ كما يقولون ـ كانت أهيب من سيف الحجّاج ، حتّى أنّ ابن عباس مع ما له من المكانة المرموقة والصلات الوثيقة به لم يستطع أن يجاهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته ، وقد خافه وهابه حتّى عياله وأبناؤه ، فلم يستطع أيّ واحد منهم أن يفرض إرادته عليه. ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض مناهج سياسته :

سياسته المالية :

واتّفقت مصادر التاريخ الإسلامي على أنّ عمر عدل في سياسته عن منهج أبي بكر فلم يساوِ بين المسلمين في العطاء ، وإنما ميّز بعضهم على بعض ، وكان قد أشار على أبي بكر في أيّام خلافته العدول عن سياسته فلم يقبل وقال : إنّ الله لم يفضّل أحداً على أحد ، ولكنه قال :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) ، ولم يخص قوماً دون آخرين(1) .

ولمّا أفضت إليه الخلافة عمل بما كان قد أشار به على أبي بكر ، وقال : إنّ أبا بكر رأى في هذا الحال رأياً ولي فيه رأي آخر ، لا أجعل مَن قاتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كمَن قاتل معه. وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً خمسة آلاف خمسة آلاف ، وفرض لمَن كان إسلامه كإسلام أهل بدر ولم يشهد بدراً أربعة آلاف أربعة آلاف ، وفرض لأزواج النبي (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً إلاّ صفية وجويرية ؛ فقد فرض لهما ستة آلاف فأبتا أن تقبلا بذلك.

وفرض للعباس عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اثني عشر ألفاً ، وفرض لاُسامة بن زيد أربعة آلاف ، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف ، فأنكر عليه ذلك وقال

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 8 / 111.

٢٨٤

يا أبت ، لم زدته عليّ ألفاً؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي ، وكان له ما لم يكن لي. فقال له عمر : إنّ أبا اُسامة كان أحبّ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبيك ، وكان اُسامة أحبّ إلى رسول الله منك(1) .

وقد فضّل عمر العرب على العجم ، والصريح على المولى(2) ، وقد أدّت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين ، كما استدعت إلى تصنيف القبائل بحسب اُصولها(3) ؛ مما أدّى إلى حنق الموالي على العرب ، وكراهيتهم لهم ، والتفتيش عن مثالبهم ، وظهور النعرات الشعوبية والقومية في حين أنّ الإسلام قد أمات هذه الظاهرة ، وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب ، وألزم السلطة بالمساواة والعدالة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم حتّى لا تحدث ثغرة في صفوف المجتمع.

الناقدون :

وقد أثارت هذه السياسة موجة من السخط والإنكار عند الكثيرين من المحققين ، وفيما يلي بعضهم.

1 ـ الدكتور عبد الله سلام :

يقول الدكتور عبد الله سلام : لست أدري كيف اتّخذ عمر هذا

__________________

(1) الخراج / 242.

(2) شرح نهج البلاغة 8 / 111.

(3) العصبية القبلية / 190.

٢٨٥

الإجراء؟ ولماذا اتّخذه؟ إنه إجراء أوجد تفاوتاً اجتماعياً واقتصادياً ، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين(1) .

2 ـ الدكتور محمد مصطفى :

وممّن أنكر هذه السياسة الدكتور محمد مصطفى هدارة [حيث] يقول : وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثّر تأثيراً خطيراً في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية ، إذ خلق شيئاً فشيئاً طبقة ارستقراطية يأتيها رزقها رغداً دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال ؛ ذلك أنّ فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين : القرابة من رسول الله ، والسابقة في الإسلام ، ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات ، وبهذا لم يرعَ عمر فرض العطاء ذلك المقابل الذي لا بد أن تأخذه الدولة في صورة عمل والجهاد(2) .

3 ـ العلائلي :

وأنكر ذلك الشيخ العلائلي بقوله : هذا التنظيم المالي أوجد تمايزاً كبيراً ، وأقام المجتمع العربي على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سواء في نظر القانون (الشريعة) ، فقد أوجد ارستقراطية وشعباً وعامة(3) .

هؤلاء بعض الناقدين للسياسة المالية التي انتهجها عمر ، وهي حسب مقررات الاقتصاد الإسلامي لا تحمل أيّ طابع من التوازن الاقتصادي ، فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة ، وتضخّمت الأموال الهائلة عندهم مما أوجب تغيير الحياة الإسلامية ، وسيطرة الرأسماليين على سياسة الدولة وتسخير أجهزتها لمصالحهم ، وقيامهم بدور المعارضة لكل حركة إصلاحية أو سياسية عادلة في البلاد ، وقد اشتدّت تلك الزمرة في معارضة حكومة علي (ع)

__________________

الغلو والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية / 251.

(2) اتجاهات الشعر العربي / 108.

(3) الإمام الحسين (عليه السّلام) / 232.

٢٨٦

وزجّت بجميع ما تملك من الوسائل الاقتصادية وغيرها لإسقاط حكمه ؛ لأن سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات ومصادرة ثرواتهم التي ابتزّوها بغير حق.

حجّة عمر :

واعتذر عمر عن إلغائه المساواة ، وإيجاده لهذه الطبقية في الإسلام من أنّ لبعض الصحابة فضلاً على بعض باعتبار سبقهم إلى الإسلام ، وقيامهم بعمليات الحروب وحركات الجهاد.

وهذا الاعتذار ـ فيما يبدو ـ لا موضوعية له ؛ فإنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يؤثر بشيء من أموال الدولة أي أحد من أصحابه من الذين سبقوا للإيمان وتعرّضوا لأنواع المحن والعذاب ؛ أمثال عمار بن ياسر وبلال الحبشي وأبي ذر ، كما لم يؤثر بأيّ شيء ابن عمّه علياً ، وهو بطل الإسلام ، والمنافح عنه في جميع المواقف والمشاهد ، وإنّما جعل أجر المجاهدين وثوابهم عند الله في الدار الآخرة فهو الذي يتولّى جزاءهم ويثيبهم على ذلك.

إنّ السياسة المالية التي انتهجها النبي (صلّى الله عليه وآله) كانت تقضي ببسط العطاء على الجميع ، والمساواة فيما بينهم من أجل تماسك المجتمع ووحدته ، والقضاء على جميع ألوان الطبقية والحزازات.

ندم عمر :

وندم عمر كأشد ما يكون الندم حينما رأى انتشار الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة ولم تطب به نفسه ، وإنما راح يقول : لو استقبلت من

٢٨٧

أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء. وفيما نحسب أنّ هذا الإجراء الذي يرتأيه في معالجة التضخّم المالي لا يخلو من تأمّل ، فإنّ فضول أموال الأغنياء إن كانت من فضل الاُعطيات التي كان يغدقها عليهم فهي ـ من دون شك ـ من أموال الدولة ، واللازم يقضي بتأميمها حفظاً للتوازن الاقتصادي ، وإن كانت من أموال التجارة ـ ولا أظنّها ـ فإنّ الواجب أخذ الضرائب المالية منها من دون أن يمنّي نفسه بمصادرتها.

وعلى أيّ حال ، فإنّ الأموال التي تأتي من الفيء ، ومن جباية الجزية والخراج هي ملك للمسلمين ، ولا يجوز أن يستأثر بها فريق من الرعيّة دون غيرها ، بل لا بد من توزيعها على الجميع بالسواء كما كان يصنع النبي (صلى الله عليه وآله).

سياسته الداخلية :

وجهد عمر على فرض سلطانه بالقوة والعنف ، فخافه القريب والبعيد ، وبلغ من عظيم خوفهم أنّ امرأة جاءت تسأله عن أمر ، وكانت حاملاً ، ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها(1) ، وكان شديداً بالغ الشدّة ، خصوصاً مع مَن كان يعتد بنفسه.

يقول الرواة : إنه كان يقسم مالاً بين المسلمين ذات يوم ، وقد ازدحم الناس عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص ، وبلاؤه معروف في فتح فارس ، فزاحم الناس حتّى خلص إلى عمر ، فلمّا رأى اعتداده بنفسه علاه بالدرّة ، وقال : لم تهب سلطان الله في الأرض ، فأردت أن أعلمك أنّ سلطان الله لا يهابك ، وقصته مع جبلّة تدلّ على

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 1 / 74.

٢٨٨

مدى صرامته وشدّته ، فقد أسلم جبلّة وأسلم مَن كان معه ، وفرح المسلمون بذلك ، وحضر جبلّة الموسم ، وبينما يطوف حول البيت إذ وطأ أزاره رجل من فزارة فحلّه ، فأنف جبلّة وسارع إلى الفزاري فلطمه ، فبلغ ذلك عمر ، فاستدعى الفزاري ، وأمر جبلّة أن يقيده من نفسه أو يرضيه ، وضيّق عليه في ذلك غاية التضييق ، فارتدّ جبلّة وخرج عن الإسلام وولى إلى هرقل ، فاحتفى به وأضفى عليه النِعم ، إلاّ أنّ جبلّة كان يبكي أمرّ البكاء على ما فاته من شرف الإسلام ، وقد أعرب عن حزنه وأساه بقوله :

تنصّرتِ الأشرافُ من أجل لطمةٍ

وما كان فيها لو صبرتُ لها ضررْ

تكنّفني منها لجاجٌ ونخوةٌ

وبعتُ لها العينَ الصحيحة بالعورْ

فياليت اُمّي لم تلدني وليتَني

رجعتُ إلى القول الذي قال لي عُمرْ

ويا ليتني أرعى المخاضَ بقفرة

وكنتُ أسيراً في ربيعةَ أو مُضرْ

وقد أراد عمر أن يقوده بأوّل بادرة تبدو منه ببرة(1) ، محاولاً بذلك إذلاله.

ويحدّثنا ابن أبي الحديد عن شدّة عمر مع أهله فيقول : كان إذا غضب على واحد منهم لا يسكن غضبه حتّى يعضّ على يده عضّاً شديداً فيدميها(2) .

وعرض عثمان إلى شدّة عمر حينما نقم عليه المسلمون ، واشتدّوا في معارضته فأخذ يذكّرهم بغلظته وقسوته لعلّهم ينتهون عنه قائلاً :

__________________

(1) البرة : حلقة من صفر توضع في أنف الجمل الشرود ، فيربق بها حبل يقاد به.

(2) شرح نهج البلاغة 6 / 342.

٢٨٩

لقد وطأكم ابن الخطاب برجله وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه فخفتموه ورضيتم به(1) .

ووصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد حفنة من السنين سياسة عمر ومدى محنة الناس فيها بقوله : «فصيّرها ـ يعني أبا بكر في توليته لعمر ـ في حوزة خشناء ؛ يغلظ كلمها ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ؛ إن اشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمُني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس ، وتلوّن واعتراض»(2) .

وتتجافى هذه السياسة عن سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسياسته ، فقد سار بين الناس بالرفق واللين ، وساسهم بالرأفة والرحمة ، وكان لهم كالأب الرؤوف ، وكان يشجب جميع مظاهر الرعب التي تبدو من بعض الناس تجاهه ، فقد جاءه رجل ، وقد أخذته الرهبة منه ، فنهره (صلّى الله عليه وآله) وقال له : «إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».

وقد سار (صلّى الله عليه وآله) بين أصحابه سيرة الصديق مع صديقه والأخ مع أخيه ، من دون أن يشعرهم بأنّ له أيّة مزيّة أو تفوّق عليهم ، وقد مدح الله تعالى معالي أخلاقه بقوله :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم ) .

الحصار على الصحابة :

ويقول المؤرّخون : إنّ عمر فرض الحصار على صحابة الرسول ، ولم يسمح لهم بمغادرة يثرب ، فكانوا لا يخرجون إلاّ بإذن خاص منه ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السّلام) 1 / 175.

(2) نهج البلاغة 1 / 162.

٢٩٠

وقد خالف بهذا الإجراء ما أثر عن الإسلام في منحه الحريّات العامة للناس جميعاً ، فقد منحهم حرية الرأي والقول ، وحرية العقيدة وحرية العمل ، وجعلها من الحقوق الذاتية للإنسان ، وألزم الدولة بحمايتها ورعايتها وتوفيرها ، وليس للسلطة أن تقف موقفاً معاكساً أو مجافياً لها ، شريطة أن لا يستغلّها الإنسان في الإضرار بالغير أو يحدث فساداً في الأرض.

دفاع طه حسين :

وبرّر الدكتور طه حسين ما اتّخذه عمر من فرض الحصار على الصحابة بقوله : ولكنه خاف عليهم الفتنة ، وخاف منهم الفتنة ، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلاّ بإذنه ، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلاّ بأمر منه. خاف أن يفتتن الناس بهم ، وخاف عليهم أن يغرّهم افتتان الناس بهم ، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان(1) .

ولا يحمل هذا التوجيه أيّ طابع من العمق والتحقيق ، فإن الصحابة الذين حاولوا السفر من يثرب إلى الأقطار المفتوحة إن كانوا من الأخيار والمتحرّجين في دينهم فإنهم بكل تأكيد يكونون مصدر هداية وخير للشعوب المتطلّعة لهَدي الإسلام ، فإنهم ـ من دون شك ـ يذيعون فيهم أحكام الدين وآداب الإسلام ، ويعملون على تثقيفهم ، وإن كانوا من الذين غرّتهم الدنيا وخدعتهم مظاهر الفتوحات الإسلامية ، فله الحقّ في منعهم عن السفر رسمياً لا شرعاً ؛ حفظاً على مصالح الدولة ، ووقاية للناس من الفتنة بهم ، ولكنه لم يؤثر عنه أنه فرض الحصار على فريق من الصحابة دون فريق ،

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 17.

٢٩١

وإنما فرضه عليهم جميعاً ، ومن الطبيعي أنه بذلك قد شق على كثير من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) فقد حال بينهم وبين حريّاتهم.

ولاته وعماله :

وسلك عمر ما سلكه أبو بكر في إبعاد الاُسرة الهاشمية عن جهاز الحكم ، فلم يجعل لها أيّ نصيب فيه ، وإنما عهد إلى مَن ولاّهم أبو بكر فأقرّهم في مناصبهم ، ومن الغريب أنه لم يعين أيّ واحد من الصحابة النابهين أمثال طلحة والزبير ، وقد قيل له : إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ، وفلاناً وفلاناً من المؤلّفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وتركت أن تستعمل علياً والعباس ، والزبير وطلحة؟!

فقال : أمّا عليٌّ فأنبه من ذلك ؛ وأمّا هؤلاء النفر من قريش فإنّي أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد. وعلّق ابن أبي الحديد على كلامه هذا بقوله : فمَن يخاف من تأميرهم لئلاّ يطمعوا في الملك ، ويدّعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساويين في الشورى ، مرشّحين للخلافة؟! وهل شيء أقرب إلى الفساد من هذا(1) .

مراقبة الولاة :

وكان عمر شديد المراقبة لعماله وولاته ، فكان لا يولي عاملاً إلاّ أحصى عليه ماله ، وإذا عزله أحصاه عليه حين العزل ، فإن وجد عنده فرقاً قاسمه

__________________

(1) نهج البلاغة 9 / 20 ـ 30.

٢٩٢

ذلك الفرق فترك له شطراً ، والشطر الآخر ضمّه إلى بيت المال(1) ، واستعمل أبا هريرة الدوسي والياً على البحرين ، وقد بلغه عنه أنه استأثر بأموال المسلمين فدعاه إليه ، ولمّا حضر عنده زجره وقال له : علمت أنّي استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، ثمّ بلغني أنّك ابتعت أفراساً بألف وستمئة دينار.

واعتذر أبو هريرة فقال له : كانت لنا أفراس تناتجت ، وعطايا تلاحقت. ولم يعن به عمر وإنما زجره وصاح به : قد حسبت لك رزقك ومؤنتك ، وهذا فضل فأدّه.

وراوغ أبو هريرة فقال له : ليس لك ذلك.

ـ بلى والله ، وأوجع ظهرك.

وغضب عمر فقام إليه وعلاه بدرّته حتّى أدماه ، ولم يجد أبو هريرة بدّاً من إحضار الأموال التي انتهبها بغير حق ، فقال له : ائتِ بها ، واحتسبها عند الله.

فردّ عليه منطقه الهزيل وقال له : ذلك لو أخذتها من حلال وأدّيتها طائعاً ، أجئت بها من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ، ولا للمسلمين ما رجعت بك اُميمة(2) إلاّ لرعية الحمر(3) .

وشاطره جميع أمواله ، وقد شاطر من عمّاله ما يلي :

1 ـ سمرة بن جندب.

2 ـ عاصم بن قيس.

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 20.

(2) اُميمة : اُمّ أبي هريرة.

(3) شرح ابن أبي الحديد 3 / 163.

٢٩٣

3 ـ مجاشع بن مسعود.

4 ـ جزء بن معاوية.

5 ـ الحجّاج بن عتيك.

6 ـ بشير بن المحتفز.

7 ـ أبو مريم بن محرش.

8 ـ نافع بن الحرث.

هؤلاء بعض عمّاله وولاته الذين شاطرهم أموالهم.

ويقول المؤرّخون : إنّ السبب في اتخاذه لهذا الإجراء هو يزيد بن قيس ؛ فقد حفّزه إلى ذلك ودعاه إليه بهذه الأبيات :

أبلغ أميرَ المؤمنينَ رسالةً

فأنت أمينُ الله في النهي والأمرِ

وأنت أمينُ الله فينا ومَن يكنْ

أميناً لربِّ العرش يسلم له صدري

فلا تدعن أهلَ الرساتيقِ والقُرى

يسيغون مال الله في الأدم والوفرِ

فأرسل إلى الحجّاج فاعرف حسابَهُ

وأرسل إلى جزءٍ وأرسل إلى بشرِ

ولا تنسينّ النافعينَ كليهما

ولا ابن غلابٍ من سراةِ بني نصرِ

وما عاصمٌ منها بصفرٍ عيابهُ

وذاك الذي في السوقِ مولى بني بدرِ

وأرسل إلى النعمانِ واعرفْ حسابَهُ

وصهرِ بني غزوان إنّي لذو خُبرِ

وشبلاً فسله المال وأبن محرّشٍ

فقد كان في أهل الرساتيقِ ذا ذكرِ

فقاسمهم أهلي فداؤكَ إنهمْ

سيرضون إنْ قاسمتهم منك بالشطرِ

ولا تدعونّي للشهادة إنني أغيب

ولكنّي أرى عجب الدهرِ

نؤوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فإنّي لهم وفرٌ ولسنا اُولي وفرِ

إذا التاجرُ الداريُ جاء بفارةٍ

من المسكِ راحت في مفارقهمْ تجري

وعلى إثر ذلك قام فشاطر عمّاله نعلاً بنعل(1) ، ومعنى هذا الشعر أنّ

__________________

(1) الغدير 6 / 275 ـ 276.

٢٩٤

هؤلاء الولاة قد اقترفوا جريمة السرقة ، وخانوا بيت مال المسلمين ولكن الحكم بمشاطرة أموالهم لا يلائم السنّة ، وإنما الواجب يقضي بتقديمهم إلى ساحة القضاء ، فإن ثبتت خيانتهم فلا بدّ من إقامة الحدّ عليهم ، ومصادرة الأموال التي اختلسوها ، ولا وجه لمشاطرتها ، كما يجب عزلهم عن وظائفهم وسلب الثقة منهم.

وعلى أيّ حال فإنه بالرغم من شدّة عمر ومراقبته لولاته فإن هناك كانت شكوى متصلة منهم ، فقد أرسل إليه بعضهم شكوى من الولاة ، وخاصة على القائمين بالخراج ، وقد أرسل شكواه ببيتين من الشعر وهما :

نؤوبُ إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فإنّي لهم وفرٌ ولسنا اُولي وفرِ

إذا التاجرُ الداريُ جاء بفارةٍ

من المسكِ راحت في مفارقهمْ تجري(1)

لقد لاحظ عليهم ثراءً حادثاً وترفاً لم يجده في غيرهم من عامة الناس ، ومن الطبيعي أنّ ذلك كان ناجماً من اختلاسهم الأموال التي لم تكن خاضعة في ذلك الوقت للحساب والتدقيق.

بقي هنا شيء يدعو إلى التساؤل : وهو أنّ عمر قد استعمل الشدّة والصرامة مع ولاته وعمّاله إلاّ معاوية بن أبي سفيان ، فإنه كان يحدب عليه ولم يفتح معه أيّ لون من ألوان التحقيق ، تتواتر إليه الأخبار أنه قد خان بيت المال وبالغ في السرف والبذخ فيعتذر عنه ، ويقول مشيداً به : تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية(2) .

وليس في هَدي الإسلام ـ والحمد لله ـ كسروية أو قيصرية ، ففي الحديث : «هلك كسرى ، ثمّ لا يكون كسرى بعده. وقيصر ليهلكنّ ثمّ

__________________

(1) فتوح البلدان / 384.

(2) تاريخ الطبري 6 / 114.

٢٩٥

لا يكون قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله».

لقد كان عمر يبالغ في تسديد معاوية ، ويقول الرواة : إنّ جماعة من الصحابة عرضوا عليه أنّ معاوية قد جافى السنّة بسيرته فهو يلبس الحرير والديباج ويستعمل أواني الذهب والفضة ولا يتحرّج في سلوكه عمّا خالف الشرع ، فأنكر عليهم واندفع يؤنّبهم قائلاً : دعونا من ذمّ فتى من قريش مَن يضحك في الغضب ، ولا ينال ما عنده من الرضا ، ولا يؤخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدمه(1) .

ويقول المؤرّخون : إنه ذهب إلى رفع شأنه وتسديده إلى أبعد من ذلك كلّه ؛ فقد نفخ فيه روح الطموح ، وهدّد به أعضاء الشورى الذين انتخبهم لتعيين مَن يلي الأمر بعده قائلاً لهم : إنكم إن تحاسدتم وتدابرتم وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان(2) .

ولمّا أمن معاوية من العقوبة ، وعرف أنه ملتزم من قِبَل الخليفة راح يعمل في الشام عمل مَن يريد الملك والسلطان.

اعتزال الإمام (عليه السّلام) :

ولم يختلف المؤرّخون في أنّ الإمام (عليه السّلام) قد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى شديد على ضياع حقّه ، وسلب تراثه ، فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه ، ومعاملته كشخص عادي غير حافلين بمواهبه ومواقفه ومكانته من النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فكان في معزل عنهم ، لا يشاركهم في أيّ أمر

__________________

(1) الاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة 3 / 377.

(2) نهج البلاغة 1 / 187 الطبعة الاُولى.

٢٩٦

من أمور الملك والسلطان ولا يشاركونه فيها ، وأعرض عنهم وأعرضوا عنه ، حتّى ألصق خدّه بالتراب كما يقول المؤرّخون يقول محمد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي عمّا دار بين علي وعثمان قال : إنّ علياً دحضه الأوّلان ـ يعني الشيخين ـ وأسقطاه ، وكسرا ناموسه بين الناس ، فصار نسياً منسياً(1) .

ويعزو الإمام (عليه السّلام) في حديث له مع عبد الله بن عمر إلى أبيه جميع ما لاقاه من النكبات التي منها تقدم عثمان عليه(2) .

وعلى أيّ حال ، فإن الإمام (عليه السّلام) قد اعتزل عن الناس في عهد عمر كما اعتزلهم في عهد أبي بكر ، فصار جليس بيته يساور الهموم ويسامر النجوم ، ويتوسّد الأرق ويفترش الأرق ، ويتجرّع الغصص ، قد كظم غيظه فلم يتصل بأحد إلاّ بخلص أصحابه الذين عرفوا واقعه ومكانته كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، والمقداد ، وقد عكف على جمع القرآن وكتابته والإمعان في آياته.

وأجمع المؤرّخون على أنّ عمر كان يرجع إليه في مهامّ المسائل التي يسأل عنها ، والإمام لم يضنِ عليه بالجواب ؛ إظهاراً لأحكام الله التي يجب على العلماء إذاعتها بين الناس ، وكان عمر يذيع فضل الإمام ، ويقول : لولا علي لهلك عمر.

والشيء المحقق أنّ عمر كان في أكثر المسائل الفقهية إذا سئل عنها لم يهتدِ لجوابها ، وإنما يفزع إلى الإمام (عليه السّلام) وإلى سائر الصحابة ، وقد اشتهرت كلمته : كل الناس أفقه من عمر حتّى ربّات الحجال. وقال :

__________________

(1) نهج البلاغة 9 / 28 طبع دار إحياء الكتب العربية.

(2) نهج البلاغة 9 / 54.

٢٩٧

كل الناس أفقه من عمر حتّى المخدّرات في البيوت. وقد دلّل المحقق الأميني على ذلك بما لا مزيد عليه(1) .

عمر والحسين (عليه السّلام) :

وانطوت نفس الإمام الحسين على حزن لاذع وأسى عميق على مَن احتلّ مقام أبيه ، فبعث ذلك في نفسه عنصراً من عناصر الاستياء والتذمّر ، وكان يشعر بالمرارة بكل وعي ، وهو في سنّه المبكّر ، ويقول المؤرّخون : إنّ عمر كان يخطب على المنبر ، فلم يشعر إلاّ والحسين قد صعد إليه ، وهو يهتف : «انزل انزل عن منبر أبي ، واذهب إلى منبر أبيك».

وبهت عمر ، واستولت الحيرة على إهابه ، وراح يصدّقه ويقول له : صدقت ، لم يكن لأبي منبر. وأخذه فأجلسه إلى جنبه ، وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً له : مَن علّمك؟

ـ «والله ما علّمني أحد»(2) .

شعور طافح بالألم انبعث عن عبقرية وإدراك واسع ، نظر إلى منبر جدّه الذي كان مصدر النور والوعي ، فرأى أنه لا يليق بأن يرقاه أحد من بعده غير أبيه رائد العلم والحكمة في الأرض.

ويقول المؤرّخون : إنّ عمر كان معنياً بالإمام الحسين (عليه السّلام) وطلب

__________________

(1) الغدير 6 / 83 ـ 333.

(2) الإصابة 1 / 332.

٢٩٨

منه أن يأتيه إذا عرض له أمر ، وقصده يوماً وهو خال بمعاوية ، ورأى ابنه عبد الله فطلب الإذن منه فلم يأذن له ، فرجع معه ، والتقى به عمر في الغد فقال له : ما منعك يا حسين أن تأتيني؟

ـ «إنّي جئت وأنت خال بمعاوية ، فراجعت مع ابن عمر».

ـ أنت أحق من ابن عمر ، فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثمّ أنتم(1) .

واقتضت سياسته أن يقابل سبطي الرسول (صلّى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السّلام) بمزيد من التكريم ، فقد جعل لهما نصيباً فيما يغنمه المسلمون ، ووردت إليه حلل من وشي اليمن ، فوزعها على المسلمين ونساهما ، فبعث إلى عامله على اليمن أن يرسل له حلّتين ، فأرسلهما إليه فكساهما ، وقد جعل عطاءهما مثل عطاء أبيهما ، وألحقهما بفريضة أهل بدر ، وكانت خمسة آلاف(2) .

ولم تظهر لنا أيّ بادرة عن الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد عمر سوى ما ذكرناه ، ويعود السبب في ذلك إلى انعزال الإمام أمير المؤمنين مع أبنائه عن جهاز الحكم ، وإيثارهم الانطواء عن القوم ، وعدم الاشتراك معهم في أيّ شأن من شؤون الدولة ، فقد أترعت نفوسهم بالأسى المرير والحزن العميق ، وقد أعلن الإمام أساه وأحزانه في كثير من المواقف ، ويقول المؤرّخون : إنّ عمر نزلت به نازلة فحار في التخلّص منها ، وعرض على أصحابه ذلك فقال لهم :

ـ ما تقولون في هذا الأمر؟

ـ أنت المفزع والمنزع.

__________________

(1) الإصابة 1 / 332.

(2) تاريخ ابن عساكر 4 / 321.

٢٩٩

فلم يرضِه ذلك ، وتلا قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (1) .

ثم قال لهم : أما والله ، إنّي وإيّاكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها.

ـ كأنّك أردت ابن أبي طالب.

ـ وأنّى يعدل بي عنه ، وهل طفحت حرّة مثله؟

ـ لو دعوت به يا أمير المؤمنين.

ـ إنّ هناك شمخاً من هاشم ، وأثرة من علم ، ولحمة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يؤتى ولا يأتي ، فامضوا بنا إليه.

وخفّوا جميعاً إليه فألفوه في حائط له وعليه تبان ، وهو يتركل على مسحاته ويقرأ :( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) إلى آخر السورة ، ودموعه تهمي على خدّيه ، فأجهش القوم بالبكاء ، ثمّ سكتوا ، فسأله عمر عمّا ألمّ به ، فأجابه عنه. فقال له عمر : أما والله ، لقد أرادك الحقّ ، ولكن أبى قومك.

ـ «يا أبا حفص ، خفض عليك من هنا ، ومن هنا». وقرأ قوله تعالى :( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ) .

وذهل عمر ، فوضع إحدى يديه على الاُخرى وخرج كأنّما ينظر في رماد(2) .

الحسين (عليه السّلام) وآل عمر :

ويقول بعض المؤرّخين : إنّ العلاقة بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وآل عمر

__________________

(1) سورة الأحزاب / 70.

(2) شرح نهج البلاغة 12 / 79 ـ 80.

٣٠٠