حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام8%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170005 / تحميل: 6213
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

كانت غير ودّية ؛ ويعود السبب في ذلك إلى أنّ عاصم بن عمر شرب الخمر فشهد عليه الحسين بذلك في مجلس القضاء أيّام عثمان فاُقيم عليه الحد ، وقد أوجبت هذه البادرة شيوع التباغض بين الاُسرتين(١) .

اغتيال عمر :

ولم نبسط القول في خلافة عمر ، ولم نلم بسيرته ولا بما أثر عنه من الأحداث ، خصوصا ما صدر عنه من الفتاوى التي كانت بعضها من الاجتهاد قبال النص كتحريم المتعة وغيرها ، لم نعرض لذلك فقد آثرنا الإيجاز في أمثال هذه البحوث ، وإنما عرضنا للأحداث المتقدّمة ؛ لأنها تصوّر الحياة الاجتماعية والفكرية التي عاشها الإمام الحسين (عليه السّلام) في ذلك العصر ، كما تلقي الأضواء على حياته.

وعلى أيّ حال ، فإن الذي يهمّنا أن نعرض إلى اغتيال عمر وما رافقه من الأحداث الخطير ة ، فقد عزا بعض الكتّاب من المحدّثين إلى أنّ اغتياله كان وليد مؤامرة حاكها الاُمويّون للتخلّص من حكمه ، وفرض سلطانهم على المسلمين(٢) ، وقد أيّدوا ذلك بأنّ أبا لؤلؤة الذي اغتاله كان مولى للمغيرة بن شعبة ، وصلة المغيرة بالاُمويِّين كانت وثيقة للغاية.

وفيما أحسب أنّ هذا الرأي لا يحمل أيّ طابع من التحقيق ؛ لأنّ علاقة عمر كانت مع الاُمويِّين طبيعية وقوية ، فلم تقع بينهما أيّة منافسة أو كراهية ، وكان عمر شديد الميل لهم ؛ فقد استعمل أعلامهم ولاة على الأقطار والأقاليم الإسلاميّة

__________________

(١) المنمق في أخبار قريش / ٤٩٩.

(٢) من أنصار هذا الرأي الاُستاذ العلائلي ، وقد نصّ عليه في سموّ المعنى في سموّ الذات / ٣١ ، الطبعة الثانية.

٣٠١

أمثال يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن أبي العاص ، ومعاوية ، ولم يشاطر أيّ واحد منهم أمواله كما شاطر بقية عماله ، بل كان معنياً حتّى بشؤون نسائهم ، فقد أقرض هند بنت عتبة أمّ معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتجر فيها(١) ، فلم يعمل عمر أيّ عمل يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، فكيف إذاً يقومون بتدبير المؤامرة لاغتياله؟

وعلى أيّ حال ، فمن المقطوع به أنّ أبا لؤلؤة إنما قام بوحي نفسه لا بدافع أموي لاغتيال عمر ؛ أمّا بواعث ذلك ـ فيما نحسب ـ فهي أنه كان شابّاً متحمّساً لاُمّته ووطنه ، فقد رأى بلاده قد فتحت عنوة فذهب مجد قومه وانطوى عزّهم ، ورأى أنّ عمر قد بالغ في احتقار الفرس والاستهانة بهم ، فقد تمنّى أن يحول بينه وبين الفرس جبل من حديد ، وقد حضر عليهم دخول يثرب إلاّ مَن كان سنّه دون البلوغ(٢) ، وأصدر فتواه بعدم إرثهم إلاّ مَن ولد منهم في بلاد العرب(٣) ، كما كان يعبّر عنهم بالعلوج(٤) .

ثمّ هو بالذات قد خفّ إلى عمر يشكو إليه مما ألمّ به من ضيق وجهد من جرّاء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج ، فزجره عمر ولم يعن به ، وقال له : ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها.

وقد أوجدت هذه الاُمور في نفسه حنقاً وحقداً على عمر فأضمر له الشر ، وقد اجتاز عليه فسخر منه ، وقال له : بلغني أنّك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت. ولذعته هذه السخرية ، فاندفع يقول :

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

(٣) الموطأ ٢ / ١٢.

(٤) شرح نهج البلاغة.

٣٠٢

لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(١) ؛ فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(٢) ، وهي التي قضت عليه ، ثمّ انحاز إلى أهل المسجد فطعن من يليه حتّى طعن أحد عشر رجلاً سوى عمر ، ثمّ عمد إلى نفسه فانتحر(٣) .

وحُمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً ، وقال لمَن كان حوله : مَن طعنني؟

ـ غلام المغيرة.

ـ ألم أقل لكم لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً ، فغلبتموني(٤) .

وأحضر له أهله طبيباً فقال له : أيّ الشراب أحبّ إليك؟

ـ النبيذ. فسقوه منه فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديداً. ثمّ سقوه لبناً ، فخرج من بعض طعناته فيئس منه الطبيب ، وقال له : لا أرى أن تمسي(٥) . ولمّا أيقن بدنو الأجل المحتوم منه أوصى ولده عبد الله فقال له : انظر ما عليّ من دين فاحصوه. فإذا به ستة وثمانون ألفاً ، فقال :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٢.

(٢) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٧.

(٥) الإمامة والسياسة ١ / ٢١ ، الاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٢ / ٤٦١.

٣٠٣

إن وفى به مال آل عمر فأدّه من أموالهم ، وإلاّ فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تفِ به أموالهم فسل في قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم(١) .

ونحن إذا تأمّلنا في هذه الوصية ، نجد فيها عدّة أمور تدعو إلى التساؤل وهي :

١ ـ إنّ هذه الأموال الضخمة التي استدانها من بيت المال لم ينفقها إلاّ في شؤونه الخاصة ، ولو كان قد أنفقها على شؤون المسلمين لَما كان هناك أيّ مجال لاسترجاعها من آل الخطّاب ، وهذا ـ من دون شك ـ لا يتفق مع ما نقله الرواة عن سيرته من أنه كان متحرّجاً أشدّ التحرّج وأقساه في أموال الدولة ، وأنه لم يكن ينفق منها أي شيء على شؤونه الخاصة.

٢ ـ إنه عهد إلى ابنه عبد الله أن يستوفي هذه الديون من آله ، فإن وفت أموالهم بها فهو وإلاّ فيسأل أسرته عن وفائها ، وهذا يكشف أنه قد منحها لهم وإلاّ فما هو المبرّر لاستيفائها منهم؟ إذ لا سلطان له على مال الغير وإن كان قريباً منه ، وفيما نحسب أنّ هذه الأموال قد وهبها لهم ، وهو يتصادم مع ما نقل عنه من أنه كان يشتدّ على أهله حتّى يرهقهم من أمرهم عسراً ، وأنه قد أخذهم بضروب من الشدّة والعنف ، وساوى بينهم وبين بقية المسلمين في العطاء.

٣ ـ إنّ وصيّته لولده عبد الله أن يسأل من قريش خاصة بتسديد ما عليه من ديون إذا لم تف أموال اُسرته بها ، يكشف عن مدى صلته العميقة وارتباطه الوثيق بهم ، وقد كان فيما يقول المؤرّخون : الممثّل الوحيد للفئات القرشية ، وأنه كان يعكس في تصرّفاته جميع رغباتها وميولها.

هذه بعض الملاحظات التي تواجه هذه الوصية ، ولم ينص المؤرّخون

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٨٨.

٣٠٤

على أنّ عبد الله قام بتسديد ما على أبيه من ديون لبيت المال ، فقد أهملوا هذه الجهة ولم يعرضوا لها.

وعلى أيّ حال فإنّ عبد الله لمّا أيقن بموت أبيه طلب منه أن يعيّن أحداً لمركز الخلافة ، ولا يهمل شؤون الاُمّة ، قال له : يا أبة ، استخلف على اُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) فإنه لو جاء راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها ، وقلت له : كيف تركت أمانتك ضائعة ، فكيف باُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله)؟ فاستخلف عليهم.

فنظر إليه نظرة ريبة وشك ، واندفع يجيبه : إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول الله (ص)(١) .

أمّا حديث عبد الله فقد كان حافلاً بالوعي والمنطق ؛ فإنه ليس من الحكمة في شيء أن يهمل الرئيس شؤون رعيته من دون أن يعيّن لها القائد من بعده الذي يعني بأمورها السياسية والاجتماعية ، فإن إهماله لهذه الجهة الخطيرة يعرّضها للأزمات ، ويلقيها في شرٍّ عظيم ، وقد زعم عمر أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يعن بالقيادة الروحية والزمنية من بعده ، ولم يعهد بأمره لأحد ، ولعلّ الوجع قد غلب عليه فأذهله ، وأنساه قيام النبي (صلّى الله عليه وآله) بنصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفة من بعده يوم (غدير خم) وإلزامه للمسلمين بمبايعته ، وكان عمر بالذات ممّن بايعه ، وقال له : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وعلى أيّ حال فإن عمر قد فتكت به جراحاته ، وأخذ منه الألم القاسي مأخذاً عظيماً ، وقد جزع جزعاً شديداً ، وأخذ يقول :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٧.

٣٠٥

لو أنّ لي ما في الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه(١) .

وقال لولده عبد الله : ضع خدّي على الأرض ، فلم يعن به وظنّ أنه قد اختلس عقله ، فأمره ثانياً بذلك فلم يجبه ، وفي المرّة الثالثة صاح به : ضع خدّي على الأرض لا اُمّ لك!

وبادر عبد الله فوضع خدّ أبيه على الأرض فأخذ يجهش بالبكاء ، وهو يقول بنبرات متقطعة : يا ويل عمر! وويل اُمّ عمر إن لم يتجاوز الله عنه(٢) ! وطلب عمر من ابنه أن يستأذن من عائشة ليدفنه مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر ، فسمحت له بذلك(٣) .

وعلّقت الشيعة على ذلك كما علّقت على دفن أبي بكر فقالت : إنّ ما تركه النبي (صلّى الله عليه وآله) إن كان لا يرثه أهله ، وإنما هو لولي الأمر من بعده ـ حسب ما يرويه أبو بكر ـ فلا موضوعية للإذن من عائشة ، وإن كان يرجع إلى ورثته ـ كما يقول به أهل البيت (عليهم السّلام) ـ فليس لعائشة فيه أيّ نصيب ؛ لأنّ الزوجة لا ترث من الأرض حسبما قرّره فقهاء المسلمين ، ولا بدّ له من الإذن من ورثة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولم يتحقق ذلك.

الشورى :

نحن أمام كارثة مذهلة ومفزعة امتُحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩٠.

٣٠٦

وأخلدت لهم الفتن والمصاعب ، وجرّت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرٍّ عظيم ، تلك هي قصة الشورى التي حكت عن تآمر مفضوح في إقصاء الإمام أمير المؤمنين عن ساحة الحكم ، وتسليمه إلى بني اُميّة ؛ إرضاءً للعواطف القرشية المترعة بالحقد والكراهية للإمام.

ونحن ـ يعلم الله ـ لم نكن نقصد بهذه البحوث إلاّ دراسة الأحداث التي عاشها الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وهي ـ فيما نعتقد ـ مصدر الفتنة الكبرى التي أدّت إلى مجزرة كربلاء الرهيبة ، وغيرها من الأحداث التي غيّرت منهج الحياة الكريمة في الإسلام.

وعلى أيّ حال فإن عمر لمّا يئس من حياته ، وأيقن بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يمعن النظر ويطيل التفكير في مَن يتولّى شؤون الحكم من بعده ، وقد تذكّر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الأمر لأبي بكر ، فرأى أنهم قد اقتطفتهم المنيّة فراح يصعّد آهاته وحسراته ، ويبدي أساه عليهم قائلاً : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنه أمين هذه الاُمّة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنه شديد الحب لله تعالى.

ولماذا لم يستعرض عمر الأحياء من الذين ساهموا في بناء الإسلام ؛ كسيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، والصفوة الطيّبة من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وغيرهم من الأنصار ليرشّحهم لهذا المنصب الخطير؟!

لقد انطلق يفتّش في قائمة الأموات ، فتمنّى حياة أبي عبيدة ، وسالم ليقلّدهما رئاسة الدولة ، مع العلم أنّه لم تكن لهما أيّة سابقة من الجهاد والخدمة في سبيل الإسلام.

وطلب منه القوم أن يعيّن أحداً من بعده ليتولّى شؤون المسلمين ، فأبى وقال :

٣٠٧

أكره أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً.

ولكنه لم يلبث أن نقض رأيه ، فانتخب أعضاء الشورى السّتة ، وفوّض إليهم أمر الاُمّة ، كما فرض رأيهم على جميع المسلمين ، وبذلك فقد تحمّل الخلافة حيّاً وميّتاً. يقول ابن أبي الحديد : وأي شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا؟! وأيّ فرق بين أن يتحمّلها بأن ينصّ على واحد بعينه ، وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب(١) ؟!

عمر مع أعضاء الشورى :

ودعا عمر أعضاء الشورى الذين انتخبهم وزكّاهم ، وزعم أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال فيهم : إنّهم من أهل الجنّة(٢) . إلاّ أنّه لمّا اجتمعوا عنده وجّه إليهم أعنف النقد وأقساه ، وطعن في كل واحد منهم طعناً لاذعاً ، ورماهم بالنزعات الشريرة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الإمامة والخلافة ، وقد روى المؤرّخون حديثه بصور مختلفة ، وفيما يلي بعضها :

١ ـ إنه لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كل واحد منهم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة أمّا أنت يا طلحة ، أفلست القائل : إن قبض النبي (صلّى الله عليه وآله) أنكح أزواجه من بعده؟ فما جعل الله محمداً أحقّ ببنات أعمامنا منّا ، فأنزل الله فيك :( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (٣) .

وأمّا أنت يا زبير ، فوالله ما لانَ قلبك ولا ليلة ، وما زلت جلفاً

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٦٠.

(٢) الكامل لابن الأثير ٣ / ٣٥.

(٣) سورة الأحزاب / ٥٣.

٣٠٨

جافياً ؛ وأمّا أنت يا عثمان ، فوالله لروثة خير منك ؛ وأمّا أنت يا عبد الرحمان ، فإنك رجل عاجز تحبّ قومك جميعاً ؛ وأمّا أنت يا سعد ، فصاحب عصبية وفتنة ؛ وأمّا أنت يا علي ، فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم. وقام علي مولياً ، فالتفت عمر إلى حضّار مجلسه فقال : والله ، إنّي لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء؟

ـ مَن هو؟

ـ هذا المولي من بينكم.

ـ ما يمنعك من ذلك؟!

ـ ليس إلى ذلك من سبيل(١) .

وقد خدش في كل واحد منهم ، سوى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنه أبدى إكباره له ، واعترف بقابلياته وصلاحيته للحكم ، وأنه لو ولي اُمور المسلمين لحملهم على المحجّة البيضاء والطريق الواضح ، إلاّ أنه لا يجد سبيلاً إلى ذلك.

٢ ـ يقول المؤرّخون : إنه لمّا التقى بأعضاء الشورى قالوا له : قل فينا يا أمير المؤمنين مقالة نستدلّ فيها برأيك ، ونقتدي به. فقال : والله ، ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنك رجل حرب ، وما يمنعني منك يا عبد الرحمان إلاّ أنك فرعون هذه الاُمّة ، وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنك مؤمن الرضى ، كافر الغضب ، وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته. وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك ، وما يمنعني منك يا علي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٥٩.

٣٠٩

إلاّ حرصك عليها ، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم(١) .

وقد وصم أعضاء الشورى بمساوئ الصفات ، فوصف عبد الرحمان بن عوف بأنه فرعون هذه الاُمّة ، ومن الغريب حقّاً أنه لم يلبث أن فوّض إليه شؤون الانتخاب ، وجعل قوله منطق الفصل وفصل الخطاب كما اتّهم الإمام بالحرص على الخلافة ، إلاّ أنّ سيرة الإمام المشرقة تدلّ على عكس ذلك ، فإنه (عليه السّلام) لم يكن من عشّاق السلطة ولا من طلاّب الملك ، وأنه إنما نازع الخلفاء وأقام عليهم الحجّة بأنه أولى بالأمر منهم ، لا ليتخذ من الحكم وسيلة للتمتّع بخيرات البلاد ـ كما اتّخذه بعضهم ـ ولا من أجل التمتّع بالرغبات النفسية التي تتطلّب السلطان وتتهالك عليه لبسط نفوذها واستعلائها على الناس ؛ إنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكن بأيّ حال ينشد مثل هذه الأهداف الرخيصة ، وإنما كان يبغي الحكم لنشر العدل ، وإقامة الحق ، وتطبيق شريعة الله على واقع الحياة ، من أجل هذه الغايات النبيلة كان (عليه السّلام) حريصاً على الخلافة ، وقد أدلى بذلك بقوله : «اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، وتقام المعطلة من حدودك ، ويأمن المظلومون من عبادك».

وأعرب (عليه السّلام) في حديث له مع ابن عباس بذي قار عن مدى زهده بالسلطة. واحتقاره للحكم ، فقد كان (عليه السّلام) يخصف بيده نعلاً له فالتفت إلى ابن عباس :

«يابن عباس ، ما قيمة هذا النعل؟».

ـ يا أمير المؤمنين ، لا قيمة له.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٤.

٣١٠

ـ «إنه خير من خلافتكم هذه إلاّ أن اُقيم حقّاً وأدفع باطلاً».

إنّه إنما كان حريصاً على الخلافة من أجل إقامة المثُل العليا ، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير الوعي الاجتماعي ، وازدهار الحياة العامة.

٣ ـ وفي رواية ثالثة أنّ عمر دعا أعضاء الشورى فلمّا مثلوا عنده قال لهم : أكلّكم يطمع بالخلافة بعدي؟

ووجموا عن الكلام ، فأعاد القول عليهم ثانياً ، فانبرى إليه الزبير رادّاً عليه مقالته : وما الذي يبعدنا منها؟! وليتها أنت فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

ولم يسعه الرد عليه ، وقال لهم : أفلا اُخبركم عن أنفسكم؟

ـ قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا.

وأخذ يدلي عليهم اتجاهاتهم وميولهم ويحدّثهم عن نفسيّاتهم ، فاتجه صوب الزبير فقال له : أمّا أنت يا زبير ، فوعق لقس(١) ، مؤمن الرضى كافر الغضب ، يوماً إنسان ويوماً شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير. أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعري مَن يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومَن يكون يوم تغضب؟! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الاُمّة وأنت على هذه الصفة.

إنّ الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيته مبتلى بآهات خطيرة ، وهي :

__________________

(١) الوعق : الضجر المتبرّم. اللقس : مَن لا يستقيم على وجه.

٣١١

١ ـ الضجر والتبرم.

٢ ـ عدم الاستقامة في سلوكه.

٣ ـ الغضب الهائل الذي يفقده الرشد والتوازن.

٤ ـ الحرص والبخل ، وهما يجرّانه إلى ملاطمة الناس على مدّ من شعير.

وهذه النزعات من مساوئ الصفات ، ومَن اتّصف ببعضها لا يصلح لأن يتولّى أي منصب حساس في جهاز الدولة ، فضلاً عن أن يكون خليفةً وإماماً للمسلمين.

وأقبل على طلحة فقال له : أقول أم أسكت؟

فزجره طلحة ، وقال له : إنّك لا تقول من الخير شيئاً.

أما أنّي أعرفك منذ اُصيبت إصبعك يوم اُحد وائياً(١) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم اُنزلت آية الحجاب.

وإذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساخطاً على طلحة كيف يرشّحه خليفةً وإماماً للمسلمين؟ كما أنّ هذا يناقض ما قاله : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عن أعضاء الشورى؟!

وعلّق الجاحظ على هذا بقوله : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنّه مات (عليه السّلام) ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها؟ لكان قد رماه بمشاقصه(٢) ، ولكن مَن

__________________

(١) وائياً : غاضباً.

(٢) المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم.

٣١٢

الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا؟!

واتّجه صوب سعد بن أبي وقاص فقال له : إنّما أنت صاحب مقنب(١) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وسهم ، وما زهرة والخلافة واُمور الناس؟!

إنّ سعد رجل عسكري لا يفقه إلاّ عمليات الحروب ، ولا خبرة له بالشؤون الإدارية والاجتماعية للاُمّة ، فكيف يرشّحه للخلافة؟ كما طعن في صلاحية قبيلة سعد لتولّي شؤون الحكم.

وأقبل على عبد الرحمان بن عوف فقال له : أمّا أنت يا عبد الرحمان فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك عليهم ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمَن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر؟!

وعبد الرحمان ـ حسب رأي عمر ـ رجل إيمان وتقوى ، ولا نعلم أين كان إيمانه حينما عدل عن انتخاب سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسلّم أمور المسلمين بأيدي الاُمويِّين ، فاتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، ثمّ إنه لم تكن له شخصية قوية ، ولا عزم ثابت ، ولا إرادة صلبة ـ حسب اعتراف عمر ـ فكيف يرشّحه للخلافة؟! كيف يجعل قوله منطق الفصل في تعيين مَن يشاء لشؤون الاُمّة؟!

والتفت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال له : لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء.

متى كانت للإمام الدعابة وهو الذي ما ألف في حياته إلاّ الجدّ والحزم في القول والعمل؟! ثمّ إنّ مَن يتّصف بهذه النزعة كيف يتمكن أن يحمل

__________________

(١) المقنب : جماعة الخيل.

٣١٣

المسلمين على الحق الواضح والمحجّة البيضاء ـ كما يقول عمر ـ؟! إنّ هذه السياسة تتنافى مع الدعابة الناشئة عن ضعف الشخصية وخورها.

وأكّد عمر أنّ الإمام لو ولي أمور المسلمين لسار فيهم بالحق ، وحملهم على الصراط المستقيم ، فكيف يجعله من أعضاء الشورى ولا ينص عليه بالخصوص؟ وهل من الحيطة على الاُمّة أن يفوّت عليها الفرصة ، ولا يسلّم أمرها بيد مَن يسير فيها بسيرة قوامها العدل الخالص والحق المحض؟!

وأقبل على عثمان عميد الاُسرة الاُموية التي ناهضت الإسلام فقال له : هيهاً إليك! كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك ، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب المسلمين ، وآثرتهم بالفيء ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثمّ أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي(١) .

ونحن إذا تأمّلنا قليلاً في قوله لعثمان : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك. نجده قد قلّد عثمان بالخلافة ، فإن نظام الشورى الذي وضعه كان حتماً يؤدّي إلى فوزه بالسلطة ، فقد جعله أحد أعضاء الشورى وكان أكثرهم ممّن له اتصال وثيق باُسرة عثمان ، وهم لا يعدلون عن انتخابه ولا يقدّمون غيره عليه.

وفي الحقيقة أنه هو الذي قلّده الخلافة ، وفوّض إليه أمور المسلمين ، ثمّ إنه مع دراسة لنفسيته ووقوفه على حبّه الشديد لاُسرته كيف يرشحه للخلافة ، وهو بالذات يعلم خطر بني اُميّة على الإسلام؟! وقد أعلن ذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة يقول له : يا مغيرة ، هل أبصرت بعينك العوراء؟

ـ لا.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ١ / ١٨٥ ـ ١٨٦ الطبعة الاُولى.

٣١٤

ـ أما والله ، ليعورن بنو اُميّة الإسلام كما أعورت عينك هذه ، ثمّ ليعمينه حتّى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء(١) .

فكان الأجدر به وهو على عتبة الموت ، أن يجنّب الاُمّة خطر الاُمويِّين ، ولا يجعل لهم أيّ نصيب في الحكم.

هذه بعض الروايات التي أثرت عنه في حديثه مع أعضاء الشورى.

نظام الشورى :

لا أكاد أعرف نظاماً أوهى من نظام الشورى الذى وضعه عمر ، فليس فيه أيّ توازن أو أصالة ، فقد شذّ عن حقيقة الشورى التي يجب أن تمثّل رأي الاُمّة ، وتشترك القطاعات الشعبية في الانتخاب ، فقد فوّض في هذه الشورى الرأي إلى جماعة لا يمثّلون إلاّ آراءهم الخاصة.

لقد دعا عمر مَن رشّحهم فقال لهم : احضروا معكم من شيوخ الأنصار وليس لهم من أمركم شيء ، واحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس ، فإن لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء(٢) .

لقد أقصى الأنصار ولم يجعل لهم أيّ نصيب في الانتخاب والاختيار ، وإنما جعل لهم الإشراف المجرّد الذي يعني حرمانهم والاستهانة بهم ، فإن الأمر إنما هو أمر أعضاء الشورى ولا يخصّ غيرهم ثمّ إنّا لم نعلم ما هي البركة التي تحصل لأعضاء الشورى بحضور الإمام الحسن وعبد الله بن عباس ، وهما لا يملكان من الأمر شيئاً؟

__________________

(١) نهج البلاغة ١٢ / ٨٢.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٤.

٣١٥

والتفت إلى أبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى فقال له : يا أبا طلحة ، إنّ الله أعزّ الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار ، فألزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله.

واتّجه نحو المقداد بن الأسود فعهد إليه بمثل ذلك ، وقال له : إذا اتّفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وإن اتّفق ثلاثة منهم على رجل ورضي ثلاثة منهم رجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.

إنذاره للصحابة :

وأنذر عمر الصحابة وهدّدهم بمعاوية وعمرو بن العاص إذا لم تتفق كلمتهم وتنازعوا على الحكم والسلطان ، فقد قال لهم : يا أصحاب محمد ، تناصحوا ؛ فإن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.

وعلّق شيخ الإمامية الشيخ المفيد على هذا الكلام بقوله : إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وأطماعهما فيها ؛ لأن معاوية كان عامله وأميره على الشام ، وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر ، وخاف أن يضعف عثمان أن تصير إلى علي فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما وهما بمصر والشام ، فيتغلّبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي(١) .

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٩.

٣١٦

موقف الإمام (عليه السّلام) :

والتاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وحزن أشدّ الحزن وأقساه ، وعرف أنّ الشورى إنما هي مؤامرة ومكيدة دبّرت لصرف الأمر عنه ، فقد التقى بعمّه العباس فبادره قائلاً : «يا عم ، لقد عدلت عنّا».

ـ مَن أعلمك بذلك؟

ـ «لقد قرن بي عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، ثمّ قال : كونوا مع عبد الرحمان ؛ وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمان ، وعبد الرحمان صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون ؛ فإما أن يوليها عبد الرحمان عثمان ، أو يوليها عثمان عبد الرحمان»(١) .

وصدق تفرّس الإمام ، فقد ولاّها عبد الرحمان لعثمان ؛ إيثاراً لمصالحه ، وابتغاء رجوعها إليه من بعده.

لقد كانت الشورى باُسلوبها الهزيل مؤامرة مفضوحة لا سِتار عليها ، قد دبّرت ضد وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه ، يقول الإمام كاشف الغطاء رحمه الله : الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية ، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغماً عليهم ، ولكن بتدبير بارع عاد على الإسلام والمسلمين بشرٍّ ما له دافع.

وكوى هذا التآمر قلب الإمام ، وأثارت الأحقاد القرشية أحزانه ، فراح يتحدّث عنها بعد سنين ، يقول (عليه السّلام) :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ / ٣٥.

٣١٧

«حتّى إذا مضى ـ يعني عمر ـ لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر؟!».

أجل والله يا أمير المؤمنين ، إنه متى اعترض الريب لأحد في أنك أفضل المسلمين ، وأعظمهم جهاداً ، وأقدمهم سابقة للإسلام ، ولكن اُفٍ للزمان ، وتعساً للدهر الذي قرنك بأمثال هؤلاء الذين حرموا الاُمّة من التمتّع بعدلك ومواهبك.

استجابة الإمام (عليه السّلام) :

بقي هنا شيء يدعو للتساؤل وهو أنّ الإمام لماذا استجاب لأن يكون من أعضاء الشورى مع وجود المفارقات الواضحة بينه وبينهم؟ وقد أجاب (عليه السلام) عن ذلك : بأنه أراد أن يظهر تناقض عمر ، فقد أعلن غير مرّة أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد ، فلماذا إذاً جعله من أعضاء الشورى المرشّحين للخلافة؟!

آفات الشورى :

وأجمع المحققون من القدامى والمحدّثين على نقد هذه الشورى وتزييف نظامها ، وذكروا لها كثيراً من المضاعفات السيّئة التي عادت على المسلمين بالفتن والخلاف ، وخلقت لهم المصاعب والمشاكل ، وقد دلّلنا عليها في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام» ، ولكن ضرورة البحث تقتضي ذكرها ، وهي :

٣١٨

أوّلاً : إنّ هذا النظام بعيد عن واقع الشورى ، وقد خلى من جميع العناصر التي تتميّز بها ؛ فإنه لا بد أن تتوفر فيها ما يلي :

أ ـ أن تشترك الاُمّة بجميع قطاعاته في الانتخاب.

ب ـ أن لا تتدخّل الحكومة أيّ تدخّل مباشر أو غير مباشر في شؤون الانتخاب.

ج ـ أن تتوفر الحريات العامة لجميع الناخبين.

وفقدت الشورى العمرية هذه العناصر ، ولم يعد لها أيّ وجود فيها ، فقد حَظَر الاُمّة أن تشترك في الانتخاب ، ولم تمنح لها الحريّة في اختيار مَن ترغب فيه للحكم ، وإنما فوّض أمرها إلى ستّة أشخاص ، وجعل آراءهم تعادل آراء بقية الشعوب الإسلاميّة. وهذا لون من ألوان التزكية تفرضه بعض الحكومات التي لا تعني بإرادة شعوبها ، على أنه أوعز إلى البوليس بالتدخّل في الأمر ، وعهد إليهم بقتل مَن لا يوافق من أعضاء الشورى على مَن ينتخبه بقية الأعضاء ، كما عهد إليهم بتحديد مدّة الانتخاب في ثلاثة أيّام ، وقد ضيّق الوقت على الناخبين خوفاً من تدخّل القطعات الشعبية في الأمر فيفوت غرضه.

ثانياً : إنّ هذه الشورى ضمّت العناصر المعادية للإمام والحاقدة عليه ، ففيها طلحة التميمي ، وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الإمام على الخلافة ودفعه عنها ، وفيها عبد الرحمان بن عوف وهو صهر عثمان ، ومن أكثر المهاجرين حقداً على الإمام ، فهو ـ كما يقول المؤرّخون ـ كان من الذين استعان بهم أبو بكر لإرغام الإمام على مبايعته.

وضمّت الشورى سعد بن أبي وقاص وكانت نفسه مترعة بالحقد والكراهية للإمام من أجل أخواله الاُمويِّين ؛ فإنّ اُمّه حمنة بنت سفيان بن اُميّة ، وقد أباد الإمام أعلامهم وصناديدهم في سبيل الدعوة الإسلاميّة ، ولمّا بايع المسلمون الإمام تخلّف

٣١٩

عن بيعته سعد. ومن أعضاء الشورى عثمان بن عفان عميد الاُسرة الاُموية ، وقد اختار عمر ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ هذه العناصر المنافسة للإمام والحاقدة عليه ؛ حتّى لا يؤول الأمر إليه.

وقد تحدّث الإمام (عليه السّلام) عن المؤثّرات التي لعبت دورها في ميدان الانتخاب قال (عليه السّلام) : «لكنّي أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن».

وعلى أيّ حال ، فإن هذه الشورى لم يكن المقصود منها ـ فيما يقول المحققون ـ إلاّ إقصاء الإمام عن الحكم ، ومنحه للاُمويِّين.

يقول العلائلي : إنّ تعيين الترشيح في ستة مهّد السّبيل لدى الاُمويِّين لاستغلال الموقف ، وتشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين ، وقد وصل إلى هذه النتيجة السّيد مير علي الهندي [حيث] قال : إنّ حرص عمر على مصلحة المسلمين دفعه إلى اختيار هؤلاء السّتة من خيرة أهل المدينة ، دون أن يتبع سياسة سلفه وكان للاُمويِّين حزب قوي في المدينة ، ومن هنا مهّد اختياره السّبيل لمكائد الاُمويِّين ودسائسهم ، هؤلاء الذين ناصبوا الإسلام العداء ، ثمّ دخلوا فيه وسيلة لسدّ مطامعهم ، وتشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين(١) .

ثالثاً : لقد عمد عمر في هذه الشورى إلى إبعاد الأنصار فلم يجعل لهم أيّ نصيب فيها ، وهم الذين آووا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروا الإسلام في أيّام محنته وغربته ، وقد أوصى بهم النبي (صلّى الله عليه وآله) خيراً ، كما أنه لم يجعل نصيباً فيها لعمار وأبي ذر ، وأمثالهما من أعلام الإسلام ، وأكبر الظن أنه إنما أبعدهم لأنّ لهم هوى وميلاً للإمام (عليه السّلام) ، ولا ينتخبون غيره ، ولا يرضون سواه ، ولهذه الجهة أقصاهم ، وقصر أعضاء الشورى على العناصر المعادية له.

__________________

(١) الإمام الحسين (عليه السّلام) ١ / ٢٦٧.

٣٢٠

رابعاً : من غريب أمر هذه الشورى أنّ عمر قد شهد في حقّ أعضائها أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) مات وهو عنهم راضٍ ، أو أنه شهد لهم بالجنّة ، وقد عهد إلى الشرطة بضرب أعناقهم إن تأخّروا عن انتخاب أحدهم ـ حسب ما ذكرناه ـ. ويقول الناقدون لهذه الشورى : إنّ التخلّف عن الانتخاب لم يكن خروجاً عن الدين ، ولا مروقاً عن الإسلام حتّى تباح دماؤهم؟!

فلم يتفق هذا الحكم مع ما أثر عن الإسلام في حرمة إراقة الدماء ، ووجوب التحرّج فيها إلاّ في مواضع مخصوصة ذكرها الفقهاء ، وهذا ليس منها.

بقي هنا شيء آخر لا يقل غرابة عن ذلك التناقض ، وهو أنّ عمر إنما قصر أعضاء الشورى على السّتة بحجّة أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو عنهم راضٍ ، وهذه الحجّة لا تصلح دليلاً على التعيين ؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عن كثير من صحابته ، فتقديم السّتة عليهم غنما هو من باب الترجيح بلا مرجح ، وهو مما يتّسم بالقبح كما يقول علماء الاُصول.

خامساً : إنّ مما يؤخذ على هذه الشورى أنّ عمر جعل الترجيح للجبهة التي تضمّ عبد الرحمان بن عوف ، وقدّمها على الجبهة التي تضمّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وهو تحيّز ظاهر للقوى القرشية الحاقدة على الإمام والباغية عليه ، كما أنّا لا نعلم أنّ هناك أيّ مأثرة يمتاز بها ابن عوف يستحقّ بها هذه الإشادة والتكريم! أليس هو وإخوانه من المهاجرين كطلحة والزبير وغيرهم قد استأثروا بأموال المسلمين وفيئهم حتّى ملكوا من الثراء العريض ما لا يحصى ، وتحيّروا في صرفه وإنفاقه؟ وقد ترك ابن عوف ـ فيما يقول المؤرّخون ـ من الذهب ما يُكسر بالفؤوس لكثرته ، أمثْل هذا يُقدّم على الإمام (عليه السّلام) وهو صاحب المواهب والعبقريات الذي لا ندّ له

٣٢١

في علمه وتقواه وتحرّجه في الدين ، والله تعالى يقول في كتابه :( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ؟!

سادساً : إنّ هذه الشورى أوجدت التنافس بين أعضائها ؛ فإنّ كل واحد منهم قد رأى نفسه ندّاً للآخر وكفوأً له ، ولم يكونوا قبل ذلك على هذا الرأي ، فقد كان سعد خاضعاً لعبد الرحمان ، وعبد الرحمان تابع لعثمان ومن خلص أصحابه ومناصريه ، وبعد الشورى حدث بينهما انشقاق غريب ، فكان عبد الرحمان يؤلّب على عثمان ، ويدعو علياً ليحمل كل منهما سيفه ليناجزه.

وقد عهد إلى أوليائه بعد موته أن لا يصلّي عليه عثمان ، وكذلك كان الزبير شيعة للإمام ، وقد وقف إلى جانبه يوم السقيفة ، وتحمّل في سبيله ضروباً شاقّة وعسيرة من الجهد والعناء ، وقد قال في عهد عمر : والله ، لو مات عمر بايعت علياً.

ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح فرأى نفسه ندّاً للإمام ففارقه وخرج عليه يوم الجمل ، وهكذا أوجدت الشورى روح التخاصم والعداء بين أعضائها ، فقد رأى كل واحد منهم أنه أولى بالأمر وأحقّ به من غيره ، وقد أدّى التخاصم والنزاع الذي وقع بينهم إلى تصديع كلمة المسلمين وتشتيت شملهم ، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان في حديث مع أبي الحصين الذي أوفده زياد لمقابلته ، فقد قال له معاوية : بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً ، فأخبرني عن شيء أسألك عنه؟

ـ سلني عمّا بدا لك.

ـ أخبرني ، ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بينهم؟

ـ قتل الناس عثمان.

ـ ما صنعت شيئاً.

ـ مسير علي إليك وقتاله إيّاك.

٣٢٢

ـ ما صنعت شيئاً.

ـ مسير طلحة والزبير وعائشة ، وقتال علي إيّاهم.

ـ ما صنعت شيئاً.

ـ ما عندي غير هذا.

ـ أنا اُخبرك أنه لم يشتّت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر ، وذلك أنّ الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فعمل بما أمره الله به ثمّ قبضه الله إليه ، وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأمر دينهم ، فعمل بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسار بسيرته حتّى قبضه الله ، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ، ثمّ جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه وتطلّعت إلى ذلك نفسه ، ولو أنّ عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف(1) .

إنّ من المظاهر الأوّلية لهذه الشورى إشاعة الأطماع والأهواء السياسية بشكل سافر عند بعض أعضائها ، فاندفعوا إلى خلق الحزبية والتكتلات في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم ، ممّا أدّى ذلك إلى كثير من المضاعفات السيّئة وقد امتحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً.

هذه بعض آفات الشورى التي عانى منها المسلمون أقسى ألوان الكوارث والخطوب ، فقد مهّدت الطريق أمام الطلقاء وأبنائهم للاستيلاء على السلطة والقبض على زمام الحكم ، وتخطيط سياسة للدولة لم يألفها المسلمون. ومن أبرز برامجها الاستئثار بالفيء ، ونهب ثروات الاُمّة وخيراتها ، والإمعان في ظلم الأخيار ، والتنكيل بعترة النبي (صلّى الله عليه وآله).

__________________

(1) العقد الفريد 3 / 73 ـ 74.

٣٢٣

عملية الانتخاب :

ولمّا مضى عمر إلى ربّه ، ودفن في مقرّه الأخير أحاط البوليس بأعضاء الشورى فألزمهم بالاجتماع ، واختيار حاكم للمسلمين من بينهم تنفيذاً لوصية عمر ، فاجتمعوا في بيت المال ، وقيل : في بيت مسرور بن مخرمة ، وقد أشرف على الانتخاب الإمام الحسن (عليه السّلام) ، وعبد الله بن عباس ، وبادر المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص فجلسا في عتبة الباب ، فنهرهما سعد وقال لهما : تريدان أن تقولا حضرنا وكنّا في أهل الشورى(1) ؟

ودلّت هذه البادرة على مدى التنافس والأحقاد فيما بين القوم ، فقد ضنَّ سعد على المغيرة وابن العاص بالحضور خشية أن يقولا للناس كنّا من أهل الشورى.

وتداول الأعضاء فيما بينهم الحديث عمّن هو أحقّ بالأمر وأولى به ، وكثر الصخب والجدل ، وانبرى إليهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فحذّرهم مغبّة ما يحدث من الفتن والفساد إن استجابوا لعواطفهم ، ولم يؤثروا مصلحة الاُمّة ، فقال : «لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقٍّ ، وصلة رحم ، وعائدة كرم ، فاسمعوا قولي وعوا منطقي ؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضي فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتّى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة»(2) .

إنهم لو سمعوا قوله ووعوا منطقه لصانوا الاُمّة من التيارات الجارفة ،

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) نهج البلاغة محمد عبده 25 / 31.

٣٢٤

وعادوا عليها بالخير العميم ، ولكنهم انطلقوا وراء شهوات المُلك والسلطان ، وتحقق ما تنبّأ به الإمام ؛ فلم يمضِ قليل من الوقت حتّى انتضت السيوف وانتشرت الحروب ، وسادت الفتن والأهواء ، وصار بعضهم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة.

وعمّ الجدل بين القوم فلم ينتهوا إلى غاية مريحة فانفضت الجلسة على غير طائل ، وجماهير الشعب تنتظر بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة ، وعقد الاجتماع مرّة اُخرى إلاّ أنّه باء بالفشل ، فأشرف عليهم أبو طلحة الأنصاري وهو يتهدّد ويتوعّد ، قائلاً : لا والذي نفس عمر بيده ، لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة التي أمرتم.

واقترب اليوم الثالث ، وهو آخر موعد للقوم ، فانعقد الاجتماع وبدت فجأة الاندفاعات القبلية التي شذت عن مصلحة الاُمّة ، فقد انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان ، وإنما فعل ذلك استجابة لعواطفه المترعة بالكراهية للإمام ؛ لأنه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة ، واندفع الزبير فوهب حقّه للإمام ؛ لأنه تربطه به رحم ماسّة. وانطلق سعد فوهب حقّه لابن عمّه عبد الرحمان بن عوف ؛ تقوية لجانبه ، وتعزيزاً لمركزه.

وكان رأي عبد الرحمان هو الفيصل ، وجانبه هو المرموق ؛ لأن عمر قد وضع ثقته به ، وأناط به أمر الشورى ، إلاّ أنه كان ضعيف الشخصية هزيل الإرادة ، لا قدرة له على تحمّل مسؤولية الحكم فأجمع رأيه على أن يرشّح غيره للخلافة ، وكان له هوى مع عثمان ؛ لأنه صهره ، وقد استشار عامّة القرشيِّين في الأمر فزهدوه في علي ، وحرّضوه على انتخاب عثمان ؛ لأنه يحقق أطماعهم ورغباتهم.

٣٢٥

وحلّت الساعة الرهيبة التي غيّرت مجرى التاريخ ، فقال عبد الرحمان لابن اُخته : يا مسوّر ، اذهب فادعُ علياً وعثمان.

ـ بأيّهما أبدأ؟

ـ بأيّهما شئت.

وانطلق مسور فدعاهما وازدحم المهاجرون والأنصار وسائر الناس في الجامع ، فانبرى عبد الرحمان فعرض عليهم الأمر وقال : أيها الناس ، إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم فأشيروا عليّ.

فتقدّم إليه الطيّب ابن الطيّب عمار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة سلامتها ويصونها من الفرقة والاختلاف قائلاً : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً.

وانطلق المقداد فأيّد مقالة عمار قائلاً : صدّق عمار ، إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا.

واندفعت القوى الباغية والحاقدة على الإسلام وهي تشجب مقالة عمار والمقداد ، وتدعوا إلى ترشيح عثمان عميد الاُمويِّين ، وقد هتف عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. واندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة زميله قائلاً : إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.

وانبرى الصحابي العظيم عمار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً : متى كنت تنصح للمسلمين؟

وصدق عمّار فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين أو يرجو وقاراً

٣٢٦

للإسلام ، فقد كان من أعدى الناس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أمر بقتله بعد فتح مكة ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة(1) . إنه لو كان هناك أيّ منطق أو حساب لأقصى هذا الدعي وأمثاله من التدخّل في شؤون المسلمين ، فإنّ بني اُميّة وسائر القبائل القرشية يجب أن تكون في ذيل القافلة ولا يعنى بأمرها ؛ لأنها هي التي ناجزت النبي (صلّى الله عليه وآله) وحرّضت عليه القبائل وكادته ، وما دخلت في الإسلام إلاّ بعد الخوف من حدّ السيوف ، فكيف يُسمح لها أن تفرض رأيها ، ويؤول إليها أمر المسلمين؟

واحتدم الجدال بين الهاشميِّين والاُمويِّين ، فانبرى عمار بن ياسر وهو يدعو لصالح المسلمين قائلاً : أيها الناس ، إنّ الله أكرمنا بنبيّه ، وأعزّنا بدينه ، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟!

لقد كان منطق عمار حافلاً بروح الإسلام وهديه ، فإنّ قريشاً وسائر العرب إنما أعزّها الله بدينه ، وأسعدها برسوله ، فهو مصدر عزّ العرب وشرفهم ، وكان الواجب عليهم أن يقابلوه بالمعروف والإحسان ، فلا يخرجون هذا الأمر عن أهله الذين هُم سدنة علمه ، وخزنة وحيّه ، إنه ليس من العدل في شيء أن يمنعوا جاهدين في قهرهم وإذلالهم.

وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً له : لقد عدوت طورك يابن سميّة ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟

ولم يدخل أيّ بصيص من نور الإسلام وهديه في قلب هذا المخزومي ، فقد راح يندّد بعمار فنسبه لاُمّه سمية وهي ممّن يعتزّ بها الإسلام ، ويفخر بنضالها المشرق ، وتضحيتها الفذّة ، فهي وزوجها ياسر وابنهما البار في

__________________

(1) الاستيعاب 2 / 375.

٣٢٧

طليعة القوى الخيّرة المؤسّسة للإسلام ، وقد عانت في سبيله أقسى ألوان المحن والخطوب.

إنّ أمر الخلافة لجميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء الذين أعزّهم الله بدينه ، وليس لطغاة قريش أيّ حق في التدخّل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق أو حساب.

وكثر النزاع واحتدم الجدال بين القوى الإسلاميّة وبين القرشيين ، فخاف سعد أن يفوت الأمر من القوم ، فالتفت إلى ابن عمّه عبد الرحمن قائلاً له : يا عبد الرحمن ، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس. والتفت عبد الرحمن إلى الإمام (عليه السّلام) : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه ، وفعل أبي بكر وعمر؟ ورمقه الإمام (عليه السّلام) بطرفه وعرف غايته ، فأجابه بمنطق الإسلام ومنطق الأحرار : «بل على كتاب الله ، وسنّة رسوله ، واجتهاد رأيي».

إنّ مصدر التشريع في الإسلام إنما هو كتاب الله وسنّة نبيّه ، فعلى ضوئها تعالج مشاكل الرعيّة ، ويسير نظام الدولة ، وليس فعل أبي بكر وعمر من مصادر التشريع الإسلامي ، على أنهما اختلفا أشدّ الاختلاف في النظم السياسية ، فقد انتهج أبو بكر في سياسته المالية منهجاً أقرب إلى المساواة من سياسة عمر ، فإنه ألغى المساواة في العطاء وأوجد نظام الطبقية ، فقدّم بعض المسلمين على بعض ، وشرّع حرمة المتعتين : متعة الحج ومتعة النساء ، في حين أنهما كانتا مشروعتين في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر. وكانت له آراؤه الخاصة في كثير من المجالات التشريعية ،

٣٢٨

فعلى أيّ المنهجين يسير ابن أبي طالب ربيب الوحي ورائد العدالة الاجتماعية في الإسلام؟!

إنّ ابن عوف يعلم علماً جازماً لا يخامره أدنى شكّ أنّ الإمام لو تقلّد زمام الحكم لطبّق شريعة الله في الأرض ، وساس المسلمين سياسة قوامها العدل الخالص والحقّ المحض ، ولم يمنح الاُسر القرشيّة أيّ جهة من الامتياز وساوى بينها وبين غيرها في جميع الحقوق والواجبات ، فتفوت بذلك مصالح هذه الطبقة التي جنت على الإسلام ، وجرّت للمسلمين أعظم الويلات والخطوب.

إنّ الإمام لو وافق على الالتزام بما شرط عليه ابن عوف لَما أمكنه أن يطبّق أيّ منهج من مناهج سياسته الهادفة إلى نشر العدل بين الناس ، ومن المقطوع به أنّ الإمام حتّى لو التزم بهذا الشرط ظاهراً لحالت قريش بينه وبين تطبيق أهدافه ، ولم تدع له أيّ مجال لتحقيق العدالة الاجتماعية ، ويكون خروجها عليه مشروعاً ؛ لأنه لم يفِ لها بوعده.

وعلى أيّ حال فإن عبد الرحمن لمّا يئس من تغيير اتّجاه الإمام انبرى إلى عثمان فشرط عليه ذلك فسارع إلى إجابته ، وأظهر استعداده الكامل لكل ما شرطه عليه ، وفيما أحسب أنّ هناك اتفاقاً سريّاً بينهما أحيط بكثير من الكتمان ، فإنه بأيّ حال لا ينتخب الإمام وإن أجابه إلى ما شرطه عليه ، وإنما طلب منه البيعة لأجل التغطية على مخططاته فاستعمل هذه المناورة السياسية ، ويرى بعض المؤرّخين من الإفرنج إلى أنّ عبد الرحمن استعمل طريقة المداورة والانتهازية ، ولم يترك الانتخاب يجري حرّاً.

يقول المؤرّخون : إنّ عبد الرحمن بادر إلى عثمان فصفق بكفه على يده وقال له : اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.

٣٢٩

ووقعت هذه المبادرة كصاعقة على القوى الخيّرة التي جهدت على أن يسود حكم الله بين المسلمين ، وانطلق الإمام صوب ابن عوف فخاطبه قائلاً : «والله ، ما فعلتها إلاّ لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه. دقّ الله بينكما عطرَ منشِم»(1) .

وألقى الإمام (عليه السّلام) الأضواء على اختيار عبد الرحمان لعثمان من أنه لم يكن من صالح الاُمّة وإنما كان وليد الأطماع والأهواء السياسية ، فقد رجا ابن عوف أن يكون خليفة من بعد عثمان ، واتّجه الإمام صوب القرشيين فقال لهم : «ليس هو أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ».

ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده : يا علي ، لا تجعل على نفسك سبيلاً.

وغادر الإمام المظلوم المهتضم قاعة الاجتماع ، وهو يقول : «سيبلغ الكتاب أجله».

وانطلق ابن الإسلام البار عمار بن ياسر فخاطب ابن عوف : يا عبد الرحمان ، أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحقِّ وبه كانوا يعدلون.

وكان المقداد ممّن ذابت نفسه أسىً وحزناً ، وراح يقول :

__________________

(1) منشِم (بكسر الشين) : اسم امرأة بمكّة كانت عطّارة ، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها ، فإذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال : أشأم من عطر منشم. جاء ذلك في صحاح الجوهري 5 / 2041. وقد استجاب الله دعاء الإمام (عليه السّلام) فكانت بين عثمان وعبد الرحمان أشدّ المنافرة والخصومة ، وقد أوصى ابن عوف أن لا يصلّي عليه عثمان بعد موته.

٣٣٠

تا الله ، ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم!

وا عجباً لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ أحداً أقضى بالعدل ، ولا أعلم ولا أتقى منه لو أجد أعواناً.

وقطع عليه عبد الرحمان كلامه وراح يحذّره من الفتنة قائلاً : اتق الله يا مقداد ، فإني خائف عليك الفتنة.

وانتهت بذلك مأساة الشورى التي أخلدت للمسلمين الفتن وألقتهم في شرٍّ عظيم ، فلم يرعَ في تأسيسها وتنفيذها بهذا الشكل أيّ حقّ للاُسرة النبوية ، وإنما عمد القوم بشكل سافر إلى الغضّ من شأنها ، ومعاملتها معاملة عادية اتّسمت بالحقد والكراهية لها ، وضاعت بذلك وصايا النبي (صلّى الله عليه وآله) في حقّها ، ولم يعنَ بما قاله في شأنها من أنها عديلة الكتاب العظيم ، أو كسفينة نوح مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق غرق وهوى.

لقد شاهد الإمام الحسين (عليه السّلام) وهو في غضارة العمر فصول هذه الشورى ، وما أعقبته من انتشار الأطماع السياسية ، والتهالك على السلطة بشكل فظيع ، مما أدّى إلى تشكيل الأحزاب ، والتسلّح بأسباب القوّة لأجل الفوز بالحكم والظفر بخيراته ، يقول الشاعر :

إني أرى فتنةً هاجتْ مراجلُها

والمُلكُ بعد أبي ليلٍ لمَن غلبا

لقد أصبح الحُكم هو الأمل المنشود والحلم الذي يداعب جميع الفئات ، يقول الجهيشاري : لمّا توفّي يزيد بن عبد الملك وأفضي الأمر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة ، فلمّا قرأ الكتاب سجد وسجد مَن كان معه من أصحابه خلا سعيد فإنه لم يسجد ، فأنكر عليه هشام وقال له : لِمَ لَم تسجد؟

ـ علامَ أسجد؟ أعلى إن كنت معنا فطرت إلى السماء.

ـ إنّا طيّرناك معنا.

٣٣١

ـ الآن طاب السجود. وسجد معهم(1) .

ودلّت هذه البادرة وأمثالها ـ مما ذكره المؤرّخون ـ على تهالك ذلك المجتمع على الحكم ، لا من أجل أن يتخذ وسيلة للصلاح الاجتماعي وتطوير حياة الاُمّة حسب ما يريده الإسلام ، وإنما من أجل الأطماع والاستعلاء على الناس.

وعلى أيّ حال ، فإن تلك الأحداث المؤلمة قد باعدت ما بين القوم وبين دينهم ، وكان لها الأثر الايجابي في هضم العترة الطاهرة ، وتعاقب الخطوب المفزعة عليها ، ومن بينها كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة الشيخين.

__________________

(1) الوزراء والكتاب / 59.

٣٣٢

حكومة عثمان

٣٣٣
٣٣٤

واستقبل المسلمون خلافة عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب ، وفزعت القوى الخيّرة وخافت على دينها ، واعتبرت فوز الاُمويِّين بالحكم انتصاراً للقوى المناهضة للإسلام.

ويرى (دوزي) : إنّ انتصار الاُمويِّين إنما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للإسلام(1) .

وتحقق ما خشيه المسلمون وخافوه ، فإنه لم يمضِ قليل من الوقت حتّى جهدت حكومة عثمان على مملاة القرشيين ، ومصانعة الوجوه والأعيان ، ومنحهم الامتيازات الخاصة وتسليطهم على فيء المسلمين وخراجهم ، والتلاعب باقتصاد الدولة ، ومنح الوظائف العالية لبني اُميّة وآل أبي معيط وغيرهم من الذين لا يرجون لله وقاراً ، حتّى سادت الفوضى وعمّت الفتن جميع أرجاء البلاد.

وعلى أي حال ، فإنّ عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين حفّت به بنو اُميّة وسائر القبائل القرشية ، وهم يعلنون الدعم الكامل لحكومته ، ويهتفون بحياته ، وجاؤوا به يزفّونه إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليعلن سياسة دولته وموقفها تجاه القضايا الداخلية والخارجية. واعتلى أعواد المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يجلس فيه أبو بكر وعمر ، وإنما كان يجلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وعمر كان يجلس دونه بمرقاة ، وتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم وُلد الشرّ(2) .

واتّجهت الناس بقلوبها ومشاعرها لتسمع الخطاب السياسي الذي يلقيه عثمان إلاّ إنّه حينما نظر إلى الجماهير ارتجّ عليه ، فلم يدرِ ما يقول وجهد نفسه فتكلم بهذه الكلمات المضطربة التي لم تلق أي أضواء على سياسته ، فقد قال :

__________________

(1) اتجاهات الشعر العربي / 26.

(2) تاريخ ابن كثير 7 / 148 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 140.

٣٣٥

أما بعد ، فإنّ أول مركب صعب ، وما كنا خطباء ، وسيعلم الله وإنّ امرأً ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميت لموعوظ(1) . ونزل عن المنبر وهو وجل القلب ، مصفرّ الوجه ، فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض وهم يهزؤون ويسخرون.

ولا بدّ لنا من الإلمام بمظاهر شخصيته والوقوف على اتجاهاته السياسية ، كما لابد من التأمل في الأحداث التي رافقت حكومته والتي كان لها التأثير المباشر في كثير من الفتن والخطوب التي مُني بها العالم الإسلامي ، ونحن لا نجد بُداً من عرض ذلك ؛ لأنّ دراسة هذه الأحداث تلقى الأضواء على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) ، ويكشف لنا كثيراً من جوانب كارثة كربلاء التي جاءت نتيجة حتمية لتلك الأحداث التي لعبت دورها الخطير في تغيير مناحي العقيدة الإسلاميّة.

مظاهر شخصيته :

أما المظاهر الكاشفة عن أبعاد شخصية عثمان ، والمحددة لذاتياته ، فأهمها ما يلي :

1 ـ إنّه كان ضعيف الإرادة خائر العزيمة ، فلم تكن له أيّة شخصية قوية متماسكة يستطيع بها أن يفرض آراءه وإرادته ، كما لم تكن له أيّة قدرة على مواجهة الأحداث والتغلب عليها ، قد أخذ الاُمويّون بزمامه ، واستولوا على جميع مقدرات حكومته ، فلم يستطع أن يقف موقفاً إيجابياً يتّسم بالصلابة ضد رغباتهم وأهوائهم ، فكان بالنسبة إليهم ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ كالميت في يد الغاسل ، وكان الذي يدير شؤون دولته مروان بن الحكم ، فهو الذي يعطي ما يشاء ويمنع مَنْ يشاء ، ويتصرّف في

__________________

(1) الموفقيّات / 202.

٣٣٦

مقدّرات الاُمّة حسب ميوله من دون أن يعني بأحكام الإسلام ، ولا رأى لعثمان ولا اختيار له في جميع الأحداث التي تواجه حكومته ؛ فقد وثق بمروان واعتمد عليه ، وأناط به جميع شؤون الدولة.

يقول ابن أبي الحديد نقلاً عن بعض مشايخه : إنّ الخليفة في الحقيقة والواقع إنما كان مروان ، وعثمان له اسم الخلافة.

إنّ قوة الإرادة لها الأثر التام في تكوين الشخصية واستقامتها ، فهي تكسب الشخص قوة ذاتية يستطيع أن يقف بحزم أمام التيارات والأعاصير التي تواجهه في هذه الحياة ، ومن المستحيل أن يحقق الشخص أي هدف لاُمّته ووطنه من دون أن تتوفر فيه هذه النزعة ، وقد منع الإسلام منعاً باتاً أن يتولى ضعيف الإرادة قيادة الاُمّة ، وحظر عليه مزاولة الحكم ؛ لأنّه يعرض البلاد للويلات والخطوب ، ويغري ذوي القوة بالتمرّد والخروج من الطاعة ، وتمنى الاُمّة بالأزمات والأخطار.

ووصفه بعض المؤرّخين بالرأفة والرقّة ، واللين والتسامح إلاّ أن ذلك كان مع اُسرته وذويه ، أما مع الجبهة المعارضة لحكومته فقد كان شديد القسوة ؛ فقد بالغ في إرهاقهم واضطهادهم ، وقابلهم بمزيد من العسف والعنف ؛ فنفى أبا ذر من يثرب إلى الربذة ، وفرض عليه الإقامة الجبرية في مكان انعدمت فيه جميع وسائل الحياة حتّى مات طريداً غريباً ، ونكل بالصحابي العظيم عمار بن ياسر فأمر بضربه حتّى أصابه فتق ، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه ، وأوعز إلى شرطته بضرب القارئ الكبير عبد الله بن مسعود فألهبت جسمه سياطهم ، وألقوه في الطريق بعد أن هشموا بعض أضلاعه ، وحرم عليه عطاءه ، وهكذا اشتدّ في القسوة مع أعلام المعارضة.

نعم كان شديد الرأفة والرقّة بأرحامه من بني اُميّة وآل أبي معيط ؛

٣٣٧

فمنحهم خيرات البلاد ، وحملهم على رقاب الناس ، وأسند إليهم جميع المناصب الحساسة في الدولة.

2 ـ وظاهرة ثانية من نزعات عثمان هو أنه كان شديد القبلية فقد أترعت نفسه بالعواطف الجياشة تجاه قبيلته ، حتّى تمنى أن تكون مفاتيح الفردوس بيده ليهبها لبني اُميّة ، وقد آثرهم بالفيء ، ومنحهم الثراء العريض ، ووهبهم الملايين من أموال الدولة ، وجعلهم ولاة على الأقطار والأقاليم الإسلاميّة. وكانت تتواتر لديه الأخبار بأنهم جانبوا الحقَّ ، وظلموا الرعية ، وأشاعوا الفساد في الأرض ، فلم يعنَ بذلك ، ولم يفتح معهم أي لون من ألوان التحقيق ، وردّ الشكاوى الموجّهة ضدّهم. وسنعرض لذلك بمزيد من التفصيل.

3 ـ والظاهرة الثالثة من نزعات عثمان هو أنّه كان يميل إلى الترف والبذخ ، ولم يعن ببساطة العيش والزهد في الدنيا كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فافتتن بالبذخ والترف ؛ فأخذ القصور ، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال ، وأحاط نفسه بالثراء العريض من دون أن يتحرّج في ذلك.

ووصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : «نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه». وكان ذلك من موجبات النقمة عليه ، وسنتحدث عن هذه الظاهرة بمزيد من التفصيل عند البحث عن سياسته المالية.

هذه بعض نزعات عثمان ، وقد أوجبت إخفاقه وفشله في الميادين السياسية ، وإذاعة التذمّر والنقمة عليه.

نظمه الإداريّة :

أما النظم الإدارية السائدة في حكومة عثمان فإنّها كانت تعني بمملاة

٣٣٨

القرشيين ، ومصانعة الوجوه والأعيان ، والتسامح واللين مع ذوي النفوذ والقوة ، والغض عما يقترفونه من المخالفات القانونية ؛ فقد تعمد عبيد الله بن عمر جريمة القتل ، فقتل بغير حق الهرمزان وجُفينة وبنت أبي لؤلؤة ، وقد أقفل معه عثمان سير التحقيق ، وأصدر مرسوماً خاصاً بالعفو عنه ؛ مملاة لاُسرة عمر. وقد قوبل هذا الإجراء بمزيد من الإنكار ، فقد اندفع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى الإنكار عليه ، وطالبه بالقود من ابن عمر ، وكذلك طالبه المقداد ، ولكن عثمان لم يعن بذلك ، وكان زياد بن لبيد إذا لقى عبيد الله يقول له :

ألا يا عبيدَ الله ما لك مهربٌ

ولا ملجأٌ من ابن أروى ولا خفرْ

أصبت دماً والله في غير حلّهِ

حراماً وقتلُ الهرمزانِ له خطرْ

على غير شيءٍ غير أن قال قائلٌ

أتتّهمون الهرمزان على عُمرْ

فقال سفيهٌ والحوادث جمّة

نعم أتّهمهُ قد أشار وقد أمرْ

وكان سلاحُ العبد في جوف بيتِهِ

يقلّبهُ والأمر بالأمر يُعتبرْ

وشكا عبيد الله إلى عثمان ، فدعا زياداً فنهاه عن ذلك إلاّ أنّه لم ينته ، وتناول عثمان بالنقد ، فقال فيه :

أبا عمرٍو عبيدُ الله رهنٌ

فلا تشكك بقتل الهرمزانِ

فإنّك إن غفرتَ الجُرمَ عنهُ

وأسبابَ الخطا فرسا رهانِ

أتعفو إذ عفوت بغير حقٍّ

فما لك بالذي تخلي يدانِ

وغضب عثمان على زياد فنهاه وحذّره العقوبة حتّى انتهى(1) . وأخرج عبيد الله من يثرب إلى الكوفة وأقطعه بها أرضاً ، فنسب الموضع إليه ، فقيل : (كوفية ابن عمر). وقد أثارت هذه البادرة عليه نقمة الأخيار والمتحرّجين في دينهم ، فقد رأوا أنّ الخليفة عمد بغير وجه مشروع إلى

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 41.

٣٣٩

تعطيل حدود الله ؛ ارضاءً لعواطف آل الخطاب وكسباً لودهم.

وعلى أي حال ، فإن النظم الإدارية السائدة في أيام عثمان كانت خاضعة لمشيئة الاُمويِّين ورغباتهم ، ولم تسرِ على ضوء الكتاب والسنة ، فقد عمد الاُمويّون جاهدين إلى العبث بمقدّرات الاُمّة ، وإشاعة الجور في البلاد ، ويرى (كرد علي) أن غلطات عثمان الإدارية كانت من أهم الأسباب في قتله(1) .

ولاته وعمّاله :

وعمد عثمان إلى فرض أسرته وذوي قرباه على الاُمّة ، فجعلهم ولاة وحكّاماً على الأقاليم الإسلاميّة. يقول المقريزي : وجعل عثمان بني اُميّة أوتاد خلافته(2) .

ولم تتوفر فيهم المقدرة الإدارية أو القابلية على تحمّل مسؤولية الحكم ، فعرّضوا البلاد للويلات ، وأشاعوا فيها الفساد والجور ، ويقول المؤرخون : إنّه شجّع عمّاله على الاستفادة من بيت المال ؛ فأبو موسى الأشعري سمح لأحد عمّاله بالتجارة في أقوات أهل العراق(3) . ويرى السيد (مير علي) أن المسلمين تذمّروا من استبداد الحكام واغتصابهم الأموال(4) .

وفيما يلي بعض عمّاله :

1 ـ سعيد بن العاص :

وأسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص ، فولاّه أمر هذا القطر

__________________

(1) الإدارة الإسلاميّة / 57.

(2) النزاع والتخاصم / 18.

(3) تاريخ الطبري 4 / 262.

(4) مختصر تاريخ العرب / 43.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442