حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء ١

حياة الامام الحسين عليه السلام0%

حياة الامام الحسين عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 442

حياة الامام الحسين عليه السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 159072
تحميل: 5193


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 159072 / تحميل: 5193
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسين عليه السلام

حياة الامام الحسين عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

كانت غير ودّية ؛ ويعود السبب في ذلك إلى أنّ عاصم بن عمر شرب الخمر فشهد عليه الحسين بذلك في مجلس القضاء أيّام عثمان فاُقيم عليه الحد ، وقد أوجبت هذه البادرة شيوع التباغض بين الاُسرتين(1) .

اغتيال عمر :

ولم نبسط القول في خلافة عمر ، ولم نلم بسيرته ولا بما أثر عنه من الأحداث ، خصوصا ما صدر عنه من الفتاوى التي كانت بعضها من الاجتهاد قبال النص كتحريم المتعة وغيرها ، لم نعرض لذلك فقد آثرنا الإيجاز في أمثال هذه البحوث ، وإنما عرضنا للأحداث المتقدّمة ؛ لأنها تصوّر الحياة الاجتماعية والفكرية التي عاشها الإمام الحسين (عليه السّلام) في ذلك العصر ، كما تلقي الأضواء على حياته.

وعلى أيّ حال ، فإن الذي يهمّنا أن نعرض إلى اغتيال عمر وما رافقه من الأحداث الخطير ة ، فقد عزا بعض الكتّاب من المحدّثين إلى أنّ اغتياله كان وليد مؤامرة حاكها الاُمويّون للتخلّص من حكمه ، وفرض سلطانهم على المسلمين(2) ، وقد أيّدوا ذلك بأنّ أبا لؤلؤة الذي اغتاله كان مولى للمغيرة بن شعبة ، وصلة المغيرة بالاُمويِّين كانت وثيقة للغاية.

وفيما أحسب أنّ هذا الرأي لا يحمل أيّ طابع من التحقيق ؛ لأنّ علاقة عمر كانت مع الاُمويِّين طبيعية وقوية ، فلم تقع بينهما أيّة منافسة أو كراهية ، وكان عمر شديد الميل لهم ؛ فقد استعمل أعلامهم ولاة على الأقطار والأقاليم الإسلاميّة

__________________

(1) المنمق في أخبار قريش / 499.

(2) من أنصار هذا الرأي الاُستاذ العلائلي ، وقد نصّ عليه في سموّ المعنى في سموّ الذات / 31 ، الطبعة الثانية.

٣٠١

أمثال يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن أبي العاص ، ومعاوية ، ولم يشاطر أيّ واحد منهم أمواله كما شاطر بقية عماله ، بل كان معنياً حتّى بشؤون نسائهم ، فقد أقرض هند بنت عتبة أمّ معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتجر فيها(1) ، فلم يعمل عمر أيّ عمل يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، فكيف إذاً يقومون بتدبير المؤامرة لاغتياله؟

وعلى أيّ حال ، فمن المقطوع به أنّ أبا لؤلؤة إنما قام بوحي نفسه لا بدافع أموي لاغتيال عمر ؛ أمّا بواعث ذلك ـ فيما نحسب ـ فهي أنه كان شابّاً متحمّساً لاُمّته ووطنه ، فقد رأى بلاده قد فتحت عنوة فذهب مجد قومه وانطوى عزّهم ، ورأى أنّ عمر قد بالغ في احتقار الفرس والاستهانة بهم ، فقد تمنّى أن يحول بينه وبين الفرس جبل من حديد ، وقد حضر عليهم دخول يثرب إلاّ مَن كان سنّه دون البلوغ(2) ، وأصدر فتواه بعدم إرثهم إلاّ مَن ولد منهم في بلاد العرب(3) ، كما كان يعبّر عنهم بالعلوج(4) .

ثمّ هو بالذات قد خفّ إلى عمر يشكو إليه مما ألمّ به من ضيق وجهد من جرّاء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج ، فزجره عمر ولم يعن به ، وقال له : ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها.

وقد أوجدت هذه الاُمور في نفسه حنقاً وحقداً على عمر فأضمر له الشر ، وقد اجتاز عليه فسخر منه ، وقال له : بلغني أنّك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت. ولذعته هذه السخرية ، فاندفع يقول :

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 33.

(2) شرح نهج البلاغة 12 / 185.

(3) الموطأ 2 / 12.

(4) شرح نهج البلاغة.

٣٠٢

لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(1) ؛ فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(2) ، وهي التي قضت عليه ، ثمّ انحاز إلى أهل المسجد فطعن من يليه حتّى طعن أحد عشر رجلاً سوى عمر ، ثمّ عمد إلى نفسه فانتحر(3) .

وحُمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً ، وقال لمَن كان حوله : مَن طعنني؟

ـ غلام المغيرة.

ـ ألم أقل لكم لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً ، فغلبتموني(4) .

وأحضر له أهله طبيباً فقال له : أيّ الشراب أحبّ إليك؟

ـ النبيذ. فسقوه منه فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديداً. ثمّ سقوه لبناً ، فخرج من بعض طعناته فيئس منه الطبيب ، وقال له : لا أرى أن تمسي(5) . ولمّا أيقن بدنو الأجل المحتوم منه أوصى ولده عبد الله فقال له : انظر ما عليّ من دين فاحصوه. فإذا به ستة وثمانون ألفاً ، فقال :

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 212.

(2) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

(3) شرح نهج البلاغة 12 / 185.

(4) شرح نهج البلاغة 12 / 187.

(5) الإمامة والسياسة 1 / 21 ، الاستيعاب المطبوع على هامش الإصابة 2 / 461.

٣٠٣

إن وفى به مال آل عمر فأدّه من أموالهم ، وإلاّ فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تفِ به أموالهم فسل في قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم(1) .

ونحن إذا تأمّلنا في هذه الوصية ، نجد فيها عدّة أمور تدعو إلى التساؤل وهي :

1 ـ إنّ هذه الأموال الضخمة التي استدانها من بيت المال لم ينفقها إلاّ في شؤونه الخاصة ، ولو كان قد أنفقها على شؤون المسلمين لَما كان هناك أيّ مجال لاسترجاعها من آل الخطّاب ، وهذا ـ من دون شك ـ لا يتفق مع ما نقله الرواة عن سيرته من أنه كان متحرّجاً أشدّ التحرّج وأقساه في أموال الدولة ، وأنه لم يكن ينفق منها أي شيء على شؤونه الخاصة.

2 ـ إنه عهد إلى ابنه عبد الله أن يستوفي هذه الديون من آله ، فإن وفت أموالهم بها فهو وإلاّ فيسأل أسرته عن وفائها ، وهذا يكشف أنه قد منحها لهم وإلاّ فما هو المبرّر لاستيفائها منهم؟ إذ لا سلطان له على مال الغير وإن كان قريباً منه ، وفيما نحسب أنّ هذه الأموال قد وهبها لهم ، وهو يتصادم مع ما نقل عنه من أنه كان يشتدّ على أهله حتّى يرهقهم من أمرهم عسراً ، وأنه قد أخذهم بضروب من الشدّة والعنف ، وساوى بينهم وبين بقية المسلمين في العطاء.

3 ـ إنّ وصيّته لولده عبد الله أن يسأل من قريش خاصة بتسديد ما عليه من ديون إذا لم تف أموال اُسرته بها ، يكشف عن مدى صلته العميقة وارتباطه الوثيق بهم ، وقد كان فيما يقول المؤرّخون : الممثّل الوحيد للفئات القرشية ، وأنه كان يعكس في تصرّفاته جميع رغباتها وميولها.

هذه بعض الملاحظات التي تواجه هذه الوصية ، ولم ينص المؤرّخون

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 12 / 188.

٣٠٤

على أنّ عبد الله قام بتسديد ما على أبيه من ديون لبيت المال ، فقد أهملوا هذه الجهة ولم يعرضوا لها.

وعلى أيّ حال فإنّ عبد الله لمّا أيقن بموت أبيه طلب منه أن يعيّن أحداً لمركز الخلافة ، ولا يهمل شؤون الاُمّة ، قال له : يا أبة ، استخلف على اُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) فإنه لو جاء راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها ، وقلت له : كيف تركت أمانتك ضائعة ، فكيف باُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله)؟ فاستخلف عليهم.

فنظر إليه نظرة ريبة وشك ، واندفع يجيبه : إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول الله (ص)(1) .

أمّا حديث عبد الله فقد كان حافلاً بالوعي والمنطق ؛ فإنه ليس من الحكمة في شيء أن يهمل الرئيس شؤون رعيته من دون أن يعيّن لها القائد من بعده الذي يعني بأمورها السياسية والاجتماعية ، فإن إهماله لهذه الجهة الخطيرة يعرّضها للأزمات ، ويلقيها في شرٍّ عظيم ، وقد زعم عمر أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يعن بالقيادة الروحية والزمنية من بعده ، ولم يعهد بأمره لأحد ، ولعلّ الوجع قد غلب عليه فأذهله ، وأنساه قيام النبي (صلّى الله عليه وآله) بنصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) خليفة من بعده يوم (غدير خم) وإلزامه للمسلمين بمبايعته ، وكان عمر بالذات ممّن بايعه ، وقال له : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وعلى أيّ حال فإن عمر قد فتكت به جراحاته ، وأخذ منه الألم القاسي مأخذاً عظيماً ، وقد جزع جزعاً شديداً ، وأخذ يقول :

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 217.

٣٠٥

لو أنّ لي ما في الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه(1) .

وقال لولده عبد الله : ضع خدّي على الأرض ، فلم يعن به وظنّ أنه قد اختلس عقله ، فأمره ثانياً بذلك فلم يجبه ، وفي المرّة الثالثة صاح به : ضع خدّي على الأرض لا اُمّ لك!

وبادر عبد الله فوضع خدّ أبيه على الأرض فأخذ يجهش بالبكاء ، وهو يقول بنبرات متقطعة : يا ويل عمر! وويل اُمّ عمر إن لم يتجاوز الله عنه(2) ! وطلب عمر من ابنه أن يستأذن من عائشة ليدفنه مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر ، فسمحت له بذلك(3) .

وعلّقت الشيعة على ذلك كما علّقت على دفن أبي بكر فقالت : إنّ ما تركه النبي (صلّى الله عليه وآله) إن كان لا يرثه أهله ، وإنما هو لولي الأمر من بعده ـ حسب ما يرويه أبو بكر ـ فلا موضوعية للإذن من عائشة ، وإن كان يرجع إلى ورثته ـ كما يقول به أهل البيت (عليهم السّلام) ـ فليس لعائشة فيه أيّ نصيب ؛ لأنّ الزوجة لا ترث من الأرض حسبما قرّره فقهاء المسلمين ، ولا بدّ له من الإذن من ورثة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولم يتحقق ذلك.

الشورى :

نحن أمام كارثة مذهلة ومفزعة امتُحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 12 / 192.

(2) شرح نهج البلاغة 12 / 193.

(3) شرح نهج البلاغة 12 / 190.

٣٠٦

وأخلدت لهم الفتن والمصاعب ، وجرّت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرٍّ عظيم ، تلك هي قصة الشورى التي حكت عن تآمر مفضوح في إقصاء الإمام أمير المؤمنين عن ساحة الحكم ، وتسليمه إلى بني اُميّة ؛ إرضاءً للعواطف القرشية المترعة بالحقد والكراهية للإمام.

ونحن ـ يعلم الله ـ لم نكن نقصد بهذه البحوث إلاّ دراسة الأحداث التي عاشها الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وهي ـ فيما نعتقد ـ مصدر الفتنة الكبرى التي أدّت إلى مجزرة كربلاء الرهيبة ، وغيرها من الأحداث التي غيّرت منهج الحياة الكريمة في الإسلام.

وعلى أيّ حال فإن عمر لمّا يئس من حياته ، وأيقن بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يمعن النظر ويطيل التفكير في مَن يتولّى شؤون الحكم من بعده ، وقد تذكّر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الأمر لأبي بكر ، فرأى أنهم قد اقتطفتهم المنيّة فراح يصعّد آهاته وحسراته ، ويبدي أساه عليهم قائلاً : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنه أمين هذه الاُمّة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته ؛ لأنه شديد الحب لله تعالى.

ولماذا لم يستعرض عمر الأحياء من الذين ساهموا في بناء الإسلام ؛ كسيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، والصفوة الطيّبة من صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله) كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وغيرهم من الأنصار ليرشّحهم لهذا المنصب الخطير؟!

لقد انطلق يفتّش في قائمة الأموات ، فتمنّى حياة أبي عبيدة ، وسالم ليقلّدهما رئاسة الدولة ، مع العلم أنّه لم تكن لهما أيّة سابقة من الجهاد والخدمة في سبيل الإسلام.

وطلب منه القوم أن يعيّن أحداً من بعده ليتولّى شؤون المسلمين ، فأبى وقال :

٣٠٧

أكره أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً.

ولكنه لم يلبث أن نقض رأيه ، فانتخب أعضاء الشورى السّتة ، وفوّض إليهم أمر الاُمّة ، كما فرض رأيهم على جميع المسلمين ، وبذلك فقد تحمّل الخلافة حيّاً وميّتاً. يقول ابن أبي الحديد : وأي شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا؟! وأيّ فرق بين أن يتحمّلها بأن ينصّ على واحد بعينه ، وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب(1) ؟!

عمر مع أعضاء الشورى :

ودعا عمر أعضاء الشورى الذين انتخبهم وزكّاهم ، وزعم أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال فيهم : إنّهم من أهل الجنّة(2) . إلاّ أنّه لمّا اجتمعوا عنده وجّه إليهم أعنف النقد وأقساه ، وطعن في كل واحد منهم طعناً لاذعاً ، ورماهم بالنزعات الشريرة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الإمامة والخلافة ، وقد روى المؤرّخون حديثه بصور مختلفة ، وفيما يلي بعضها :

1 ـ إنه لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كل واحد منهم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة أمّا أنت يا طلحة ، أفلست القائل : إن قبض النبي (صلّى الله عليه وآله) أنكح أزواجه من بعده؟ فما جعل الله محمداً أحقّ ببنات أعمامنا منّا ، فأنزل الله فيك :( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (3) .

وأمّا أنت يا زبير ، فوالله ما لانَ قلبك ولا ليلة ، وما زلت جلفاً

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 12 / 260.

(2) الكامل لابن الأثير 3 / 35.

(3) سورة الأحزاب / 53.

٣٠٨

جافياً ؛ وأمّا أنت يا عثمان ، فوالله لروثة خير منك ؛ وأمّا أنت يا عبد الرحمان ، فإنك رجل عاجز تحبّ قومك جميعاً ؛ وأمّا أنت يا سعد ، فصاحب عصبية وفتنة ؛ وأمّا أنت يا علي ، فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم. وقام علي مولياً ، فالتفت عمر إلى حضّار مجلسه فقال : والله ، إنّي لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء؟

ـ مَن هو؟

ـ هذا المولي من بينكم.

ـ ما يمنعك من ذلك؟!

ـ ليس إلى ذلك من سبيل(1) .

وقد خدش في كل واحد منهم ، سوى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنه أبدى إكباره له ، واعترف بقابلياته وصلاحيته للحكم ، وأنه لو ولي اُمور المسلمين لحملهم على المحجّة البيضاء والطريق الواضح ، إلاّ أنه لا يجد سبيلاً إلى ذلك.

2 ـ يقول المؤرّخون : إنه لمّا التقى بأعضاء الشورى قالوا له : قل فينا يا أمير المؤمنين مقالة نستدلّ فيها برأيك ، ونقتدي به. فقال : والله ، ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنك رجل حرب ، وما يمنعني منك يا عبد الرحمان إلاّ أنك فرعون هذه الاُمّة ، وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنك مؤمن الرضى ، كافر الغضب ، وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته. وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك ، وما يمنعني منك يا علي

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 12 / 159.

٣٠٩

إلاّ حرصك عليها ، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم(1) .

وقد وصم أعضاء الشورى بمساوئ الصفات ، فوصف عبد الرحمان بن عوف بأنه فرعون هذه الاُمّة ، ومن الغريب حقّاً أنه لم يلبث أن فوّض إليه شؤون الانتخاب ، وجعل قوله منطق الفصل وفصل الخطاب كما اتّهم الإمام بالحرص على الخلافة ، إلاّ أنّ سيرة الإمام المشرقة تدلّ على عكس ذلك ، فإنه (عليه السّلام) لم يكن من عشّاق السلطة ولا من طلاّب الملك ، وأنه إنما نازع الخلفاء وأقام عليهم الحجّة بأنه أولى بالأمر منهم ، لا ليتخذ من الحكم وسيلة للتمتّع بخيرات البلاد ـ كما اتّخذه بعضهم ـ ولا من أجل التمتّع بالرغبات النفسية التي تتطلّب السلطان وتتهالك عليه لبسط نفوذها واستعلائها على الناس ؛ إنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكن بأيّ حال ينشد مثل هذه الأهداف الرخيصة ، وإنما كان يبغي الحكم لنشر العدل ، وإقامة الحق ، وتطبيق شريعة الله على واقع الحياة ، من أجل هذه الغايات النبيلة كان (عليه السّلام) حريصاً على الخلافة ، وقد أدلى بذلك بقوله : «اللّهمّ إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، وتقام المعطلة من حدودك ، ويأمن المظلومون من عبادك».

وأعرب (عليه السّلام) في حديث له مع ابن عباس بذي قار عن مدى زهده بالسلطة. واحتقاره للحكم ، فقد كان (عليه السّلام) يخصف بيده نعلاً له فالتفت إلى ابن عباس :

«يابن عباس ، ما قيمة هذا النعل؟».

ـ يا أمير المؤمنين ، لا قيمة له.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 24.

٣١٠

ـ «إنه خير من خلافتكم هذه إلاّ أن اُقيم حقّاً وأدفع باطلاً».

إنّه إنما كان حريصاً على الخلافة من أجل إقامة المثُل العليا ، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير الوعي الاجتماعي ، وازدهار الحياة العامة.

3 ـ وفي رواية ثالثة أنّ عمر دعا أعضاء الشورى فلمّا مثلوا عنده قال لهم : أكلّكم يطمع بالخلافة بعدي؟

ووجموا عن الكلام ، فأعاد القول عليهم ثانياً ، فانبرى إليه الزبير رادّاً عليه مقالته : وما الذي يبعدنا منها؟! وليتها أنت فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

ولم يسعه الرد عليه ، وقال لهم : أفلا اُخبركم عن أنفسكم؟

ـ قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا.

وأخذ يدلي عليهم اتجاهاتهم وميولهم ويحدّثهم عن نفسيّاتهم ، فاتجه صوب الزبير فقال له : أمّا أنت يا زبير ، فوعق لقس(1) ، مؤمن الرضى كافر الغضب ، يوماً إنسان ويوماً شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير. أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعري مَن يكون للناس يوم تكون شيطاناً ، ومَن يكون يوم تغضب؟! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الاُمّة وأنت على هذه الصفة.

إنّ الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيته مبتلى بآهات خطيرة ، وهي :

__________________

(1) الوعق : الضجر المتبرّم. اللقس : مَن لا يستقيم على وجه.

٣١١

1 ـ الضجر والتبرم.

2 ـ عدم الاستقامة في سلوكه.

3 ـ الغضب الهائل الذي يفقده الرشد والتوازن.

4 ـ الحرص والبخل ، وهما يجرّانه إلى ملاطمة الناس على مدّ من شعير.

وهذه النزعات من مساوئ الصفات ، ومَن اتّصف ببعضها لا يصلح لأن يتولّى أي منصب حساس في جهاز الدولة ، فضلاً عن أن يكون خليفةً وإماماً للمسلمين.

وأقبل على طلحة فقال له : أقول أم أسكت؟

فزجره طلحة ، وقال له : إنّك لا تقول من الخير شيئاً.

أما أنّي أعرفك منذ اُصيبت إصبعك يوم اُحد وائياً(1) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم اُنزلت آية الحجاب.

وإذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساخطاً على طلحة كيف يرشّحه خليفةً وإماماً للمسلمين؟ كما أنّ هذا يناقض ما قاله : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عن أعضاء الشورى؟!

وعلّق الجاحظ على هذا بقوله : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وهو راضٍ عن الستة ، فكيف تقول الآن لطلحة أنّه مات (عليه السّلام) ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها؟ لكان قد رماه بمشاقصه(2) ، ولكن مَن

__________________

(1) وائياً : غاضباً.

(2) المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم.

٣١٢

الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا؟!

واتّجه صوب سعد بن أبي وقاص فقال له : إنّما أنت صاحب مقنب(1) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وسهم ، وما زهرة والخلافة واُمور الناس؟!

إنّ سعد رجل عسكري لا يفقه إلاّ عمليات الحروب ، ولا خبرة له بالشؤون الإدارية والاجتماعية للاُمّة ، فكيف يرشّحه للخلافة؟ كما طعن في صلاحية قبيلة سعد لتولّي شؤون الحكم.

وأقبل على عبد الرحمان بن عوف فقال له : أمّا أنت يا عبد الرحمان فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك عليهم ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمَن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر؟!

وعبد الرحمان ـ حسب رأي عمر ـ رجل إيمان وتقوى ، ولا نعلم أين كان إيمانه حينما عدل عن انتخاب سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسلّم أمور المسلمين بأيدي الاُمويِّين ، فاتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً ، ثمّ إنه لم تكن له شخصية قوية ، ولا عزم ثابت ، ولا إرادة صلبة ـ حسب اعتراف عمر ـ فكيف يرشّحه للخلافة؟! كيف يجعل قوله منطق الفصل في تعيين مَن يشاء لشؤون الاُمّة؟!

والتفت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال له : لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء.

متى كانت للإمام الدعابة وهو الذي ما ألف في حياته إلاّ الجدّ والحزم في القول والعمل؟! ثمّ إنّ مَن يتّصف بهذه النزعة كيف يتمكن أن يحمل

__________________

(1) المقنب : جماعة الخيل.

٣١٣

المسلمين على الحق الواضح والمحجّة البيضاء ـ كما يقول عمر ـ؟! إنّ هذه السياسة تتنافى مع الدعابة الناشئة عن ضعف الشخصية وخورها.

وأكّد عمر أنّ الإمام لو ولي أمور المسلمين لسار فيهم بالحق ، وحملهم على الصراط المستقيم ، فكيف يجعله من أعضاء الشورى ولا ينص عليه بالخصوص؟ وهل من الحيطة على الاُمّة أن يفوّت عليها الفرصة ، ولا يسلّم أمرها بيد مَن يسير فيها بسيرة قوامها العدل الخالص والحق المحض؟!

وأقبل على عثمان عميد الاُسرة الاُموية التي ناهضت الإسلام فقال له : هيهاً إليك! كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك ، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب المسلمين ، وآثرتهم بالفيء ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثمّ أخذ بناصيته فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي(1) .

ونحن إذا تأمّلنا قليلاً في قوله لعثمان : كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إيّاك. نجده قد قلّد عثمان بالخلافة ، فإن نظام الشورى الذي وضعه كان حتماً يؤدّي إلى فوزه بالسلطة ، فقد جعله أحد أعضاء الشورى وكان أكثرهم ممّن له اتصال وثيق باُسرة عثمان ، وهم لا يعدلون عن انتخابه ولا يقدّمون غيره عليه.

وفي الحقيقة أنه هو الذي قلّده الخلافة ، وفوّض إليه أمور المسلمين ، ثمّ إنه مع دراسة لنفسيته ووقوفه على حبّه الشديد لاُسرته كيف يرشحه للخلافة ، وهو بالذات يعلم خطر بني اُميّة على الإسلام؟! وقد أعلن ذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة يقول له : يا مغيرة ، هل أبصرت بعينك العوراء؟

ـ لا.

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 1 / 185 ـ 186 الطبعة الاُولى.

٣١٤

ـ أما والله ، ليعورن بنو اُميّة الإسلام كما أعورت عينك هذه ، ثمّ ليعمينه حتّى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء(1) .

فكان الأجدر به وهو على عتبة الموت ، أن يجنّب الاُمّة خطر الاُمويِّين ، ولا يجعل لهم أيّ نصيب في الحكم.

هذه بعض الروايات التي أثرت عنه في حديثه مع أعضاء الشورى.

نظام الشورى :

لا أكاد أعرف نظاماً أوهى من نظام الشورى الذى وضعه عمر ، فليس فيه أيّ توازن أو أصالة ، فقد شذّ عن حقيقة الشورى التي يجب أن تمثّل رأي الاُمّة ، وتشترك القطاعات الشعبية في الانتخاب ، فقد فوّض في هذه الشورى الرأي إلى جماعة لا يمثّلون إلاّ آراءهم الخاصة.

لقد دعا عمر مَن رشّحهم فقال لهم : احضروا معكم من شيوخ الأنصار وليس لهم من أمركم شيء ، واحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس ، فإن لهما قرابة ، وأرجو لكم البركة في حضورهما ، وليس لهما من أمركم شيء(2) .

لقد أقصى الأنصار ولم يجعل لهم أيّ نصيب في الانتخاب والاختيار ، وإنما جعل لهم الإشراف المجرّد الذي يعني حرمانهم والاستهانة بهم ، فإن الأمر إنما هو أمر أعضاء الشورى ولا يخصّ غيرهم ثمّ إنّا لم نعلم ما هي البركة التي تحصل لأعضاء الشورى بحضور الإمام الحسن وعبد الله بن عباس ، وهما لا يملكان من الأمر شيئاً؟

__________________

(1) نهج البلاغة 12 / 82.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 24.

٣١٥

والتفت إلى أبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى فقال له : يا أبا طلحة ، إنّ الله أعزّ الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار ، فألزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله.

واتّجه نحو المقداد بن الأسود فعهد إليه بمثل ذلك ، وقال له : إذا اتّفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وإن اتّفق ثلاثة منهم على رجل ورضي ثلاثة منهم رجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس.

إنذاره للصحابة :

وأنذر عمر الصحابة وهدّدهم بمعاوية وعمرو بن العاص إذا لم تتفق كلمتهم وتنازعوا على الحكم والسلطان ، فقد قال لهم : يا أصحاب محمد ، تناصحوا ؛ فإن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان.

وعلّق شيخ الإمامية الشيخ المفيد على هذا الكلام بقوله : إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وأطماعهما فيها ؛ لأن معاوية كان عامله وأميره على الشام ، وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر ، وخاف أن يضعف عثمان أن تصير إلى علي فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما وهما بمصر والشام ، فيتغلّبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي(1) .

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 99.

٣١٦

موقف الإمام (عليه السّلام) :

والتاع الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وحزن أشدّ الحزن وأقساه ، وعرف أنّ الشورى إنما هي مؤامرة ومكيدة دبّرت لصرف الأمر عنه ، فقد التقى بعمّه العباس فبادره قائلاً : «يا عم ، لقد عدلت عنّا».

ـ مَن أعلمك بذلك؟

ـ «لقد قرن بي عثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، ثمّ قال : كونوا مع عبد الرحمان ؛ وسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمان ، وعبد الرحمان صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون ؛ فإما أن يوليها عبد الرحمان عثمان ، أو يوليها عثمان عبد الرحمان»(1) .

وصدق تفرّس الإمام ، فقد ولاّها عبد الرحمان لعثمان ؛ إيثاراً لمصالحه ، وابتغاء رجوعها إليه من بعده.

لقد كانت الشورى باُسلوبها الهزيل مؤامرة مفضوحة لا سِتار عليها ، قد دبّرت ضد وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه ، يقول الإمام كاشف الغطاء رحمه الله : الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية ، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغماً عليهم ، ولكن بتدبير بارع عاد على الإسلام والمسلمين بشرٍّ ما له دافع.

وكوى هذا التآمر قلب الإمام ، وأثارت الأحقاد القرشية أحزانه ، فراح يتحدّث عنها بعد سنين ، يقول (عليه السّلام) :

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 35.

٣١٧

«حتّى إذا مضى ـ يعني عمر ـ لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر؟!».

أجل والله يا أمير المؤمنين ، إنه متى اعترض الريب لأحد في أنك أفضل المسلمين ، وأعظمهم جهاداً ، وأقدمهم سابقة للإسلام ، ولكن اُفٍ للزمان ، وتعساً للدهر الذي قرنك بأمثال هؤلاء الذين حرموا الاُمّة من التمتّع بعدلك ومواهبك.

استجابة الإمام (عليه السّلام) :

بقي هنا شيء يدعو للتساؤل وهو أنّ الإمام لماذا استجاب لأن يكون من أعضاء الشورى مع وجود المفارقات الواضحة بينه وبينهم؟ وقد أجاب (عليه السلام) عن ذلك : بأنه أراد أن يظهر تناقض عمر ، فقد أعلن غير مرّة أنّ النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد ، فلماذا إذاً جعله من أعضاء الشورى المرشّحين للخلافة؟!

آفات الشورى :

وأجمع المحققون من القدامى والمحدّثين على نقد هذه الشورى وتزييف نظامها ، وذكروا لها كثيراً من المضاعفات السيّئة التي عادت على المسلمين بالفتن والخلاف ، وخلقت لهم المصاعب والمشاكل ، وقد دلّلنا عليها في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام» ، ولكن ضرورة البحث تقتضي ذكرها ، وهي :

٣١٨

أوّلاً : إنّ هذا النظام بعيد عن واقع الشورى ، وقد خلى من جميع العناصر التي تتميّز بها ؛ فإنه لا بد أن تتوفر فيها ما يلي :

أ ـ أن تشترك الاُمّة بجميع قطاعاته في الانتخاب.

ب ـ أن لا تتدخّل الحكومة أيّ تدخّل مباشر أو غير مباشر في شؤون الانتخاب.

ج ـ أن تتوفر الحريات العامة لجميع الناخبين.

وفقدت الشورى العمرية هذه العناصر ، ولم يعد لها أيّ وجود فيها ، فقد حَظَر الاُمّة أن تشترك في الانتخاب ، ولم تمنح لها الحريّة في اختيار مَن ترغب فيه للحكم ، وإنما فوّض أمرها إلى ستّة أشخاص ، وجعل آراءهم تعادل آراء بقية الشعوب الإسلاميّة. وهذا لون من ألوان التزكية تفرضه بعض الحكومات التي لا تعني بإرادة شعوبها ، على أنه أوعز إلى البوليس بالتدخّل في الأمر ، وعهد إليهم بقتل مَن لا يوافق من أعضاء الشورى على مَن ينتخبه بقية الأعضاء ، كما عهد إليهم بتحديد مدّة الانتخاب في ثلاثة أيّام ، وقد ضيّق الوقت على الناخبين خوفاً من تدخّل القطعات الشعبية في الأمر فيفوت غرضه.

ثانياً : إنّ هذه الشورى ضمّت العناصر المعادية للإمام والحاقدة عليه ، ففيها طلحة التميمي ، وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الإمام على الخلافة ودفعه عنها ، وفيها عبد الرحمان بن عوف وهو صهر عثمان ، ومن أكثر المهاجرين حقداً على الإمام ، فهو ـ كما يقول المؤرّخون ـ كان من الذين استعان بهم أبو بكر لإرغام الإمام على مبايعته.

وضمّت الشورى سعد بن أبي وقاص وكانت نفسه مترعة بالحقد والكراهية للإمام من أجل أخواله الاُمويِّين ؛ فإنّ اُمّه حمنة بنت سفيان بن اُميّة ، وقد أباد الإمام أعلامهم وصناديدهم في سبيل الدعوة الإسلاميّة ، ولمّا بايع المسلمون الإمام تخلّف

٣١٩

عن بيعته سعد. ومن أعضاء الشورى عثمان بن عفان عميد الاُسرة الاُموية ، وقد اختار عمر ـ فيما يقول بعض المؤرّخين ـ هذه العناصر المنافسة للإمام والحاقدة عليه ؛ حتّى لا يؤول الأمر إليه.

وقد تحدّث الإمام (عليه السّلام) عن المؤثّرات التي لعبت دورها في ميدان الانتخاب قال (عليه السّلام) : «لكنّي أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن».

وعلى أيّ حال ، فإن هذه الشورى لم يكن المقصود منها ـ فيما يقول المحققون ـ إلاّ إقصاء الإمام عن الحكم ، ومنحه للاُمويِّين.

يقول العلائلي : إنّ تعيين الترشيح في ستة مهّد السّبيل لدى الاُمويِّين لاستغلال الموقف ، وتشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين ، وقد وصل إلى هذه النتيجة السّيد مير علي الهندي [حيث] قال : إنّ حرص عمر على مصلحة المسلمين دفعه إلى اختيار هؤلاء السّتة من خيرة أهل المدينة ، دون أن يتبع سياسة سلفه وكان للاُمويِّين حزب قوي في المدينة ، ومن هنا مهّد اختياره السّبيل لمكائد الاُمويِّين ودسائسهم ، هؤلاء الذين ناصبوا الإسلام العداء ، ثمّ دخلوا فيه وسيلة لسدّ مطامعهم ، وتشييد صرح مجدهم على أكتاف المسلمين(1) .

ثالثاً : لقد عمد عمر في هذه الشورى إلى إبعاد الأنصار فلم يجعل لهم أيّ نصيب فيها ، وهم الذين آووا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروا الإسلام في أيّام محنته وغربته ، وقد أوصى بهم النبي (صلّى الله عليه وآله) خيراً ، كما أنه لم يجعل نصيباً فيها لعمار وأبي ذر ، وأمثالهما من أعلام الإسلام ، وأكبر الظن أنه إنما أبعدهم لأنّ لهم هوى وميلاً للإمام (عليه السّلام) ، ولا ينتخبون غيره ، ولا يرضون سواه ، ولهذه الجهة أقصاهم ، وقصر أعضاء الشورى على العناصر المعادية له.

__________________

(1) الإمام الحسين (عليه السّلام) 1 / 267.

٣٢٠